رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 64 - الأربعاء 1/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الرابع والستون
تم النشر الأربعاء
1/10/2025
من أجلها..
الرسلانية ١٩٩٣..
حمل حبيب جدته صفية للداخل حيث غرفتها أمرا شبل بصرخة قوية: ابعت هات داكتور سرور بسرعة..
لكن بهجت كان الأسرع حين ظهرت مساعدته ماتيلدا من عربة الدفع الرباعي التي كانت تصطف بالقرب من السراي ومعها طبيب فرنسي.. أمره بهجت باللحاق بحبيب لداخل الغرفة.. ووقف هو بالقرب من ماتيلدا في انتظار خروج الطبيب لطمأنة الجميع على حال صفية التي سقطت أرضا غائبة عن الوعي بعد أن سارت خطوات قليلة حين ظهر بهجت قبالة ناظرها بعد كل هذه السنوات الطويلة من الغياب.. كان الجميع وصفية أولهم يظنه في عداد الموتى.. لذا كانت مفاجأة ظهوره مضاعفة.. وخاصة لصفية.. التي كان يرافقها بالداخل برلنتي ومنيرة وأنس الوجود.. ودفع بهجت بماتيلدا لداخل الغرفة أمرا: كوني بالداخل من أجل الترجمة.. لهذا علمتك العربية يا بنت!..
هزت ماتيلدا رأسها في طاعة، واندفعت خلف الطبيب الذي غاب بداخل غرفة صفية، تاركا الجميع في حالة من القلق والترقب، وكذا الدهشة من تصاريف القدر وحوادث الدهر.. كان حبيب يتطلع لبهجت في غرابة فهو لا يعرفه.. ولم تأتي جدته صفية على ذكره يوما.. في أي حديث من أحاديثهما عن الماضي.. لذا ما كان حبيب بقادر على وضع بهجت في موضعه بين أفراد العائلة.. لكنه أدرك من لهفة جدته وصدمتها عند رؤيته.. أنها تكن لهذا الرجل الكثير من المودة والمحبة المكنونة حتى ولم تأتي على ذكر اسمه يوما..
هم حبيب بتبادل الأسئلة معه، لعله يدرك بعض ما خفي عنه، إلا أن اندفاع سراج لداخل السراي بعد وصوله أخبار ما حدث، جعله يسأل في اضطراب: ستي صفية بخير!..
ربت حبيب على كتفه مطمئنا: في داكتور عندها چوه.. يخرچ ونعرفوا.. بس أنت سبت الأرض وچيت!..
أكد سراج: لاه، هناك في قوة طلبتها للدعم.. ناس الرسلانية راكبين الأرض ومحدش راضي يتعتع عشان يتم التسليم للبنك.. فسبت القوة هناك عشان ميحصلش احتكاك بين مجموعة الحچز م البنك والأهالي.. وإلا هاتبجى عركة.. بس ايه اللي چرا هنا ده!
هتف بهجت في هدوء، متدخلا في الحديث، معرفا نفسه: أهلا يا حضرة الظابط.. أنا بهجت رستم كاظم.. ابن خال صفية.. والمعروف عندكم ف السجلات الرسمية برجل الأعمال الفرنسي.. چاك لويس سواريز.. تقدر حضرتك تصرف قوة البوليس وتأكد تماما إن الأرض والسرايا بخير.. ومفيش أي حجوزات هتم النهاردة..
هتف حبيب في حنق مكتوم: تجصد إن التوجيت كان غلط وانهم هايچوا تاني بعد كام يوم!..
تطلع بهجت باسما، بعد أن صمت لبرهة محاولا استيعاب سؤال حبيب فهو لم يعتد اللهجة الصعيدية بعد، مؤكدا في ثقة: لا النهاردة.. ولا بعد كده.. ولا ف أي يوم.. ال..
توقف بهجت عن استكمال تصريحه ما أن انفرج باب غرفة صفية عن محيا ماتيلدا وهي تخرج يتبعها الطبيب الذي تحدث مباشرة إلى بهجت الذي اندفع في لهفة متسائلا عن حالها، وقد انقلب حاله للنقيض تماما من ذاك الرجل الأجنبي واثق اللهجة والتصرف، إلى رجل متعاطف قلق على حال ابنة عمته، والطبيب يجيبه في فرنسية رزينة، وماتيلدا تقوم بالترجمة للجميع بعربية جيدة لحد كبير: الطبيب يقول أن حالتها الصحية العامة جيدة.. وأن الأمر نفسيا لا أكثر.. وعليها الخضوع للكثير من العلاج الطبيعي لتعود للسير بشكل جيد مرة آخرى..
