رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 65 - الجمعة 3/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الخامس والستون
تم النشر الجمعة
3/10/2025
ـ طُياب.. وطيابة..
الرسلانية ١٩٩٣..
اندفع سراج خلف حبيب مهدئا، وما أن استطاع اللحاق به، حتى هتف في حنق: ايه يا حبيب!.. مش تصبر لما تسمع الحكاية كلها عشان نعرف هنتصرف إزاي!.. ده أنا أول ما فتحت ف الكلام وجلت لك الأستاذة ف خطر ملحقتش ازود كلمة كانت عمتي برلنتي وصلت وأول ما عرفت إن الأستاذة بره اتنفضت مجريني وراك..
اندفع حبيب لخارج السراي، أمرا سراج في عجالة: أحكي.. وادينا رايحين نچيب الأستاذة من عند نچية ونطمنوا إنها بخير.. وبعدها نشوف.. جول.. مع ان المفروض نعرفو چوزها باللي بيحصل ده..
هتف سراج زاعقا وهو يقف في منتصف الطريق محتجا على هرولة حبيب بهذا الشكل وهرولته هو بالتبعية خلفه: ما أنت لو تديني فرصة أتكلم عدل كنت عرفت إن أنس الوجود متجوزتش من أساسه.. وإن الحقير اللي اسمه نصير الراوي هو اس البلاء كله..
توقف حبيب مشدوها يتطلع نحو سراج في صدمة، وأخيرا هتف متسائلا في تيه: كيف ده! أني كنت هناك يوم كتب الكتاب.. وكنت هبجى وكيلها ف العجد.. ده الأستاذة بنفسها هي اللي طلبت من نصير ده يكلمني عشان ابجى وكيلها..
هتف سراج مفسرا: محصلش.. أنس مطلبتش من نصير تبجى وكيلها هو اللي جالك كده عشان يخليك تبعد عن الرسلانية ويبعت هو الناس اللي بلغوا ستي صفية بالحجز ع السرايا وخدوا امضتها يومها وهي تعبت فاتصلت أنا بك ساعتها وچيت على ملا وشك.. جيت ويا ريتك كنت فضلت يمكن كان وچودك خفف شوية من أثر اللي حصل..
هتف حبيب في ريبة: هو ايه اللي حصل!..
تنهد سراج مترددا لبرهة قبل أن يقر: الزفت اللي اسمه نصير كان مؤامرة كده تطلعه مش خسران حاچة.. وأنس خدت بالها من عدم وچودك المفاچئ فواچهته بشكوك عندها ودارت بنهم خناجة.. وحاول.. يعني.. إنه.. يعتدي عليها..
صرخ حبيب مذعورا وهو يمسك بتلابيب سراج: ايه!.. والله لو كان مس شعرة منها ما هيكفيني فيه..
هدأه سراج رابتا على كتفه مؤكدا: بجول حاول.. حاول يا حبيب.. لكن الحمد لله ربنا ستر لأن البوليس وصل.. ظابط الأموال العامة كان محضر لنصير ده جضية وچه وجت الجبض عليه يوم كتب الكتاب بس للأسف هرب.. وخوفنا كله دلوجت يظهر نصير في أي لحظة عشان ينتقم من أنس.. فهمت إحنا عايزين نحميها من مين!..
اكمل حبيب الطريق في خطوات أقل سرعة، لكنه توقف فجأة وكأنه استعاد الأحداث التي ذكرها سراج في مخيلته يحاول استيعابها.. ليسأل حبيب متوقفا: ده معناه ان نصير ده بكل اللي جلته هو اللي ورا حچز البنك ع الارض والسرايا.. طب ليه!.. هو عايزهم ليه!.. راچل أعمال كد الدنيا وملكه ياما.. ايه اللي يخليه طمعان ف الأرض والسرايا دول بالخصوص!.
هتف سراج مؤكدا: معرفش، السؤال ده جه على بالي كتير وملجتلوش إچابة..
هتف حبيب متنهدا: يمكن الاچابة نلاجوها عند الأستاذة.. چايز كان رايدهم لچل ما يجدمهم لها هدية چواز..
أكد سراج موضحا: لاه.. نصير مكنش ناوي يتچوز أنس من أساسه يا حبيب.. كانت لعبة كيف ما جلتلك.. مكنش عايز يخير حاچة.. المأذون نفسه كان مزيف.. وهو مكنش ف نيته غير إنه يطولها..
سأل حبيب في حنق بالغ: وهي ليه وافجت على چوازها منه!. ما كانت..
قاطعه سراج مفسرا: ساومها يا حبيب.. ساومها..
تطلع حبيب نحو سراج في ذعر: جصدك ايه!.. إن أنس وافجت عشان تحمي الأرض والسرايا!..
هز سراج رأسه في إيجاب: آه.. هي كانت فاهمة إنها كده بتحمي الأرض .. حتى طلبت منه مهر كبير يعادل الدين بتاع البنك عشان حتى لو غدر تجدر بفلوس المهر تسدد الدين والأرض مترحش.. ولا تتاخد السرايا من أساسه..
