-->

الفصل الثاني - كما يحلو لك - النسخة العامية



 الفصل الثاني

النسخة العامية


التقمه السواد التام ليُعانقه بطيات الماضي.. قد يكون هو من خط تلك الكلمات بأنامله، وربما قد اعترف لها بهذا، ولكن أن تكون بمفردك معانقًا وحدتك أمرًا، وأن تتذكر الماضي شعورًا كئيب، بينما أن تقرأ وتُقر أمام إمرأة تعشقها ونظراتها تزلزل كيانك بكل ما ارتكبته من شرور أوشكت على قتل نفسك الحية وقتل آخرون غيرك لن يكون بأمرٍ يسر سلس تستطيع خلاله التحفظ على الباقي من ماء وجهك ذو الملامح الصارمة!

شحب وجهه وهو يشرد بالأرضية، غلفه السواد الحالك وكأنه سواد الموت كمن لا يتبقى بملامحه ذرة واحدة تعبر عن الحياة.. بقعة تتجه لها فحميتيه وهو يُنادي صارخًا بإستغاثة بينه وبين نفسه، أنه لم يكن عليه التحدث بهذه الكلمات بصوتٍ مسموع..

نظرت إليه هي الأخرى، يا لها من كلمات رائعة يُخفي بطياتها العشق كلص بارع محترف، يسرق قلبها كل مرة خلال ما قام بكتابته، خلال مجرد كلمات يُجبر كل ما بها من وعي وعقل وجسد وأنفاس أن تتابعه مهرولة ناهمة بالمزيد.. شره ضاري بداخلها يحثها على الركوض ولو لآلاف الأميال حتى ترى المزيد من تلك الإعترافات والكتابات الرائعة والمزيد من الحقائق المُفجعة عنه التي تُخبرها بأنه أسوأ الرجال على وجه الأرض.. أسوأ رجل على الإطلاق.. أسوأ ما قد يتوصل له عقلها بالحكم على إنسان بأنه قاسي متعجرف ولئيم.. وفي النهاية تقر كل ليلة لنفسها أنها تعشقه.. وفي الصباح تستيقظ لتكمل دوامتها العشقية التي لن تتركها سوى غارقة بأغور اعماقه مسلوبة الأنفاس والحياة لتستقر بالقاع المؤلم لهذا العشق اللعين!

اغمضت عينيها وهي تتناول نفسًا مطولًا ثم زفرته متريثة، عله يُساعد عبراتها في معانقة عبراتها التي تريد التواتر بشرهٍ لن تنجح في ايقافه.. تحس بفحميتيه مسلطتان عليها، يُتابعها، لا تكترث، لم تعد تحتمل شعور التقزز وهي جالسة أمامه وهي على يقين بأن مجرد ملامحها ومشابهتها لتلك المرأة اللعينة هي كل ما دفعه للزواج منها..

اندفعت الذكريات برأسها، كل مرة نطق بها بالعشق لها، كل حرفٍ تغزل به بخطاباته وبكلماته، عناقه وهمسه بأذنها.. أكان يتخيلها هي؟

تركع أمامه، يُقيدها ويقوم بتعذيبها، يُداهمها بوابل من ساديته، وكل ما يفعله ليس لأجلها بل لأجل إمرأة أخرى يراها بها وبوجهها، إمرأة يكرها أم يعشقها؟

قد تنتهي الحياة ويُبعث الموتى من قبورهم للحساب.. كلٌ يبكي على ليلاه، كلٌ يستعد لجنة ونار، دار الآخرة حيث سينتهي كل شيء والمصير المحتوم لكل إمرؤ في استعداد تلقي ما كسبت يداه.. وهي، ستكون بكلماته مشتتة! لا تفكر سوى بما يقوله ويكتبه ويعترف لها به!

فتحت عينيها لتجد فحميتيه باهتتين، عينيه باتت زجاجيتين، لا تعرف ما السبب لتلك الأعين التي لم ترها بوجهه قط.. أيتصنع الحُزن بما قرأه؟ هذه هي حيلته هذه المرة على ما يبدو.. لقد طفح الكيل من حيله، وكلماته وجاذبيته، وكل ما به، لقد طفح الكيل من عشقه الذي بات لا يُسبب لها سوى الآلم!

نظرت للساعة تتفقدها وهو يبدو أمامها كالجثة، لا تدري ما الذي يُفكر به ولا يدور بعقله، هي حتى لاحظت أنه لا ينظر لها بل كان شاردًا بشحوب وجهه الذي كان بالصباح مجرد وجه لزوج سعيد يعشقها وتعشقه..

تنهدت وكادت أن تحذر بضياعه لساعتها الثمينة التي سمحت له بها وهو يقرأ عليها كلماته المتلاعبة المحتالة ولكنه حدثها بتلعثم وهو يثقل على لسانه تكوين الحروف التي لطالما استطاع أن يجتاز بها آلاف النزاعات وعشرات القضايا ومئات النقاشات:

- مبقاش فيه كلام تاني .. مش مهم باقي الجوابات!

ضيقت ما بين حاجبيها وهي لأول مرة تستمع لتردد صوته بهذه الطريقة التي تحاول ألا ينجرف قلبها على اثرها بينما وجدته يهمس بمزيد من التلعثم:

- مش مهم انا شايف الموضوع ازاي، مش مهم بحس بإيه! مش مهم تعرفي اللي جوايا.. مظنش فيه حاجة تانية هتفيدك!

زجاج فحميتيه بات يلمع بقطراتٍ من غليان دمائه التي احتدمت بتذكر ما كان عليه وهو يكره بنفورٍ هائل أنه قارب على كونه قاتل، لقد تحول، تحول بشع.. وكل هذا من أجل إمرأة؟ من أجل ملامح؟ لماذا عليه أن يعشق بهذه القسوة؟ نعم هو يقسو على نفسه بالعشق.. وكأنه عقابًا فُرض عليه.. لماذا فعل بنفسه ذلك؟ لماذا حول كل الآلم بداخله لإنتقام خالص؟ ألم يكن يُكفيه أن يبكي ويصرخ وينتقم منها هي وحدها ويتركها وشأنها دون أن تحوله لرجل فاسد؟!

لُعن العشق.. ولُعنت النساء.. ولُعن هو نفسه!!

- مبقاش فيه غير شوية كلام بيحكوا قصة انتي بطلتها وعيشتيها معايا.. مفيش داعي نرجع للماضي يا روان بكل ما فيه!

