رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 58 - الأربعاء 27/8/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن والخمسون
تم النشر الأربعاء
27/8/2025
صفقة العمر..
الرسلانية ١٩٨٩..
كان صوت التلفاز الموضوع في صدر البهو عاليا وصوت النشيد الوطني المصر يعلو والرئيس المصري محمد حسني مبارك قد رفع العلم المصري على طابا آخر قطعة أرض مصرية كانت بعيدة عن سيادتها واستطاعت الجهود الدبلوماسيةالمصرية استعادتها عن طريق التحكيم الدولي..
انتهى الاحتفال وبدأ التلفزيون كما هي العادة في المناسبات الوطنية إذاعة اغنية شادية.. مصر اليوم في عيد.. ليدخل حبيب من الخارج ملقيا التحية مقبلا جبين جدته صفية التي غفلت لوهلة قبل أن تستيقظ فجأة متنبهة لوجوده.. لتسأل بلا مواربة: هتعمل ايه في طلب واد العمدة أبو زكيبة يد منيرة!.. هتوافج!..
أكد حبيب متنهدا: شكلي هوافج.. مع إن النسب ده مش چاي على هواي بس منيرة شكلها ريداه.. لما سألتها حسيت منها الجبول..
سألت صفية في قلق: طب وچهازها!.. كده الدنيا هتتجل عليك.. هتسد ديون البنك ولا هتچهز أختك!..
تنهد حبيب رابتا على كف جده مطمئنا: متشيليش هم يا ستي كله هيتعدل، تخلص بس المعهد السنة دي على خير.. وبعدين نچهزها چهاز يليج بها وبعيلة رسلان.. حاچة تشرف ونستروها.. وبعدها يبجالها..
هزت صفية رأسها متفهمة، هامسة وهي تتضرع في تعاطف: ربنا يعينك ويجدرك يا ولدي..
أمن حبيب خلف دعائها وهو يتجه للخارج..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٨٩..
وفت هاجر بوعدها الذي قطعته على نفسها منذ سنوات طوال بطول صداقتها مع أنس الوجود وممدوح، أن تقوم بعزومتهما من أول مرتب لها من بعد التخرج، وعلى الرغم من أنها تعمل في شركة نصير الراوي عائلها حتى اللحظة، إلا أنها انتظرت هذه المناسبة الرائعة بتخرج ثلاثتهم بنجاح حتى تقرر أن تفي بوعدها..
اجتمعوا في إحدى المطاعم الفاخرة، ليهتف ممدوح متعجبا: مش هيبقى غالي عليكي ده يا هاجر!.. كده هيضيع المرتب ف العزومة دي!..
اتسعت ابتسامة هاجر مؤكدة: ميهمكش فداكم.. وبعدين أنا عاملة حسابي ع العزومة دي من زمان.. ونصير بيه كمان مرتبات شركته مش زي اي شركة.. مرتبات عالية فمتقلقش م الناحية دي..
كانت أنس الوجود شاردة قليلا، ما دفع هاجر لتهتف باسمها ربما للمرة الثانية حتى تنبهت، ما حث هاجر لتسألها في قلق: هو في ايه يا أنس!.. لسه حكاية عمو نجيب وتعبه شغلاكي!..
هزت أنس رأسها مؤكدة: ايوه يا هاجر.. في حاجة هو وماما مخبينها عليا.. بابا كل شوية تعبان ومفيش دوا ولا دكتور جابو نتيجة لحد دلوقت.. ومفيش من فترة بسيطة حسيت إنهم عارفين حاجة ومش عايزني أعرفها.. حتى طنط درية عارفة ومش راضية تتكلم..
هتف ممدوح مقسما مبعدا نفسه عن دائرة الشك: والله ماما محبتش سيرة ليا على أي حاجة.. ولو كانت حتى لمحت كنت بلغتك يا أنس.. من امتا بخبي عنك حاجة!.. ده إحنا أخوات..
أكدت أنس في ود: عارفة يا ممدوح بس بجد حالة التكتم اللي ف البيت دي مش مريحاني وأنا قلقانة على بابا.. عايزة اطمن إن أموره الصحية تمام..
أكدت هاجر في محبة: عمو زي الفل.. انتي بس عشان بتحبيه زيادة شوية قلقانة كده.. ياللاه بقى شوفي هتطلبي ايه خلينا نفرح بنجاحك ده انتي طالعة من الأوائل على الدفعة يعني العبقرية بتاعتنا..
