رواية جديدة مقبرة الحب لوفاء الغرباوي - الفصل 3 - الأحد 28/9/2025
قراءة رواية مقبرة الحب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية مقبرة الحب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة وفاء الغرباوي
الفصل الثالث
تم النشر الأحد
28/9/2025
-ودعت الشمس كبد السماء حتى أنها بدأت تتوارى في الأفق، زيّنته بخطوط الشفق الأحمر فرسم على محياها الخجل، أسدل الليل ستار السكينة على الكون وغطى الأشياء من تحته بلون السواد، وكذلك وضع الأصدقاء الثلاثة بداية جديدة لكل منهم عليه أن يقرر ترويض مهرته الخاصة بطريقة تتناسب وعقلها، على كل محب لفاتنة عقله أن يعرف كيف يعيدها إلى ثنايا قلبه ويظلها بجناحيه حتى تشعر بالأمان، إن كانت هي شعلة من نار عليه أن يخمدها بهدوء حتى يطفئها، أما اذا كانت فرسة جامحة سيروضها بالقوة، والحكمة، والهدوء معًا، وأحدهم قرر في نفسه أن يحرك صخرة الحب القابعة على قلبه وأن يفتتها لأنها تحول بينه وبين محبوبته، وأن يشق طريقه ويعقد قرانهما، زواجا شرعيا ليتم ما أحله الله له، قد اكتفى شوقا لقربها وبادر بطلب القرب.
اما الثالث وضع نصب عينيه حلم الشباب واستعد لخوض معارك ضارية تكمن في الطبقات والفوارق الاجتماعية، وألا يكتمل هلال الشهر الحالي إلا وحوريته قد كُتبت على اسمه، البداية حتما ستكون اليوم.
سبحان من أبدع في خلق المرأة وجعلها لينة تحتوي صلابة الدنيا وقسوتها مع زوجها، سبحان من خلقها من ضلعه لتكون عونا له، لم يخلقها من رأسه لترأسه، ولا من قدميه لتكون جاريته كما يظن الحمقى، لكل فتاة جمال خاص بها، ودلال تأسر به قلب زوجها، سحر يجذب العاشق لها.
حور "الفتاه الصامتة"
صمتها سكونها، فتنت قلب حسام وأوقعت في عشقها دون مجهود منها أو محاولة للفت انتباهه، لكنه يرى الخوف في عينيها، نصل حاد بنظراتها إليه، أقسم ألا يجعلها زوجته شرعا حتى يزيل خوفها تجاهه، أن تكون له دون خوف إنما حبا له ورغبة به، أيقن أن الأنثى إذا شعرت بالأمان بين ذراعي رجل ملّكته قلبها، فهي لا تكترث لماله، ولا لجماله، ولا يفرق عندها غناه من فقره إذا كان رجلًا حنونًا، فجاهد كي يذلل الطرق ويسخر الصعاب ليزيل خوفها القابع بأعماقها.
-شرع في تجهيز أفضل باقة ورد لزوجته حبيبته، تضم أرقى الورد والزهور يغلب عليها اللون الأبيض لعشقها له وراحتها النفسية تجاهه، ودون عليها "حبيبتي باقة ورد، إذا لمستها باتت أقل جمالا منك"
وسلسلة ذهبية فاخرة على هيئة قلب تجمع اسميهما معا "حسام وحور"
مرفق معها خطاب مسطر من داخل طيات وثنايا قلب عاشق
"لا تخافي معشوقة السيف، من أجلكِ كنتُ سيافًا أقطع رقاب الناظرين إليكِ، لكن في حضرتك أنحني وأقدم فروض الطاعة، يتناثر كبريائي وتتساقط هيبتي أمام عينيكِ، بعيدًا عنك أخشى عليك قوتي، فإذا اقتربت انهارت حصوني، رفقا بي حبيبتي فالبعد أضناني، وشوقي إليكِ كشوق غريب غائب عن وطنه طالت سنوات غربته آن أوان عودته، أتدركين حجم الاشتياق لتراب الوطن يا وطني! وكما كنتِ حورية لي في الدنيا بفضل الله وكرمه وإشفاقه على قلبي، أدعو الله أن تكوني حوريتي في الآخرة، أعلم أنكِ تنزعجين من أمي وعباراتها القاسية، لكن لا أحد يختار أهله وأنا أدافع عنكِ بقدر المستطاع، فلا أريد خسارتك ولا أطيقها، ولا يصح أن أخسر أمي، لذا فتحملي لأجل من أحبك حبًا لو وزع على بني النساء لكفي، أحبكِ يا زوجتي العزيزة".
