رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 21 - جـ 2 - الجمعة 5/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الواحد والعشرون
الحزء الثاني
تم النشر الجمعة
5/9/2025
كان الفجر قد بدأ يلقي بأشعته الرمادية
كانت ممرات مستشفى القاهرة تضج بالحركة الصامتة للأطباء والممرضات، لكن أمام باب العناية المركزة، كان الزمن متوقفًا.
جلس سالم الرفاعي على مقعد معدني بارد، وقد انحنى ظهره تحت وطأة القلق، ووجهه حفرت فيه الساعات الماضية تجاعيد سنوات طويلة.
بجانبه، كان مالك يقف، يسند ظهره إلى الحائط، عيناه معلقتان بالباب الزجاجي الذي يفصله عن روح، حبيبته التي ترقد في الداخل، تصارع من أجل حياتها بعد جلطة دماغية حادة.
وكذلك سند وابيه
وليل التي كانت تلك الصدمة هي القشة التي قصمت ظهرها اليوم
كان الصمت بينهما ثقيلاً، مشبعًا بالأسئلة التي لا يجرؤ أي منهما على نطقها، وبالدعاء الذي لم ينقطع.
كل ما كان يشغل بالهما هو مصير روح، وما الذي أوصلها إلى هذه الحالة.
في وسط هذا السكون المشحون، رن هاتف سالم.
نظر إلى الشاشة، فوجد رقمًا من أحد رجال العائلة في البلد.
شعر بانقباضة قلب إضافية.
_ألو... قال بصوتٍ متعب وأجش.
صمت للحظات وهو يستمع للطرف الآخر، وتغيرت ملامحه بشكل يدعوا للقلق.
اختفى القلق من على وجهه، وحل محله شيء آخر... شيء فارغ، جامد، لا يمكن تفسيره.
اتسعت عيناه بصدمة صامتة، وبدأ جسده يرتجف ببطء.
لاحظ مالك التغير على والده، فاقترب منه بقلق.
_في إيه يا بوي؟ حصل حاچة؟
لم يرد سالم كان لا يزال يستمع، أو ربما لم يعد يستمع، بل كان عالقًا في الكلمات التي قيلت للتو.
ابنك...
عدي...
اتحرق...
مات.
استمع للإجابة، ومع كل كلمة، كان يفقد جزءًا من روحه.
"راح لهم...
هو اللي ولع في نفسه...
بالغلط."
"للأسف محدش قدر يساعده"
"الحريق كان شديد"
هنا، سقط الهاتف من يده المرتعشة وارتطم بالأرض محدثًا ضجة خفيفة بدت في ذلك الصمت كصوت انفجار ظل سالم جالسًا، يحدق أمامه في الحائط الأبيض، لكنه لم يكن يراه.
كان يرى ابنه، يرى طفلاً يجري في الحقول، يرى شابًا يضحك، يرى رجلًا غاضبًا... يرى شعلة من النار.
قال مالك وهو يهزه برفق، والخوف بدأ يتسرب إلى قلبه.
_ ابوى رد عليا، في إيه؟
التفت سالم إليه ببطء شديد، وكأنه يتحرك في حلم ثقيل كانت عيناه فارغتين تمامًا، نظرة رجل رأى نهاية العالم.
_عدي...
تمتم، والكلمة خرجت من فمه جافة ومكسورة.
_أخوك... مات.
شعر مالك وكأن الأرض قد ابتلعته ولم يستوعب ما يسمع
_اخويا مين....
مات؟ .....
مات إزاي؟!
_اتحرق.
الكلمة الواحدة كانت كافية.
لم يحتج مالك لتفاصيل مع حالة ابيه وكلماته
لكنه أيضاً لم يستوعب بعد
شعر بألم حاد، ألم جسدي، يخترق صدره
لم يصدق
كيف يمكن أن يحدث هذا؟ بالأمس فقط كان يواجهه، يلومه يهدده. والآن... لم يعد موجودًا.
تراجعت قدماه للخلف حتى ارتطم ظهره بالحائط، وانزلق ببطء حتى جلس القرفصاء على الأرض
لم يصرخ
لم يبكي.