تطلع حبيب نحو سراج في تيه، ولم ينطق حرفا فقد توقف أمام سيل الحقائق التي يسردها سراج مذهولا.. ثم اندفع مهرولا من جديد صوب دار نجية التي وصلها لتوه.. وما أن لمح نجية تقف بالباب تنفض أحد الأغطية، حتى سألها في لهفة: الأستاذة عندك يا أم سالم!..
أكدت نجية متعجبة: ليه! هي موصلتش السرايا لحد دلوجت!.. دي فاتتني من ياچي نص ساعة.. وسالم كان وياها عشان يوصلها.. تلاجيها هناك دلوجت..
هز حبيب رأسه متفهما، وأشار لسراج ليعودا ادراجهما للسراي لتناول الإفطار.. بعد أن أطمئنا أنها لابد وقد وصلت بعد مغادرتهما..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
تطلعت صفية نحو بهجت في نظرات تحمل مزيج من دهشة وذهول، وهي تكرر طلبه في أحرف مهزوزة: اتچوزك!.. چواز ف السن ده يا بهچت.. وبعد العمر ده كله!.. الناس تجول عليا ايه!..
هتف بهجت حانقا: ناس مين يا صفية! ناس مين اللي هتعملي لهم حساب!.. هو حد شال عنك تعبك ولا وجعك م الناس اللي إنتي عاملة حسابهم دول!..
هتفت صفية في اضطراب: هتبجى عيبة كبيرة يا بهچت!.. چواز ف السن دي وأنا ع حالي ده!..
ابتسم بهجت مؤكدا: ايوه ف السن ده.. هو عيب ولا حرام!.. وبعدين ماله حالك بقى!.. ما إنتي زي الفل اهو.. تشدي حيلك وتقومي على رجلك من تاني وإنتي تبقى صبية أصغر من منيرة وأنس الوجود..
قهقهت صفية ساخرة: اتعلمت البكش على كبر يا بهچت.. كنت طول عمرك ساكت وجليل الكلام..
تنهد بهجت في حسرة: يا ريتني اتكلمت من زمان يا صفية.. مكنتش ضيعتك من أيدي.. يا صفية أنا كنت مانع إلهام توصل لي أي أخبار عنك.. كنت عايز اعيش وانا جوايا أمل إنك لسه ف مصر مستنياني.. مش عايز أعيش حقيقة إنك خلاص مش ممكن تكوني ليا.. وإنك بقيتي زوجة وأم.. زوجة لراجل غيري.. وأم لأولاد مش شايلين اسمي..
دمعت عينى صفية لكلمات بهجت ولم تعقب بحرف، ليستطرد متنهدا: اليوم اللي چيتي فيه مصر مع عمتي أنس الوجود كنت ناوي اقاتحك في رغبتي.. كنت فاكر إنك هتكملي تعليمك وتيجي القاهرة.. كنت فرحان إن ده هيقربك ليا بدل بعادك اللي بيطول هنا وعدم نزولك مصر إلا للضرورة.. اتفاجئت إنك خلاص مش ناوية تكملي ف الجامعة.. وانك بتحبي العيشة ف الرسلانية ومش بتفضلي العيشة ف القاهرة.. عارفة ساعتها قلت في نفسي هي بس توافق على جوازنا وأنا هبني لها سرايا ف الرسلانية زي بتاعهم.. تقعدي فيها زي ما تحبي وتيجي مصر وقت ما تحبي.. لكن كل ده اتهد ف لحظة ما أعلنت عمتي خطبتك على مختار.. ولحظة ما شفت رعشة إيدك قصاد عنايا وإنتي قاعدة قصادي ع السفرة.. قلت دي اتكسفت وايدها ارتعشت لما جت سيرته.. اتمنيت لك جوايا الخير واستأذنت وقمت من ع السفرة..
سال دمع صفية.. هامسة في نبرة متحشرجة: أنت بتتكلم كن الحكاية كانت عشية يا بهچت.. مش من ياچي خمسين سنة..
همس بهجت مؤكدا: ولو فات عليها ١٠٠ سنة.. هتفضل كل تفصيلة معاكي يا صفية عمر بحاله لا يمكن تتنسي.. وافقي يا صفية.. وافقي..
همت صفية بالرد، إلا أن صوت ما على البوابة تناهى لمسامعهما بموضعهما على الشرفة، فتنبهت أنه صوت حبيب معترضا في حنق: كيف يعني مچاتش! نچية جالت إنها رچعت ع السرايا ومعاها الواد سالم..
أكد شبل: ايوه صح.. سالم چوه لكن الست أنس مكنتش معاه.. چه لحاله..
صرخ حبيب متسائلا في ذعر وهو يندفع للسراي مارا بصفية وبهجت دون أن يلق التحية مناديا وسراج في أعقابه: لحاله كيف!.. أنت يا واد يا سالم!.. سالم!..
ظهر سالم قادما في عجلة من حجرة محمود، ملبيا في هرولة: نعم يا حبيب بيه!
سأل حبيب مستفهما: هي الأستاذة مش چت معاك على هنا، ولا راحت فين!..
أكد سالم: لاه.. چيت عند نص الطريج كده وأنا رحت اجضي مصلحة وهي جالت لي هتكمل لحالها لحد هنا.. ليه هي مچاتش!..
هتف حبيب في سراج: مرچعتش يا سراچ.. مرچعتش.. هي حكمت.. مبدهاش.. أني عارف ممكن تكون فين!..