تنهد بصعوبة ماثلت صعوبة حمله لتلك الكلمات من عقله واثقال لسانه بها ليقول في النهاية بخفوت:

- ناقص ده

ابتلع دفعة واحدة ما تبقى بحنجرته من جفاف رمادي المذاق على ما خلفه حريق الماضي الذي تأجج بقرائته لهذه الرسالة ثم نهض لتسقط بقية الأوراق أرضًا وقام بدهسها بقدميه وكأنه يخطو على ماضيه بأكمله، بل وكأنه يُعاقب نفسه بقهرٍ على كونه رجل فاسد!

اتجه نحو سلسلة مفاتيحه وأخرج منها مفتاح لديه نسخ قليلة منه وألقاه نحوها وهي صامتة تتابعه ثم نظرت للمفتاح الذي استقر بجانبها على الفراش وتوجهت عسليتيها نحوه لتراه يُشعل احدى سجائره ويستنشقها بنفس شحوب وجهه المُشابه لشحوب الموت!

بحثت بمقلتيها عن استلهام الصبر الذي من المُفترض أن بعده ستأتي اجابته أو تفسير عن هذا المفتاح ولكنه لم يتحدث فسألته بإقتضاب:

- ايه ده؟

رطب شفتاه الجافتان المعبئتان بطعم التبغ المُر وهو يُنكس رأسه واجابها بخفوت:

- خليه معاكي، يمكن في يوم تشوفي كل حاجة على حقيقتها، بعيد عن الكلام الحلو والغزل والجوابات!

انتبهت بكراهية لاذعة وهو يُفسر تمامًا ما تُفكر به، العشق والغزل، من أين له بمعرفة كل ما يدور بعقلها بهذا الوضوح؟ أهو محامي جيد للغاية حتى لا يترك ولو دليلًا واحدًا من الأدلة ولا يغفل عن عقله أن يؤيد نفسه بما يُبرهن على أنها لابد من السماح له بالمزيد من الإستنزاف العشقي الذي يستنزفه بها كل ثانية من يومها؟!

- ده، يمكن، او ممكن اوريكي اللي قافل عليه! احتمال.. في يوم من الأيام!

سقطت حروفه المتثاقلة وكأنه ينازع سكرات الموت وهو ينطق بمشقة اثناء تغلبه عليها لتنظر للمفتاح مرة أخرى لتقوم بربط كلماته بما القاه إليها، لو كان هذا المفتاح يؤدي إلي باب.. فما الذي يقع خلفه؟!

نفث دخانه وهو يحاول أن يستعيد نفسه ثم فكر كيف سيُحدثها، وبأي نبرة؟ نبرة قد يلجأ هو إليها ليحاول أن يستر خلفها ما يشعر به وهو يتذكر هذه الأيام التي تبدلت بها حياته، أرقه وهو يعمل مجبورًا أن يتخلص من هذا الشيطان، عقله الذي كان لا يتوقف عن التفكير، دماء تلك الفتاة التي اوشكت على الموت اسفل قدماه، خوفه وعدم امانه طيلة ليالي قاسية لو نما لعلم ذلك الشيطان الذي يحاول الإيقاع به ما يفعله من خلفه، صوره مع "يُمنى" تتواتر على رأسه.. يشعر برغبة في الصراخ والبُكاء على حد سواء، وبصحبتهما لا يجد سوى رؤية جسد دامي بصنع يديه ليُخفف عنه كل هذا الصراخ والبُكاء!

كان على صوته أن يأتي خاليًا من المشاعر حتى لا يقوم بإستنزاف المزيد من مشاعرها نحوه هي لا تستحق كل ذلك، هي ليس لها ذنب في هذا:

- الساعة خلاص قربت تخلص.. قومي وامشي.. اعملي اللي تحبيه يا روان!

لا.. لن يلعب لُعبته السخيفة تلك ليترك الفضول يلتهمها تاركًا ذرات دمائها وأنفاسها تتوسل للمزيد! هو من بدأ بهذه اللعنة، وهو الذي عليه أن يُنهيها.. بنفسه.. وبصوته وهو يقرأ عليها المزيد، وبكل اعترافاته أمام عينيها!

شاهدته بغيظٍ احترقت مُقلتيها به وهو يتوجه حيث الشرفة فنهضت بتصميم وهي تعقد ذراعيها ووقفت خلفه تشاهده وحدثته بلهجة آمرة لا تقبل النقاش:

- اقرا الجواب يا عمر!

سقطت كلماتها على مسامعه لينفث آخر ما تبقى من احتراق تبغه متمنيًا أن يخمد لهيب روحه المحترقة بهذه الزفرة ثم التفت إليها وكلمها بهدوء:

- انتي عيشتي التفاصيل بنفسك، مبقاش فيه حاجة متعرفيهاش!

تفقدته وتملكتها الريبة بكل ما قد يُخفيه عقله البارع بالكلمات وجهه ذو الملامح الجذابة المُشتت كلما قصر شعره أو اطال خصلاته لتهبط على جبينه أو بالغ في تركها للإسترسال ليعقدها عاليًا بصحبة لحيته القصيرة تارة والكثيفة تارة والحليقة لمراتٍ مما جعل كل ما تراه بوجهه تعيقدًا لا تستطيع التعرف خلال النظر إليه مع من تتعامل.. الرجل السادي؟ المحامي المرموق؟ الرجل الثمل الباكي؟ الرجل القاسي؟ أم هذا النبيل ذو عبارات الغزل الإحترافية التي تصيبها بفيضان العشق والمشاعر؟!

أي قناعٍ لعين يُريد ارتدائه اليوم؟ وأي عقل ساذج قد يتركه يُخفي عليها المزيد؟ لو كان هذا الرجل الماثل بقفص الإتهام أمام عسليتيها المحترقتين بالغضب الذي وُلدَ على خديعته النكراء سيُصبح طليقها بحكم نهائي، هي لن تتنازل عن إدراك المزيد من الأسباب التي تأمل بتضرع خفي داخلها أن تصيبها بكراهيته مثل ما اصابها بعشقه! تريد بمنتهى الإصرار أن تحصل على المزيد من الأدلة الدامغة لإعدامه من حياتها!

رمقته بثبات، بادلته النظرات الزجاجية، زجاج يختبئ خلفه ضعفه، وزجاجٍ تحتمي خلفه سذاجتها العاشقة له، الغضب فقط ما يُصيبه بأسهمٍ من تأنيب الضمير على افعالٍ كثير لا تُعد ولا تُحصى، وما تحاول هي الأخرى أن تعكسه بصلابة أمام شحوبة وجهه التي حاولت ألا تتعاطف معها وتشدقت بنبرة آمرة:

- أقراه يا عمر!

