رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 63 - السبت 27/9/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثالث والستون
تم النشر السبت
27/9/2025
ـ عودة الغائب..
الرسلانية ١٩٩٣..
صرخت برلنتي مجددا لتكسر ذاك الصمت الأحد وطأة من وقع سكين غاص حتى النصل في الحشا.. مؤكدة في تكرار محموم، وهي تلقي بنفسها أسفل قدمي صفية أمها: أيوه.. أنا السبب في موت مصطفى.. بس والله ما أقصد.. والله ما كان قصدي.. أنا كنت بحب مصطفى.. كنت بحبه.. ده.. ده.. هو لقي سلاح باب في قلب آخر درج من مكتبه.. قعد يحركه ف أيده.. ودخلت أنا عليه وشدني شكل السلاح فقلت له وريهوني.. رفض وقالي دي حاجات البنات ملهمش فيها.. كنت عنيدة وغبية.. أيوه.. عنيدة لدرجة إني مديت ايدي اخد السلاح بالعافية.. شدينا مع بعض.. ومكناش نعرف أنا أو هو إن السلاح كان فيه رصاصة ومن غير ما أقصد وأنا بشد المسدس.. ضغطت ع الزناد.. وطلعت الرصاصة و.. ووقع مصطفى قدامي في ثانية..
شهقت صفية في وجع، وسالت دموعها وكأن الحدث يعاد أمامها من جديد.. وتعالى معها نحيب برلنتي.. مصحوبا ببكاء أنس الوجود الصامت.. وحزن حبيب الذي لم يحرك ساكنا.. لتستطرد برلنتي وهي تمسح دموعها بظاهر كفيها، هاتفة في اضطراب، وأحرف متعثرة: أنا.. أنا مش فاكرة ايه اللي حصل بعدها.. لأني حتى مصرختش من الصدمة وأنا شايفة مصطفى واقع والدم مغرق المكان.. لكن نجيب حكالي بعدها إني كنت قاعدة ع الأرض جمبه بزق فيه وأقوله قوم يا مصطفى.. قوم عشان خاطري بلاش هزار.. قوم وخد المسدس أنا مش عايزاه..
ساد الصمت مع شهقة بكاء آخرى من صفية لتستطرد برلنتي في تشوش: أنا والله ما فاكرة حاجة.. كأن الموقف اتمسح من دماغي.. لأن نجيب ساعتها شدني من ايدي قومني وقالي روحي من هنا بسرعة.. وزي ما يكون كلامه هو اللي فوقني.. جريت ناحية باب الجنينة زي المجنونة وقعدت أجري أجري وأنا مش عارفة هروح فين.. كنت بجري وصريخك بيجري ورايا.. بيتهمني إني قتلت أخويا.. ولما الكل جه يشوف ايه الصوت ده.. لقوا نجيب جنب مصطفى بيحاول يلحقه فافتكرو إن هو اللي عمل كده.. ونجيب مأنكرش عشان يحميني.. قالي بعدها بشوية.. إن الاهون عمه ومرات عمه يكرهوه بدل ما يكرهو بنتهم.. قعدت أيام كتير من بعد الحادثة وأنا يقوم أصرخ لو عيني غفلت لدقايق.. كنت بشوف فالحلم مصطفى وهو بيلومني.. كده يا برلنتي!.. أنا تعملي فيا كده!.. كنت أصرخ واقوله سامحني.. كان يمشي ويديني ضهره.. أنا بحبه.. والله ما كان قصدي يموت.. أنا لحد دلوقت بحلم به.. هو نفس الحلم.. يجي يلومني ويمشي قبل ما يسامحني.. إلا مرة واحدة..
انتبهت صفية وكذا أنس الوجود وحبيب، حين ازدردت برلنتي ريقها، هامسة: يوم عملية القلب اللي عملتها من فترة.. وأنا ف اوضة العمليات كانت روحي في حتة تانية .. شوفته.. شوفت مصطفى.. يومها قولت له خدني معاك يا مصطفى متسبنيش.. يمكن أقدر اعمل اللي يخليك تسامحني.. راح ابتسم وقالي.. أنا هنا مع نجيب مرتاح.. اما إنتي لو عايزة السماح.. ارجعي يا برلنتي.. امك كل ليلة بتنام ودمعتها على خدها بتنادينا.. أنا وإنتي وأمينة.. أنا وأمينة خلاص.. لكن إنتي لسه في فرصة قدامك ترجعي لحضنها.. ساعتها قلت له مقدرش.. أمك مش مسمحاني إني اتجوزت نجيب.. وهربت معاه.. ما بالك لو عرفت إني أنا اللي حرمتها منك يا مصطفى!.. لقيته بيقول لي.. هتسامح.. روحي لها بوسيلي ايديها وراسها وقولي لها مصطفى مسامح بأمارة الفاتحة اللي بتقريهاله.. وبتوصله كل ليلة وانتي على مخدتك..
كانت شهقة صفية اللحظة قادمة من قلب أم ثكلى.. وقد علا صوتها في وجع مقرة: آه يا ولدي.. مسامحة يا جلب أمك.. مسامحة يا مصطفى..
هتفت برلنتي غير مصدقة: مسامحاني يا ماما!..
هتفت صفية من بين نحيبها: مسامحة لچل ما يرضى الغالي.. ويبجى مرتاح..
مالت برلنتي على كفي أمها توسعهما تقبيلا.. ونشيج بكائها يتعالى غير مصدقة أن أمها غفرت أخيرا زلاتها التي عاشت عمرا بأكمله تحمل أوزارها على كاهلي روحها.. اقتربت أنس الوجود في هدوء منحنية تربت على كتف أمها في تعاطف، هامسة: كفاية يا ماما على ستي صفية اللي اتقال ده كله.. وإنتي كمان لسه طالعة من عملية قلبك.. لازم ترتاحي..