اندفع حبيب لداخل مكتبه لبرهة، قبل أن يخرج مسرعا وهو يضبط سلاحه الذي دفع به لجيب جلبابه، ليهتف سراج محاولا تهدئته: الصبر يا حبيب.. يمكن جالت تتمشى شوية ولا حاچة.. تعالى ندورو عليها..
أكد حبيب وهو يهم بالاندفاع للخارج: هي هناك.. ف بيت الحرانية! بس ربك وحده اللي يعلم هي هتاك بخطرها ولا غصب عنها.. والله لو حد مسها لهيكون هم اللي طلبوها ونالوها.. حاكم عزام وواد ولده حسابهم تجل جوي عندي..
هتفت برلنتي تستوقف حبيب هاتفة في ذعر: هي أنس جرا لها حاجة!.. ده إحنا جايين هنا للأمان.. معقول نصير ده يكون وصل لها هنا!..
أكد حبيب مطمئنا خالته: متجلجيش يا خالتي.. هترچع بخير.. على رجبتي..
طل بهجت ومن خلفه صفية على كرسيها المدولب يستفسر في هدوئه المعتاد: خير يا ولاد.. ايه اللي بيحصل بالظبط!..
هتف سراج يجيبه وهو يهرول خلف حبيب الذي اندفع لخارج السراي متعجلا: بص يا چدي.. خلي عمتي برلنتي تحكي لك كل حاچة..
غاب سراج سريعا، لتشير برلنتي لبهجت وصفية ليجتمعا حتى تحكي لهما الكثير من التفاصيل التي يجهلاها..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
اندفع جمال على طول الردهة الطويلة في اتجاه مكتب أحد الزملاء، كان من السرعة لدرجة أنه لم ينتبه لأحد الضباط الذي لاحظ لوجوده مناديا في لهفة.. أدرك جمال النداء في المرة الثانية وما أن وعى لموضع زميله حتى اندفع لتحيته في سعادة كعادته، ليبادره جمال متسائلا: ايه أخبار القضية اللي حدفتهالك من فترة!..
أكد الزميل في نبرة تملأها الدهشة: اسكت يا جمال.. نصير الراوي ده طلع وراه حكاية ولا ألف ليلة وليلة..
تعجب جمال: إزاي!..
أشار الزميل ناحية باب حجرة ما مرحبا: تعالي معايا على مكتبي وأنا هحكي لك بدل ما إحنا واقفين كده..
اطاع جمال متجها نحو الغرفة، يحدوه اللهفة لسماع الحكاية التي أصبح على يقين أنها غير عادية، ليأمر زميله العسكري الواقف بإحضار كوبين من الشاي، قبل أن يجلس على الأريكة الجلدية القابعة بجانب الحجرة ساردا: بص يا سيدي، من بعد ما وصلت لنا الملف بتاع الباشا ده واحنا وراه، للأسف هرب يوم القبض عليه، لكن احنا وراه مش هنسيبه.. لأن اللي اكتشفناه يخلينا لازم نمسكه ب أي طريقة..
تعجب جمال مازحا: ليه يعني! سفاح ولا ايه!..
أكد الضابط بإيماءة من رأسه: تقريبا كده..
هتف جمال في ذعر: أنت بتقول ايه! إزاي!..
شرح الضابط في سلاسة: نصير من الشباب الفقرا اللي هاجروا على بره من قبل حرب اكتوبر بمفيش، كان عيل بتاع ١٨ اتلطم كتير في أوروبا.. مكنش لاقي ياكل حرفيا.. لحد ما وقعت في طريقه ست فرنسية أكبر منه ب ١٢ سنة متعرفش إزاي قدر يضحك على عقلها واوهمها انه عاشق تراب رجليها.. لحد ما الست وثقت فيه وبدأت فعلا تحبه وتفتح له بيتها لحد ما بقى شبه مقيم عندها في فيلتها.. وهي كانت وحيدة وملهاش حد ف ده ساعده.. الست دي كانت غنية جدا وعندها مصنع كبير اللي سابت إدارته لنصير اللي رفع مستوى المصنع وبدأ في توسعات.. وشوية بشوية الوضع اتحسن وحب الست دي بيزيد مع اهتمام نصير بها وبمالها..
هتف جمال مقاطعا: طب ما الدنيا حلوة اهي.. اتحول إزاي بقى لل..
هتف الضابط مقاطعا بدوره: الطمع والجشع.. طبعا كانت ثروة الست بتزيد.. هي عرضت عليه الجواز وهو وافق فورا.. وعاشوا سوا كويسين لحد ما ظهرت في حياته واحدة أصغر وبدأت تشغله لحد ما وقع فيها.. حبها بجنون وكان عنده استعداد يعمل اي حاجة عشانها.. طلبت منه يخلص من مراته عشان يقدروا يتجوزوا ويتمتعوا بفلوسها.. طبعا هو كان زهق من مراته اللي بدأت تكبر ف السن وغيرتها عليه تزيد وتهدده إنها هتسحب منه إدارة شركاتها ومصانعها.. وهو ما صدق عايز يخلص من ذلها له ويعيش.. وفعلا نفذ وعرف يدخلها مصحة نفسية وبقى هو المتحكم في كل حاجة..