ابتسم هاكمًا على حاله، ابتسامة بكامل الإنكسار، حُزن تام على ما يجرى بحياته، ولكن ما الذي عليه قوله أمام اعين اصبح مولعًا بنظراتها، حتى ولو كانت زجاجية تقطر كراهية وغضب! هو كان يعلم جيدًا من هو، ويعلم ما يستحقه، وها هو آتيًا بسرعة جنونية كي يُهشمه قاضيًا على ما تبقى من تلك الصورة التي يحاول أن يقوم برسمها بأعين الجميع!

البقاء للأقوى، أليس كذلك؟! حسنًا.. لن يبقى سوى أن تحكم عليه بعض أن ترى ضعفه بشأنها.. فكل ما فات من عبارات عشقٍ غزلية قرأتها وهي بمفردها لن تماثل ما تبقى لأجلها هي وحدها.. كامل الصورة الضعيفة له، التخلص من ثياب القوة والرهبة والتراهات التي يصنعها لنفسه منذ سنوات.. الفتى الضعيف الذي غرق بالعشق سيجلس أمامها ليتوسلها بكلماتٍ لا تنتهي أن تُصدقه!

وعندما تُرفع الجلسة، لن يكون عليه سوى الرضوخ لحكم محكمة العشق التي ستتولاها هي بيدٍ تحترق بلهيب غيرتها العمياء ورفض انوثتها الطاغية بأن تكون مجرد بديلة لإمرأة سواها!

- زي ما انتي عايزة يا بنوتي!

آتت نبرته الخافتة بصحبة ملامحه الشاحبة لتتقهقر بنفورٍ لداخل الغرفة وهي تحاول أن تصد نفسها عن كلماته التي لطالما يُناديها بها وباتت آمرًا خاص لا تتشاركه سوى معه وكأن كلمته هي ما تُمثل لها معاني العشق والآلفة والسكينة ولكنها حاولت أن تحارب مشاعرها التي تُخبرها بأن تترك قلبها أن ينتصر أمام هذه الورطة التي تعايشها معه منذ الصباح..

اتجهت لتجلس على الفراش من جديد بنفس البُقعة التي تقع بآخره وهي تشعر به خلفها يُمسك بالرسالة التي سيقرأها عليها وجلست وهي تنظر له عاقدة ذراعيها بتحفزٍ بينما وجدته ينظر لها بإستسلامٍ تام وشفتاه يحاولا أن يصوغا جملة مُفيدة ليقول بملامح متوسلة وعقدة حاجبان:

- ممكن تقعدي في مكان تاني؟

اجتمعا حاجبيها بالتقارب بإستغراب وهي لا تدري متى ستنتهي من حيله لتحدثه بنفاذ صبر:

- مش هتحرك حركة واحدة قبل ما تقرا الجواب وتخلصني! كفاية بقى حركاتك دي، مبقتش هاستجيبلها خلاص!

أومأ لها وهو يتنهد غير متخلصًا من خوفه لما ستستمع له وهو لن يتحمل نظراتها له وهي تراه يُخبر بتلك الكلمات وسيقرأ اطول خطاب كتبه لها ليقرر وهو يذهب خلفها ليحدثها بخفوت:

- ماشي.. خليني انا اقعد في مكان تاني!

تنهدت وهي تحاول أن تستلهم الصبر لأفعاله، لم تعد تكترث بما يقوله ولا بما يفعله، هي فقط تريد أن تنتهي من كل ما يربط بينهما، حتى ولو خلال قرائته لهذه الرسالة المتبقية، بصوته وهو يجالسها بنفس الغرفة، تبحث عن كامل ادلتها أمامه لتدين نفسها بحقيقة جلية، ألا وهي؛ أن الوقوع في عشق رجل مثله جريمة ارتكبتها بمنتهى السذاجة!

قد يظن الجميع أن الأصعب قد مر بالفعل وهي تبالغ بردة فعلها، ولكن أن تؤلم أنوثة فتاة؛ واليوم إمرأة وزوجة، كانت يومًا ما بالسابق لا تعرف سوى الكبرياء.. هذا ما لن تقبل تحمله حتى لو التقت السماوات السبع بأعماق محيطات الأرض!

اضجع خلفها وهو يُشاهدها بخوفٍ لم تره، على نفس الفراش، يستطيع رؤية الهالة اللهيبية تحيط جسدها ليسألها للمرة الأخيرة:

- أنتي متأكدة؟ ده اطول جواب فيهم ويمكن تملي من كتر الكلام!

شردت ببقعة خاوية لا يظهر بها سوى الكثير من كلمات أنامله التي خطها وتمنت لو أن كل ما بها كان حقيقي لتجيبه بخناجر مزقت حلقها آلما بنقلها لتلك الكلمات:

- يمكن الملل مقبول عن الكدب.. ولا ايه رأيك؟

امتنت أنه لا يرى ملامحها المُنكسرة وهي تقارب على ذرف الدموع من تلك المشاعر بداخلها وفضولها المميت كي تعرف ما يتبقى من حيلته البارعة التي تجعلها متهافتة على كل ما يخطه لتجد نبرته التي لا يقل عشقها لها عن عشقه هو نفسه سبيلًا لأذنها وهو يجيب سؤالها المستهجن بإقتضاب يخفي خلفه مشاعره المحتدمة من اظهاره لضعفه الموشك عليه:

- معاكي حق


حمحم مُنظفًا حلقه ثم تنهد وهو يرمق تلك الكلمات المُهتزة بعينيه، هو يعلم كيف كان شعوره حينها وهو يقوم بكتابتها، يعلم تمام اليقين كم أنه فتى ضعيف مختفي خلف الرجل القاسي ليحتمي به، ولكن لها هي وحدها كل ما يحلو لها!

بعد الخطاب التاسع، واثناء جحيم عذابي، لا زلت احاول الصمود بيومي السابع من ابتعادنا..

الفراق لعنة روان، غيابك عن عيني ومرمى بصري يؤلمني آلم لا استطيع تحمله فاق آلمي بثلاث اشهرٍ مكث بها طفل بائس بمفرده، آلم فاق كل ما تعرضت له.. لدرجة تجعلني لا اتمناه لأحد..

لُعن الفراق بين العاشقين ملايين المرات!


ولُعنت أنا بمقدار كل نبضة نبضها قلبي منذ أن وقعت عيناي عليكِ أيتها الفاتنة الصغيرة..

لا أجد ما يُرثيني سوى أن اتذكر كل لحظة بيننا، كل يوم، وكل مرة التقت بها عيني وعينك صغيرتي..

لم يعد هناك ما يجب عليكِ تحمله سوى السطر التالي.. والبقية ستكون اهون!