يا لها من عبارات ذرفت عينا حور شوقا وحبا لحسام، ضمت الهدايا لقلبها وأغمضت عيناها اللتان ذرفتا بدموع الفرح والبهجة، وبدا شعرها الكستنائي الطويل المنسدل على كتفيها كأنه خيوط حريرة أضرجت بلون الذهب، فقد كانت ذا قوام ممشوق، وبشرة بيضاء مضرجة بحمرة الخجل، وطول يناسب جسمها المعتدل، تحدثت بحنانها المصبوغ بالهدوء: الراجل اللي قوته بره الباب ده لو جاب سيف وحطه فوق رقبتي هنا استحالة أخاف منه أو أزعله، لأنه قرر يمحي الخوف مني ويبدأ معايا صفحة جديدة، وهتحمل أمه علشانه، البيوت ياما فيها مشاكل.
-دخل حسام الغرفة بخطوات حذرة واقترب منها وضمها لقلبه: يا أجمل حور في الدنيا، اي الدموع دي، وازاي حد يكون بيعيط وقمر كدا؟ ثم طبع قبلة حانية على جبينها.
-لطالما كان الخجل يرتسم على محياها رغمًا عنها وكان هذا سببًا في جمالها، جففت دموعها وغيرت مجرى الحديث تمامًا: أخبار حمزة اي؟ أنا مكلمتش حياة ولا أعرف اللي حصل!
-حسام بعد أن تنحى جانبًا وجلس على الفراش بجوارها مبتسماً لما دار بخلدها: كل خير متقلقيش .
وقرر أن يغير مسار الحديث إلى دفة أخرى: ريم جاي ليها عريس.
-حور بصدمة فرح: بجد؟ بس ده مين هي مش عايزة تتجوز دلوقتي، بتقول هتخلص دراستها وتذاكر كمان دراسات عليا و...
-قاطعها حسام بنظرة خبث أسكتتها عن الحديث: وأنتِ عرفتِ منين بقى؟
-حور: ها، لا معرفتش ولا حاجة يعني، واحنا بنتكلم عادى وبنحكي الكلام جاب بعضه.
-حسام بنصف عين زائغة: يعني أنتِ رأيك بلاش أقولها عشان منشغلهاش عن المذاكرة ومعرفهاش إن دكتور ريان ابن عمك متقدملها ونرفض وخلاص أصله كلمني دلوقتي ومستعجل الرد، خلاص هقوم أبلغه يشوف حاله وخلاص.
-حور بسرعة وهي ترفع كلتا يديها نحوه: لا اصبر يا عم، قولها ونشوف رأيها وإن شاء الله توافق، وهقولها أنا كمان.
ابتسم ريان فهذه الحورية ليست متصنعة، ولا تعرف كيف تخبئ ما بداخلها، كلؤلؤة ناصعة البياض، إنما بطبيعتها تتحدث كيفما تشاء دون أن تؤذي مشاعر من حولها، انكمشت على حالها داخل مخبأها قرب قلبه، قبلها ورحل قبل أن يتهور ويفعل ما يتمناه منذ زمن لكنه يؤجل ذلك إلى أن تهدأ، وما بداخله لا يهدأ إحساسه يذهب به إلى قاع الأرض وقمة السماء.
❈-❈-❈
-ترك حمزة جواده لأخيه حسام متعللا بأنه يفضل السير على قدميه ليلًا يحب برودة وأمطاره، والسماء الصافية ونجومها وقمرها، يحلق بعينيه وقلبه بعيدًا عن صخب البشر ومتاهاتهم، من أعماقه كان يحب الوحدة.