بل وضع رأسه بين ركبتيه، وبدأ جسده يهتز بعنف في نوبة صامتة من الألم.
لقد فقد أخاه
الأخ الذي تشاجر معه، واختلف معه، لكنه كان قطعة من روحه.
شعر بموجة عارمة من الذنب والندم تجتاحه.
آخر ذكرى بينهما كانت مواجهة غاضبة. لم يتصالحا لم يتصافيا والآن، فات الأوان إلى الأبد.
رفع رأسه ونظر إلى والده.
رآه جالسًا كتمثال من حجر، لا يتحرك، لا يرمش، دموعه تنزل من عينيه بصمت دون أن يشعر بها، تسيل على خديه وتختفي في تجاعيد وجهه كان الأب قد فقد ابنه، بينما زوجته الأخرى ترقد بين الحياة والموت على بعد أمتار قليلة.
❈-❈-❈
كانت أضواء سيارات الشرطة والإسعاف الحمراء والزرقاء ترقص بجنون داخل السرايا المحترقة، وتلقي بظلال مشوهة على وجوه الجميع. رجال الإطفاء كانوا لا يزالون يخمدون آخر الأماكن المشتعلة، بينما بدأ المحققون في فرض طوق حول مسرح الجريمة.
في قلب هذه الفوضى، كان جاسر لا يزال واقفًا، يحتضن نغم التي كانت ترتجف بين ذراعيه كطائر جريح.
لم تكن تبكي الآن، بل كانت صامتة، عيناها الزائغتان مثبتتان على الجسد المسجى على الأرض والذي غطاه المسعفون على عجل بملاءة فضية.
كانت في عالم آخر، عالم لا يسمع فيه صراخ رجال الشرطة ولا يرى الأضواء المتقطعة.
عالم يردد فيه صدى صوت واحد فقط: صوت عدي وهو يعترف بحبه، وهو يضحي بنفسه من أجلها.
لقد مات لأنه أحبها.
هذه الحقيقة البسيطة والمدمرة كانت هي كل ما يشغل وعيها.
بحركة حانية لم يعتدها من نفسه، أبعدها
ثم أشار لوالدته التي كانت تقف على مقربة، ووجهها شاحب من هول ما حدث.
تقدمت الأم، وفي عينيها شفقة حقيقية.
قال جاسر بصوتٍ أجش
_خديها يا أمي.
طلعيها فوج، وماتسيبيهاش لوحدها.
وضعت الأم يدها على ظهر نغم، وبدأت تقودها برفق نحو مدخل القصر.
استجابت نغم كدمية بلا إرادة، خطواتها تتعثر، وعيناها لا تزالان تنظران خلفها نحو الملاءة الفضية التي تخفي تحتها نهاية قصة ابن عمها المأساوية.
ما إن اختفت نغم داخل القصر، حتى عاد وجه جاسر إلى قناعه الجليدي.
استدار ليواجه الضابط المسؤول، لكن في تلك اللحظة، انشقت ظلمة الطريق، وظهرت عدة سيارات تسير بسرعة، وتوقفت أمام بوابة القصر.
ترجل منها رجال عائلة الرفاعي.
في المقدمة كان وهدان، الجد، يسير بخطى ثابتة رغم ألمه، وعصاه تدق الأرض بقوة.
خلفه كان سالم، وجهه كقناع من حجر لا يظهر أي تعابير.
وبجانبهما كان مالك، الذي كانت عيناه تشتعلان بمزيج من الألم والغضب المكتوم.
وخلفهم بقية رجال العائلة، وجوههم صامتة وقاتمة.
ساروا مباشرة نحو الطوق الأمني، وهدفهم واحد: الجسد المغطى.
صرخ فيهم ضابط شرطة شاب.
_وقف عندك ممنوع الدخول، ده مسرح جريمة.
تجاهله وهدان تمامًا، وأكمل سيره، تبعه أبناؤه وأحفاده.
كانوا يتظاهرون بالقوة والتماسك، لكن أي عين فاحصة كانت لترى الأيادي المقبوضة بشدة، والفكوك المشدودة، والقلوب التي تنزف خلف تلك الأقنعة الصخرية.