ابتسمت أنس الوجود لمزاح هاجر، وبدأ جميعهم في اختيار ما لذ وطاب احتفالا بتخرجهم الميمون من الجامعة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٠..
اندفع حبيب لداخل السراي حين أخبره شبل أن هناك رجل غريب عن النجع ينتظره بالداخل وجعله ينتظر بحجرة المكتب..
هتف حبيب بالتحية في ترحاب على الرغم من توجسه تجاه ذاك الشخص القصير الذي كان يرتدي نظارة دائرية الإطار أشبه بالانجليز الذين عاشوا في مصر قديمًا..
جلس حبيب خلف مكتبه وترك الرجل يعود لكرسيه ليبادره حبيب متسائلا: تحت أمرك..
هتف الرجل في هدوء وثقة: أنا يا حبيب بيه مجرد وسيط خير مش أكتر..
سأل حبيب باسما: اتشرفنا.. بس برضك إحنا متعرفناش بالاخ..
أكد الرجل باسما: أنا سمري.. وزي ما قلت لحضرتك مجرد وسيط خير.. من طرف رجل أعمال كبير وجاي أعرض عليك صفقة العمر..
تنبه حبيب وقد اتسعت ابتسامته: صفقة العمر مرة واحدة!.. يا رب خير.. اتفضل.. نسمعو وماله.. هو يعني الكلام عليه چمرك!..
ابتسم الرجل في ثقة عارضا بنود صفقته: الصفقة بتقول ان رجل الأعمال اللي أنا موكل اتكلم باسمه عارض على حضرتك وطبعا كل اللي لهم صفة... زي الست أختك واخوك والست جدتك.. واللي اكيد أنت بتتكلم في الأمور دي بالنيابة عنهم.. إنه يشتري السرايا وكل أرضكم بالمبلغ اللي تحددوه.. أي كان..
وأخرج سمري دفتر شيكات، ووضعه أمام حبيب على المكتب مشيرا لخانة الرقم.. مؤكدا: عندك خانة الرقم فاضية اهي.. الرقم اللي يجي على بالك حطه مهما كان.. إحنا موافقين..
تطلع حبيب نحو الشيك المصرفي في تعجب، متسائلا في دهشة: أي رقم!.. ليه!..
أجاب سمري باسما في تعجب: ما قلنا ليه يا حبيب بيه! نظر شراء السرايا والأرض..
سأل حببب مجددا: ايون.. ليه!.. ايه اللي يخلي رچل أعمال كبير يحط مبالغ كبيرة جوي كده في سرايا جديمة وأرض بجلب الصعيد!.. مش عچيبة دي!.. ما هي أرض ربنا كتيرة، وفي حتت احسن من هنا مليون مرة!..
أكد سمري: لا.. هو كان معدي مرة وشاف السرايا والأرض اللي حواليها وازاي بطل ع النيل وعجبته وقال هتبقى موقع لمشروع سياحي كبير جدا ومهما ادفع فيهم مش خسارة لأن العائد من المشروع بعد كده هيعوض اللي ادفع وزيادة.. يعني هو مش خسران زي ما حضرتك فاكر.. ده رجل أعمال وعارف يحط فلوسه فين!.. ويستثمر في المكان الصح..
هز حبيب رأسه متفهما، قبل أن يسأل في هوادة: طب و..
قاطعه سمري هاتفا: لو على مكان استقراركم بعد البيع.. على الرغم من المبلغ المهول اللي هيندفع لكن دي حاجة كده نعتبرها هدية.. واحدة من شركاتنا.. هتعمل على تجديد وصيانة بيت الرسلانية القديم عشان تنتقلو له..
هتف حبيب متعجبا: وانتو كيف عرفتو إن الرسلانية لهم بيت جديم لسه موچود!..
قهقه سمري مجيبا في أريحية: حبيب بيه! إحنا لما بندخل مشروع عندنا قسم كامل بيعرف كل التفاصيل الخاصة به مهما كانت صغيرة لأنها ممكن تفرق في البيعة كلها.. إحنا مش هواة يا حبيب بيه.. أنت بتتعامل مع كيان ضخم.. لما بيحط في دماغه فكرة.. عنده كل الصلاحيات لتنفيذها..