هزت برلنتي رأسها نفيا، ونهضت في هوادة تستند على ذراع أنس الوجود.. متجهة نحو حقيبة يدها التي تركتها جانبا حين وصلت.. مؤكدة في عزم: لا.. لسه الأهم يا أنس..
مدت برلنتي يدها داخل حقيبتها مخرجة ورقة مطوية، حملتها في لهفة صوب حبيب، هاتفة وهي تتطلع نحوه في مودة، مادة كفها تربت على جانب ذراعه في رقة: يوم ما شفتك في كتب كتاب أنس، قلت اللي خلف ممتش، كأني شايفة رؤوف قدامي بعد سنين.. لكن لما قربت لك دلوقت.. الصورة اختلفت.. كأني شايفة جدي سعد رسلان.. سبحان الله..
مسحت برلنتي دمعة فرت على جانب وجهها، وهتفت باسمة وهي تمد يدها نحو حبيب بالورقة المطوية التي اخرجتها من حقيبتها لتوها: خد يا سعد.. أقصد يا حبيب.. ده عقد شقة مصر الجديدة.. الشقة اللي ادتني ستي أنس الوجود عقد بيعها باسمي يوم ما عرفت إني ناوية على البعاد مع نجيب.. دي من حق الكل مش من حقي لوحدي.. اعرضها للبيع وحط فلوسها عشان تلحق الأرض..
همست أنس الوجود في تعجب: ضحيتي بشقة مصر الجديدة يا ماما!.. معقول!..
هتفت برلنتي باكية: ايوه معقول.. حاجة اقدر اعملها عشان ألحق أرض الرسلانية من إنها تضيع ولا السرايا دي تتباع وأمي تخرج منها..
همس حبيب مترددا: بس يا خالتي..
قاطعته برلنتي مع ابتسامة: الله.. خالتي!.. أول مرة اسمعها ف حياتي.. كان نفسي أمينة تبقى هنا..
همس حبيب في وجل: كني شايفها دلوجت جدامي وأني واعي لك يا خالتي.. بس إنتي لسانك نسي لغوتنا..
خبت ابتسامة برلنتي الدامعة، مؤكدة: كان لازم أنسى أو أحاول النسيان.. وأبعد عن أي حاجة تفكرني بالرسلانية وأيامها..
وعادت نحو صفية مجددا، وهي تقبل هامتها في محبة، تجلس مرة آخرى أسفل قدميها، هاتفة: محدش كان عارف حالي ايه يوم ما يكون حد جاي م الصعيد ونجيب يسأله ف المداري عن حال الرسلانية وناسها.. ويقولي إن أمي لسه منورة الدنيا.. على أد ما كنت ببكي على أد ما ببقى فرحانة إن ربنا مطول بعمرها يمكن يكون ليا نصيب في رضاها عني.. واهو حصل.. حتى لما كنت فالغيبوبة شفتكم كلكم.. ناديت عليكم واحد واحد.. وفقت عرفت إن أنس الوجود هنا.. الأول رفضت وجودها وزعلت.. كنت خايفة.. لكن لما فكرت شوية قلت أنا قلبي تعبان وممكن أروح ف أي لحظة.. مكانها الصح هنا.. بين عزوتها وناسها تتحامى بهم.. ويكونوا سند وضهر بعد ما عشنا عمرنا كله مقطوعين.. حتى الظروف خدمتني ف ده.. وصاحبتي لما حكت لأنس الوجود عكست الحكاية وقالت لها إن ليكي ورث عن أهل أمك ف الرسلانية روحي خدبه عشان تكاليف العملية.. وأنا مليش مليم عندكم.. حقنا الحقيقي عند الحرانية.. ميراثنا من أبويا مختار الحراني.. وميراث نجيب من جدك سميح الحراني اللي عرفت بالصدفة إنه مات بره مصر من خمس سنين..
نكست أنس الوجود رأسها ولم تعقب، ولم تبد كذلك أي درجة من درجات الصدمة أو التعجب على اعترافات أمها.. ما دفع حبيب ليسأل في تردد، موجها حديثه لأنس الوجود: إنتي كنتي عارفة يا أستاذة!.. من ميتا!..
ابتسمت أنس الوجود في حرج: من فترة بسيطة!.. أنا كل أما افتكر إزاي كنت جاية وكلي ثقة أقولكم ادوني حقي وأنا مليش حاجة.. بحس بإحراج رهيب.. بس أنت إزاي تقبلت الموضوع كده أول ما طلبت وكان عندك استعداد فعلا تديني.. لدرجة إنك كنت عايز تقعد توريني إيراد الأرض!.. مش غريبة دي!..
لم يجب حبيب بحرف، متطلعا لجدته صفية، التي هتفت مفسرة: بس إنتي ليكي حج عندنا!.. أني نصيبي من ورث أبويا كتبته باسم أمك وأمينة أم حبيب.. لما جيتي تطلبي جلنا وماله.. تخدي كل اللي لأمك وتروحي.. الصراحة كنت هرچع فالتجسيم بعد عملة أمك.. وكنت ناوية ادي حجي كله لولاد أمينة.. بس رچعت ف كلامي.. بعد اما شفتك.. جلبي اتفتح لك.. جلت في بالي إنتي ذنبك ايه تشيلي ذنب أمك وابوكي.. وكنت مصلبة راسي بس حبيب جاللي لو مش ناوية يا ستي.. أني هديها من حجي.. اجوله ملهاش حج عندن.. يجول لي لاه.. لها يا ستي وإنتي عارفة.. بس ده مالك وانتي حرة فيه مجدرش اتشرط عليكي توهبيه لمين.. لحد ما چيتي وبيدك خطيبك.. ومشيتي ف يومها..