قال الضابط وهو يحاول اعتراض طريقهم.
_يا جماعة مينفعش كده الجثة لازم تروح المشرحة الأول للتحقيق.
وصل وهدان إلى حيث يرقد حفيده، ونظر إلى جاسر الذي كان يقف على بعد خطوات.
لم تكن نظرة عتاب أو تهديد، بل كانت نظرة باردة وفارغة.
قال وهدان بصوتٍ هادئ ومخيف.
_إحنا جايين ناخد ولدنا.
هنا، تقدم صخر التهامي الذي كان يراقب المشهد من بعيد، فقد كان بالخارج ولم يرى ما حدث.
وقال بسخرية لاذعة.
_تخدوه؟....تاخدوه بعد ما حرق حالنا، وأذى رجالنا، وحاول يولع فينا كلنا؟ ده مجرم، مكانه السجن لو كان عاش، ومكانه المشرحة وهو ميت.
لم يرد عليه وهدان، بل انحنى هو وسالم ليكشفا الملاءة عن وجه عدي.
للحظة خاطفة، رأى الجميع ألمًا عميقًا يكسر قناع الأب والجد وهما يريان ما تبقى من ابنهما، لكنهما سرعان ما استعادا تماسكهما.
أمر وهدان رجاله.
_شلوه
صرخ الضابط مرة أخرى، وأشار لرجاله بمنعهم.
_ممنوع، دي جريمة شروع في قتل وحريق عمد، والجثة دليل.
محدش هيحركها من مكانها إلا بأمر من النيابة.
قال سالم بصوتٍ أجش، وهو يقف في وجه الضابط
_ده ولدنا، وهندفنه على شريعتنا.
ومش هنسيبه لحظة واحدة
بدأ الموقف يتوتر، رجال الرفاعي يصرون على أخذ الجثة، ورجال الشرطة يمنعونهم بالقوة.
_سيبوهم ياخدوه.
جاء صوت جاسر هادئًا وحاسمًا، فالتفت إليه الجميع، بما فيهم الضابط وصخر.
قال صخر بغضب.
_بتجول ايه يا جاسر؟ده حقنا! لازم يتشرح عشان نثبت جريمته!
نظر جاسر إلى الضابط، متجاهلاً عمه. _يا حضرة الضابط، الموضوع خلص. المعتدي مات
إحنا أصحاب البيت، ومش هنقدم بلاغ رسمي اعتبروها حادثة وانتهت.
خليهم ياخدوا ولدهم ويدفنوه، إكرام الميت دفنه.
صُدم الجميع من قرار جاسر، وخصوصًا وهدان ومالك اللذين نظرا إليه بعدم تصديق.
قال الضابط بتردد.
_بس ده ضد الإجراءات يا جاسر بيه.
قال جاسر بنبرة نهائية.
_وأنا اللي هكلم النيابة بنفسي وأتحمل المسؤولية.
لم يجد الضابط ما يقوله، فأشار لرجاله بالتراجع.
تقدم رجال الرفاعي، وحملوا جسد عدي الملفوف بعناية، وبدأوا في السير به نحو سياراتهم.
قبل أن يغادر، توقف مالك ونظر إلى جاسر نظرة طويلة ومعقدة، ثم أومأ برأسه إيماءة خفيفة، إيماءة تحمل معنى لم يفهمه سوى الرجلين، ثم استدار ورحل.
بينما كانوا يغادرون، لم يستطع صخر أن يصمت صرخ خلفهم
_امشوا... خدوا جريمته معاكم بس افتكروا... إنكم لسه مديونين.
لم يلتفت إليه أحد من عائلة الرفاعي، واصلوا سيرهم في صمت مهيب، واختفوا في الظلام، حاملين معهم ابنهم، ونهاية قصة الثأر التي كتبها عدي بدمه وناره.
❈-❈-❈
في المشفى
لم يستطيع أحد منهم التحرك لانهاء الاجراءات ولم يقم بهذا الدور سوى أكمل
فوهدان رجلٍ هرمٍ أثقلت كاهله المصائب، وتخلى عن الكثير مقابل امان احفاده.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
وضاع حفيد كما ضاع من قبله ابنه.