تطلع حبيب نحو سمري لبرهة قبل أن يهمس في نبرة خفيضة مبطنة بالحزم: الكلمتين اللي جلتهم فالآخر دول لو أني مش راچل عاجل، كان زمانك بره النچع ومن غير سلام عليكم.. عشان أني شميت فيهم ريحة كده معچبتتيش..
هتف سمري مستدركا في نبرة مهادنة: يا حبيب بيه أنا مقصدش أي..
قاطعه حبيب في نبرة صارمة: ولو تجصد.. العرض من أساسه مرفوض يا أستاذ سمري.. لا السرايا ولا أرض الرسلانية للبيع..
هتف سمري مهادنا: بس الأرض من ضمن اللي نعرفه عنها إن عليها اقساط كتير لازم تدفع لها وإلا البنك هيحجز عليها.. واللي نعرفه برضو إن مبقتش جايبة همها.. ف ليه تضيع فرصة زي دي هتريحك من هم الأقساط والسداد والتهديد بسحب الأرض منك لو تعثر الدفع المنتظم!..
هتف حبيب في حزم: دي حاچة ترچع لي.. اللي زيك ميفهموهاش يا سمري بيه.. بكررها تاني اهااا.. لا الأرض ولا السرايا للبيع.. يا رب تكون سمعت وتبلغ الكبرات اللي أنت چاي تتكلم باسمهم.. اظن كده مهمتك خلصت.. ملكيش عندينا إلا واچبك.. تاخده ومع السلامة..
نهض سمري جامعا أوراقه دافعا بها داخل حقيبته، هاتفا في نبرة ثلجية: لا يا حبيب بيه.. اعتبر واجبك وصل.. يا دوب ألحق سكتي عشان الطريق طويل..
سار حبيب مرافقا لسمري حتى وصل لقرب البوابة أمرا شبل: عزم البيه لحد ما يمسك الطريج..
هتف سمري في نبرة باردة: مفيش داعي.. العربية منتظراني على أول الطريق فعلا..
وما أن هم سمري بالمغادرة بالفعل، إلا وعاد أدراجه نحو حبيب، هاتفا: أنا مش هفقد الأمل.. جايز تفكر تاني ويبقى في نصيب.. خلي ده معاك..
مد سمري كفه نحو حبيب ببطاقة ما، مفسرا: دي كل بياناتي وارقام تليقوناتي.. لو غيرت رأيك في أي وقت.. هكون مسافة السكة عندك..
مد حبيب يده متناولا البطاقة متطلعا فيها فضولا لا أكثر.. لكن سمري همس بكلمات أخيرة: أنا محبة فيك بقول لك فكر تاني.. وبيع.. عشان صدقني.. اللي جاي مش هتتحمله لوحدك مهما كنت قوي..
صرخ حبيب أمرا شبل: خد الأستاذ على بره يا شبل..
متطلعا نحو سمري هاتفا في نبرة ثائرة: اقسم بالله، لولا ما أني عارف إنك مچرد كلب للي بعتينك.. لكنت دفنتك فمطرحك.. ولا لك عندينا دية يا عويل.. غوره بره السرايا يا شبل بدل ما أجل بعجلي وأعملها.. فواحد ميسواش..
جذب شبل سمري لخارج السراي كما أمر حبيب الذي مزق بطاقة سمري لقطع صغيرة دافعا بها بطول ذراعه لتزروها الريح بعيدا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٠..
ثلاثة شهور مرت منذ وفاة نجيب والد أنس الوجود التي اعتزلت الدنيا كلها، لا تغادر غرفتها مطلقا، حاول كل من هاجر وممدوح العمل على إخراجها من عزلتها التي فرضها حزنها على والدها لكنهما لم يفحلا في ذلك.. فقد كان حزنها عليه أكبر من أن يسكنه مجرد الصحبة أو كلمات المواساة..
غرقت أنس الوجود في أحزانها فهي لم تفقد فقط أبا حنونا متفهما.. بل فقدت رجلا ذو رأي سديد وصديق واعِ وسند حقيقي إذا ما استلزم الأمر.. حائط تتكيء عليه إذا ما مالت بها الأيام أو خاصمها الزمان.. وجارت عليها لياليه..