سكت لوهلة منظفًا حلقه من جديد ثم حدثها وهو يتمنى أن تنقذه من قراءة التالي وتُعرض عن تشبثها اللعين بمعرفة المزيد ليقول بهدوء:

- شوفتي.. نفس الكلام.. مفيش حاجة مختـ..

قاطعته بتصميم وصياح غاضبة آمرة اياه:

- كمل!



ملئ رئتيه ببعض الهواء عله يُعطيه المقدرة على المتابعة واستلهام الشجاعة المطلوبة وهو ينظر لها بتردد ليقول والخزي يصرخ بكل حرف نطق به بخفوت:

عندما رأيتك لأول مرة في حياتي، كنت على يقين تام أنني اكرهك، وسأكرهك، ولن يُضاهي كراهيتك في قلبي مخلوق.. كرهتك اكثر من كراهيتي ليُمنى..

نعم، سأكون بهذه الشجاعة اليوم وأنا اعترف لكِ.. لقد كرهتك.. رأيتك أسوأ إمرأة على الإطلاق..

ازدرد وملامحه يغلفها الخوف والإنزعاج من ردة فعلها، التي في الحقيقة كانت عبارة عن انهمار جبل من الجليد فوق رأسها.. كرهها! أحقًا فعل؟ بعد كل ما ظنته توقًا ولهفةً كرهها؟!


امتن بداخله أنها لا تنظر مباشرة له وتمنى لو أنه يظل متواريًا عنها إلي نهاية هذا الخطاب كي لا تتلاقى اعينهما بينما هي كانت شاردة.. فلقد توقعت المزيد من السوء منه.. وتوقعت المزيد من الأسرار والخفايا.. استهتم اليوم لو كرهها؟! فليفعل، هي حتى لا تكترث!!


تناول نفسًا كي يحاول أن يُمضي قدمًا بتلك الكلمات التي لو استمر في التريث بين قرائتها قد ينتهي بعد أيام فواصل بنبرة هادئة:

كرهتك وكرهت كل ما بكِ.. ملامحك هي نفس الملامح التي دفعتني للقتل..

ولكن ما لم اجده لا بيُمنى ولا بتلك الفتاة المسكينة التي قاربت على لفظ انفاسها الأخيرة أسفل قدماي هي تلك الشراسة التي انعكست على ملامحك..

ثقتك وثباتك، صلابتك وكبرياءك.. ببساطة أنتِ تحملين كل ما حاولت أن أكون عليه بعفوية.. رأيت حلمي أمام عيناي يتجسد بكِ.. حلم يقظتي بأن أكون قويًا ناجحًا ذو ثقة وكبرياء اجتمع كله بكِ لينعكس بملامح يُمنى..

أهناك مزيج أسوأ من هذا؟!

كرهتك لكراهيتي المُطلقة لجنس النساء.. وكرهتك لتشابه ملامحك بملامح من قتلتني يومًا ومن دفعتني للقتل يومًا آخر..

النساء كلهن مخادعات.. ترى كل واحدة منهن رجل بعينه ثم يتملكنه كلبؤة شرسة تقبض بأنيابها على فريستها..

جنس الرجال جنس ساذج.. ربما نملك القوة الظاهرية.. ولكن ما إن امتلكتنا إمرأة نعود من جديد لشبل لتوه يُعاني مُتلكئًا، كلما حاول الوقوف والإعتماد على نفسه مسدته أمه بلسانها الحاد لتتركه ساقطًا جليسًا صريعًا ظنًا منه أنها تمسده بحنان، وكلما حاول هو و اعاد كرته تُعيد فعلتها هي الأخرى .. ولكن عكس الواقع، لا ننمو لنشبه الليوث..

فكل رجل مننا ما إن وقع في العشق يتشبث بشدة بأن يبقى كشبل ويختفي زئيره ويعود كما ولدته أمه مهما بلغ من بأسٍ وقوة!

ليس بين العشاق وحدهما.. لابد من أنكِ تعلمين الآن، فذكائك ليس له حدود فتاتي الفاتنة.. لقد عانقت والدتي عُدي يومًا ما وتركتني وحدي.. لذا أنا من نظر لي الجميع كالغضنفر الضاري بينما عُدي لا يزال شبل بكنفها!

لُعن العشق! ولُعنت أنا كما وقعت به!

صممت على امتلاكك لأذيقك معنى الكراهية، الكبرياء، ولأثبت لذلك الطفل بداخلي أنني لن افعلها من جديد..

لن اقتل إمرأة تُشابه يُمنى.. كنت اريده أن يتخلص من لون الشفق الدامي..

كنت أود أن اتخلص من هيئة الطائر الجريح الذي لا يزال جرحه ينزف حتى لطخ السماء بالحُمرة الدامية..

كنت أريد سماء زرقاء بنسمات ربيع صافية .. ولكن بدلًا منها رُزقت بكِ أنتِ..

كرجُل خبيث، محتال، متلاعب كالدجال..

علمتني الدنيا حكمة قذرة ... كل إمرؤ لديه نقطة ضعف! وكل بشر خلق يملك أمرًا استطيع التفاوض عليه!

لذا يومها اخبرتك أنني أضمن لكِ عودة كل شيء، وستكسبين القضية ولكن سيكون بيننا اتفاق..

أخبرتك أننا سنحدد اتعابي لاحقًا كي أُكسب نفسي ساعات ابحث عنكِ بها..

ولإندهاشي كنت انقى من حاولت أن ابحث خلفه عن نقطة ضعفه..

فتاة جذابة مثلها بالسابعة والعشرين تُعد مطمعا للكثير ممن يريدون الثراء وحتى من الأثرياء اللاهثين خلف إمرأة مثلها، جاذبيتها وشخصيتها القوية ونجاحها وسُمعتها أُعجب بها الجميع، ظن رجال كثيرون أنهم سيقدرون على امتلاكها ولكنها تقوم برفض كل الرجال..

من منزلها للعمل ومن العمل لمنزلها وأحيانًا تذهب بمفردها لتقوم بإحتساء القهوة في ذلك المقهى الذي يقع بمنتصف الطريق بين مقر شركاتها الرئيسي وبين منزل عائلتها!

لا علاقة.. لا دناءة.. لا مبالغة في أي شيء.. بم سأتلاعب أنا وأنا مجرد دجال أرسل بأنفار شياطينه ليسترقوا السمع ويتطلعوا اخبار السماء النقية ليجدوها كما ننظر لها من بعيد..

مثالية!!

لو تلاعبت على الأموال فكيف سأجعلك تضرعين أسفل قدمي؟

لو تلاعبت على والدتك وأخيك ستنهارين حتمًا وسأفقد كل ما وددت فعله بكِ وأنا أؤلمكِ - انتقامًا وليس مُتعة - وستلفظين أنفاسك سريعًا!