اتسعت ابتسامة الجميع حين تم الاطمئنان على حال صفية، ليندفع بهجت لداخل الغرفة في أريحية دون استئذان، ما أثار حفيظة حبيب الذي اندفع خلفه، متعجبا من جرأة ذاك الرجل.. الذي اندفع نحو موضع فراش صفية، وهتف في نبرة مشتاقة: ازيك يا صفية!.. عاملة ايه دلوقت!.. بخير!..
أكدت صفية في رقة وكأنها عادت ابنة الثامنة عشرة هي تتطلع نحو بهجت في عدم تصديق: بخير يا بهچت.. بخير من لحظة ما هليت علينا.. أنت صحيح جبالي!.. بعد السنين دي كلها!.. ده عمر بحاله يا واد خالي!..
همس سراج بالقرب من مسامع حبيب متعجبا: هو ايه اللي بيچرا!..
همس حبيب كاظما حنقه: ما أنت واعي حالي من حالك.. واجفين مش دريانين ايه ده!.. خلينا نشوفوا..
همس بهجت باسما في حسرة: ايوه.. العمر اللي كنت فاكر إنه راح ع الفاضي ف بعادكم يا صفية.. لكن دلوقت بس عرفت إن كان له قيمة.. وقيمة كبيرة أوي..
همست صفية تسأل في قلق: الأرض حچزوا عليها!..
هم حبيب بالإجابة، لكن بهجت ربت على ظاهر كفها في وداعة مطمئنا: ولا يقدروا طول ما أنا عايش.. حد يمد أيده على حاجة تخصك يا صفية.. على جثتي.. زي ما قال الولد الشجاع اللي هناك ده..
وأشار لحبيب الذي همس في حنق: ولد!..
همس سراج وهو يكتم ضحكته: ولد بس جال شچاع.. عديها..
هتفت صفية في فخر: ده حبيب.. واد بتي أمينة..
هتف بهجت في إكبار: عفارم عليك.. وقفتك قدام اللودر وقفة أسد حقيقي.. عرفتي تربي رجالة يا صفية..
أشارت صفية في فخر أيضا نحو سراج: وده سراچ واد سعاد بنت فضل الله يرحمهم.. ظابط كد الدنيا..
هتف بهجت في فخر: اتشرفنا حضرة الكولونيل..
ابتسم سراج ورد التحية في احترام، لتشير صفية نحو حفيدتها منيرة: ودي منيرة بت أمينة واخت حبيب ثم أشارت نحو ابنتها وحفيدتها الآخرى: ودي برلنتي بتي.. توأم أمينة.. وبتها أنس الوجود..
نهض بهجت متجها نحو منيرة.. برلنتي وأنس الوجود في هوادة متطلعا نحوهن في تعجب: ايه ده يا صفية!.. منيرة وبرلنتي فيهم منك كتير.. لكن أنس الوجود.. كأني شايف عمتي أنس الوجود الكبيرة قدامي.. كأنها صورة لها.. عجيبة..
ثم أشار لحبيب من جديد مقرا: والولد ده يا صفية.. كأني شايف عمي سعد باشا رسلان في شبابه..
ثم همهم وهو يدير نظراته بين حبيب وأنس ثم أخيرا نحو صفية التي تفهمت معنى الهمهمة، فانفجرت ضاحكة.. ليشاركها بهجت الضحكات التي لم يعِ أحد ممن كانوا بالغرفة معناها إلاهما..
ليهتف بهجت في رزانة: أنا مضطر امشي دلوقت..
قاطعته صفية في خيبة: هاتمشي!..
تطلع نحوها بهجت في مودة: ايوه.. هنزل فالفندق اللي حجزت فيه.. وراجع تاني يا صفية.. كل يوم هتلاقيني عندك هنا.. وهبعت حد يصلح السور اللي اتهد وكمان الأهم.. استشاري كبير يتابع معاكي جلسات العلاج الطبيعي .. عشان اشوفك بتمشي من تاني.. طول عمرك قوية يا صفية.. والقعدة دي متلقش بصفية هانم رسلان..
هتفت صفية تستوقفه: طب وحچز البنك يا بهچت!..
أكد بهجت في هدوء: مفيش حجز هيتم يا صفية.. لأن ببساطة البنك بتاعي.. وأنا وقفت كل حاجة ضد عيلة رسلان..
هتف حبيب متعجبا: البنك بتاعك!.. كيف!..
ابتسم بهجت مؤكدا: ايوه البنك ده حاجة م الحاجات اللي تملكها إمبراطورية سواريز.. ولما عرفت اللي بيحصل كان لازم أدخل .. عشان خاطر صفية..
تطلع بهجت صوب ابنة عمته في محبة، وهتف مؤكدا: أنا لازم أروح دلوقت.. لكن أكيد راجع تاني.. في كلام كتير لسه متقلش..