لاحظت أنس الوجود تغير تعابير وجه حبيب حين جاءت صفية بذكر نصير ضمنيا دون ذكر اسمه حتى.. والذي هتف مؤكدا على سردية جدته: آه والفلوس موچودة من ساعتها..
أكدت أنس الوجود في هوادة: فلوس ايه!.. احنا محتاجين كل قرش عشان رهنية الأرض.. بعد كده كله يتقضي..
هز حبيب رأسه متفهما، وقد حاز نظرة متعجلة صوب أنس الوجود حين وجهت كلامها له، شاعرا بالتيه المخلوط بالشوق.. يهز رأسه مدعيا التفهم وهو بعالم آخر لا يحوي سوى عيناها.. ما دفعه ليستأذن في عجالة.. فما عاد قادرا على إظهار الثبات أو ادعائه في حضرتها.. وهي التي أصبحت الآن ملكا لرجل آخر..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني.. ١٩٩٣..
كان ذاك الصوان المقام في الأرض البراح قبالة دار الحفناوية، مع أصوات المقرىء الذي يعلو صوته مرتلا لآيات القرآن الكريم دليلا على حالة الوفاة التي تمس أهل الدار.. كان الصوان مكتظا بالمعزين من كل حدب وصوب.. فموت عمدة العرابة يعد حدثا جللا في مجتمع مغلق كمجتمع العرابة وما يجاورها من النجوع.. وعلى الرغم من أن عزاء الرجال في المعتاد لا يشمله الأحاديث الجانبية أو الغمز واللمز كما يحدث في عزاء السيدات.. لكن الصوان لم يخل من بعض الهمسات والغمزات هنا وهناك لوجود صبري وابنه النقيب سراج يقفا في صف أهل المتوفى لأخذ العزاء والمواساة من المعزين.. كان التساؤل الأكبر.. الذي أثار فضول الجميع.. من هذا، وما صلته بالعمدة عدنان ليقف متصدرا العزاء مع أولاد العمدة!.. وما علاقة النقيب سراج بهم!..
زادت الهمسات والثرثرات انتشار معلنة عن عودة صبري الحفناوي الأخ الأصغر للعمدة عدنان بعد غيبته الطويلة.. وبصحبته ولده النقيب سراج ضابط نقطة الرسلانية..
هلّ حبيب متقدما لداخل صوان العزاء.. مادا كفه ملقيا التحية وتقديم المواساة المعتادة في مثل هذه الظروف، بادله صبري التحية، متطلعا نحوه في تيه، ليهتف سراج معرفا: ده حبيب رسلان واد خالي رؤوف يا حچ!..
هتف صبري في اضطراب: ووه!.. وأني اللي جاعد أجول شفته فين جبل سابج!.. كن چدك سعد هل علينا من طلتك.. ربنا يحفظك يا ولدي.. سعيكم مشكور يا ريحة الحبايب..
هز حبيب رأسه في تفهم، رابتا على كف صبري التي كانت ما تزال في كفه، هامسا في معزة: تسلم وتعيش يا حچ.. إحنا مجصرين معاك ومع سراچ بس ملحوجة..
أكد صبري في تفهم: ولا تجصير ولا حاچة.. مفيش بين الأهل الكلام ده يا ولدي.. اتفضل..
دخل حبيب العزاء.. فسارع البعض في إلقاء التحية.. ليجلس حبيب مستمعا للقرآن المرتل في سكون.. وازدادت الهمسات الفضولية ثرثرة بعد دخوله..
انتهى العزاء لليوم الأول.. ليتجه صبري وولده صوب الدار.. كانت أقدامه مثقلة الخطى وهو يتجه إلى هذه الدار التي هجرها منذ ما يزيد عن الربع قرن.. لم يتغير الكثير.. بعض من رتوش الزمان التي خلفت يده بعض الآثار الشاحبة على تفاصيله.. كان سراج ينبع أبيه مدركا ذاك الصراع المعتمل بدواخله وهو يخطو أولى خطاه لداخل الدار التي كان يظن أنه لن يطأها ما حيا.. دخل إلى القاعة التي كانت مجلسا مفضلا لأبيه عامر الحفناوي وحده عدنان الكبير.. سار حتى توقف عند موضع ما على تلك الأريكة الخشبية وبدأ يتحسسه في حنين وشوق.. دامع العينين متحشرج الصوت، وهو يهمس: هنا كان مجعد أبوي.. ومن جبله سيدي عدنان.. الجاعة دي حيطانها لو بتتكلم كانت حكت مواويل وحكاوي بطول الزمن وكتر ناسه يا سراچ يا ولدي..
تحرك صبري بضع خطوات، ثم توقف عند موضع محدد، ورفع رأسه قليلا متطلعا حوله وكأنه يرى ما لا يراه غيره.. هامسا: كني سامع صوت الغاليين اللي راحو بيتردد تاني.. هنا.. مُطرح ما أني واجف.. كانت وجفتي وأني بجول لأبوي بعزم ما فيا.. أني عايز سعاد.. بعد ما عمك عدنان الله يرحمه جاله إنه رايدها من وراي وهو عارف إني اريدها لروحي وهي ريداني.. بس كان بيكايدني.. وأمي الغلبانة واجفة هناك.. بتدعي من خوفها الموضوع يجلب عركة كبيرة..