ربما يذهب هذه المرة لزيارة والد حياة ووالداتها السيدة الحنون، حياة تشبه أمها في ملامحها، لكن حور أخذت عنها الهدوء والطيبة، ورجاحة العقل.
دق باب المنزل وفتح "محمود" الباب، رحب كثيراً بحمزة، دخل المنزل البسيط عكس السرايا تمامًا بمقاعده البسيطة وسقفه الخشبي، ورائحة الطوب اللبن، لكنه ملئ بالحب والألفة، وعذوبة أنفاس أهله الأنقياء، جلس بارتياح وصفاء نفسي شعر به لأول مرة منذ زمن بعيد.
استأذن محمود لإنجاز بعض الأعمال لما أحس به داخل من كلام كثير ولا يود إخراجه بوجوده، فمنذ زواج حمزة بحياة وجد الألفة بينه وبين والدة حياة يرتاح معها بالحديث أكثر، هي تحل المشكلات بالعقل وتتبع الحق وإن كان على رقبتها.
عم الصمت المكان
طويلا، تحركت "ثناء" لتجلس بالقرب منه فقد رأت أنه بحاجة إلى الكلام، لكنه لم يتغير أو يهتز، فبادرته بسؤالها: حياة وحور عاملين اي يا ابني؟ وأهلك رجعوا بالسلامة ولا لسه؟
-حمزة بتنهيدة تحمل أثقال الكون فوق عاتقه: خير يا طنط، كلنا بخير، بخير الحمد لله على كل حال.
-تعجبت "ثناء" الرد ونبرة الصوت الشجن: يا ابني ما بلاش طنط دي، أنا لو كان عندي صبيان كان زمانهم في عمرك دلوقتي، وقول ماما ولا أنا منفعش اكون ماما!
-ألقت ضوء أخضر لحمزة جعله يشرع في الجلوس مقتربًا منها فربتت على كتفه بحنو بالغ قائلة: حياة عملت ايه مخلي نظرة عينك حزينة؟!
-أطال النظر لها دون فتح فمه أو الحديث معها، تمنى لو أراح رأسه فوق فخذها وينام بعمق أو يتحدث مغمضا عينيه ولا يدري ما يخرج من كلمة يتفوها.
حتى رآها تتحرك من مكانها وقامت بفتح الخزانة بجواره وأخرجت منها مجموعة صور تضم حياة وحور وأردفت بشجن: طيبة جدا وقلبها أبيض بس هي مبتحبش حد يعاملها إنه أحسن منها، وشافت كتير عشان حور، وكانت بتزهق لما العيال تتريق عليها عشان مش بتتكلم، حتى لما حور اتكلمت والموضوع خلص، بس السبب الأساسي إنها عصبية وعلى طول غضبانة إن كان ليها واحدة صحبتها في الكلية، كانت فكراها صاحبتها وهي في الحقيقة بتضحك عليها وبتتريق عليها عشان من فلاحين يعنى ده سبب جواها فكرة إن معظم الناس مؤذيين، فاكرة إن صوتها العالي ده قوة وإن كده محدش هيقدر يجي عليها.
-حمزة بضعف: عارف طيبة قلبها، بس تعبتني يا أمي وجت عليّ، وكسرتني قدام أهلي.
-ثناء بشهقة حزن: بعيد الشر عنك يا ولدي من الكسرة، ده أنا أكسر لك انا رقبتها لو عملت كده.
-حمزة: لا يا أمي، هي لازم تعرف إن أنا غير كل الناس واتجوزتها عشان بحبها، سكوتي مش ضعف ده حب ليها.
-ثناء بابتسامة مشرقة: ربنا يكملك بعقلك يا ابني ويهديها.
-حضر محمود بعد وقت طويل وتساءل في مزاح: خلصت السر مع أم حياة ولا لسه؟ كفاية بقا عايزين نشرب شاي.
-ثناء: طبعًا مش ابني وفي غلاوة حياة وحور.