خرج بهجت في هوادة يتبعه حبيب وسراج، بينما ألتفت نساء السراي حول صفية في محبة..
❈-❈-❈
فرنسا.. ١٩٩٣..
صرخت راشيل في صدمة هاتفة: بالتأكيد أنت تمزح يا مارك!.. كيف لم يتم الأمر!.. ألم يكن كل ما خططناه يمشي بخطوات سليمة!.. اخبرني ماذا حدث!.. لا تقف هكذا كتمثال أخرق!..
هتف مارك مفسرا: لقد ظهر جاك.. وافسد مخططنا كله.. كان البنك في سبيله لوضع يده على البيت والأرض.. لكن ظهور جاك عطل كل هذا..
هتفت راشيل في ثورة: أنت تمزح!.. ظهور جاك!.. جاك انهينا قصته من زمن طويل يا مارك!.. أنت تهزي بالتأكيد!..
أكد مارك محاولا تهدئتها: راشيل حبيبتي.. هذا كلام من كان حاضرا للتنفيذ وقال أن جاك ظهر وخرب الأمر..
أطلقت راشيل ضحكة هستيرية: تقصد شبح چاك!.. حتى لو افترضنا أن ذاك المعتوه محقا.. ما دخل جاك بما تفعل! ألم تكن مقاليد تسيير الأمور كلها في يدك كما اوهمتني!..
هتف مارك بنبرة مضطربة: اهدأي يا حبيبتي.. اهدأي وسأجد حل آخر.. ل..
صرخت راشيل في غضب عارم: حلا آخر.. وخطط جديدة وفشل جديد.. لا مزيد من كل هذا.. ولا وقت لدي لانتظار ما قد تسفر عنه مؤامراتك الساذجة.. أنت أخبرتني أنا جاك ترك لك التصرف في كل الأمور.. فكيف استطاع التدخل الآن بزعمك.. وقلب الموازين لصالحه!..
تردد مارك قبل أن يجيب مفسرا: جاك العجوز.. ذاك الداهية.. كنت اعتقد حقا أن مقاليد إدارة الإمبراطورية في يدي.. لاكتشف أنه اعطاني مفتاح الباب فقط.. وترك لنفسه حق الاحتفاظ بكلمة السر التي تُفتح بها كل الأبواب..
هتفت راشيل في نفاذ صبر: ما معنى هذا!..
أكد مارك: لقد وضع شرطا ما في كل العقود التي تم إبرامها بيننا.. هذا الشرط الثعباني يعطيه الحق في التدخل في أي من الأمور وإيقاف تنفيذها إذا ما رأى أنه لا يخدم مصلحة الإمبراطورية.. وقد استخدم هذا الشرط بالفعل فيما يخص هذه الأرض العجيبة التي تتمسكين بها وذاك البيت الذي تؤكدين على رغبتك في هدمه.. فلما إذن تلك الرغبة المحمومة في امتلاكهما!.. وبذل كل هذا الجهد وهذه الأموال كلها في سبيل الحصول عليهما!..
اضطربت راشيل في حنق: أخبرتك أن لي رغبة قوية في تحويل هذا البيت لفندق وكل هذه الأرض المحيطة به لمنتجع صحي.. موقعه متميز والطقس هناك رائع.. هذا كل ما في الأمر..
تعجب مارك: ألم تكن الرغبة هي عدم البيت.. من أين أتت فكرة الفندق هذه!..
صرخت راشيل لتخرسه: جدّت على تفكيري وأرى أنها فكرة جيدة.. بل جيدة جدا.. ماذا في ذلك!.. على أي حال.. ما يعنيني اللحظة هو استعادة السيطرة على زمام الأمور..
سأل مارك باهتمام: كيف ذلك!..
سارت راشيل في نعومة، ودنت من مارك تسلبه بعض من تعقله بطرقها التي تجيدها، هامسة بهدوء عجيب: إن كان جاك هو حجر العثرة في طريق تحقيق حلمي.. فلا بأس من التخلص منه.. لأجلي..
انتفض مارك مصدوما: التخلص منه!.. غير معقول!.. أنا لن أصدق أنه حي يرزق حتى أراه بعيني..
أكدت راشيل في غنج: وما الضرر في ذلك.. هو بالفعل في عداد الأموات.. إذن.. نفذ ما اطلب إذا ما كان لك رغبة في إتمام زواجنا مارك..
همس مارك في عدم تصديق: زواجنا!.. هل وافقتي أخيرا!..
هزت راشيل رأسها الأشقر الصغير في إيجاب، ورسمت على وجهها الفاتن ابتسامة مغوية، قبل أن تهمس وهي تلتصق بمارك: نعم.. وافقت.. اعتبر ما طلبته هدية زفاف.. ألا استحقها!..