سأل جمال مندهشا: جننها!.. وبعدها اتجوز حبيبته!..
نفى الضابط: لا.. مراته فضلت فالمصحة لحد ما لقوها منتحرة..
هتف جمال متوقعا: قتلها!..
أكد الضابط: ده احتمال كبير.. قتل مش انتحار.. بس الشرطة معرفتش تثبت عليه حاجة من كتر الشهود اللي أجمعوا على نزاهته وإنه مش ممكن يعمل كده.. لحد ما ظهرت حبيبته ف الصورة وبدأت تبتزه.. وتهدده قصاد الفلوس اللي تطلبها هتسكت على كل اللي هي عرفاه عن اللي عمله ف مراته.. وهو عشان بيحبها سكت وبدأ يديها اللي هي عايزاه.. لحد ما الأمور خرجت عن السيطرة.. وبدأ يزهق من ضغط الحلوة دي لحد ما قرر يخلص منها هي كمان..
سأل جمال مستنكرا: قتل حبيبته!..
أقر الضابط: ايوه.. حصل.. وبرضو مكشفوش إنه هو القاتل للشخصيتين دول.. كل دي مجرد استنتاجات معرفوش يثبتوا عليها حاجة.. بقى خلاص القتل أسهل عليه من ربطة الجرافتا.. قتل باحتراف من غير ما يسيب أي أثر يتهمه.. محدش عرف فعلا يدينه وإلا كان زمانه واخد سجن مدى الحياة ومرتاحين منه.. وفجأة قرر يرجع مصر.. مع بنته..
هتف جمال في دهشة: بنته! هو كان خلف من مراته!..
أكد الضابط: أيوه.. خلف منها بنت كان عمرها سنتين تقريبا لما رجع مصر أول مرة.. اختفى خط تتبعها محدش عرف اختفت فين بعد رجوعه.. وسافر تاني من غيرها لحد ما رجع مصر بعدها بسنين واستقر وبدأ يبني في كيان شركاته الجديدة هنا بالقاهرة .. لحد ما بقى وصي على طفلة بنت حد قريبه.. مات فجأة جوه المصنع اللي كان ممسكه إدارته.. حتى ظروف موته فيها شك إنها بشبهة جنائية بس التحريات أكدت ان الموضوع حادثة.. واتقفلت التحقيقات على كده.. والبنت بقت تحت وصايته.. اعتقد هي اللي ساعدتك وجابت لك الملف..
هتف جمال في اضطراب، فقد كانت المعلومات التي تسرد على مسامعه صادمة لحد كبير ، وخاصة ذاك الجزء الغامض فيما يخص ابنته المختفية ووصايته على ابنه عم صلاح السروجي: اه.. هاجر اللي كانت دراعه اليمين.. دي خطيبتي..
أكد الضابط وهو يشعل إحدى السجائر: طب خلي بالك منها.. وحط عينك عليها كويس.. ده مش بعيد يفكر ينتقم منها لأنه عرف زي ما قلت لي إن هي اللي جابت لنا الملف..
هز جمال رأسه في تفهم.. لا يعرف ما عليه قوله.. وسأل مستفسرا: طب وبنته، حد عرف هي فين!..
نفى الضابط مقرا: لا محدش عارف لما نزل بها مصر راح بها على فين .. ده خفاها تماما عن الكل.. وفضل عايش لوحده سنين لحد الآنسة هاجر ما ظهرت ف الصورة لما جابها تعيش معاه بعد وفاة والدها.. كوصي عليها.. عشان كان في صلة قرابة من بعيد بينهم.. ويعتبر هو القريب الوحيد اللي عايش من أهلها..
أومأ جمال برأسه مؤكدا على المعلومة الأخيرة التي يعرفها جيدا بعد رحيل هاجر عن الإسكندرية للقاهرة ليعمل والدها في مصنع أحد الأقرباء ثم اختفائها عن حياته حتى ظهرت أمامه في المشفى وبدأت قصتهما..
تنبه جمال حين استطرد زميله: المصيبة الأكبر بقى!..
هتف جمال مستنكرا: هو لسه في مصايب تاني!..وكبيرة كمان!.. ايه الراجل ده!..
هز الضابط رأسه في إيجاب مستكملا: الأخ ده شركاته اللي اسسها في مصر ظاهريا شغالة ف المقاولات والعمارة وكده.. لكن من الباطن اكتشفنا إنها بشراكة يه..ود مسهلين له حاجات كتير.. وهو بينفذ اوامرهم بالحرف.. ميقدرش يخالفهم أبدا..
سأل جمال مستفهما في ريبة: طب وموضوع أرض الرسلانية اللي حكتهولك ليه علاقة بهم ولا شراها دي رغبته هو!..
أكد الضابط في هدوء: اعتقد دي رغبتهم لأننا رصدنا كذا مكالمة دولية بينه وبينهم كانوا بيأكدوا على موضوع الأرض ده.. وكنا فاكرين معينة عشان مشروع من المشاريع لحد ما جيت أنت وحكيت لي ان الأرض دي في نجع في الصعيد.. ف ده ملوش إلا معنى واحد!..
همس جمال في تيه: إن الأرض دي لها أهمية عندهم.. طب هتكون ايه!.