-محمود بتنهيدة ارتياح: ربنا يبارك فيكم يا ابني ويرزقكم الذرية الصالحة.
"أغمض عيناي كما أشاء، فأنا أراك بقلبي، فالقلوب تميل لسكانيها، أودعتك الفؤاد من قبل، تقبله مني إن أردت، فإن لم تقبله فلا حياة لي"
-طال انتظاره وجلوسه بمحطة القطار، يضم الأمل بين ثنايا صدره في رحلة سفره التي ستبدأ بركوب القطار من بلدته النائية حتى المعمورة "القاهرة" بحثًا عن فرصة عمل لتحقيق حلمه بعد إنهاء شهادته المتوسطة بالتعليم الفني منذ خمسة أعوام لخلق مستوى اجتماعي جديد والبدء بعمل بسيط منه إلى العمل الكبير، وربما ايضا التحاقه بإحدى الجامعات المفتوحة ،كلها أحلام وأمنيات مستقبله.
حاول أن يبني نفسه وسط قريته، عمل بالكثير من المهن إلا ان أنه برع في عمله كنقاش ولحبه للرسم، يجعل من الحيطان لوحات فنية، لذلك نصحه أكثر من صديق بالسفر إلى قاهرة المعز، فرص العمل هناك متاحة للجميع.
أعلنت إشارات وصافرات إنذار المحطة عن وصول القطار، لملم حقائبه حتى وصل القطار وعلى عجل ركب، بحث عن مكان للجلوس وجده بصعوبة بالغة، فالرحلة طويلة، هذا قطار محطات يقف بجميع المراكز، أثناء شروده محتميا بحقيبته، وجد كف طفلة فوق ذراعه رفع رأسه واحتلت وجهه ابتسامة لهذه الطفلة رغم ملابسها الرثة إلا أنها تمتلك عينان سمراوان نجلاوان.
-ربت على رأسها: عايزه اي؟
-رفعت بعض الأقلام والألعاب بوجهه، أخذ الأقلام منها ودس يده بجيبه ليخرج لها المال إلا أن القطار باهتزازه المتعارف لدينا جعلها تهتز، قبل أن تقع امسك بها فجرت والداتها نحوها تطمئن عليها، أخذتها منه بعنف وتركته ورحلت، ظل ينظر بأثرها غير مصدق لما رآه هل هذه ليال جارته؟ أيعقل ذلك أن يراها بعد كل هذه السنوات؟
وفي ذلك اليوم تحديدا الذى قرر فيه البعد عن الجميع! ردد بوجع: آه يا ليال.
❈-❈-❈
"يفتك بيَ الألم جراء ما فعلته معي، يقطعني إربًا من الداخل؛ ولكن ليس بيدي سوى أني أود أن أضمك بين ذراعي، ربما تُضَمَّد جراحي، وتلتئم روحي، يا حياة القلب والروح"
-دخل حمزة إلى السرايا بعد منتصف الليل، وجد والده يجلس في انتظاره، فألقى عليه السلام وتوجه مباشرة للصعود على الدرج ليذهب إلى غرفته، أوقفه نداء والده باسمه، فالتفت سريعًا إليه دون أن يرفع بصره، ورأسه منكصًا إلى الأسفل:
-مش دا الحل، الحل إنك تكون دايمًا رافع راسك فى كل وقت مهما حصل، المحنة هى اللي بتخلينا إما أقوى، يا إما أضعف، وإنت أقوى من أي شيء وهتقدر تتغلب على كل حاجة ولكن إياك تضعف وتستسلم، مراتك يا ابني بنتنا من يوم ما اتكتبت على اسمك، والمفروض إنكم بقيتوا كيان واحد، روح واحدة في جسمين، والأهل المفروض عليهم إنهم يعلموا بنتهم الكلام ده ويعرفوها إن جوزها ليه حقوق وواجبات عليها وإنها لازم تفهم إنها يوم ما بتتنقل من بيت أبوها لبيت جوزها وقتها بتكون إنسانة جديدة ولازم تنسى كل اللي فات من حياة الترف وتعرف إن وراها مسئوليات، وعمومًا مهما عملت؛ علشان خاطر حبك ليها هنسامحها وعشان خاطرك إنت هنستحملها.