هز مارك رأسه موافقا في تيه وهو مسلوب الإرادة تماما أمام اغواء حسنها الطاغي..
❈-❈-❈
القاهرة.. الرسلانية..١٩٩٣..
اندفع سراج لداخل مكتبه ما أن تناهى لمسامعه صوت الهاتف الذي كان رنينه متواصلا بشكل يؤكد أن الأمر ملح، رفع السماعة مجيبا في لهفة: ألوو..
صرخ جمال على الجانب الآخر معاتبا: ايه يا عم أنت فين! كام يوم دلوقت قاعد أرن ومش عارف أوصل لك..
هتف سراج متهندا: معلش يا جمال الدنيا كانت مقلوبة هنا.. وتقريبا مكنتش بقعد ف المكتب والقوة كلها معايا فأكيد محدش سمع تليفونك.. خير!.. أكيد الإلحاح ده كله مش عشان وحشتك مثلا!..
أكد جمال مازحا: الصراحة آه وحشتني طبعا رغم التريقة اللي ف صوتك بس ماشي.. لكن فعلا في موضوع مهم جدا لازم تعرفه.. بخصوص أنس الوجود..
سأل سراج متعجبا: أنس الوجود ووالدتها هنا أصلا يا جمال!..
أكد جمال: ايوه ما أنا عارف.. بس أنت متعرفش إن حياتها مهددة بالخطر.. فقلت لازم تبقى عارف الحكاية كلها عشان تعملوا حسابكم..
انتفض سراج مصدوما: حياتها ايه اللي مهددة بالخطر! أنت بتهزر!.. وايه اللي ممكن يكون بيهددها!.. دي واحدة ملهاش أي عداوات مع.. يكنش حد معادي رجل الأعمال اللي خطبها!..
هتف جمال مؤكدا: طب اقول لك حاجة أنيل من الفيلم اللي أنت حكيته ده!.. رجل الأعمال نصير بيه الراوي ده هو اللي ورا كل اللي بيحصل للأرض وحجز البنك.. وأنس الوجود كانت فوق البيعة..
سأل سراج متعجبا: إزاي ده!..
فسر جمال: نصير الزفت ده شافها وعجبته ودخلها ف الحكاية وفهمها إن لو موافقتش على جوازهم.. هيحجز ع الأرض والسرايا.. وهي طلبت منه مهر كبير على أساس تاخده وتسدد به ديون البنك.. وترفع عنهم الحجز..
سأل سراج مقاطعا: طب وايه اللي جرا.. مش كتبوا الكتاب.. وكله تمام..
نفى جمال مفسرا: لا.. محصلش.. يومها أنس الوجود شكت في بعض الأمور وواجهته.. وهو كمان مأنكرش وللأسف حاول إنه يعتدي عليها..
زعق سراج: أنت بتحول ايه!.. ده حبيب كان هناك!..
أكد جمال: بعد ما حبيب مشي.. لأن جاله تليفون من النجع خلاه يرجع جري.. ومحضرش كتب الكتاب اصلا.. ولحسن الحظ زميلنا اللي في الأموال العامة اللي وديت له الملف اللي هاجر خدته بالغلط من خزنة نصير الراوي.. كان طلع أمر بالقبض عليه عشان المصايب الي كانت ف الملف.. ووصل الفيلا فالوقت المناسب ولحقناها.. واكتشفنا أن كل حاجة قدمهالها كانت كدبة.. شبكتها فالصو.. الشقة اللي وعد بها امها مكتوبة بعقد مزور.. حتى المأذون نصاب مهواش مأذون..
هتف سراج: ايه ده!.. نصاب رسمي ..
استطرد جمال: وطبعا أنس الوجود جالها صدمة عصبية من اللي حصل لها ده كله.. على أمل إنها تقدر تنقذ الأرض والسرايا.. هاجر كانت جنبها طول الفترة دي.. ومحدش عرف حاجة طبعا لحساسية الموقف.. لكن أول ما بدأت تتعافى قررت السفر للرسلانية هي ووالدتها عشان يتحامو هناك وسط اهلهم..
سأل سراج متعجبا: يتحامو من مين!.. هو انتو..
قاطعه جمال مؤكدا: ما هو ده مربط الفرس.. أنا حكيت لك ليه الحكاية الطويلة العريضة دي .. عشان اقولك أن نصير هرب.. نصير لسه بره.. وده شخص مهووس وعرف إنه خسر كل حاجة.. يعني مش باقي على حاجة خلاص.. ممكن يظهر عندكم ف أي لحظة.. عشان ينتقم من أنس.. فلازم تحطوها تحت عينيكم.. عشان احنا مش عارفين الاخ المهووس ده ناوي على ايه.. لحد ما ربنا يقدرنا ونعتر فيه..
