-->

الفصل السادس - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

الفصل السادس

النسخة العامية


السرد.. السرد.. وكمان مرة السرد علشان باجي اتسأل في تفاصيل كلها في السرد


ابتسم شاعرًا بالاستفزاز وهو يقرأ تلك الكلمات المدونة بخطها وعلى ما يبدو أنها كانت متعجلة للغاية بكتابتها لتزداد بداخله السخرية اكثر من فعلتها وقام بتفقد الصندوق ليجد بها الرسائل العشرة المقروءة، بعض رسائل لا تزال كما هي لم تقم بتمزيق غلافها بعد، ولكنه لم يجد المفتاح الذي أعطاه لها بلحظة من لحظات تهور عشقه الذي دفعه لفعل كل ما لا يؤمن به معها..


أغلق الصندوق ثم حمله وذهب للغرفة التي مكث به منذ قدومه ثم اخرج هاتفه من جيبه ليتفقد آخر تحركاتها ليعلم أنها منذ الصباح تمكث بمنزل ابنة خالتها، خرجت معها لمقهى قريب، ثم عادتا من جديد لنفس المنزل! هل تود أن تقضى بقية عمرها بهذا المنزل أم ماذا؟


ترك تساؤله الهاكم جانبًا وخرج إلي الشرفة وعينيه لا تتوقف عن الشرود بتلك المساحة الشاسعة من المزروعات الخضراء ثم أشعل سيجارة وهو ينتظر أن تقوم بالرد عليه فلقد جسم أمره بالتحدث إليها قبل أن تفعل هي!

- أيوة يا عمر!


آتته نبرتها الجامدة وكأن تصميمها على بقية كلماتها حقيقي حتى الثمالة لتلتوي شفتيه بإبتسامة هازئة ورد بلينٍ لا يُلاقي جفاء أسلوبها الذي اجابته به:

- وحشتيني يا قطتي!


لو لم تكن أمام ابنة خالتها وزوجها وابن خالتها تقسم انها كانت لتضحك بمنتهى الاستهجان وهي تسبه ولكنها قررت الاحتفاظ بجفائها معه لتجيبه قاصدة إحباط محاولته التافهة:

- مشكلة دي! هتحلها إزاي بقى؟


ضحك بخفوت من كلماتها لاذعة كلماتها وتمتم باستنكار:

- هي فعلا مشكلة مش عارف أخلص منها..


ابتسمت بتهكم ثم انتظرت حتى تبين سبب مهاتفته إياها لتستأذن من الجميع بإيماءة مقتضبة وذهبت بعيدًا حتى تحصل على بعض الخصوصية وهتفت به بنبرة مكتومة جادة:

- عايز ايه عمر؟


تنهد بعمقٍ ثم حدثها متسائلا بجدية:

- تقصدي ايه من الجواب إللي بعتيه؟


ضحكت بخفوت ثم اجابته خلال ضحكتها الهاكمة:

- احسن راجل بيكتب جوابات مش عارف قصدي إيه وبيستفسر كمان عن جوابي.. ده انا طلعت اشطر منك اهو.. بس خليني اوضحلك!


تريثت لبرهة قبل أن تتحول نبرتها الجدية التامة ثم حدثته بحزم:

- طلقني يا عمر!


همهم بتفهم ثم قام بنفث دخانه وعقب بنبرة خالية من أي مشاعر تُذكر:

- طلاق! تمام! بس شوفي هقولك حاجة..


سبحت عينيه بعيدًا وهي ينعكس بها تلك الخضرة التي بدت وكأنها لا نهائية وتحولت نبرته للجدية والصرامة ولكن لم يتخل عن هدوءه:

- اسمعي يا بنوتي وافهمي كلامي صح.. انا عارف إني المفروض كنت اقولك من زمان على كل حاجة.. والجوابات دي كلها كنت هديهالك كلها.. فإنك تعرفي إنك شبهها دي كانت هتيجي سواء دلوقتي أو بعدين!!


توقف عن الكلام ولم ير جبينها المُقطب من شدة ذهولها بفعل كلماته الواثقة وكأنه لم يُخطئ في حقها ووضع يده بجيبه بعد أن القى بقايا سيجارته بالمنفضة وتابع كلماته:

-أنا لسه قدامي كام يوم على ما ارجع.. فكري كده كويس اوي.. بس حطي في دماغك إن مفيش طلاق ومش هاسمح إني اطلقك، ومش هتكلم تاني في الموضوع ده، زي ما انتي عارفة honey، الكلام الزيادة عن اللزوم في حاجة بيخليها ماسخة وطعمها مش حلو!