كان سراج يقف خاشعا لكل كلمة نطقها أبيه يتطلع نحوه بأعين دامعة وهو يراه على هذه الحالة.. ليستطرد صبري وقد بلغ منه التأثر مبلغا كبيرا: أني.. أني مكنتش رايد كل ده يچرا.. كنت بس رايدها.. آه يا سراج!.. لو يرچع الزمن من تاني.. ما كنت فارجت الدار دي ولو يوم.. كنت عملت اللي ما ينعمل، ودخلت أمك عروسة فيها.. ست الناس كلها..
ساد الصمت لبرهة، وسالت دمعة خائنة لثباته على خده، فازاحها صبري سريعا وهو يسأل ولده في اضطراب: هو أني كده خاين لأمك يا سراچ!..
اندفع سراج نحو أبيه مطوقا إياه بذراعيه في محبة خالصة داعما بكلماته مؤكدا: لاه، لا عمرك ولا يوم هتكون.. وهي لو عايشة والدنيا اتعدلت كانت أول واحدة چريت على سراية الرسلانية لچل ما تشوف ناسها.. وتتونس بهم..
شهق صبري بين أحضان ولده.. هامسا في حسرة: سامحيني يا سعاد إني مجدرتش اعوضك عن البعاد.. سامحيني يا غالية..
لم ينطق سراج بحرف، تاركا لأبيه العنان ليطلق مشاعره المضطربة وخاصة بعد كل الأحداث التي مرت خلال الأيام القليلة الماضية..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
سألت العسكري في تأدب.. وهي تقف على باب مكتبه: جمال بيه جوه!..
هز العسكري رأسه في تأكيد، ودفع باب الحجرة مشيرا لها بالدخول.. مرت لداخل الغرفة، وصوت جمال يعلو في سلطنة مع صوت عبدالحليم حافظ الشجي: وأنا صابر ع المقسوم.. يمكن يرجع لي فيوم..
هتفت هاجر مع ابتسامة: مساء الخير يا حضرة الظابط!..
رفع جمال رأسه عن الأوراق التي كان يعمل عليها في تركيز تام مع غنائه وصوت الراديو كل هذا لم يجعله يدرك دخول هاجر المكتب ما جعله ينتفض فزعا من موضعه خلف مكتبه مندفعا نحوها، متسائلا في ذعر: انتو كويسين.. أنس الوجود ووالدتها!.. وازاي خرجتي من عندهم من غير ما تقولي!.. انتي اتجننتي!..
تطلعت هاجر نحوه في اضطراب ما لبث أن تحول لارتجافة كانت تحاول أن تضبط نفسها حتى لا تبكي.. لكنها لم تستطع وانفجرت في البكاء، هامسة من بين نوبات نحيبها: أصل أنس الوجود وطنط سافرو الرسلانية.. و..
زعق جمال في غضب: سافرو من غير ما يقولو!.. هو إحنا مش قايلين أي تحرك لازم نبقى عارفين!.. في مجرم هربان حاططكم ف دماغه.. انتو إزاي مش واخدين بالكم من المصيبة دي!..
هتفت هاجر مفسرة وهي ما تزال تبكي: ما هم سافرو يتحامو ف أهلهم هناك ف الصعيد.. عزمو عليا.. بس أنا رفضت.. مبحبش ابقى تقيلة على حد.. طب هم راحو لأهلهم.. أنا هروح بمناسبة ايه!.. ف جيت.. هنا.. عشان..
تطلع جمال نحوها، وقد تفهم الموقف ما دفعه ليتطبع نحوها في حنان جارف.. وما أن هم بالاقتراب منها حتى تنبه ضاربا جانبي جسده بكلتا يديه مبتعدا مع زفرة قوية، مخللا كفه بشعره في اضطراب، هاتفا في نبرة معتذرة: أنا آسف يا هاجر.. سامحيني.. خوفي خلاني متعصب.. امسك بكفها دافعا بها نحو الأريكة الوثيرة.. ليجلسا في هدوء، قبل أن يهمس جمال مشاكسا: جيتي صحيح عشان معتبراني أهلك.. جيتي تتحامي فيا!..
هزت هاجر رأسها في إيجاب، هامسة: أنا مليش حد يا جمال.. مبقاليش حد الا أنت.. أنا طبعا معايا فلوسي اقدر أعيش بها.. ومؤهلي الدراسي العالي.. وخبرتي فالشغل مع نصير.. لكن مش قصدي ده كله.. أنا قصدي السند الأهل.. فاهمني يا جمال!
هتف جمال معلنا: هاجر!.. تتجوزيني!..
تطلعت هاجر نحوه باسمة، وسألت في نبرة مهتزة: هتتجوزني شفقة يا جمال!..
هتف جمال مازحا: شفقة ايه بس! ده انتي اللي اشفقي عليا ووافقي..
ارتفعت ضحكات هاجر، ليستطرد جمال في عشق: هاجر أنا بحبك!.. بحبك من أيام ما كنا عيال فكوم الدكة وحاراته.. ولما اختفيتي في يوم وليلة مع ابوكي.. فضلت أدور عليكي زي المجنون.. مش مصدق إنك روحتي ومش هشوفك تاني.. ولما شفتك صدفة فالمستشفى.. مكنتش مصدق إن اللي قدامي دي تبقى إنتي.. وإن ممكن تظهري فوحياتي تاني بعد ما فقدت الأمل في ان ده يحصل.. انا عايزك.. قولتي ايه!..
هزت هاجر رأسها في قبول، ودموعها تنساب على خديها، ليؤكد جمال في لهفة: طب ياللاه بينا.. اكيد مريم زمانها رجعت م الشغل وماما كمان رجعت من اسكندرية.. تعالي أعرفك عليها وبالمرة نبلغهم الخبر السعيد..