تنهد الضابط وهو يرتشف رشفة من كوب الشاي الذي أوشك أن يبرد، قائلا: دا بقا يتسئل فيه أهل الأرض يمكن تكون الإجابة عندهم..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يستأذن جمال تاركا زميله ورأسه يغلي من الأفكار والخواطر التي بدأت تراوده..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
وصل حبيب لدار الحرانية مندفعا للداخل دافعا الخفير الذي كان يقف أمام البوابة الخشبية.. صارخا في مظهر الذي قابله متعجبا من وجوده بقلب دارهم بهذا الشكل السافر وخلفه وقف سراج محاولا التهدئة: فين أنس الوچود يا واد عمها!..
هم مظهر بالرد إلا أن عزام ظهر من داخل حجرة جانبية متعجبة: إحنا اللي المفروض نسألك السؤال ده يا حبيب بيه! فين أنس الوچود وأمها اللي مكلفتش خاطرها من يوم ما چت ع الرسلانية تجول اطل وأسلم على أهل الغالي!..
صرخ حبيب في ثورة: بطل الكلام العوچ ده وچاوبني على سؤال واحد.. فين أنس الوچود!..
أكد مظهر في برود د: ولا شفناها..
واستطرد ساخرا: كده برضك.. ضيعت الأمانة يا كبير ناسك..
لم يدرك حبيب ما يفعل إلا وهو يخرج سلاحه دافعا بمظهر نحو أقرب حائط مشهره بوجهه في غضب عارم: والله.. لو عرفت إن لك يد أنت وچدك في الحكاية دي.. لهتشوفوا الوش التاني من حبيب رسلان..
لم يعقب مظهر بحرف بينما ارتبك عزام وأشار لحفيده بإشارة خفية.. حين رأي عنفوان حبيب الذي جذبه سراج محاولا تهدئة الموقف، مقنعا حبيب بضرورة المغادرة..
نفذ حبيب نصيحة سراج، مهرولا في عجالة لخارج دار الحرانية، مؤكدا في تصميم: أني متأكد يا سراچ إن چوز الانچاس اللي چوه دول يعرفوا هي فين!.. بجولك.. هات قوة من النجطة وتعال ندخل نفتش دارهم..
أكد سراج مفسرا: مينفعش يا حبيب التفتيش بدون إذن نيابة.. مش من سلطتي.. بص أنا فعلا لازم أرجع النجطة عشان اچيب العساكر ونجلب النچع عاليه واطيه.. لحد ما نلاجيها بإذن الله.. وأنت دور في كل الأماكن اللي جايز تكون فيها.. احتمال تكون ف واحد فيهم واحنا مانعرفش..
هز حبيب رأسه متفهما، وتطلع نحو الحرانية مجددا وهو على يقين أن لهم يد في اختفاء أنس الوجود الغامض ذاك.. لكن أين دليله على ذلك!..
ارتفع صوت زفراني في شجن جلي، كأنه يبكي بلا دموع:
ولت الأيام ومن بعدها السنين..
راحو الحبايب.. وفاتوك لمين!..
ما عادت يد بتطبطب.. ولا فرحة تطيب چراح..
فاتوك لحالك تشكي وتحكي..
ما حد بيصدج وچعك.. ولو حلفت ميتين يمين..
هتف حبيب حين رأي زفراني متألما: وه.. ايه يا زفراني.. ايه في!..
بكى زفراني في وجع: الحبايب وحشوني يا الحبيب.. طولت عليهم الغيبة..
هتف حبيب مواسيا: بعد الشر عليك.. ربنا يطول ف عمر..
صرخ زفراني لائما: لاه.. لاه.. طول ايه تاني.. ده أني الود ودي ارمح لهم بالمشوار يا ولدي..
مسح زفراني دموعه المخلوطة ببعض الأتربة والغبار عن وجهه فحولته للوحة من وجع حي معجونة بملامح موحلة.. ما دفع حبيب ليربت على كتفه متعاطفا، قبل أن يسأله في تردد: ما لمحتش أنس الوچود هنا ولا هنا يا زفراني!..
سار زفراني في هوادة مغادرا وهو يهتف بأحجيته كالمعتاد: كل واحد اختار دين لازما يسدده.. وهي اختارت درب العشج.. والعشج واعر.. ودربه مهلكة.. ارچع لأصل الحكاية تعرف هي فين!..
ابتعد زفراني وهو يكرر عليه: ارچع لأصل الحكاية تعرف هي فين!.. بذرة الكره اللي اتزرعت ف جلب الطُياب.. السواد اللي عشش فطهارة الطيابة..
لم يعِ حبيب ما كان يقصده زفراني.. كان يدرك أن كلامه يحمل معنا خفيا لا يدركه عقله.. ما حثه ليندفع باحثا هنا وهناك لعله يلمح طيف أنس الوجود بموضع ما..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
رفع سراج سماعة الهاتف وهو يجهز نفسه واضعا سلاحه بخصره.. مجيبا في عجالة بعد أن قرر تجاهل الرنين، لكن دافعا ما حثه للرد: ألوو..
هتف جمال على الجانب الآخر في نبرة تحمل قلقا كان عجيبا على مسامع سراج: الحمد لله إنك رديت.. اسمعني كويس يا سراج..