همس سراج في ضيق: ده ايه الحكاية دي اللي مكنتش لا على بال ولا خاطر.. ده إحنا ماصدقنا الأمور هتتحسن شوية..
هتف جمال متباكيا: اهو بسبب النيلة ده اللي اسمه نصير مش عارف اتجوز.. هاجر مصرة امسكه الأول.. تقولش الموضوع سهل كده.. متعملش في أخوك جميل وتعكشهولي يا واد عمي..
قهقه سراج على أقوال صاحبه: والله لو أقدر من عنايا.. واهو نخلص ونرتاح كلنا..
هتف جمال: اه يا سراج.. أنا لازم ألحق اتجوز البنية بسرعة.. ده أنا سايبها مع ماما ومريم.. عارف يعني ايه!.. ده انا كل اما أقول كلمة اعترض على أمي.. هاجر تقولي ماما عندها حق.. لا كده كتير.. انا لازم ألحق اتجوزها قبل ما أمي تنشر العدوى ويبقو كلهم عليا..
ارتفعت ضحكات سراج.. منهيا المكالمة مع صديقه.. ورأسه يدور فيه الكثير من الأسئلة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
وقفت أنس الوجود بالنافذة المشرعة قليلا تتطلع لذاك المشهد الذي افتقدته كثيرا.. مشهد الرسلانية في مثل هذه الساعة المبكرة من النهار.. عبأت صدرها بذاك الهواء البكر الذي يحمل عبقا خاصا لم تجده في أي موضع إلا هنا..
تنبهت أن أمها تناديها فاستدارت تجيب في نبرة معتذرة: ايوه يا ماما.. إنتي صحيتي!.. يا رب ما يكون فتحتي للشباك هي اللي صحتك!..
أكدت برلنتي باسمة، وهي تهتف في راحة: لا أبدا.. أنا صحيت من شوية .. أول مرة انام بعمق كده..
تطلعت حولها لبرهة قبل تستطرد: عارفة!.. السرير ده كان بتاع أنس الوجود هانم.. جدتي الله يرحمها.. ده السرير اللي اشتراه جدي سعد رسلان لما كانت في زيارة لأول مرة للرسلانية مع أخوها رستم باشا.. متهيء لي.. الاوضة كلها اشتراها مخصوص عشان خاطرها مش بس السرير ده..
تركت أنس مكانها، وبدأت تتفرس في السرير الخشبي الفخم.. كان فراشا ضخما يدل على ذوق راقِ.. به الكثير من المشغولات اليدوية المنحوتة على جوانبه وقوائمه.. وتذكرت أنس الوجود لياليها الأولى هنا في الرسلانية وتلك الرؤية العجيبة التي رأت فيها جدتها الكبرى أنس الوجود وكيف كانت كبيرة الشبه بها..
هتفت أنس وهي تعود للنافذة: أنا هستأذنك هخرج شوية اتمشى.. وهعدي على نجية ..اقعد معاها شوية..
ابتسمت برلنتي: بقى لك أصحاب هنا يا أنس!.. طيب.. وأنا هقعد مع ستك صفية..
همت أنس الوجود بالحديث، لكنها تعجبت أن يكون سراج قادم للسراي في مثل هذه الساعة المبكرة.. فقد رأته وهو يلقي التحية على شبل الخفير قبل أن يندفع نحو التعريشة حيث كان حبيب يجلس.. هل جد في الأمور أمور فيما يخص الأرض والسراي وترتيبات العم بهجت!.. أم ماذا!..
لم تكن بمزاج هذا الصباح يسمح لها بالتفكير الزائد.. هي تحتاج لبعض الراحة النفسية والسلام الداخلي.. لذا لم تشغل بالها بزيارة سراج الصباحية المريبة وقررت الاستعداد لزيارة نجية..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
دفع بهجت كرسي صفية المدولب مخرجا إياها من ضيق حجرتها لبراح الشرفة الواسعة المطلة على الحديقة الخلفية للسراي.. ليجلس قبالتها باسما.. هاتفا في سعادة: الدنيا دي عجيبة أوي.. تكون في مكان فاكر إنه خلاص نهاية المطاف.. رحلتك قربت على نهايتها.. مستسلم لكل اللي بيحصل.. مش فارق معاك مين اللي موجود ولا مين اللي مشي.. الأيام شبه بعضها.. والأحلام معدش لها لازمة.. وتحلم ليه من أساسه وأنت خلاص .. ماشي.. عايش اليوم بيومه.. بتمر الساعة ومنتش عارف هتيجي عليك الساعة اللي بعدها ولا لأ .. وفجأة كل ده يتبدل ف لحظة.. فهماني يا صفية!