-شكرًا يا بابا إنك واقف معايا، وبتساندني!
-إنت صاحبي قبل ما تكون ابنى الكبير، يعني عكازى فى الدنيا، ونصيحة من راجل عجوز يا دكتور حمزة: خيط جراحها القديمة؛ علشان ميبقاش في أثر لو اتجرحت جرح جديد.
-استوعب حمزة كلام والده إليه، وقام بهز رأسه بالموافقة، ثم استأذن والده في الذهاب إلى النوم، كل ذلك كان تحت مسمع ومرأى كلًا من والدته، وحياة اللتان ذهبتا سريعًا إلى غرفتيهما.
دق باب غرفتهما ولم يدخل كعادته مباشرة، انتظر قليلًا حتى فتحت له الباب، فدلف إلى الداخل ثم أغلق الباب، واتجه مباشرة نحو الفراش وجذب غطاءًا ووسادةً وتوجه بهما نحو الأريكة؛ تحت أنظار حياة التي لم تتعجب للأمر كثيرًا فقد اعتادت على تصرفاته، ولكنها تألمت بداخلها وضحكت بسخريةٍ واستهزاء بينها وبين نفسها؛ فكانت قد تزينت وارتدت أفضل ما لديها من ثياب، وتعطرت بأكثر العطور المحببة إليه، ولكن قد فات الأوان، لكنها لم تحاول ولو مرة أن تنطق بكلمة اعتذار واحدة؛ لعلها تهدم تلك السدود التي بنيت بينهما جراء تصرفاتها الهوجاء، فكبرياؤها يمنعها من أن تعتذر أو حتى تقوم بأي مبادرة لتصلح ما قد أفسدته بتعاليها وتصرفاتها المتعجرفة، بينما توجه هو إلى الأريكة وجلس عليها واضعًا إحدى ساقيه فوق الأخرى، ومكث يطيل النظر إليها وهو يتمعن بتقاسيم وجهها وعيناه مصوبتان تجاه عينيها مباشرة، ولكنه لم ينطق ببنت شفة، لم تلقي بالًا لكل ذلك وتظاهرت وكأن شيئًا لا يحدث، ولكن ما اشعل نار غضبها وبشدة؛ أنه ابتسم بسخرية وهز رأسه باستهزاءٍ، وقام بتفقد هاتفه وكأنه يجلس وحيدًا بالغرفة.
-زفرت تنهيدة بصوتٍ عالٍ علها تصل إلى مسامعه، وبصوتٍ مهزوز قليلًا: حمزة!
-دون أن ينظر إليها أو يعيرها أي اهتمام: مسمعش صوتك لحد الصبح!
اعتلت الصدمة وجهها وشعرت بانقباضة في صدرها، ولم تنبس ببنت شفة مرةً أخرى، فلم تتوقع رد الفعل ذلك منه، لقد كانت نبرة صوته غليظة وجليدية، بثت الرهبة في قلبها، ففضلت أن تبتلع لسانها وتصمت تمامًا حتى الصباح، وكانت تعي جيدًا أنها ستكون أطول ليلة ستمر بحياتها وحتى تشرق شمس صباح اليوم التالي.