الزواج؟!!

بدا حل جيد يومها .. لقد حدثني أبي عن الأمر آلاف المرات.. ستُخلصيني من عبء.. وهذه أول منفعة..

أرتدك أن تعشقيني مثل ما ظننت أن يمنى عشقتني.. ومعكِ أنتِ لن يحدث هذا سوى بالزواج!

أردتك أن تكوني خاضعة متمرسة كمثل تلك الفتاة المسكينة التي كانت تمتن لي بعينيها كلما اشفقت عليها.. لن يحدث هذا سوى بالزواج!

كنت أريد إيقاع الإنتقام بملامح ظننت أنها تعشقني يومًا ما.. ويا لهول ما ادركته كلما اقتربت منكِ.. ويا لفداحة عقلي الذي صور لي أنني استطيع أن افعلها.. لقد فشلت روان..

حاولت آلاف المرات أن انتقم من ملامحك وفشلت، جربت تجاهلك وجربت أن اغصب نفسي عليكِ وجربت اللين وجربت أن اخيفك واشتتك واجعلك تائهة بين الأرض وبين السماء ولكن في الحقيقة كنت أنا التائه الشريد..


توقف لوهلة ليلتقط أنفاسه، يتابعها بعينه المذعورتين بين كل عدة كلمات يقوم بقرائتها، بينما هي لا تزال متيبسة، حتى أنفاسها لا تحرك ذرة بجسدها وكأنها باتت جماد يستمع ولا يُعبر عن شيء فتنهد ليُتابع:

كلما نظرت لكِ ولمحتك وقعت بعشقك..

كلما رأيت شفتاكِ الناطقتين بآلاف الأسئلة التي اجاباتها كلها ستؤلمني وستُعري الطفل الضعيف الخائف بداخلي فُتنت بكِ..

أما عيناكِ عزيزتي فلقد جعلتني أسيرًا لهما.. لا أدري من القاضي، أهو القدر أم أنتِ من تقصدتِ فعلها؟

اتعرفين روان..

اخبرتُك يومًا أنني لم اكتب سوى لكِ.. ولكن أتدرين من حثني على فعلتها..

كان أوفيد.. مرافقي بوحدتي.. لقد وجدته كان يكتب لكِ من آلاف السنوات.. يعبر عنكِ بكلماته وبحروفه.. وعندما كتبت لكِ أولى خطاباتي وجدت كلماته أمام عيناي يومها وهو يقول

( * ) "فلنعد يا اسلحتي الغالية إلي شعر الملاطفة.

كلمات التودد الناعمة تجعل الأبواب العنيدة تستلين.

الشعر ينزل القمر من عليائه ورديًا كالدم

ويرد جياد الشمس على اعقابها

الشعر ينتزع أنياب الثعابين ويسحب سمها

ويعيد الأنهار تجري صعدًا إلي منابعها..

الأبواب تستسلم للشعر، والأقفال التي تحكم رتاجها

وحتى أقوى السنديان يخضع للشعر.."

لقد افادني أوفيد وأنا أُفكر بكِ وأجد صورتك، ولكنني لست بضليع بالشعر روان.. فقط وجدت كل ما يُناسبك بطياته جميلتي الصغيرة..

الشعر لغة العشاق ولطالما كان منذ آلاف السنوات.. لذا حاولت أن ابذل قصارى جهدي في كل الرسائل السابقة وأنا اقص عليكِ كل شيء..

ربما بعد سنواتٍ كثيرة جعلتِ لي صديق جديد.. الكتابة.. وكوني اكتب إليك، مُتغزلًا بكِ وحدكِ، قاصًا عليك كل ما حدث وأنا اتعذب بلوعة اشتياقي لكِ ولعنة فراقي عنكِ كان أفضل صديق يُمكنني أن احظى به.. صديقٌ يُشاركني يأسي وحُزني وأنا اعاقب نفسي على فعلتي..

القرب منكِ يجعلني اعشقك، والعشق ضعف.. والبُعد عنك سلب مُهجتي ليُحول كل حيلي لخوف..

اخاف أن تعرفيني وتبتعدي .. وسأضعف حتمًا لو عشقتِ ما بي..

والخائف والضعيف لم يصنعوا للبقاء فاتنتي..

ولكن هل لي مفر من العشق؟

تقرأين كلماتي المشوشة التائهة ولكن التمسي لي العُذر فسبع أيامٍ بالجحيم جعلتني أدرك ما معنى أن أؤلمكِ.. وأخاف اكثر لو لم أكمل عقوبتي وفررت من سجن العذاب باحثًا عن عناق واحدٌ يجمعني بكِ..

فتحت كُتبي وقرأت.. تلمست يدي قيثارة حب، وتلمست عيني الكلمات.. وكأنني أقرأها لأول مرة بحياتي بالرغم من توسل الأوراق أن ادعها وشأنها..

ولكنني بكيت لأول مرة وأنا أقرأ..

لم أر سواكِ أمامي وأوفيد يقص قصتنا بدلًا مني ومنكِ..

"مُكره أنا على فراق حبيبتي بأمرٍ من الليل.

سيُغلق الباب ليلًا؛ وأنا اتابعها بالدموع

حتى بابه الوحشي - حيث سأبقى مسمّرًا.."

لقد ابتلت لحيتي وأنا اتذكر ما فعلته بكِ آخر مرة.. واقارن بيني وبينك.. فلو كنت وددت أن أصبح أنتِ..

فهل تصرفت أنا بوعي كرجل وزوج محب وأنتِ تخبريني بعشقكِ لي؟ هل كنت مثلكِ كما اقررت بعشقي لكِ؟

كنت مُزريًا..

انتقم من المرأة التي اعشقها فقط لمشابهتها بيُمنى الخائنة.. أنتِ ليس لكِ ذنب بكل هذه الدوامة..

لو كنت مكانك لمزقت تلك الأوراق ولأغلقت كل الأبواب في وجه رجل مثلي..

حتى لو كنت أبكِ.. حتى لو كنت أراكِ بتلك الكلمات.. حتى لو أنتِ المرأة التي قصدها أوفيد من أكثر من ألفي عام..

"وبدلًا من ذلك جرحت جبينها، فيالي من وحش

واستعملت اظفاري لأخدش وجهها الرقيق.

وقد وقفت ذاهلة، وامتقعت ملامحها وغاض منها الدم،

كالمرمر المقتلعِ من تلال الإغريق.

رأيتها تفقد الحس وتُصاب بإغماء، وجسدها يرتعش،

كالحور المياس يهتز عندما تهب عليه أنسام لطيفة،

أو حفيف القصب النحيل في نسيمٍ عليل،

أو الأمواجِ المتجعدة حين تنزلق عليها الرياح الدافئة وتمضي.