توقفت هاجر عن مجاراته هاتفة: استنى بس يا جمال.. بس أنا مش مرتاحة للي بيحصل ده.. مينفعش تاخدني كده لوالدتك وشوفي أنا هتجوز دي.. لأ.. أنا هأجر شقة واستقر فيها ووالدتك تتفضل تزورني فيها ونتعرف لما أنت تقولها بقى على رغبتنا..
هتف جمال مفسرا: اللي بتقوليه ده كان وارد ف دماغي لو مكناش في مصيبة من ورا هروب نصير.. انا لا يمكن اغامر انك تبقي لوحدك.. انا هبلغ ماما كل الظروف وانتي هتبقي معاها هي ومريم وانا اللي هأجر شقة جنبكم.. لحد ما ربنا ييسر ونتجوز.. غير كده مش مقبول اي اقتراحات يكون فيها ضرر عليكي..
تطلعت هاجر نحوه هامسة في حرج: بحبك..
تطلع جمال نحوها في صدمة هامسا: قولتي ايه!..
همست هاجر مجددا: بحبك يا جمال..
انتفض جمال مهللا: الله أكبر.. ده أنا نفسي اتجوز من أيام ما كنت ف تانية إعدادي.. بس جواز اخواتي البنات هو اللي عطل مسيرة الحلم.. اتاري اللي يصبر ينول ياخونا..
ارتفعت قهقهات هاجر على أقوال جمال التي لا يمكن أن تكون جدية أبدا..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٣..
لا تعرف ما الذي دفعها للخروج من السراي نحو منزل الشيخ معتوق لمصاحبة محمود لدرسه، فقد كانت هذه مهمة حبيب وأحيانا شبل الخفير، لكنها شعرت باختناق غريب جراء كل ما يحدث من أحداث متتابعة وخاصة موضوع الأرض والحجز عليها وعلى السراي.. كيف لهذه الغمة أن تمر!.. وكيف سيكون الحال إذا ما حجز البنك بالفعل على الأرض وهي كل ما يملكه الرسلانية من حطام الدنيا.. وكذلك السراي التي هي مسكنهم وملاذهم!.. لكنها استشعرت حنينا لصديقتها مجيدة.. بعد كل هذه الشهور الطويلة من الفراق.. فقررت المرور عليها بعد توصيل محمود لوجهته.. كانت مجيدة دوما هي الأخت التي لم تملك.. وعلى الرغم من كل ما جرى.. إلا أنها ظلت ذات مكانة خاصة عندها ولم تكره صحبتها أبدا أو تملها فما وجدت منها إلا كل خير ودعم.. كان لقاؤها مليئا بالدموع والذكريات وكذلك الأخبار السعيدة.. وقد وجدت مجيدة أخيرا ضالة قلبها في سرور.. الذي تقدم بالفعل لخطبتها.. منتظرا الوقت المناسب لاتمام الزواج.. اخذتهما الحكايات لساعات.. حتى تذكرت أن عليها إعادة محمود للسراي.. فنهضت مودعة على أمل في لقاء جديد..
استأذنت طارقة باب دار الشيخ معتوق.. وجلست تستأنس بالحديث معه عن الأحوال التي تعلم أن حبيب قد أعلمه بها.. فقد كان الشيخ معتوق دوما ومن قبله أباه الشيخ رضا مكمن سر رجال الرسلانية على مر عصورها.. ليهتف الشيخ معتوق مطمئنا: متجلجيش يا بتي.. سلموا أمركم لله.. وخدوا بالأسباب.. لطفه يچري وعبده لا يدري..
همست منيرة في هدوء: ونعم بالله..
أخذت بيد محمود أخيها واستأذنت بعد أن وضعت ما كانت تحمله من طعام جاءت به للشيخ خصيصا.. كما هي العادة.. ليغمرها الشيخ معتوق بالدعوات.. لها، ولكل الرسلانية ونسلهم..
سارا معا عبر الطريق الضيق الذي يقع به دار الشيخ معتوق، حتى إذا ما شارفت على نهايته، همس محمود متسائلا في قلق: هو صح هيخرچونا من السرايا، وهنرچع بيت الرسلانية الجديم يا منيرة!..
همست منيرة تسأل: مين اللي جالك كده يا محمود!..
همس معترفا: الواد سالم.. جالي إنه سمع الكلام ده ومصدجش وكان چاي يسألني.. هو ليه مخبيين عليا.. أني معدتش صغير!.. ابجى ليه آخر واحد يعرف حاچة زي دي!..
ربتت منيرة على كتف محمود معتذرة: متزعلش يا محمود، والله ما نجصد.. الحكاية تجيلة.. وربنا يسترها.. ادعي بس أنت يا شيخ.. دعواتك مستچابة.. إن الغمة دي تنزاح..
همس محمود رافعا كفيه مؤمنا: اللهم آمين..
هتف صوتا مازحا أقترب صاحبه متسائلا: بتدعي على مين يا شيخ محمود!.. أنا سمعت إن دعواتك مستچابة!.. ربنا يسترها وتبجى دعواتك لنا بالخير..
هتف محمود متسائلا: أنت مين!..
هتفت منيرة في خجل: ده سراچ بيه يا محمود.. ظابط النجطة..
هتف سراج معاتبا في بشاشة: ايه بيه دي! أني واد عمتكم.. ولا متعرفوش!
أكد محمود باسما: لاه، نعرف.. واد عمتي سعاد الله يرحمها.. بجي لنا ضهر ف الحكومة على رأي الواد سالم..
قهقهت منيرة، فتنبه سراج متطلعا نحوها لبرهة، قبل أن يحيد بناظريه عن محياها، حين أدرك أنها وعت لنظراته التي غافلت ثباته، ليسأل وهو يسير جوارهما: على فين العزم!..
أكدت منيرة في رقة: راچعين السرايا..
هتف سراج: طب تمام.. أنا كمان كنت رايح السرايا.. كنت عايز حبيب ضروري..