❈-❈-❈
انتهت ريم من بعض الأعمال على الحاسوب النقال، فقامت بإطفائه ثم أغلقته، وقامت بإخراج جوالها، وضغطت بأصابعها على واجهته لتضيء شاشته، وتوجهت مباشرةً تتصفح مواقع التواصل الإجتماعي، فلفت انتباهها وجود طلب صداقة على ذلك البرنامج المسمى "فيسبوك"، وحين دخلت صفحة الشخص الذي أرسل إليها الطلب، استرعى انتباهها وتوقفت كثيرًا وهي مثبتة نظرها على الاسم وتتصفح المعلومات بعينيها سريعًا، أغمضت عينيها لبرهة من الزمن وتذكرت أن ذلك الشخص يتصدر محرك البحث خاصتها، إن لم يكن هو الوحيد، فكلما ولجت إلى حسابها الشخصي، تقوم بتصفح حسابه الخاص والإطّلاع على أخباره، وتمكث في صفحته بالساعات لكي تقرأ كل حرف يدونه على صفحته، بل وصل بها الأمر أنها كانت تظن أحيانًا وتشعر بأن كل كلمة كتبها هي موجهة لها في الأساس وكأنه يعنيها بكل حرف يكتبه، وتنسج في خيالها صورًا لذل الورد وتتصوره وهو يهديه إليها، ويضعها بين يديها، وكانت على يقين تام بأن هذا ما سوف يحدث يومًا ما.
والغريب أنه كان يقوم بنفس ما تفعله هي من تصفح لحسابها، وما تنشره من كلمات منمقة ورقيقة تنم عن الحب والمشاعر الجميلة، ولكنها تناجي حبيبًا غائبًا، وأوقات يجدها تكتب عن أجمل أيام حياتها في الطفولة.
مرت دقائق عدة وهى غارقة فى التفكير وقد أبحر خيالها وعقلها إلى بعيد تمامًا، حتى استفاقت على صوت إشعار رسالة، ولكن ما أثار دهشتها أن الراسل ليس من أصدقائها المتصلين بصفحتها، ولكن ذلك الاسم؛ فهي تحفظه وتصمه عن ظهر قلب، فهو النبض بداخه، لم تستطع صبرًا وقامت بفتح الرسالة سريعًا:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-أصابتها الحيرة من أمرها، وظلت تفكر لوهلة، هل ترد عليه؟ أم لا؟
طُرق الباب، فأخرجتها طرقاته من شرودها، دلف حسام إلى داخل الغرفة، وحين وقعت عيناه عليها راوده الشعور بأنها تبدو بحالة غير طبيعية، يغلب عليها الارتباك والفوضى، ووجهها يشع حمرة وخجلًا، فتوقع بأن يكون ريان قد سبقه فى التحدث إليها، ولكنه أراد أن يتلاعب بأعصابها قليلًا:
-اسمعي علشان معطلكيش، فيه عريس عايز يقابل بابا أقوله إيه؟
-فأجابته مسرعة ودون تردد أو تفكير: مش موافقة.
ومع وصول إشعار الرسالة الثانية، بدا توترها كثيرًا، وازدادت رجفة أصابعها، فبادرها حسام بلؤمٍ كبير:
-قوليله إنك مش موافقة! أو أقولك أنا هتصل بيه.
-تنصت إلى كلماته والخوف والرهبة قد تملكا منها وتسأله بحذر: هو مين؟
-اللى بعت الرسالة دلوقت، ريان!
-تجمد الدم سريعًا بعروقها وانتابتها قشعريرة إثر سماعها لحروف اسمه، وهي تتساءل بينها وبين نفسها كيف عرف ذلك؟ حتمًا سيقضي عليها! لكن فاجئتها ردة فعله كثيرًا وفغرت فاها من فرط دهشتها، فقد وقف حسام أمامها مبتسمًا وهو ينظر إليها ولا ينطق بكلمة، وهي تنظر إليه بدهشةٍ، غير مصدقة لما حدث، وهي تُحدث نفسها، هل هذا حسام؟! يتحدث بكل طلاقة عن ريان ولا يبدي أي ردة فعل هكذا، وكأنه أمر عادى يتناقشان به، يالله! لابد أنها حور، اسمًا وقولًا وفعلًا، ولكن بطريقة فجائية تبدلت الابتسامة التي كانت قد رسمت على شفتيه منذ قليل، إلى علامات غضبٍ بالغ وكأنه تذكر شيئًا خطيرًا، تعجبت ريم كثيرًا من ذلك التحول المفاجئ البادي على ملامحه، فلم تحاول أن تنطق، أو تقوم بسؤاله عن سر هذا التحول المفاجئ، حتى تكلم هو وأزاح الستار وبدأ ينفث عن غضبه، قائلًا بصوتٍ شبه حاد: أنتِ رديتي على رسايل ريان؟
-هزت رأسها ويدها معًا سريعًا، وهي تجيبه بالنفي، والخوف يتملكها ويملأ قلبها وترتعد أوصالها، وصل ذلك الاحساس إليه، تحرك جانبًا، وفتح ذراعيه ليضمها إلى أحضانه بكل حب وفخر، شعر بدقات قلبها تتسابق معًا، فقام بتقبيل رأسها بجميع مشاعر الإخوة والاحتواء، لكي يبث إليها الطمأنينة وتهدأ قليلًا، فتسرب إليه هدوء دقات قلبها، شعر ببعض الراحة نوعًا ما: تعالي اقعدي يا ريم.