ودموعها تنهمر على وجنتيها بانحدار طويل،

كما يقطر الماء من ركام ثلج.

عندئذ تفجرت في داخلي أولى مشاعر الإحساس بالذنب؛"


اتتذكرين أول يوم لكِ بالغرفة؟ ألا تري أن أوفيد يخبر قصتنا بدلًا مني؟!

لأبكي أنا على ما اراه وهو يصفني كالوحش! يا لي من مغتصب حقير!

ولكنني اقسم لكِ أنني حاولت..


"إن دمي الذي كان يجري في كل دمعة.

ثلاث مرات حاولت أن أركع واتلمس منها المغفرة؛

وثلاث مرات دفعت يدي بعيدًا في خوف."


لقد حاولت بعدها أن نبدأ سويًا من جديد دون أن التفت إلي أنكِ تُشبيهها.. بذلك العشاء.. وبسفرنا الثاني..

كنت اريدك أن تعشقيني كما أنا وتعشقي ما أنا عليه.. كنت تخليت تمامًا عن فكرة الإنتقام..

ولكنني لم اتخل عن ميولي معكِ..

والمرة الثانية كانت محاولتي بعد أن اقررت لكِ بعشقي..

والثالثة أنا الآن اعاني عذابها اللعين وأنا اعاقب نفسي بالإبتعاد وهجر حبيبتي.. فصدقي سيدتي الفاتنة؛ البقاء وحيدًا بعد الحياة بجنة النعيم بقربكِ هي اشبه بالموت!

اتظنين أنني أمزح بعشقي لكِ أو اتلاعب بالكلمات.. أنا حتى لا أجد ما أقوله عن حكايتنا معًا.. فلقد كان انتقامي مجرد سبب للزواج منكِ.. كراهيتي لملامحك سبب للزواج منكِ.. ولكن الإستمرار معكِ إلي الآن وأنا انقل لكِ هذه الحروف المنبعثة من عقلي وقلبي على حد سواء لا سبب لها سوى العشق الخالص!

انظرِ.. سيحكم بيننا أوفيد.. فأنتِ لديكِ الحق لتفعلي ما حكم به.. أمامك حل من اثنان

اولهما..

"يا غاليتي، الإنتقام الجميل سيخفف الألم المبرح؛

لا تنتظري، استعملي أظفارك واخمشي وجهي؛

عيناي وشعري، لا توفريها، ولا تبدي أي رحمة؛

الغضب يُساعد أضعف الأيدي في مثل هذه الحال؛"


قالها بصوتٍ مكتوم، مختنق من تراهاته التي كتبها يومها، ثم تنهد بعمقٍ والقى الأوراق التي تُظهره طفل ضعيف يطلب المغفرة مترجيًا إمرأته وهتف بها:

- اعمليها يا روان لو ده هيريحك..


لم تبد أي تحركِ سوى أنها ضمت جسدها بذراعيها ليتقدم بالفراش وجذبها كي تنظر له ليرى عينيها ممتلئتين بالدموع فضلًا عن تلك التي انهمرت على وجنتيها ليحتقر نفسه بداخله ثم حدثها بنبرة خافتة:

- لو كان هيخليكي احسن اعمليها.. اضربيني او اشتميني زي ما عملت معاكي او ارميني على الارض.. اعملي زي ما عملت فيكي.. اضربيني وصوتي وقولي اني كدبت عليكي لو ده هيريحك!


امتنعت الدموع عن الفرار أمام عينيه التي بدا بهما الندم في هذا الوقت واكتفت بهمسها الممتزج بالدموع المكتومة:

- انا مش ضعيفة علشان يبقى زيي زيك مفرقش عنك في حاجة..


تلجم لسانه وهو يتفقدها بنظراتٍ اضطربت غير مُدركة ما مقصدها ولكنها وضحت له وهي تهمس من جديد بصوتٍ يُناضل كي لا تبكي:

- لو عملتها ده هيخليني زيك.. ودي حاجة متشرفنيش!


ابتلع بمرارة وهي تصفعه بتلك الكلمات وحدقته بفحميتيه الباهتتين لتُحدثه آمرة:

- آه صح.. مش كنت دايمًا تقولي خليكي مُطيعة واسمعي الكلام.. اسمع انت الكلام وكمل قراية..


شاهدها بتردد وأومأ لها بالموافقة بعد مُدة وبداخله خفقات متسارعة تأبى المتابعة، تأبى الضعف، تبحث عن الكبرياء بداخله تضرعه حسيسًا ولكن لم يجد سوى الخضوع التام..


تراجع ليُمسك بأوراقه وتابع:


لو كان غفرانك سيأتي بصفعة فافعليها، ولو كان سيأتي بمثل كل ما فعلته فلتُسيقني من نفس الكأس..

أو ربما أوفيد يُفيد بإقتراحه التالي..

"كبلني بالأصفاد، يا صديق، إن يكن أي صديق هنا،

(يداي تستحقانها) حتى تزول نوبة جنوني.

جنوني دفع يدي الطائشتين ضد خليلتي،

يداي المسعورتان آذتاها ومحبوبتي غارقة بالدموع؛

كنت مجنونًا إلي حد أن لا اتردد!"


فتُكبليني بعد قرائتك لهذا..

انتقامي منكِ منذ البداية وإلي أن اسقطتك أرضًا منتزعًا اياكِ بنفسي بعيدًا عن قلبي.. يا لي من وغد غبي!!

روان.. أنا لم اعشقك لأنك تُشبيهيها ولكنني عشقتك لأجلكِ أنتِ

رؤيتها باتت جحيمي وأن ارى من يُشبهها اشعر بالغثيان والنفور.. ولكن معكِ انتي شيئًا فشيئًا بكل ما امتلكتِ من نقاء وغفران وصبر معي.. اجبرتِني على عشقك..

لقد بتِ الصديقة التي استطيع أن اخبرها كل ما بحياتي وأنا لا اريد التواري عن عسليتيكِ بعد الآن..

لقد اصبحتِ الزوجة التي لم أكن احلم أن التقي بها..

لقد رأيت ما معنى الكبرياء وهو ينهمر من عينيكِ عندما رأيتك لأول مرة، وبعد أن اقتربت رأيت الهشاشة والبراءة..

تُذكريني بنفسي التي تمنيتها أن تكون يومًا ما..

لم يعد هناك المزيد.. سوى أن تثقين بأنه لا مجال للمقارنة بينك وبينها..