هتف سراج متعجبا: في ايه يا چمال! صوتك بيجول إن في مصيبة!..
أكد جمال في اضطراب: ايوه يا سراج.. نصير أكيد عندكم يا سراج.. نصير موجود في الرسلانية..
هتف سراج وهو يزدرد ريقه متسائلا في توتر: أنس الوچود مش لاجينها يا چمال..
صرخ جمال في صدمة: اللي حسبته لقيته.. أنت متعرفش أنا عرفت ايه عن نصير الزفت ده.. ده تاريخه اسود وقتال قتلة..
انتفض سراج موضعه في صدمة: أنت بتجول ايه!..
أكد جمال: ايوه حكايته طويلة وشركاته لها شراكة مع الي..هود.. وهم اللي عايزين الأرض والسرايا بتاعت الرسلانية مش هو.. هو مجرد أداة تنفذ وبس وأنس اتاخدت ف الرجلين لأنها عجبته.. ده ممكن يضرها يا سراج.. ده مهووس.. معندوش ياما ارحميني.. واللي مخليني متأكد انه عندكم إنه مش هيسيب أنس الوجود إلا وهينتقم منها..
هتف سراج في تعجل: طيب.. أنا لازما أروح.. كل دجيجة لها تمنها.. سلام يا چمال..
وضع سراج سماعة الهاتف واندفع كالمسوس خارج النقطة وبصحبته عساكره..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
أنهت برلنتي قصة نصير الراوي وكيف دخل إلى قلب العائلة وطلب يد أنس الوجود للزواج وكيف كان ذاك الرجل الذي تحلم به كل أم لابنتها.. لتستيقظ هي على كابوس ما فعله بأنس الوجود كل الخداع والزيف.. وما عانته أنس الوجود من جراء هذه التجربة المريرة.. والتي دفعت بهما للقدوم إلى الرسلانية طلبا للأمن والطمأنينة..
تنهد بهجت متعجبا: طب ومتقلش الكلام ده كله ليه أول ما وصلتوا يا برلنتي!.. ما هو الناس اللي انتوا جايين تتحامو فيهم كان لازم يعرفوا إن في خطر بيهددكم.. عشان ياخدو احتياطهم..
بكت برلنتي مفسرة: كانت دي رغبة أنس الوجود.. محدش يعرف اللي عمله نصير.. معرفش ليه!.. بس أنا وافقتها عشان الدكتور قال ريحوها ومحدش يضايقها.. يا ريتني قلت..
بكت صفية بدورها قلقا على حفيدتها: وبعدين يا بهچت!.. احسن يكون الراچل المچنون ده هنا..
ربت بهجت على ظاهر كف صفية مطمئنا، هامسا في تعاطف: متقلقيش.. ادعيلها.. وأنا هتصرف..
نهض من موضعه بعد كلمته الأخيرة متجها صوب الهاتف، طلب نمرة ما في هدوءه المعهود، لينتظر لبرهة قبل أن يهتف أمرا في فرنسية: ماتيلدا!.. دوني هذا الاسم عندك.. نصير نسيم الراوي.. عايز كل معلومة عنه.. كل معلومة مهما كانت صغيرة أو مش مهمة.. في أقرب وقت.. أقرب وقت ماتيلدا..
مرت دقيقة قبل أن يضع سماعة الهاتف عائدا لموضعه جوار صفية مواسيا في نبرة حانية: متقلقوش.. لما نعرف ده مين بالظبط! ومين اللي وراه!.. هنعرف نتعامل معاه..
هزت صفية رأسها متفهمة.. بينما برلنتي لم تكف عن بكائها.. تواسيها منيرة التي جلست جوارها تشاركها حزنها..
طلبت صفية في حزن: رچعوني اوضتي..
هتف بهجت رافضا: لا.. متقعديش لوحدك.. تعالي..
نهض بهجت دافعا كرسي صفية المدولب للخارج.. ليعودا ادراجهما لشرفة السراي، ليهتف بهجت وهو يجلس قبالتها: نقعد هنا.. عشان تبقي أول حد يشوفهم وهم داخلين علينا ومعاهم أنس الوجود..
لم تنطق صفية بحرف.. شاردة نحو الأفق البعيد في قلق.. ليهفو لمسامعها صوت زفراني.. الذي مر بالسراي وما أن وقع ناظره على مجلس بهجت وصفية حتى اندفع عابرا البوابة نحو الداخل دون أن يحاول شبل إيقافه أو منعه.. متجها نحو مجلسهما متطلعا لهما في حبور نادرا ما يظهر على وجه زفراني لشيء سوى الطعام، هاتفا في نبرة متعجبة: وووه يا زمن.. تجرب ناس وتبعد ناس.. وما يبجى في الجلب إلا أغلى الناس..
همست صفية في شجن: صدجت يا زفراني.. صدجت..
هتف زفراني بأعين دامعة: ادعيلي يا ست الناس.. ادعيلي.. كيف ما ربنا چمعك بالحبايب.. يچمعني.. الفراج طول.. والعمر كنه ملوش آخر..
همس بهجت في هدوء: أنا مش فاهم حاجة يا صفية.. بس الراجل الطيب ده فيه حاجة غريبة.. بيقول كلام أنا مش فاهمه.. لكن حاسه أوي..