اطلقت زفرة مُستنكرة من قوله الذي لا يستحق سوى الإستهزاء ولكنها تعي وتعلم أن هذا لن يوصلها لأمر معه، كما أن هذه ليست الطريقة المُثلى للتعامل بهذا الشأن، فلقد تحدثا كثيرًا، رآت دموعه وندمه وبكاؤه، استمعت لتبريراته الواهية، قرأت كلماته المنمقة البارعة، وكل هذا لا يدفعها لطريق الاقتناع، بل هذه المرة هي مصممة على فعلتها!


ابتلعت ونظفت حلقها بعد بُرهة استجمعت بها افكارها وكلمته بجدية لا تحتمل المُزاح مُشتقة من كلماته بندية:

- اسمع يا عمر، أنا فاهمة إنك بررت لي الموضوع ويمكن نيتك إنك كنت تعترف لي.. يمكن كنت مستني ومش عايز تقولي مراعاةً لمشاعري لو اكتشفت وعرفت، أنا فاهمة ده كويس.. بس يستحيل اقبل كوني مجرد نسخة طبق الأصل منها!


تنهدت بين كلماتها وهي تحاول أن تزيح خصلاتها للخلف وحدقت بالفراغ لتكتسي مُقلتيها بعبرات اليأس وكأنها تُعيد تذكر كل ما حدث بينهما وواصلت حديثها:

- يمكن أكون ساذجة، غبية، أو يمكن زيي زي أي بنت بحلم بالأحلام الوردية بأني أكون سعيدة مع جوزي اللي بيحبني واحبه، علشان كده، كل اللي مر ما بينا وخصوصًا بدايتنا الصعبة سوا حاولت اتغلب على كل اللي حصل، عملت نفسي نسيت، أو يمكن عملت هبلة وعبيطة.. علشان خاطر حبيتك وإن الحياة بتاعتنا تنجح وتكمل، إنما ابص لنفسي كل يوم واعرف إني شبه البنت اللي كنت بتحبها، يستحيل اقبل بكده!


هطلت دموعها لتلعن ضعفها آلاف المرات وهي لا ترى ولا تتذكر سوى ملامح "يُمنى" التي رأتها بالصورة وكذلك رؤيتها صباح اليوم ولكنها حاولت التغلب على نوبة البُكاء التي تُلح عليها لتبتلع ملوحتها بينما استشعر من أنفاسها ما تمر به وتركها كي تنتهي من كلماتها بأكملها ففعلت حين استطاعت:

- عمر أنا حبيتك بجد، بكل ما فيك، بس ده مش هاقدر استحمله.. طلقني ارجوك! لو كان في قلبك ذرة حب ليا، مش هاقولك الحب الاسطوري اللي بتسانده بالتاريخ والشعر زي ما بتكتبهولي.. طلقني.. اعمل اللي بطلبه منك ولو لمرة واحدة من غير ما تشتتني وتتكلم كتير وبالمناسبة أنا مش بكرهك أو زعلانة.. الفكرة إن أنت حياتك كده وده ماضيك وأنا مش هاقدر استحمل اكتر من كده.. صدقني اكتفيت اوي محاولات ووعود!


اشعل احدى سجائره من جديد ثم نفث من دخانه وضيق عينيه ناظرًا أمامه بلا وجهة محددة لفحميتيه المتفحصتين بتمعن في الكثير من احداث الماضي السحيق والقريب ثم تنهد بعمق وتكلم بنبرة عميقة متريثة اكتظت بالآمر لها:

- تمام.. بس عمومًا مش هايحصل، ومش هاتعملي اي حاجة ممكن تعصبني او تزعلني منك، ومش هاتبعدي يا روان! اتبسطي كده بالكام يوم اللي جايين، ريحي اعصابك من كل اللي حصل، وفكري آلف مرة أنا ممكن اعمل ايه واقدر على ايه..


وقعت بالذهول من كلماته التي تريث خلالها وهو ينفث بقايا دخانه وندمت اشد الندم أنها تحدثت له بطريقة لائقة ليستمع كلاهما إلي صوت مناديًا:

- روان، يالا بقى علشان احنا مستنينك علشان نتغدى سوا، المكالمة ابقي كمليها بعد الأكل وخلاص


احترقت دماءه بسعير غيرته من هذا الصوت الرجولي المنادي، وتمنى من كل طيات قلبه وعقله على حد سواء أن يكون هذا صوت زوج ابنة خالتها "راشد" وليس ابن خالتها اللعين بينما انهت هي حيرته واوقعته بمزيد من البراكين التي لا تخمد:

- خلاص قربت اخلص، بص يا يونس اتغدوا انتوا وأنا أول ما اخلص هاجي.. مش لازم تستنوني


سرعان ما تدخل صوته الآمر بسخرية لم تخل من اللذاعة والجفاء:

- سيبي البيت الزفت ده وارجعي على بيتك يا روان! ولا بيت بنت خالتك فيه اللي أنا مبقدرش اوفرهولك علشان تفضلي قاعدة عندهم طول اليوم!!