-جلست بجواره وظلت تفرك يديها، قام حسام بالإمساك بيديها، وطلب منها الهدوء وحقها على عدم التوتر، وبدأ يسرد عليها تفاصيل اللقاء الذي جمعه بريان، وقام بإلقاء بعض النصائح على مسامعها، وبث إليها بعض الكلمات المطمئنة: يا ريم، إنتِ أختي، وساعات كتير بحسك بنتى الصغيرة، إنتي بريئة جدًا، وكل حاجة جواكِ بتبان فى عينيكِ، ولولا إني عارف إن ريان بيحبك وإنتِ كمان مكنتش وافقت! ومتقلقيش، أنا جنبك وهفضل جنبك، وصمت قليلًا، ثم أردف قائلًا: مش لوحدي على فكرة، حمزة كمان جنبك معاكِ، ومتخافيش طول ما احنا موجودين، وقام برفع كلتا ذراعيها إلى الأعلى، شايفة دول؟
-فهزت رأسها بالإيجاب.
-دول أنا وحمزة، لو ينفع تستغني عن واحد منههم يبقى هتستغنى عن واحد مننا، اوعي تخافي أبدًا احنا معاكِ وسندك.
-تساقطت الدموع من عينيها دون أن تشعر، واحتضنت أخاها بحميمية وحب وتبعتهما ببعض الدعوات، سائلة الله أن يرزقه السعادة وراحة البال، وأن يديمه سندًا دائمًا لها.
-ربت على كتفها بحنو بالغ، وطلب منها بنبرة تحذيرية: مترديش على الرسايل يا ريم، وأمسك بهاتفه وقام بإجراء مكالمة هاتفية، وتعالت نبرة صوته دون أي ترحيب للمتصل: احنا اتفقنا إنك تاخد خطوات إيجابية يا دكتور! مش تخبط على الشبابيك، كان المفروض تكلمني وتستأذني إنك هتبعتلها، أو على الأقل تستنى أما أرد عليك سواء بالرفض أو الإيجاب،
مش دى الأصول برضه، ولا إيه؟
-شعر ريان بالحرج الشديد، واشتعلت وجنتاه من شدة الإحراج، فقام بالاعتذار وأخبره بالغ أسفه، ثم قام بإنهاء المكالمة، وأغلق الهاتف، استدار بوجهه إلى ريم: أختى طول عمرها هتفضل ملكة وغالية، ولازم يتعب عشان يوصلك ويعرف يحافظ عليكِ وإنك مش لوحدك.
-عمري ما تخيلت إنه يكون جواك كل المشاعر الحلوة دي، أو حتى إنك ممكن تقعد تتكلم معايا كده، كنت عارفة إنك طيب وجواك شخص تاني غير اللي ظاهر دايمًا لينا، دايمًا كان حمزة هو الهادي والقريب، وطويل البال، وهواللي بيسمع مني، إنت بجد اتغيرت خالص، لدرجة مش قادرة أوصفلك فرحتي وسعادتي بيك، بس يا ترى بقى إيه السبب؟! حور، مش كده؟!