هزت صفية رأسها في تفهم، مستطردة حديثها مع زفراني: البت راحت يا زفراني.. خرچت ومرچعتش.. تكون راحت فين!..
أكد زفراني في هدوء: جلت للحبيب موعيش.. هي هناك يا ستنا.. يرچع لأصل الحكاية يعرف هي فين!.. بذرة الكره اللي اتزرعت ف جلب الطُياب.. السواد اللي عشش فطهارة الطيابة..
همس بهجت في اضطراب: انتي فاهمة هو بيقول ايه!..
لم ترد صفية زفراني يستطرد وهو يولي مغادرا: هناك.. مطرح ما مدو چدورهم وانتو جلعتوها.. يا بت سعد رسلان.. هناك.. هناك..
انتفضت صفية فجأة موضعها، صارخة في لهفة: چيبوا لي حبيب.. أني عرفت مكان أنس الوچود فين.. نادمو حبيب وسراچ..
أمر بهجت شبل الخفير بالاندفاع بحثا عن حبيب وإحضاره في الحال..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
ارتفع رنين هاتف السراي لترد منيرة في عجالة، مندفعة نحو الشرفة وهي تجذب سلك الهاتف خلفها، تبلغ بهجت في هدوء: تليفون عشانك يا چدي..
تناول بهجت الهاتف، ورد في تركيز: تمام.. فهمت..
شكرا ماتيلدا.. وداعا..
هم بهجت بالكلام فظهر حبيب قادما يهرول وفي أعقابه سراج، هاتفا في لهفة: فين يا ستي! ده أني جلبت عليها النچع ملهاش أثر.. ألجاها فين!..
هتفت صفية في ثقة: بيت نعيم.. الخواچه نعيم الي..هودي..
صرخ سراج في حماس: صح الاستنتاج ده..
أكد بهجت في عجالة: ايوه.. كلام صفية مظبوط.. الولد اللي اسمه نصير ده اللي كان خاطب انس الوجود له علاقة بهم.. روحوا إلحقوها ده قتال قتلة.. وممكن يضرها..
انتفض حبيب مندفعا للخارج بصحبة سراج ومن معه من عساكره وما أن أدرك أهل الرسلانية حين ابصروا حبيب على غير عادته.. أن حدثا جللا قد وقع أو على وشك الوقوع.. حتى تجمهروا مندفعين خلفه نحو ذاك الدرب الضيق بآخر النجع القابع فيه دار مكحلة الغجرية التي لم يقربها مخلوق منذ دهور.. يجاورها دار نعيم اليهودي الذي طرده سعد رسلان من هذه الأرض.. تلك الدار الثنائية الطوابق المقبضة.. والتي ما أن يقترب منها أحد يحمل الدم الرسلاني حتى يشعر بانقباض بصدره وضيق في نفسه..
كانت الدار هادئة لا تشي بأن هناك حي قد وطأ عتباتها منذ سنوات طويلة خلت.. ارتفع سعال سراج بقوة، مستشعرا ذاك الضيق بصدره، بينما قاوم حبيب في بسالة مؤكداً لسراج: متركزش مع ضيجة صدرك.. هتروح.. خلينا ندخل..
لكن سراج لم يستطع إيقاف سعاله الذي زادت وتيرته، ليأمره حبيب: طب خليك أنت وأني داخل..
حاول سراج الاعتراض لكن حبيب دفع باب الدار ودخل في هوادة لينغلق الباب خلفه في قوة غاشمة جعلت الجمع الملتف يتقهقر في صدمة لا يعرف أحدهم مصير حبيب الذي غاب بالداخل ولا يرد على نداءات سراج الذي كان يكافح نوبة سعاله.. لعله يستطيع الدخول..
سار حبيب لداخل الدار المعتمة فقد هلت المغارب وأصبح الداخل قاتما ومخيفا، هاتفا في ثبات: أنس الوچود!.. أني عارف إنك هنا.. إشارة بس وهعرف انتي فين!..
لكن بلا مجيب.. ظل يبحث في غرف الطابق السفلي ولا أحد.. ما حثه على صعود ذاك الدرج الخشبي المتهالك في حرص حتى يأمن خطواته على درجاته المتآكلة.. وأخيرا أصبح بالطابق العلوي.. الذي ما أن خط أولى خطواته نحو أول الغرف لموضعه.. حتى جذبته يد في محاولة لتكميم فاه، وشل حركته.. والدفع به لداخل الغرفة.. لكن حبيب استطاع أن يتخلص من اليد الحديدية التي كانت تكبله في قوة.. لتنقلب الآية ويصبح وجها لوجه مع نصير.. ليبدأ معه صراعا داميا من أجل البقاء.. استغل كل منهما فائق قوته الجسمانية للتغلب على الآخر.. كان حبيب يصرخ مناديا باسم أنس التي لم تحر جوابا ما كان يحثه على الاستبسال في السيطرة على نصير حتى يتأكد أنها بخير.. وعلى الجانب الآخر كان يصرخ أمرا سراج وعساكره باقتحام الدار.. لكن العجيب أن الدار كانت محصنة تماما من دخول أي كائن.. وكأنما القي عليها تعويذة ما.. لم ينج من تأثيرها إلا حبيب.. الذي ما زال يصارع نصير في بسالة..