وجد ابنه سالم جالسًا كالصنم، وحفيده مالك ثابتاً مكانه
وسند الذي انتهى ثباته فور رؤية ابن عمه بذلك الشكل المؤلم
لم يسأل عن التفاصيل، بل انتظر حتى وصول أكمل.
انتهت الاجراءات وقاموا بحمل نعش عدي الى مثواه الأخير.
أعيون ثابتة لكن قلوب تحترق بلهيب الفراق.
انفضّ الجمع وتفرّق الناس تاركين خلفهم تراب القبر، وصمتًا ثقيلًا يلفّ المكان.
الكلّ رحل إلا هو.
بقي مالك جاثمًا بجانب القبر، وكأنّ جذورًا خفية تشدّه إلى تلك البقعة من الأرض.
لم يعد يرى الوجوه المغادرة، ولا يسمع همسات العزاء التي تلاشت في الأفق كان عالمه قد انكمش ليصبح هذا القبر، وهذا الصمت، وهذا الألم الذي يعتصر قلبه.
كانت دموعه تنهمر بصمت، لا شهقات تعلو، ولا نحيب يقطع هدوء المقبرة.
كانت دموعًا حارقة، تغسل وجهه، وتكوي روحه لم تكن دموع حزن على فقدان أخٍ فحسب، بل كانت ممزوجة بمرارة الذنب، بثقل الندم الذي يطحن عظامه
كلّ كلمة قاسية قالها لعدي، كلّ لحظة غضب لم يغفرها، كلّ سوء فهم لم يحاول إصلاحه، كانت تتراقص أمامه كأشباح، تزيد من وطأة الألم.
تذكّر عدي حيويته ضحكاته وحتى عناده الذي كان يثير غضبه.
الآن كلّ ذلك أصبح ذكرى، ذكرى مؤلمة
لأنّها لم تُختتم بسلام، لم تُختتم بكلمة طيبة، أو عناق يمحو الخلافات.
مات عدي وهو غاضباً منه.
هذه الجملة كانت تتردد في رأسه كصدى قاسٍ
تصفعه، وتذكره بقسوة قلبه، بعجزه عن تجاوز غضبه، عن مدّ يد المصالحة في الوقت المناسب.
رفع مالك يده المرتعشة، ولمس تراب القبر البارد
كان يشعر ببرودة الموت، وبرودة الفراق وبرودة الذنب الذي تجمّد في عروقه.
كان يتمنى لو يعود الزمن قليلًا، لو يمنح فرصة أخرى ليقول لعدي ما لم يقله ليحتضنه، ليخبره كم كان يحبه، رغم كل شيء.
لكنّ الزمن لا يعود، والموت لا يمنح فرصًا ثانية.
بقي مالك هناك وحيدًا مع ذنبه، مع حزنه مع بكائه الصامت.
كان يعلم أنّ هذا الذنب سيظلّ يطارده، وأنّ هذا الحزن لن يزول بسهولة.
فقدان عدي لم يكن مجرد فقدان أخ، بل كان فقدانًا لجزء من روحه، جزءٌ تلطّخ بمرارة الندم، وبقسوة كلمة لم تُقال، وبحقيقة
أنّ عدي مات وهو زعلان منه.
❈-❈-❈
في زاوية الغرفة المظلمة، حيث تتراكم الذكريات كالغبار على الأثاث القديم، جلست ورد
جسدها النحيل يرتجف كغصن شجرة في مهب الريح.
لم تكن تبكي بصوت مسموع، فدموعها جفت منذ زمن، أو ربما تحولت إلى جمر يشتعل في أعماق روحها.
كان عذابها أعمق من أن تحتويه الدموع، وأكبر من أن تعبر عنه الكلمات كان عذابًا صامتًا ينهش في أحشائها، ويتركها خاوية، كقشرة بلا لب.
كل زاوية في المنزل كانت تصرخ باسم عدي.