ساد الصمت لبرهة، قطعته منيرة بعد أن دفعت نفسها دفعا للحديث هاتفة في نبرة مواسية: البقاء لله في عمك الحچ عدنان..
تنهد سراج يهز رأسه في امتنان: سبحان من له الدوام..
همس محمود كذلك: ربنا يرحمه رحمة واسعة..
أمن الجميع، ليسأل سراج محمود: بس جول لي يا شيخ محمود، أنت حافظ القرآن كله على كده!..
هتف محمود في حماس: ايوه.. ختمته على يد الشيخ معتوج السنة اللي فاتت دي..
سأل سراج: طب الآية رقم ٢١ في سورة الروم بتجول ايه!..
ردد محمود في ثقة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.. صدق الله العظيم..
هتف سراج في نبرة مبتهجة متطلعا لمنيرة لعلها تكون قد وعت الرسالة: ايوه.. ربنا يفتح عليك يا شيخ محمود.. لآيات لقوم يتفكرون.. يا رب يتفكرون.. ويوعون.. ويفهمون..
اضطربت منيرة، وقد أدركت أن الكلام موجه إليها بينما هتف محمود متسائلا في تعجب: هم مين دوول!..
أمسكت منيرة ضحكاتها، وسراج يرد في اضطراب بدوره: القوم يا شيخ محمود.. الناس يعني!..
هز محمود رأسه متفهما.. وقد أشرفوا على الوصول لبوابة السراي.. لتستأذن منيرة، ممسكة بكف محمود مسرعة للدخول قبله بعدة خطوات.. ليتبعهما سراج للداخل بعد برهة..
عاد حبيب من عزاء عدنان الحفناوي.. وجلس بالتعريشة يراجع الأحداث بعد هذه المقابلة الصادمة مع خالته وأنس الوجود.. وكل تلك الحقائق التي تم كشفها دفعة واحدة.. واضعا كفه على موضع عقد شقتهما بالقاهرة والذي دفعه لجيب جلبابه الجانبي.. يستشعر أن الأمور تسير في مسار مطمئن، وأن المال المطلوب لسداد ديون البنك قد أوشك على الاكتمال.. ما اشعره لحد كبير بالراحة والاسترخاء.. تنبه لوصول منيرة ومحمود.. فهم بمناداتهما، ليدرك أن سراج بدوره قد وصل خلفهما.. وها هو قادم نحو التعريشة حين وجده جالسا بها.. لكن حبيب نهض يستوقفه هاتفا: لاه، تعال چوه.. فيه مفاچأة مستنظراك.. هو أنت غريب هتجعد بره.. تعال..
سارا معا للداخل.. وقد دخلت منيرة لتوها باحثة عن الجدة صفية.. لتقف متسمرة موضعها حين طالعت وجه برلنتي، لا تصدق أن صورة من أمها الغالية تقف قبالتها ها هنا.. لم تكن تدرك منيرة أن هذه هي خالتها برلنتي إلا حين تنبهت لوجود أنس الوجود فأدركت ذلك من توها.. مندفعة نحوها في محبة باكية، وكأنها تبحث عن ظل لأمها الراحلة في أختها وشبيهتها، لتستقبلها برلنتي في محبة باكية بدورها، متطلعة لوجه منيرة الصبوح الذي غمرته الدموع: إنتي بقى منيرة!.. زي القمر.. واخدة من أمينة الله يرحمها كتير.. بالذات روحها..
ابتسمت منيرة وهي تدفع محمود نحو برلنتي في رفق معرفة: وده أخويا محمود.. الشيخ محمود..
تنبهت برلنتي لعجزه، فرق قلبها لمرآه وهتفت في حنو جارف: ايوه، آخر العنقود..
ضمته برلنتي لها بعد أن وافق حين أدرك أنها من محارمه، ما دفع الضحكات لوجه صفية بعد كل هذه الدموع.. ليدخل حبيب متنحنحا بصحبة سراج.. الذي تنبه لوجود أنس الوجود ملقيا التحية.. وعرفه على برلنتي: ودي بجى خالتي برلنتي.. أم الأستاذة..
تنبهت أنس الوجود أنه عاد لمناداتها بلقبها بعد أن كان قد تجاوزه للقب قرابتهما.. يا بنت خالتي.. والذي لم يتجاوزه بعد لمناداتها باسمها مجردا..
تطلعت صفية نحو الجميع في راحة داخلية عجيبة لم تغمرها منذ زمن طويل.. وعلى الرغم من كل الأحداث الجسام التي يمر بها الرسلانية لم يكن داخلها اللحظة وهي ترى ابنتها وأحفادها جميعا حولها.. ذاك كان مصدر قوتها وسلامها الداخلي.. فابتسمت في فخر لم يكلل ابتسامتها منذ رحيل أبيها.. سعد باشا رسلان..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٣..
كان صوت زفراني الجهوري يقترب من سور السراي مترنما:
ما ينام الليل مفتون.. ولا يجرب النار دافي..
ولا يطعمك شهد مكنون.. إلا الحبيب الموافي..
هتف حبيب باسما في شجن، رافعا ناظريه نحو نافذتها كعادته، غير مدرك أن تلك النافذة التي ظل يرفع الطرف نحوها وهي شاغرة من طلتها.. قد ملأتها اللحظة بكل هذا الحضور الذي أثر ناظريه فظلا متعلقين بالنافذة وصاحبتها حتى تنبه منتفضا يحيد الطرف عن محياها.. مندفعا نحو السور مستدعيا زفراني كالعادة.. إلا أن شبل ظهر قادما نحو التعريشة مهرولا، وهو يهتف في اضطراب: إلحج يا حبيب بيه!.. فيه ناس غريبة نزلت الأرض وفي منهم چايين على هنا.. بيجولوا چايين يحچزوا ع الأرض والسرايا..