غرقت تماما في خضم حزنها حتى نسيت أن برلنتي أمها كذلك قد سربلها الحزن على حبيب عمرها وشريك حياتها كلها.. وأنها أضحت وحيدة دونه كما صارت أنس كذلك.. ولم تفطن لإشارات مرضها إلا متأخرا حين قررت الخروج أخيرا ومواجهة الحياة ومتابعة العمل على رسالة الماجستير التي شجعها والدها الراحل في التقدم لها بعد أن خزلتها الجامعة ولم تعين إلا الأول على دفعتها بدرجة معيد في سلك هيئة التدريس الجامعي التي كانت تطمح لها.. فجاءها خبر نقل أمها للمشفى وما سرده الطبيب عن حالة برلنتي وحاجتها لإجراء عملية جراحية.. قلب الأمور رأسا على عقب..
وكانت المرة الأولى التي تعرف من صديقة أمها درية والدة ممدوح.. ما هي قصة إرث برلنتي بالرسلانية.. وأنه الحل الوحيد للحصول على المال من أجل إجراء الجراحة.. فقررت وممدوح السفر إلى هذه البلاد البعيدة لجلب المال والعودة من أجل إنقاذ حياة أمها.. فما عادت تحمل وجع فقد جديد وامها هي كل من تبقى من عائلتها الصغيرة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٠..
كان حبيب في أثناء جولته الاعتيادية يمر على الأرض ويتابع حالتها فقد كان يرغب في الحصول على أفضل محصول لهذه السنة ليتمكن من بيعه بالسعر المناسب الذي يضمن له سداد أحد أقساط البنك والاستعداد لتحضير جهاز منيرة بشكل مشرف حتى إذا ما تم تحديد موعد الزفاف لا يضطر هو للتأجيل نظرا لسوء الحالة المادية ما يضعه والأسرة في حرج أمام بيت العمدة أبو زكيبة.. وهذا ما لن يسمح بحدوثه أبدا..
تطلع حبيب لتلك اليافطة الخشبية العريضة التي يعمل النجار ومساعده على تعليقها فوق مدخل هذه الدار القديمة والمغلقة منذ أمد بعيد.. حتى أن الجميع قد نسي وجودها.. ولا يذكر لمن كانت من الأساس.. فقد توالى ساكنيها ورحيلهم.. حتى تم إغلاقها ولم تسكن من حينها..
قرأ حبيب في نفسه.. جمعية السماحة.. جمعية خيريةإسلامية مشهرة برقم... بتاريخ...
وبخط صغير نسبيا.. كُتبت أنشطة الجمعية وفعاليتها من تحفيظ قرآن كريم ومسابقات دينية ورياضية للفتية.. وتعليم الفتيات التطريز اليدوي والحياكة.. وكذلك إعطاء الدروس الخصوصية بسعر رمزي لغير القادرين..
كان كل شيء لتجهيز الجمعية من الداخل معدا بهذه الشاحنة التي تقف تسد مدخل الشارع الضيق، كان بها الكثير من المقاعد الخشبية ومكاتب.. والعديد من الأشياء الأخرى التي لم يتبينها من قلب الشاحنة العامرة..
رأى خيرا يقف جوار الباب يشرف على تعليق اليافطة الضخمة في همة.. يعدل على النجار في نزق معدي من عمدته أبو زكيبة.. وزوجه سنية ابنة عزام الحراني.. أي نسب تورطنا فيه يا منيرة!.. إنه يشفق على أخته من الوجود بين حماة كسنية هذه.. ورجل ضعيف الشخصية كالسيد أبو زكيبة.. لكن عزاءه الوحيد هو أن منيرة راغبة في الزواج من عزت.. وعزت شاب جيد على كل حال ولم يرى منه ما يعيبه.. على الرغم أنهما لم يكونا أصحاب أو حتى رفقاء دراسة مثل سرور ومدثر.. إلا أنه لم يلحظ عليه ما يعبه..
سأل حبيب الخفير: ايه الچمعيةدي يا مصلحي!.. العمدة عنديه خبر بالليلة دي!..
أكد الخفير في نبرة صادقة وهو يجيب على حبيب في تهذيب: ايوه يا حبيب بيه.. حضرة العمدة عارف وعنده خبر بها.. هو في حاچة تنفع فالبلد من غير شورته!..