تنهدت صفية مع ابتسامة شجية: محدش فهمك كدي.. كنك بتوصف حالي.. الدنيا مسخت بعد فراج الغاليين..
همس بهجت موافقا: ايوه.. أنا كنت فاكرها كده.. لحد ما ظهر أسمك ف الصورة.. كل ده أتغير ف لحظة.. ورجعت بهجت بتاع زمان.. بهجت اللي بقى بيحسب كل لحظة بعمره وبقت فارقة معاه.. بهجت اللي كان عايز يعمل اسم ف عالم البزنس.. عشان لما يتقدم لك يطلب أيدك.. ميبقاش ابن رستم باشا.. لا.. يبقى بهجت بيه.. اللي يليق بيكي..
نكست صفية رأسها في هدوء ولم تعقب بحرف لبرهة، وصوت أم كلثوم يرد على بهجت نيابة عنها، وهي تشدو في لهفة قلب محب: ابتديت دلوقت بس أحب عمري.. ابتديت دلوقت أخاف.. لل العمر يجري..
رفعت صفية نظرات دامعة نحو بهجت قبل أن تسأله في تعجب: أنت كنت بتحبني للدرچة دي يا بهجت!..
تطلع بهجت نحوها في حزن: أقول ايه يا صفية!.. اليوم اللي كنت هفاتح فيه بابا.. جيتي إنتي وعمتي أنس الوجود للقاهرة عشان تشتروا جهازك.. واكتشفت إنك اتخطبتي لمختار.. عارفة كان حالي ايه يومها!.. يوم ما بلغتنا عمتي ع السفرة بخطوبتك.. رفعت عنايا عليكي وانتي قاعدة قدامي لقيت إيدك بترتعش وعيونك من الكسوف مش قادرة ترفعيها.. قلت أكيد بتحبه.. عارفة إني هربت من مصر كلها عشان مشفكيش عروسة لحد غيري.. وبعدين إنتي بتتكلمي كأنك كنتي عارفة إني بحبك.. وفضلتي مختار!..
همست صفية منكسة الرأس: ايوه.. عرفت.. من أختك إلهام.. يومها بكيت بدموع العين.. وسألت نفسي.. طب هو ليه متكلمش.. ليه لما كنت ببقى عندكم أو انتو تيجو هنا.. عمري ما حسيت منك أي شعور غير الاحترام وبس.. لكن مختار.. كان دائما يظهر لي محبته ورغبته فيا.. وأنا كنت صغيرة ومش فاهمة الدنيا.. كنت محتاچة كلمة تطمني.. كلمة أنت عمرك ما نطجتها يا بهچت.. ولجيت روحي بتتشد لمختار وببعد عنك.. وكان خلاص معدش فيها رچعة.. لأن لما إلهام جالت لي.. كان بابا أدى كلمة لعمي وهدان بالموافجة وشفت فرحة
عمتي توحيد.. وفرحة مختار.. كان خلاص.. معدش ينفع.. ومن يومها.. جلب صفية مشافش الفرح يا واد خالي.. راح مصطفى ولدي ومن بعده سفر مختار اليمن ومرچعش وهروب برلنتي وموت أمينة.. وچع ورا وچع.. وكمل عليا خبر موتك ف الغربة.. جالو إنك مت هناك..
همس بهجت مؤكدا: ما أنا كنت ميت حي يا صفية.. وأنا فعز سطوتي والدنيا وخداني.. اكتشفت إني عيان ..
هتفت صفية. في ذعر: ب ايه!.. كف الله الشر عنك..
فسر بهجت في هدوء: عيان بمرض وحش.. عايز علاج طويل ومتابعة.. قلت خلاص.. هي دي النهاية.. سلمت كل ما أملك لولادي..
سألت صفية في تردد: عندك عيال! طب مچوش ليه وياك! .. ولا البت الحلوة اللي كانت معاك دي..
ابتسم بهجت مقاطعة: أنا مخلفتش يا صفية.. اتجوزت بنت فرنسية جميلة.. بنت رجل أعمال كبير.. الصراحة تقدري تقولي جواز فيه نسبة مصلحة.. وخاصة أنا كمصري ومسلم مش محل ثقة هناك.. فكان لازم أثبت أقدامي بصلة نسب تفتح لي الأبواب المقفلة ف عالم البيزنس.. ما حكايات الغرام والهوى دي أنا فتها في مصر.. معدش عندي اللي اديه لست تانية إلا الاحترام والمعاملة الطيبة.. وده اللي خدته مني كاتلين.. عشنا مع بعض سنين طويلة لحد ما توفت.. وبعدها اكتشفت مرضي.. لكن الاولاد اللي بقولك عليهم.. دول أولاد إلهام الله يرحمها.. ما إنتي أكيد عارفة القصة.. وموضوع هجرتهم لفرنسا.. ورجوع ناجي واستشهاده في ٧٣..