هتف حبيب متعجبا: ايه الچنان ده! ميعاد البنك بجيله تلت أيام.. مين دول!..
أكد شبل: بيجولوا من البنك..
انتفض حبيب مندفعا للخارج.. لكنه وجد بالفعل مجموعة من الموظفين يتقدمون لداخل السراي فحاول شبل ايقافهم زاعقا في صوت هادر: وجفوا.. ايه!.. داخلين من غير ظابط ولا رابط.. البيوت لها حرمتها..
أوقفه حبيب متقدما نحو الجماعة التي توقفت عند مدخل السراي.. وظهرت صفية على كرسيها المدولب على مدخل السراي وقد جذبتها الجلبة.. وكذلك جاءت منيرة وانس الوجود وبرلنتي.. يتحصن خلف كرسي صفية.. يتابعن ما يجري..
ليهتف حبيب في ثبات متسائلا: مين حضراتكم!..
أكد أحدهم: احنا جايين نتم الحجز على الأرض والسرايا بناء على طلب البنك..
أكد حبيب في هدوء: معلوم.. لكن ميعاد الحچز مش النهاردة.. لسه كمان ٣ أيام.. وأني معاي اللي يسد الديون.. يعني نعملوا تسوية.. وتاخدوا فلوسكم.. ولا في حچز ولا يحزنون..
أكد الموظف مرة آخرى: مفيش الكلام ده.. ف الأوراق اللي معايا.. ميعاد الحجز النهاردة.. والتسوية خلاص راح معادها هي كمان.. يعني واجب التنفيذ دلوقت والحجز على الأرض والسرايا.. فرجاء.. يتم تسليم الأرض وإخلاء السرايا بهدوء..
زعق حبيب في حنق: الكلام ده كله كذب.. أني معايا الورج اللي يثبت كلامي..
ظهر سراج فجأة من بين الجمع أمام البوابة، ليهتف به حبيب مستنجدا: تعالى يا سراچ بيه شوف اللي بيچرا.. الاوراج اللي معاه دي كلها كدب ف كدب.. معاد الحچز مش النهاردة.. وأني كنت رايح أعمل تسوية بالديون.. يجول معادها فات جال.. بنك ايه ده!..
أخذ سراج الأوراق من الموظف المختص، متطلعا إليها في تركيز وسرعة.. مؤكدا لحبيب في اسف: الأوراج بتاعته سليمة وعليها امضتك يا حبيب بالعلم والتنفيذ ف الميعاد..
زعق حبيب مؤكدا: محصلش.. ده تزوير..
ظهر رجل فجأة من بين الجمع قادما من الخارج، بعد أن ترجل من العربة التي اصطفت على مقربة من البوابة الحديدية للسراي، هاتفا في هدوء: مفيش داعي لكل الدوشة دي يا حبيب بيه.. الموضوع بسيط.. سلم الارض والسرايا في هدوء ومن غير شوشرة..
تطلع حبيب إلى وجه ذاك الرجل موقنا أنه رآه سابقا، والذي أقترب حتى دنا من موضع وقوف حبيب الذي كان يعتصر ذاكرته في ظل الصخب الجاري ليتذكره، هامسا بالقرب من مسامع حبيب في نبرة متشفية: قلت لك هناخدها.. لكن أنت مسمعتش كلامي..
تذكر حبيب دفعة واحدة من يكون الرجل، مدركا تمام الإدراك أنه ذاك السمري الذي جاء منذ سنوات يساومه على بيع الأرض ثم السراي بمبالغ خرافية، ما دفع حبيب لا إراديا للتشبث بتلابيب الرجل، هاتفا في ثورة: على چثتي.. افتكر جلتهالك جبل سابج.. لا في أرض هتتباع ولا سرايا هتتاخد..
كاد الرجل أن تُزهق روحه بين كفي حبيب الضاغطتين في عنف، وسراج يحاول تخليصه أمرا حبيب: سيبه.. هيموت ف يدك وانت هتروح فيها.. ناسك عايزاك..
ليدفع حبيب سمري بعيدا عنه أخيرا.. والذي أخذ في السعال ملتقطا أنفاسه في تتابع، مستجيرا بسراج هاتفا: إحنا طالبين حماية الشرطة من المتوحش ده.. إدخل يا حضرة الظابط.. اعمل حاجة والناس دي بتقوم بشغلها.. ولا قرابتك له.. هتخليك تنسى واجبك يا سيادة النقيب..
تمسك سراج بأقصى درجات ضبط النفس، وما أن هم بالحديث، حتى اندفع أحد العساكر معلنا: إلحج يا سراچ بيه.. أهل الرسلانية طالعين على الناس اللي چاية تحچز على أرض حبيب بيه بالنبابيت والسلاح..
هتف حبيب لسراج: إلحج يا سراچ روح.. وأني كفيل بهم هنا.. الورج ده مزور.. أني معايا چوه نسخة م الورج اللي مضيت عليه.. روح.. وابعت لنا مدد.. عشان الحكاية شكلها كبيرة..
هز سراج رأسه متفهما، واندفع نحو الخارج وخلفه العسكري، تاركا حبيب في مواجهة مباشرة مع سمرى.. الذي كان على وجهه ابتسامة صفراء متشفية.. لتصرخ صفية من موضعها: مش هخرچ من داري.. ولو هتدفنوني هنا.. اعملوا ما بدالكم..
هتف سمري متجاهلا كلام صفية، موجها حديثه نحو حبيب مؤكدا: تمام.. إحنا بنفذ القانون.. فيه بلدوزر بره بإشارة واحدة هيبدأ في هدم السور وبعده السرايا.. هي أصلا متلزمناش..