كاد حبيب أن ينفجر ضاحكا، وهو يبتلع تعليقه الساخر في نفسه.. شورته! ولا شورة مرته!.. واستطرد الخفير مفسرا: دي چمعيةلتحفيظ القرآن وكده يا حبيب بيه..
هتف حببب: وهو الشيخ معتوج وكتابه جصرو في ايه! ده العيال بياچو من البلاد اللي حوالينا لحد عنديه..
هتف الخفير مهادنا: اهو زيادة الخير خيرين يا حبيب بيه.. هو حد هيجول لكلام ربنا لاه..
تطلع حبيب ليافطة الجمعية الخيرية مرة آخرى قبل أن يتحرك مبتعدا.. مستشعرا أن خلف انشاء هذه الجمعية سرا ما.. لابد وأن يكشفه يوما..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
جلست أمام نصير على تلك الطاولة المعدة لهما خصيصا للإفطار في ذاك المقهى الراقي المطل على النيل.. كان يحاول أن يظهر لها الحفاوة والمودة.. لكنها حاولت قدر استطاعتها أن تبتلع لقيمات الطعام بشكل طبيعي ولا تدعه يدرك كم تمقت البقاء معه.. تلك اللقيمات التي كانت تغص بها كلمات وقع ناظرها عليه فتتذكر ما قاله لأهلها بالرسلانية.. سمعته ولم يدرك هو أنه فعلت.. فكم شعرت بالخزي لحظتها.. وتذكرت كم حذرها حبيب من جدها عزام وابن عمها مظهر.. لكنها لم تتوقع منهما ما سمعت.. كانت رخيصة لهذه الدرجة حتى يتم الزج بها في صفقة حقيرة كهدية أو جائزة لا أكثر..
سأل نصير الراوي في نبرة هادئة: ايه الاكل مش عاجبك، نطلب غيره! ولا تحبي نغير المكان كله!..
أكدت أنس وهي تحاول أن ترسم ابتسامة بسيطة على شفتيها انتزعتها انتزاعا من دواخلها: لا.. خالص.. الاكل حلو والمكان لطيف..
هتف نصير باسما: أنا عارف إن الأمور كلها حصلت فجأة.. يمكن عشان كده إنتي لسه مش مستوعبة الوضع.. بس أنا مقدر ده تماما.. بكرة لما تعرفيني اكتر.. هنرتاح لبعض.. وده العادي ف اللي لسه مخطوبين جدبد.. ولا ايه!..
هزت أنس الوجود رأسها في إيجاب تحاول إلهاء نفسها عن التعاطي مع ذلك الرجل قدر إمكانها أن تحتفظ بضبط النفس حتى إشعار آخر..
هم نصير بالحديث، لكن النادل قدم مؤكدا أن هناك مكالمة هاتفية تطلبه، ما منح أنس الوجود فسحة لتلتقط أنفاسها في راحة أثناء غيابه..
تطلعت نحو النيل وغامت عيناها ببريق دمع وهي تتذكر نيل الرسلانية من نافذة حجرتها بالسراي..
نهضت من موضعها تسير على طول الممشى الطويل الهادىء نسبيا، حتى أبصرت على مقربة أحد الصيادين بقاربه.. ذكرها بذاك الرجل الذي يقود المعدية بالرسلانية حين رغبت في نقلها للبر الآخر من النهر دون استخدام الجسر..
كان الصياد الذي يبدو من هيئته أنه صعيدي يغني في صوت رخيم وهو يهادن شباكه في هوادة جالسا على طرف قاربه:
فين جلبي اللي خدته معاك!.. فين الضحكة وأشواجي!..
مشيت وجفلت بابي وراك.. سنين ولا همك فراجي..
جول لجلبي لو بعتك.. كفاية مرة تبعتك..
وزي ما بعتني بعتك.. مش عايز أعرف الباجي..
مش عايز أعرف الباجي..
سال دمع أنس الوجود.. وهي تهمس في شجن: لا بعت ولا عمري يوم هبيع..
وما أن همت بمسح دموعها، حتى انتفضت موضعها حين وجدت ذراع نصير توضع في أريحية بعرض كتفيها، ما جعلها تتراجع وهو يسأل في مودة: بتعملي ايه هنا! أنا خفت عليكي لما ملقتكيش جوه!..