سرعان ما انهى المكالمة كي لا تتحول إلي شجار محتدم وشعر بداخله بأجيج الغضب آخذًا في التصاعد وندم اشد الندم أنه بيومٍ ما جعل من نفسه مجرد فتى ضعيف أمامها يومًا ما وتأتي هي اليوم لتسخر من كل محاولاته، ربما في النهاية النساء بأكملهن لا تفعلن سوى ما تريده كل واحدة منهن بطريقتها، ومن معرفته بزوجته العزيزة، هي لن تتوقف أبدًا عن التشبث بتحكمها، غاياتها ورغباتها، وعنادها وصلابة رأسها.. ولكنه سيعمل على اصلاح كل هذا فور عودته من هذا السفر اللعين الذي لا يدري ما سببه ولا ما فائدته به!

❈-❈-❈

مساءًا.. بعد مرور أسبوع ..

نفث تلك الادخنة وعينيه مُسلطتين حيث ذلك الملاذ القذر الذي كان يلوذ إليه فتيان هذه البلدة عندما يُريدوا معاقرة الممنوعات أو إلي مكانه تحديدًا الذي تبدل ليُصبح بقايا مزروعة من قطعة ارض بات يملكها والده.. لقد ابتاع الأرض من عائلة "خطاب" بعد مدة.. أليست هذه بصفعة شديدة القسوة لعائلة ذات عقلٍ متخلف لا تُفكر ولا تفعل إلا كل ما تُلزم به العادات المتعصبة؟!


امتعضت ملامحه بمرارة وهو يبتلع ليشعر وكأنه يتجرع علقم الماضي بأكمله لينعقدا حاجبيه بعنفٍ تلقائي لم يره ولم يشعر حتى به، عينيه وحدها تُحصي الخطوات.. يعلم أين تمامًا تبدلت حياته وهو يُقبل حذاء فتى لعين! يعلم ما معنى أن تُصاب بجروحٍ تُمزق جلده حتى يدمي.. يعلم ما شعور أن تكون اسفل كائن كريه وهو يُكيل لك اللكمات .. الأمر ممتع، اللذة تكمن به، ينتشي المرء وهو يفعلها، أن يكون قويًا وهو يقهر اعداءه.. نعم لقد جرب الأمر بنفسه ولكن، ما الذي ارتكبه طفل بالعاشرة من عُمره كي يتعرض لكل هذه الآلام المُبرحة؟


هل وصم باسم "الجندي" ولهذا الاسم وحده لم به الأذى لثلاثة أشهر؟ ما الخطأ الجسيم في أن ينتسب لهذه العائلة؟ وما لعنة هذا الحقير الذي يُقسم لو رآه أمامه الآن سيفتك به إلي أن يُحرر روحه لخالقها؟! يُعذب طفلًا بالعاشرة من عمره كل هذا العذاب؟


التمعت عينيه بالدموع المكتومة ثم تفحص هذه البُقعة من المزروعات التي لم تتضح ألوانها بهذا الظلام ولم ير سوى نفسه منذ ثلاثة وعشرون عامًا وهو مُلقى اسفل حذاء هذا الحقير، يستغيث بصراخٍ أن ينقذه أي أحد، اللعنة على قدرة تذكره لكل شيء وكل تفاصيل حياته، الأمر يبدو وكأنه حدث البارحة!


لم يكن خاضع، لم يكن ماسوشي، لم يكن يُحب الآلام وينتشي منها، بل كان مجرد طفل صغير، ما الذي اجرمه؟ ما سبب أن يكون هناك عداوة بين عائلتين؟ واللعنة، ليس هناك من يختار أبواه! وتبًا لقد كان ضعيفًا خائر القوى، لو كان استمع لوالده منذ أن كان صغيرًا لما كان رجل بالغ الآن يتجرع حنظل الماضي الذي لا يريد أن يتركه وشأنه!


استمع لخطوات خلفه وأحد يُناديه فحمحم وتخلص من تلك الدموع سريعًا وحاول أن يتخلص من ملامحه المُتأثرة التي عانقت واحدة من أسوأ لحظات ماضيه، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق!