ضحكاته التي كانت تملأ الأرجاء، خطاه التي كانت ترسم دروب الحياة، صوته الذي كان يبعث الدفء في قلبها.
الآن كل شيء صامت، بارد موحش.
كانت تتلمس ملابسه المعلقة، تشم رائحته العالقة بها، وكأنها تحاول أن تستعيد جزءًا منه، جزءًا انتزع منها بلا رحمة.
كانت تتخيل وجهه، ملامحه التي حفظتها عن ظهر قلب، ابتسامته التي كانت تضيء عالمها.
الآن تلك الصورة أصبحت مؤلمة، تذكرها بالفراغ الذي تركه خلفه.
كانت تحاول أن تتذكر آخر مرة رأته فيها آخر كلمة قالها، آخر نظرة تبادلها هل كانت كافية؟ هل عبرت له عن كل حبها؟ هل سامحته على كل زلة؟ أسئلة لا نهاية لها كانت تنهال عليها كالصواعق، تزيد من لهيب عذابها.
شعور بالذنب كان يلتف حول قلبها كالأفعى، يهمس لها بأنها ربما قصرت، ربما لم تفعل ما يكفي، ربما كان بإمكانها أن تمنع ما حدث.
لكن القدر كان أقوى، والموت كان أسرع.
كانت تشعر وكأن جزءًا منها قد اقتلع، وكأن روحها قد بترت.
كانت تتمنى لو تستطيع أن تصرخ، أن تطلق العنان لألمها، لكن صوتها كان حبيسًا في حلقها، وكأن الحزن قد خنق كل كلمة.
كانت تتنفس بصعوبة، وكأن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، لا يمر إلى رئتيها إلا بصعوبة.
كانت تتذكر أحلامها لعدي، مستقبله الذي رسمته له في خيالها، نجاحاته التي كانت تتوقعها.
الآن كل تلك الأحلام تحولت إلى رماد، تذروه رياح الفقد لم يعد هناك مستقبل، لم يعد هناك أمل فقط هذا الألم، هذا العذاب الذي انكوى به قلبها، وتركها محطمة، بلا روح، بلا حياة.
كانت مجرد جسد يتحرك، لكن روحها كانت قد رحلت مع عدي، إلى حيث لا عودة.
❈-❈-❈
دلف جاسر غرفته في وقت الشروق، بعد أن انتهى من التعامل مع الشرطة ورجال الإطفاء، وبعد أن رحل آخر فرد من عائلة الرفاعي حاملاً معه جثة ابنه.
كان يشعر بإرهاق جسدي ونفسي هائل. وجد والدته تجلس على حافة السرير، تربت برفق على يد نغم المستلقية في سكون تام.
نهضت الأم عندما رأته، وفي عينيها قلق عميق.
همست بصوت خافت
_من ساعة ما طلعتها وهي على الحال ده.
لا بتتكلم، ولا بتبكي، ولا حتى بترمش.
زي ما تكون روحها مش في جسمها.
أومأ جاسر برأسه، وطلب منها أن تتركهما وحدهما.
خرجت الأم وأغلقت الباب خلفها بهدوء، تاركة إياه في مواجهة حطام انتقامه.
اقترب من السرير ببطء وكانت نغم على جانبها، وعيناها مفتوحتان على اتساعهما، تحدقان في الجدار دون أن تريا شيئًا.
لم تكن نظرة حزن أو ألم، بل كانت نظرة فراغ مطلق.
كانت تشبه دمية خزفية جميلة تحطمت من الداخل، ولم يتبق سوى قشرتها الخارجية الصامتة.
كان هذا الصمت، هذا الفراغ، أكثر إثارة للرعب من أي صراخ أو انهيار.
لقد رأى قوتها، وتحديها، وعنادها، وحتى دموعها.
لكنه لم يرها هكذا من قبل
لقد كانت هذه هي الهزيمة المطلقة، ليست هزيمتها هي، بل هزيمة روحها.
جلس على حافة السرير بجانبها، في نفس المكان الذي كانت تجلس فيه والدته.
لم ينظر إليها مباشرة، بل نظر إلى نفس النقطة الفارغة التي تحدق فيها في الجدار
يتبع...