كانت حركتها المتقهقرة، دليلا على نفورها التام من قربه، لكنها فسرتها في ثبات تحسد عليه: معلش أنا مش بحب كده.. يعني مش مسموح لأنك لسه مجرد خطيب.. وحتى مش رسمي.. ف..
هز نصير رأسه متفهما حين قطعت استرسالها في التفسير والتبرير، مؤكدا بابتسامة عريضة: ده إنتي بقى العرق الصعيدي عامل عمايله!..
أكدت أنس الوجود وقد وجدت حجة قوية قد ساقها إليها بنفسه تبرر عدم رغبتها في التلامس معه على أي وضع: اه.. حقيقي.. تقدر تقول كده..
أكد نصير في تفهم: تمام.. ودي حاجة تغليكي عندي اكتر واكتر.. ياللاه بينا عشان الجواهرجي زمانه فتح..
هزت أنس الوجود رأسها في طاعة وسارت جواره وصوت الصياد الشجي يتبعها..
وزي ما بعتني بعتك.. مش عايز أعرف الباجي..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
انتفض سراج واقفا، يتطلع نحو حبيب في تساؤل: أرض إيه اللي چاي احچز عليها يا حبيب من غير جوة ولا عساكر، وقاعد مع ستي صفية وبناخد وندي فجلب السرايا!..
انتبه حبيب لما يجري، والأدهى هو وجود جدته صفية وسماعها خبر الحجز الوشيك على الأرض.. إذا لم يتم دفع كافة الأقساط المتأخرة والتي وصلت لمبلغ وقدره.. مبلغا ضخما ليس من السهل تحصيله أو حتى اقتراضه..
هتفت صفية في نبرة مضطربة: الكلام ده صحيح يا حبيب!.. البنك هيحچز ع الأرض!.. طب ليه طيب!..
هتف حبيب رابتا على كتف جدته، مراعيا وجود سراج كرجل غريب لا يجب عليه معرفة أدق أسرار العائلة وخيباتها بهذا الشكل الفاضح: بعدين يا ستي.. دلوجت نضايفو سراچ بيه.. بجاله فترة غايب من بعد ال..
قاطعته صفية باسمة في وجع: سراچ مش غريب يا حبيب، ده مننا وعلينا..
أكد حبيب باسما: ايوه اومال ايه يا ستي.. سراچ بيه و...
قاطعته صفية مفسرة: سراچ بيه فيه دم رسلاني يا حبيب.. سراچ يبجى واد عمتك سعاد.. الله يرحمها.. اللي.. اللي راحت مع صبري واد عامر أبو الحفني..
هتف حبيب صارخا: وووه! وكيف ما نعرفش لحد دلوجت!..
اندفع حبيب مطوقا سراج بين ذراعيه في فرحة، متسائلا في دهشة: أني عاملك واحد من ولاد عدنان أبو الحفني.. أصلك عياله كتير.. متنطورين في كل جيهة.. بس ليه مجلتش.. كنت خايف مننا ولا ايه! لعلمك.. لولا ما بويا الله يرحمه ما جال جدامي مرة لما چت سيرة عمتي سعاد إنه مسامحها، وكان نفسه يشوفها جبل ما يموت.. يمكن مكنتش سامحت وكان حجك تخاف.. مع إنك الحَكومة كلها! بس إحنا طبعنا واعر فالحاچات دي..
أكد سراج باسما: حجك.. بس أني مكنتش أعرف.. أبويا خبا عليا حاچات كتير.. لكن لما عرف إني چيت الرسلانية.. فضل مش عاچبه.. وأني مهدتش إلا لما جال لي كل حاچة.. وخصوصي بعد اللي حصل فالچبل.. ومجابلته لعمي عدنان..
هتف حبيب وهو يربت على كتف سراج في سعادة: ربك بيجطع من هنا ويوصل من هنا.. اهاا البنك عامل لنا حوارات يطلع لنا جريب فالحكومة يجدر يجول لنا نعملوا ايه فالحكاية المغفلجة دي..
هتف سراج مؤكدا في صدق: طبعا اللي أقدر اساعد به مش هتأخر.. بس انت رسيني ع الموضوع وبإذن الله خير..
شرح حبيب ما كان في البنك، وأكد متنهدا: في لعبة بتحصل أني مش فاهمها، كل اللي اتكسر علينا.. كام جسط.. يعني لو ادفعو خلاص.. ايه اللي يخلي البنك مصمم على الحجز على الأرض..