كيف للمرء أن يُقارن شيطان بملاك؟

وكيف لنا أن نضع آلهة إغريقية فاتنة في مقارنة مع شرير الأسطورة؟

عشقي دفعني لفعل ما لا أؤمن به روان..

ملامحك بصحبة روحك جعلتني اقع في الغرام مستسلمًا بكل ما في إليكِ أنتي وحدك..

يا ليتني كنت أوفيد، يا ليتني استطيع أن اعبر مثله..

لا املك صديقًا اقرب لي منه.. فليُساعدني في التماس غفرانك على كل ما اخفيتُ عنكِ وكل ما فعلته بكِ..

على ماضينا الذي ارتكبت به الأخطاء.. وعن حاضرنا الذي لا أعلم ما يخفي بطياته..

" لا أجرؤ أن اعتذر عن تصرفاتي الأخلاقية البغيضة

أو أدافع عن أخطائي بحرب من الأكاذيب
إني اعترف بذنوبي - إذا أمكن أن يأتي خير من الاعتراف - يا سيدتي، إني اعترف بها أنا ما زلت أسيء.
أكره نفسي، لكني لا أقوى على فعل ما أكره
رغم محاولتي كم يبدو العبء فادحًا
أن أتوق لسفك الدم! وضبط النفس أحبطني،

إني انجرف بعيدًا كزوارق في انهار مندفعة

النظرات التي فتنت حبي ليس لها مثال معين؛
والعقول فيلق لأبقى محتجزًا في حبي
لعل فتاة ستخفض عينيها بإحتشام فأشتعل،
لقد اثبتت تلك النظرات الخجلى وقوعي في الشرك.

أو إن كانت أنيقة فقد أسرتني؛

وهي مفعمة بالحيوية، كما أرجو، بين أغطية السرير؛
أو إن كانت متجهمة وتقلد السابينيات الصارمات،

فسوف تستسلم بلا ريب، رغم تماديها في الخداع..

وهي مثقفة، وهذه المهارات النادرة سارة.

أو فجة إذن بساطتها مبهرة.. "

الكلمات بأكملها لكِ.. كما خطها أوفيد.. كانت لكِ كلها..

قلت لكِ أني لست بضليع في الشعر.. لا أكتب الأشعار.. ولكني اتذوق الشعر روان..

ولا يضاهي مذاق الشعر بفمي وأنا اتلوه لذة إلا لو أغمضت عيني وعانقتك بأهدابي لامسًا صورتك بكل ما أنتِ عليه..

لست اضم فنتك المثالية، ولا تعانق اهدابي الفتاة الهشة بداخلك.. ولكن اضم بين عيناي تجهمك، فجاجتك، غضبك، وخجلك..

حاولت خداعك آلاف المرات وأنا انادي زورًا بما أحب وبما يُغضبني ولكنني كنت كاذب..

كل ما بكِ وكل ما أنتِ عليه أعشقه، أقدسه... وكأنه بات شعائري وطقوسي لأنفرد بها وحدي بتوبة مستترة بعيدًا عن أعين الجميع بقطعٍ من الليل استلهم بها تضرع لم يخطر لبشر سواي.. اناشد واناجي به.. ولم ينطقه لسان قبلي قط.. أنت دعائي الخافت بليل قاتم الذي لا أملك سواه حتى ينير ظلمتي الموحشة ولو بطيف منكسر من الأمل روان!

لقد سحرتِ الساحر.. واحتلتِ على المحتال.. أنتِ قمتِ بخداعي واوقعتِ كل ما بي بشركك المُحكم..

لقد اغرقتِ كل ما بي لأعماق عشقك.. خدعتِ كراهيتي لكِ التي لم تدم الا لأيام وذكرتِ عقلي المرعوب بأنني ضعيف..

العشق يُضعفني.. نعم يفعل صغيرتي.. وها أنا ذا اخبركِ الحقيقة التي دفعتني لكراهيتك..

فأنا فعلت لأنكِ استطعتِ دون تصنع بعفويتك المتناهية أن تصلي لأعماق مُخرجة كل ما أنا عليه أمام عيناكِ الساحرتان.. ضعفي، عشقي، وخوفي..

كل ما حاولت أن أكون عليه خلال سنوات.. بنظراتك فقط تدمرت بغضون أيام

نعم روان لا تتعجبِ حلوتي

الأمر اشبه معكِ بالزوارق في الأنهار المندفعة ولكن خانني أوفيد وهو يعبر بشعره السابق..

فأنا مجرد قشة.. سقطت بفعل شلال عيناك ِ واصبحتِ تجرفيني كما يحلو لكِ ولا يُمكنني سوى الإنصياع نحو الهاوية من شدة انهمار غرامك الذي لا نجاة ولا منقذ منه..

هل تملكين السبيل لعودتي لما كنت عليه؟

دليني فتاتي لسبيل العودة فلقد بهتت كل محاولاتي بالفشل واصبحت شريد عيناكِ..


ازداد تبادلهما للنظرات وعبراتهما تأبى الفرار، كلاهما يحاربان بضراوة ألا ينقضا عهودهما ولكن الماضي يحث كلاهما ألا يستمرا فهي لم تنس بعد كل ما مر عليها معه وليست مُستعدة لمزيد من المحاولات والكذبات ولا هو ينسى كل ما عاناه وخصوصًا بعلاقاته لترتجف شفتاه متابعة بما تبقى من خطابه إليها دون حتى أن ينظر لما كتبه فلقد حفظ عن ظهر قلب ما خطته يده:


نادوا بمثلٍ سخيفٍ غاية في السذاجة

يقولوا أنه يخلق من الشبه أربعين..

مثل فارسي الأصل يشوه ما تراه عيني كلما نظرت لكِ، وما اشعر به كلما تلمستكِ بعفوية، وكل خفقة من قلبي وهي تصرخ عاليًا كلما شاهدتني عسليتيكِ بتلك النظرة التي تدفع خفقاته للتسارع بعنفٍ يكاد يقتلني..

بعد كل ما رأيته، من إمرأة خائنة، وأخرى بريئة مجبورة على تحملي..

أقسم لكِ أنني احبكِ لأنكِ انتي..

ليس لملامحك، وليس لأنك تُشبهي هذه أو تلك..

لو كان تشابه الملامح هو الأمر الذي سيدفعني للعشق فدعيني اقر لكِ..

لم يستطع كتم دموعه التي انهمرت رغمًا عنه وهي تنظر له بعسليتيها وواصل بنبرة منتحبة:

اعشقكِ لأنكِ لا تُشبهي سوى نفسك!

فالآن بتِ على يقين بكراهيتي لملامحكِ بالسابق..

ولكنني وقعت أسيرًا لروحكِ الشفافة النقية..

لا تقارني بينك وبينها..