وأخيرا استطاع التغلب عليه دافعا به بعيدا نحو الدرج الذي أنهار بثقله محطما ليستقر جسد نصير أرضا.. بينما اندفع حبيب في لهفة باحثا عن أنس التي وجدها بقلب الغرفة الثانية التي دفع بابها بكل قوة يملك من أجل أن ينفرج دافعا بجسده في محاولة للدخول على تلك الفرجة مناديا أنس الوجود التي كانت تجلس على مقعد خشبي مقيدة الأيدي والاقدام بقلب الغرفة العجيبة التي كانت تحوي رموزا أعجب..
أصبح حبيب أخيرا داخل الغرفة.. اندفع كالمجنون نحو أنس الوجود، يتأكد أنها بخير.. لكنها كانت غائبة عن الوعي تماما.. شعرها يسقط أمام وجهها كستار يخفي ملامحها عن ناظريه.. دفع بشعرها بعيدا عن وجهها ضاربا وجنتيها برفق في محاولة لافاقتها.. لكنها لم تستجب.. ما حثه على محاولة فك وثاق يديها وقدميها.. حاول في عجالة التتفيذ فقد كان صدره يضيق أكثر وأكثر بأنفاسه.. ويدرك أن أنس الوجود كذلك.. وعليه الإسراع في الخروج من هذا الشرك.. بأقصى سرعة.. لكن ما أن تم له أمر تحريرها من وثاقها وهم بحملها للخروج حتى تذكر صعوبة الخروج من الباب وكذلك الدرج الخشبي الذي انهار بنصير.. وهو الدرب الوحيد المفضي للطابق السفلي.. وما عاد يملك إلا خيار الهرب من النافذة.. تطلع من النافذة الضيقة ليدرك أن صرخات الجمع المتجمهر بالخارج حول الدار تأتيه كأنها من عالم آخر.. لا أصوات قريبة لا يفصله عنها إلا أمتار قليلة جدا.. وكأنه محجوب عنهم بسور غير مرئي.. وتساءل كيف يمكنه إنقاذها.. استشعر همهمة ما فاندفع صوبها ليدرك أنها بدأت تستعيد وعيها.. وما أن أدركت أن قيدها قد زال حتى رفعت ناظريها نحو ظل ذاك الرجل الذي مال نحوها يسأل في لهفة: إنتي بخير!..
شهقت باكية حين طل وجه حبيب قبالتها من كل تلك الوجوه التي تتزاحم في ذاكرتها المشوشة قليلا.. ليطالبها حبيب في هوادة: جومي.. لازما نخرچوا من هنا..
اومأت برأسها في طاعة، وما أن هم بالشرح لها محاولته في أنزالها من النافذة للخارج، إلا ومر من النافذة قبص من نيران على هيئة كرة مستعرة.. اندفع حبيب مهرولا في محاولة لإطفاء جزوتها قبل أن يبدأ لهيبها في التشبث بجدران الحجرة الخشبية.. لكنه لم يفلح وخاصة حين أُلقي العديد من الكرات دفعة واحدة وبدأ اللهب يأكل الأخشاب في شراهة.. لتتحول جدران الغرفة لنيران مستعرة.. صرخت أنس في ذعر.. ما عاد أمامهما إلا ذاك الحيز الضيق الذي يحويهما.. اندفعت أنس بلا وعي تحتمي بصدره.. ضمها حبيب بين ذراعيه مطمئنا: متخافيش.. هخرچك بخير..
تشبثت به متضرعة: يا رب..
كانت الدار كتلة من جمر متقد قبالة ناظري الجمع المتجمهر.. حتى محاولات إطفاء النيران باءت بالفشل.. وكأن تلك النيران نزع عنها خاصية الانطفاء.. فلا تخمد جزوتها.. كان الأمر عجيبا.. عصيا على التصديق.. الجميع يقف متفرجا غير قادر على التدخل والنيران قد حولت الدار لكتلة من لهب ليس من المنطقي نجاة مخلوق منها..
إلى أن ظهر زفراني وتراقصت ألسنة اللهب قبالة ناظريه كأنما تغيظه تذكره بما نزعت منه.. صرخ زفراني في وجع.. وشهق الجميع في ذهول حين ألقى بنفسه لداخل الدار والعجيب أنه استطاع النفاذ من الأساس..
لا يعلم كائن من كان ما الذي جرى على وجه الدقة.. فقط تناهى للجمع صوت صرخة قوية.. وحبيب يلقي بنفسه نحو النافذة التي تحطمت ضاما أنس لصدره بقوة محيطها بذراعيه في حماية.. ليسقط أرضا خارج الدار المشؤومة جاعلا من جسده فاصلا بين أنس والأرض ليجنبها صعوبة الارتطام وأثر توابعه..
تجمهر الجميع حول جسد حبيب الذي كان يحيط أنس بكليته، والذي رفع رأسه قليلا متطلعا نحو الدار التي تمور كمرجل.. صارخا في قهر: زفراني..
قبل أن يسقط فاقدا للوعي.. وأنس تصرخ باسمه.. وقد تحول ليل الرسلانية لنهار..
يتبع...