أكد سراج: ايوه فعلا.. الحكاية غريبة.. طب دلوقت في إمكانية لدفع الأقساط دي!..
هز حبيب رأسه نافيا: المبلغ كبير جوي.. معدي النص مليون چنيه.. وأني كل اللي فوتهم ما يچيش ٤ أجساط.. مش ممكن يعملوا المبلغ ده..
هتف سراج: المبلغ فعلا كبير وواضح كده لو أنت متأكد من عدد الأقساط اللي مدفعتش.. إن في إن في الموضوع.. ولحد ما نعرفها.. لازم نحاول نلم المبلغ ده ضروري.. وإلا..
هتفت صفية في قلق: وإلا ايه! هيخدو الأرض!..
لم ينطق حبيب عجزا، بينما هتف سراج مطمئنا وهو يربت على ظاهر كفها: للأسف اه.. بس إن شاء الله ميحصلش.. متجلجيش.. هنتصرف وكله هيبجى تمام..
هزت صفية رأسها في تفهم، سارت مبتعدة بكرسيها المدولب نحو حجرتها، ليرتفع منها صوت الجرامفون بعد لحظات معدودة..
هتف سراج لحبيب: أدخل طمنها يا حبيب هي مش هتسمع لحد غيرك..
همس حبيب مؤكدا: مكنش لازما انطج، أني مكنتش ناوي أجول لها عشان متجلجش واشيلها الهم.. بس اللي حصل بجى..
ربت سراج على كتف حبيب، هاتفا: أني ماشي راچع النجطة وأنت أدخل لها.. سلام عليكم..
رد حبيب التحية تاركا سراج يرحل بعد أن فجر مفاجأته، ليدخل لجدته لعله يطمئنها أن الأمور ستسير على ما يرام.. على الرغم من عدم ثقته في ذلك..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
رن جرس الباب ففتحت حمدية في عجالة قبل أن يحاول هاجر وممدوح الاندفاع للداخل لا رغبة لديهما في مقابلة نصير الراوي قبل أن يختلقا حجة مناسبة تبرر غياب هاجر عن الفيلا والعمل طوال الأيام الماضية.. لكن ما باليد حيلة.. ظهر نصير الراوي في قلب الشقة وهما بحضرة برلنتي.. ليهتف نصير متعجبا: ايه ده هاجر!.. أخيرا ظهرتي!.. كنتي فين!..
اضطربت هاجر فلحقها ممدوح بالاجابة: كانت عندنا، قالت لي يا ممدوح زهقانة وعايزة أغير جو خدتها بقى وطلعنا على بلد بابا.. فالفلاحين.. ولسه راجعين حالا اهو..
تشجعت هاجر مكملة حديث ممدوح: اصل حضرتك اختفيت فجأة ومرجعتش الفيلا لتاني يوم قلت اكيد حضرتك في شاليه اسكندرية فقلت اخد انا كمان إجازة وكده.. حمدالله بالسلامة يا نصير بيه.. و..
ظهرت أنس الوجود في مجال الرؤية اللحظة وقد تأخرت في اللحاق بنصير وقد لاذت بالمطبخ لبرهة متعللة بعطشها حتى تسترد أنفاسها الغائبة في صحبته..
رأتها هاجر فلم تتمالك نفسها، واندفعت تحتضن أنس الوجود في محبة وشوق طاغ، لتبادلها أنس الوجود الاحضان في شوق جارف، تكاد أن نبكي بين ذراعي صديقتها الوحيدة وقد أدركت ما يحاك لها من مكائد تعتقد أن أنس الوجود لا علم لها بها..
ليهتف نصير متعجبا: ايه! انتو مشفتوش بعض من امتا!..
أكدت هاجر معللة: أنس كانت غايبة بقالها فترة طويلة فالصعيد ووحشتني أوي..
هتف نصير باسما: طب تمام.. شكلكم مش هتتحرمو من بعض كتير.. أنا وصيت ع الشبكة هتتعمل بسرعةمخصوص لأنس الوجود.. وقررت أن الخطوبة تبقى حفل كتب كتاب بالمرة.. ايه رأيكم!..
ساد الصمت.. ولم يعلق الجميع بحرف..
يتبع...