ولو يومًا اكتشفتِ دون أن اخبركِ أنا فلتُنادي بأنني كاذب ومحتال ولتفعلي كل ما يحلو لكِ بي..

ولكنكِ مثالية لا ترتقي حقيرة مثلها للمُقارنة بكِ!

وبعد أن سقطت اقنعتي التي تواريتُ خلفها لسنوات.. واصبحتِ الوحيدة التي تملكني وتمك كياني وماضي الآليم وحاضري المُلبد بغيوم التخمينات التي لا آمن نفسي منها..

هل لكِ أن تُبادليني؟

هل لا زلتِ تعشقيني كما أنا؟ بما أنا عليه؟ بعد كل ما صوره لكِ عقلكِ وأنا أقص عليكِ كل ما حدث بحياتي منذ نعومة اظافري إلي أن وصلتِ لهذا الزوج الدنيء الذي يحاول ليلًا نهارًا أن يُبرهن على عشقه لكِ؟

هل لا زلتِ تعشقيني بضعفي وأنا اطالب بالغفران؟

نصي علي قانون وسأتبعه.. سُني قوانين شتى وأنا سأخضع لها..

حددي عقابكِ لي..

وإن لم امتثله واذعن له.. فافعلي كما يحلو لكِ..

سأفعل كل ما شئت..

وسأكون طوعًا لعشقكِ الذي غرقت به..

سأفعل كل ما تريديه.. ولكن رحماكِ الفراق!

الإبتعاد لو فرضتيه علي سيكون حكم بالإعدام..

وبيني وبينك، بعد كل عذابي اللعين.. أنتِ تعلمين، أنا لا استحق هذا روان!

أعشقكِ.. لا تبتعدي.. ودمتي أماني وإدماني..

زوجك

عمر يزيد


حاول أن يجفف دموعه وهي تنظر له وصوته يتقهقر بالتراجع، يتهشم بالإعترافات، وتلوكه الآلام البادية على وجهه لتفر المزيد من دموعها التي لا تريد حتى أن تُفكر بالسبب خلفها لتجده يهمس مناجيًا:

- استني..


جفف دموعه من جديد وحاول ابتلاعها وكتمها بحنجرته وهو يُتابع القراءة:

أعلم أن هذا أسوأ خطاب لي.. فلقد وصلت لمرحلة لا استطيع أن اعيش بعذابها أكثر من ذلك..

حالي اصبح مُزري ولم اعد قادرًا على كتابة المزيد من الكلمات فلقد احترقت روحي وأنت بعيد عني لا استطيع أن اتزود بعناقك.. ولا بنظرة من عسليتيك كي تخبريني أننا سنكون بخير

ولا أجد كلماتٍ سوى كلمات أوفيد لتوصل بيني وبينك كمرسال يُعبر عما بداخلي لكِ..

لذا دائمًا وأبدًا

دعينا نتعاهد على ذلك..

وصيتي لكِ والتماس لمغفرتك لي على كل ما سبق بيننا، ووصية صديقي أوفيد..

"لامسي قدمي خلسةً، وانظري إلي

راقبي إيماءات رأسي، عيني، لغة وجهي؛

التقطي إشاراتي ورديها خفية.

سأبعث بحاجبي رسالة بلا كلمات؛

وستقرئين كلمات اصابعي، كلمات يمكن تتبعها في الخمرة.

وحين تتذكرين ألاعيبنا بالحب معًا،

يجب أن تفتقي بإصبعك سطرًا على وجنتيك،

وإذا رغبت بتوبيخي في افكارك الصامتة

دعي يدك تمسك بشحمة أذنكِ الناعمة،

وحين يمنحك ما أفعله وما أقوله متعة، يا حبيبتي

فاستمري في تحريك الخاتم الذي تلبسين جيئة وذهابًا

وحين تودين إنزال اللعنات التي يستحقها زوجك

ضعي يدك على المائدة، كأنما في صلاة.."

افعليها روان.. إنزلي بي كل اللعنات دون هوادة..

وسأتحملها أنا بعشقي الخالص لكِ

اغفري لي فتاتي الفتنة

أحبك..

واعتذر عن رسالتي المُزرية الطويلة!

ترك الأوراق مُلقيًا اياها على الفراش ودموعه تأبى التوقف لتتساقط دموعها هي الأخرى في صمتٍ وهي لا تستطيع سوى أن تُصدق بعشقه.. أيُمكن أن يكون هناك رجلًا يكتب كل هذا وهو لا يعشقها.. ثم ماذا؟ ماذا بعد كل هذا العشق؟ والإعترافات؟ والحقائق؟!

حاولت ترطيب شفتيها وهي تبتلع ملوحة دموعها ثم همست له:

- كلامك حلو، مش وحش ولا حاجة.. بالعكس، مش مُزرية زي ما بتقول.. دي مثالية!..


ارتكزت الدموع على وجهه وهو ينظر لها بقلة حيلة، لا ينتظر رأيها بالخطاب ولا الرسالة، كل ما يُريده ولو تصريح من عسليتيها بأنها تغفر له ما اخفاه عنها، ولكن على ما يبدو أنها لن تفعلها بهذه السهولة التي تخيلها!!


ارتجفت شفتاه وهو يحاول صوغ سؤاله بتردد ونبرة خافتة:

- هو انتي.. بعد كل الكلام ده لسه ..


تلعثم وانعقد لسانه بينما قرأت هي فحميتيه المرتبكتين بسؤاله الذي لم يستطع النُطق به لتهمس له بإرهاق:

- سافر يا عمر.. سيبني افكر في الموضوع.. مش قولت إن من حقي احدد اللي عايزاه معاك؟ وريني فعلًا هتعمل اللي اقوله ولا لأ!


رمقها بتردد وحيرة.. لا يريد الإنصياع لما نصته بالإبتعاد.. أيام أخرى وجحيم مقيمٌ آخر؟ لماذا تفعل به ذلك؟ ألا تملك شفقة عليه بعد كل ما عرفته؟ أم أن ضعفه الذي ظهر لها دفعها لتكون بمثل هذه القسوة؟


استمع كلاهما لطرقاتٍ على باب غرفتيهما ليمسح كلاهما اثار الدموع المتبقية ثم حمحم مُستعيدًا نبرته التلقائية وتوجه ليرى من الطارق فإذا بها "هدى" التي وجدها أمامه لتخبره:

- استاذ يزيد والد حضرتك مستني تحت..


يُتبع..

ـــــــــــــــــــــ

* الأشعار: كتاب قيثارة حب ترجمة : علي كنعان - لأوفيد - ببليوس أوفيديوس ناسو..



الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الفصل الثامن