-وعلى ذكر اسمها انتفض قلبه، ثار بين ضلوعه، وشعر كأن روحها قد احتلت كيانه، وسرح بها وفي كل تقاسيمها وتفاصيلها، وشرد قليلًا متحدثًا عنها وعن صورتها التي تسكن خياله: حور دي الأمانة اللي ربنا بعتهالي، ولازم أحافظ عليها، الهدية اللي لازم تفضل جوا قلبي ده مكانها اللي اتخلقت ليه وصعب تخرج منه لو مهما حصل، أصفى قلب وأجمل ضحكة بتنور دنيتي وتخرجها من العتمة للنور.
-بتتكلم عنها بكل الحب يا حسام، كل حرف بيخرج منك بيقول إنك بتحبها، ربنا يديمكم لبعض.
-تنهد، وأخرج من صدره زفيرًا عاليًا: لأنها تستاهل إنها تتحب يا ريم، وحقها عليا أني أتكلم عنها بكل الحب وأوفيها حقها، بس طبعًا مش هتكلم بالشكل ده مع أي حد؛ أنا بقولك إنتِ الكلام اللي لازم الزوج يقوله ويعمل بيه مع زوجته، لأنك أختي ولازم تكوني عارفة كويس علشان يوم ما تتجوزي تكوني عاملة حسابك إن علاقة الزوج والزوجة ربنا وصفها بالمودة والرحمة، ودول أهم حاجتين لازم يكونوا موجودين وحتى إنهم أهم من الحب نفسه، وإنك لو اتعاملتِ مع زوجك بِحُب ورضا وإخلاص، هو غصب عنه هيعاملك بالمثل، لأنه المفروض يكون متربي وعلى خُلق ويعرف يقدر قيمة الزوجة اللي ربنا كرمه بيها وقيمة الحياة الزوجية.
-صعبان عليا حمزة أوي يا حسام!
-متقلقيش عليه، كل حاجة هتتصلح بس هي مسألة وقت.
-استأذن حسام للرحيل، لتسرع هي وتتفحص الهاتف وتبدأ بقراءة رسايل ريان للمرة المليون، وتتصفح حسابه، ثم راودتها فكرة أن تكتب شيئًا ما على حسابها، وبدأت بكتابة بعض الكلمات؛ وكأنها تود أن توجه رسالة لأحدهم:
-"قبل خمسة عشرعامًا كنت مجرد طفلة، تسعد بأي شيء وبكل كلمة ولو بسيطة، واليوم عاد إلي نفس الشعور، وعدت لتلك النقطة مرة أخرى، فزادت فرحتي"
ومن ثم أغلقت هاتفها وتوجهت مباشرة للنوم، وهي تشعر بالراحة، وسعادة تملأ قلبها وكأنها قد حصلت على العالم برمته، وذلك الحب الذي نبت بداخلها من الصغر ولم تستطع يومًا أن تفصح عنه، قد آن الأوان ليعلن عن نفسه بقوة، وبترحيب من الجميع.
في تلك الأثناء قام ريان بتصفح حسابها كعادته يوميًا، وحين قرأ الرسالة التي وجهتها له بطريق غير مباشر، اعتلت الفرحة قلبه وكاد يطير فرحًا، وأغمض عينيه والابتسامة تعلو شفتيه وأطلق تنهيدة تنم عن تأنيب الضمير، ولام نفسه كثيرًا؛ فما كان يجب أن يراسلها على الخاص دون علم حسام بذلك، ولكنه حاول أن يجد لنفسه مبررًا، وحدث نفسه بأن من المؤكد أن حسام سوف يلتمس له الأعذار، وقرب هاتفه من شفتيه وطبع عليه قبلةً، وكأنه اكتنز العالم بتلك الكلمات التي كتبتها هي لتعبر له عن موافقتها وسعادتها به، ثم احتضن هاتفه وحاول أن ينام، ولكن جافى النوم عينيه، ولم يغمض له طرف، وكان الوقت يمر ثقيلًا كالجبال، وهو ينتظر الصباح لتأتي معه البشرى، ويحثه على القدوم لكي يذهب إلى أبيها باكرًا لكي تكتمل تلك الفرحة، وتُكلل بالموافقة على خطوبتهما، ويباركها الجميع.
يتبع...