أكدت صفية: ايوه بلغني.. ربنا يرحمه.. كان راچل محترم.. صاحب فضل أخويا.. وياما اتوسط له لما كل شوية كانو يرموه في المعتقل.. حاول يساعده كتير.. بس فضل كان خلاص أختار سكته..
استطرد بهجت: وإلهام رجعت بعد ما اتأكدت من خبر استشهاده.. وكملت معايا العيشة ف فرنسا لحد ما توفت وسابتني مع ولادها.. اللي واحد شرب كل المحبة والإنسانية من أبوه وأمه واشتغل في مجال حقوق الإنسان.. لكن للأسف اتوفى في حادث في بلد فقير كانوا بيبعتو له مساعدات.. أما التاني كان لعبي والحياة وملذاتها وخداه للأسف.. سبت له إدارة كل حاجة غصب عني.. لما دخلت المستشفى بالشهور عشان العلاج.. والوحيدة اللي كانت معايا.. هي ماتيلدا.. البنت الحلوة اللي شفتيها معايا.. دي بقى بمثابة بنتي اللي مخلفتهاش.. دراعي اليمين وسكرتيرتي وممرضتي عند اللزوم.. دي بنت صديق عمري اللي اتوفى وهي لسه بنت ٧ سنين وسبهالي امانة.. ربتها لحد ما بقت بنت جميلة.. الكل بيطلب ودها.. لكن هي للأسف قلبها كان متعلق ب ابن إلهام اللي توفى.. على الرغم من فارق السن بينهم.. أما طارق.. أو مارك زي ما بقى اسمه دلوقت.. ف اتلم عليه وأنا تعبان وبعيد .. شلة من اليه..ود..
ضربت صفية صدرها بباطن كفها في قوة: ي..هود!.. يه..ود يا واد إلهام.. ده أنت أبوك استشهد وهو بيطردهم بره سينا..
هز بهجت رأسه متحسرا: ايوه.. كلمته كتير.. بس عملو له غسيل مخ.. وسلطو عليه بنت من بناتهم اسمها راشيل.. دي بقى ما يقدرش يرفض لها طلب..
هتفت صفية متعجبة: ليه سحراله!..
ابتسم بهجت مؤكدا: تقدري تقولي كده.. العجيب بقى لما بدأت أدور وراها.. اكتشفت حاجة غريبة جدا.. إن البنت دي لها أصول مصرية..
سألت صفية في تعجب: مصرية!.. كيف!..
فسر بهجت: ايوه جدودها مصريين هربوا بعد ثورة ٥٢ خوف من عبدالناصر.. راحو فرنسا شوية وبعدين سافرو على اسرا..ئيل.. ولما مرتاحوش هناك.. رجعو لبنتهم على فرنسا تاني وفضلوا فيها لحد ما ماتو..
همست صفية متحسرة: يا خسارة الشباب!.. طب ودي عايزة ايه من واد إلهام!.. أكيد عينها على ماله.. هم اليه..ود كده يعبدو المليم..
هتف بهجت موضحا: كنت فاكر كده زيك!.. لكن الحكاية طلعت أكبر من الفلوس.. البنت دي هي اللي ورا كل اللي بيحصل هنا ده..
شهقت صفية متعجبة: وايه حاچتها في السرايا والأرض عشان تاچي من آخر الدنيا لچل ما تاخدهم!.. ضاجت بها الدنيا.. وهي تعرف منين بهم من أساسه عشان تطمع فيهم!..
هتف بهجت متسائلا: لو تعرفي خواجه يه..ودي كان عايش هنا زمان اسمه نعيم حزقيال.. تبقي عرفتي ليه!..
هتفت صفية في صدمة: الخواچه نعيم!.. أبو استير.. جصدي خديچة مرت الشيخ معتوج.. بس ده بابا طرده من البلد كلها.. عشان..
قاطعها بهجت باسما: قلتي ايه! عمي سعد طرده بره الرسلانية.. صح.. اهو من يوميها وهو حالف يرجع ويبيع عيلة رسلان السرايا والأرض.. وشرب عياله وأحفاده الدرس ده.. تقدري تقولي جندهم لهدف واحد.. إذلال عيلة رسلان ب أي طريقة.. عشان روح جدهم نعيم تهدا.. حفيدته راشيل دي هي اللي ورا ديون البنك والحجز على الأرض والسرايا.. ومارك بينفذ.. طبعا كان له مساعدين هنا في مصر.. وأنا على الرغم من محاولتهم إنهم يخبوا عليا كل ده.. لكن عرفت ومقدرتش أقف ساكت.. مقدرتش اشوف كل اللي بناه عمي سعد بيتهد.. مقدرتش متحركش عشان خاطرك يا صفية..