هتف حبيب متسائلا في ريبة: أنت شغال تبع مين!.. مين اللي حدفك علينا!..
هتف سمري في نبرة متعالية: شغال مع أسيادكم واللي كانوا أسياد البلد دي من سنين بعيدة..
امسك حبيب بتلابيب سمري من جديد، زاعقا في ثورة: إحنا ملناش أسياد.. طول عمرنا أسياد البلد دي وهنفضل.. وكل اللي عليها وفيها كان ملكنا من زمن الزمن.. شكلك غلطان ف العنوان..
قهقه سمري بضحكة مخنوقة على الرغم من عدم افلات حبيب له، هاتفا: هنشوف..
أشار سمري بإشارة خفية نحو شخص ما.. ليفاجأ الجميع بصوت هادر قادم من ناحية السور الجانبي.. وإذا برأس معدنية ضخمة تقتلع جزء من السور الخارجي للسراي.. ذاك السور الذي بناه سعد رسلان منذ عقود بعيدة وما مسه الزمان بعطب.. اللحظة ينهار أمام ناظري ابنته وأحفاده في جرأة صدمت الجميع..
اندفع حبيب في جسارة نحو الآلة.. متخطيا الركام في عجالة مع صرخات نساء الدار وأمر جدته المذعورة خوفا على حفيدها.. سندهن ورجلهن الوحيد.. بالرجوع عما ينتويه.. لكن حبيب لم يعِ ولم يسمع لمخلوق.. وهو يخطو نحو البلدوز الضخم.. صاعدا لموضع السائق.. مشتبكا معه في صراع حتى دفع به بعيدا خارج البلدوزر حتى لا يكمل في هدم جزء من تاريخ عائلة يحمل الكثير من المشاعر والذكريات بغير وجه حق.. لكن بلدوزر آخر ظهر من الجانب الآخر للسراي.. غادر حبيب البلدوزر الذي أبعده عن السور قدر إمكانه واعتقل بعض الرجال سائقه.. مندفعا نحو جانب السور الأقرب لمدخل السراي حيث يهم البلدوزر الآخر بهدم ذاك الجزء من السور.. ليخطو للداخل.. لكن حبيب وقف قبالة السور المراد هدمه.. وتلك الرأس الحديدية الصماء تهبط نحو موضعه منفذة التعليمات بلا رحمة..
صرخت الجدةصفية.. وبكت منيرة وبرلنتي في قلة حياة.. وزعقت أنس الوجود تحاول إقناعه بالابتعاد عن موضع الرأس الهادمة.. لكنه لم يستمع.. بل ظل موضعه متحديا والرأس تهبط صوبه في لامبالاة.. ومع اللحظة الأخيرة.. وصرخة صفية الموجوعة: ولدي.. يا وچع جلبي..
توقفت الرأس فجأة.. ليسود الصمت.. وكأن عقارب الساعات قد تعطلت لبرهة.. ليظهر ذاك العجوز في سطوة.. وقد كانت أوامره هي التي أوقفت الآلة عن عملها.. يسير في خطى وئيدة واثقة.. مقتربا من مدخل السراي.. هاتفا في نبرة ثابتة على الرغم من سنوات عمره الطاعن: وقفوا كل حاجة حالا..
عاد حبيب ما أن تأكد أن البلدوزر لن يعمل.. وقد اندفع سمري بعد أن استفاق من صدمة ظهوره.. نحو العجوز في إكبار منكسا رأسه في احترام بالغ، لينظر إليه العجوز في احتقار شديد، وما أن حاول سمري الانحناء مقبلا ظاهر كف العجوز حتى جذب العجوز كفه قبل حتى أن يمسها سمري في قرف واضح، أمرا في نبرة صارمة وبلغة فرنسية: أرجع.. وقول لمارك.. اللي يخصني.. ميجيش جنبه.. أبدا.. مفهوم.. أبدا..
هز سمري رأسه في طاعة كلب مروض.. وما أن أشار العجوز له بالانصراف حتى اندفع مهرولا نحو الخارج، وكأن الشياطين تتعقبه مهرولة بدورها..
ليعود العجوز ليقترب نحو الدرج بصحبة حبيب، الذي كان يقف مذهولا مما يجري .. متوقفا ما أن وصل لدرجته الأولى متطلعا نحو صفية التي كانت تمسح دموعها تجلي رؤية عينيها التي غشيتها الدموع لتستوضح من يكون القادم.. الذي هتف في صوت حانِ، ونبرة مشتاقة: معرفتنيش لسه يا صفية!..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تهتف صفية في نبرة صارخة متعجبة: أنت لساك عايش.. معجول!.. دول جالوا مات فبلاد بره من زمن..
ابتسم العجوز في حسرة مؤكدا: ايوه قالوا كتير يا صفية.. بس أنا أهو.. رجعت عشان خاطرك..
كان الجميع يقف مصدوما لا ينطق أحدهم حرفا.. إلا أن الصدمة الأكبر لم يكن فيما يجري.. بل من رد فعل صفية حين هتفت وكأنها استوعبت الحقيقة كاملة: بهچت.. ايوه.. بعد الستين دي كلها.. رچعت يا بهچت..
لتقف صفية.. لأول مرة.. تسير صوب الدرج.. خطوة.. ثم آخرى.. على مرآى من الجميع.. ليلحق بها حبيب أخيرا حين سقطت بين ذراعيه غير قادرة على متابعة المسير وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيها وهي تتطلع صوب العجوز الذي اندفع بدوره نحوها ودنا منها مطمئنا وعينيه تحمل الكثير.. والكثير..
يتبع...