دمعت عينى صفية في محبة: طب مرچعتش ليه طول السنين اللي فاتت دي يا بهچت!.. مرچعتش ليه بعد ما عدى العمر وبجيت لحالك وأنا بجيت لحالي!..
هتف بهجت مقرا: عشان أنا ف فنظرهم ميت يا صفية.. راشيل بعتت اللي يقتلني عشان تتطمن إن سيطرتها على مارك تبقى كاملة ومحدش يدور وراهم.. ومكنتش هغامر واكشف وجودي إلا لحاجة شديدة وتستاهل.. ومفيش أهم من أرضك وبيتك اللي عشتي فيهم عمرك كله.. يستاهلوا اضحي ب أي حاجة عشان تطمني وترتاحي..
تطلعت صفية نحو بهجت في إكبار تكسوها المحبة الخالصة، وعلى الرغم من تجاعيد وجهه التي تشير لأثر السنوات وانهاك المرض.. إلا أنها ما تزال تراه كما احتفظت بصورته في ذاكرتها منذ المرة الأخيرة التي رأته فيها.. ذاك الشاب الرزين المتقد الذكاء قليل الكلام.. والذي كان يرمقها بنظرات مختلسة كلما سنحت له الفرصة.. ذاك الذي علق قلبها به دون أن يفصح بكلمة احتراما لأبيها وتربيتها الصارمة.. والذي أبعده القدر عن مسار حياتها ليكون له دربا آخر ليأتِ القدر ويرفق بهما وتتقاطع دروبهما مجددا.. بعد كل هذه السنوات الطوال من الفرقة والبعاد..
همس بهجت في هدوء مضطرب: تتجوزيني يا صفية!..
شهقت صفية في اضطراب.. وهي تتطلع لابن خالها في صدمة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
خرجت برلنتي بعد مغادرة أنس الوجود باحثة عن أمها لتستأنس بها فلم تجدها في حجرتها، تناهى لمسامعها أصوات قادمة من الشرفة فطلت برأسها لتجد أمها بصحبة عمها بهجت.. ذاك الرجل الذي ظهر البارحة وكأنه مبعوث العناية الإلهية لانقاذ حبيب من موت محقق وهو يقف أمام اللوادر التي جاءت لهدم السراي.. كانا قد اخذهما الحديث حتى أنها ألقت التحية وهي تمر عليهما فلم يبادلها أحدهما السلام.. فتأكد لها أن عليها ألا تزعجهما.. ما دفعها للنزول نحو التعريشة لتجلس مع حبيب لتفاجأ بوجود سراج.. وما أن همت بالقاء التحية حتى سأل حبيب في عجالة: هي الأستاذة لساتها نايمة!..
أكدت برلنتي في هدوء: أستاذة مين!.. قصدك أنس الوجود!.. أولا اسمها أنس.. أستاذة دي كبيرة عليها أوي.. وبعدين أنس يا سيدي صحيت من بدري..
سأل حبيب في أريحية وعينيه تحيد نحو نافذتها: طب ما نزلتش تفطر معانا ليه!.. هشيع لها البت نبيهة تجولها.. وعمي بهچت اها.. هنا من بدري.. خلونا نفطروا سوا..
هتفت برلنتي في هدوء حين هم بمناداة نبيهة: مفيش داعي يا حبيب.. أنس مش موجودة.. خرجت من..
انتفض حبيب صارخا: خرچت!.. خرچت راحت فين!..
تعجبت برلنتي من رد فعل حبيب المبالغ فيه بالنسبة لأمر بسيط كالخروج من السراي، هاتفة في استياء: اه خرجت.. فيها ايه.. هي هتتحبس هنا ولا ايه!.. راحت لواحدة .. اسمها.. مش فاكرة.. بس هي قالت إنها صاحبتها.. و..
قاطعها حبيب مؤكدا: أكيد نچية..
أكدت برلنتي في حماس: آه فعلا.. هي دي.. بس ..
لم يمهلها حبيب استكمال سؤالها واندفع مغادرا السراي ليستأذن سراج بدوره في حرج.. مهرولا خلفه.. يطالبه بانتظاره حتى يلحق به.. فبعد الحقائق التي أسّر بها لحبيب عن سبب قدوم أنس الوجود وأمها إلى الرسلانية.. كان من الطبيعي أن يفزع حبيب بهذا الشكل.. فما عاد خروج أنس الوجود آمنا وذاك المخبول المدعو نصير الراوي حرا طليقا..
يتبع...