التفت ليجد ابن عمه يقترب نحوه لينظر له محاولًا استدعاء التلقائية بينما اقترب منه "أنس" وحدثه متسائلًا:

- مش قاعد معانا ليه؟ انت لسه فيك العادة بتاعت القعاد لوحدك؟


ادعى العفوية وهو يقلب شفتاه واجابه باعتدال:

- عادي.. حسيت بملل وفكرت اتمشى شوية وادي اهو رجلي جابتني هنا..


ضيق ابن عمه عينيه نحوه متفحصًا إياه بينما حاول الاستتار خلف اشعاله احدى سجائره التي بات يُدخنها بشراهة بالأيام الأخيرة ونفث دخانها بصخبٍ ثم سأله متصنعًا التلقائية ببراعة:

- مبسوط إنك خلاص فُزت في الانتخابات واخيرا هتخلص من كل الدوشة دي؟؟


هز كتفيه واقترب نحوه ثم اجابه متنهدًا:

- ما قولتلك يا عمر، الموضوع ده مسئولية، خصوصًا إن دماغي غير دماغ أهلنا خالص.. ده يادوب لسه الدوشة هتبتدي!


أومأ إليه بتفهم ثم التهم المزيد من دخانه ليقترب منه اكثر ثم اردف متسائلًا:

- لسه منستش، مش كده؟


ادعى البلاهة وعدم المعرفة وحاول ألا يقترب أبدًا من الأمر حيث أن "أنس" هو اكثر من شهد من كل ابناء عمومته من كان "عمر الجندي" يومًا ما واجابه قائلًا:

- مش فاهمك تقصد ايه.. عمومًا، تعالى نرجع، كده كده أنا هرجع بكرة ودايمًا بحب احضر شنطي بنفسي.. كمان فيه شوية شغل لازم اتابعه!


سار بطريق العودة الذي بعد هذه السنوات بات اقرب بكثير مما كان عليه وهو طفل بالعاشرة من عمره لا يستطيع أن يتحمل هذه الخطوات اللعينة بكاحله الملتوي وقتها ولكن باغته "أنس" قائلًا بندم:

- صدقني وقتها مقدرتش اشيلك، أنا مكنش قصدي اسيبك لوحدك أبدًا!


التفت له وكأنه لا يفهم ما الذي يُرمي إليه والتزم الصمت كي لا يثير عقله بالخوض بالمزيد من الماضي ليستطرد "أنس" بآسف:

- عارف إن الموضوع مكنش سهل وأن عمي يزيد..


اشار له كي لا يُتابع وهو بالكاد كان يحاول الفرار مما لا ينساه أبدًا وقاطعه:

- انا نسيت اصلًا، الموضوع بقى مجرد حادثة يا أنس، سيبك بقى من الكلام ده!


فجعه بقوله الذي لم يتوقعه كتعقيب على ما لم يقتنع به:

- والدليل أنك بقالك واقف هنا وسرحان من اكتر من ساعة!


رمقه غير متوقعًا اصراره الشديد على التحدث بما حدث منذ ثلاثة وعشرون عامًا ليعقد حاجباه وتوقف كلاهما عن السير ليستطيع "أنس" رؤية الغضب جليًا على وجه ابن عمه وعينيه تلتمعا بشدة وكأنه بات عدوه في غضون ثانية واحدة فحدثه بمزيد من الندم ومصداقية تمنى لو واجهه بها منذ الكثير من الوقت:

- بص، من زمان وأنا حاسس بإن الموضوع ده حِمل على كتافي، وكأني كنت السبب في كل اللي حصلك.. مش قادر اخلص من احساسي بالذنب، كل ما كنت هنا صدفة أو عديت جنب نفس المستشفى بحس إني غلطت يومها.. بحاسب نفسي كتير اوي، لو كنت شيلتك، أو لو كنت استنيت معاك واستريحنا شوية وبعدين كملنا الطريق.. مش عارف.. بفكر اكتر من مرة في اي تصرف كنت ممكن لو عملته مكنتش انت اتأذيت ساعتها..


شاهده بتأهب شديد وقست عقدة حاجباه وهو يرى المصداقية على ملامحه بينما تابع:

- عارف أننا مش اصحاب، وعمرنا ما قربنا من بعض وبقينا زي الأخواتأو حتى القرايب ولا كنا مجرد معارف ولو بطريقة سطحية، بس أنا مصمم من زمان إن أول ما تيجي الفرصة لازم اعتذر لك.. او اعتبرني بطلب منك انك تسامحني على اللي عملته يومها! لو كنت فكرت بطريقة احسن وقتها مكونتش على الأقل عشت بنفس الذنب ده!


رطب "عمر" شفتاه مُبتلعًا وكاد أن يُجيبه ولكن هاتفه صدح بالرنين ليجد أن مساعده الشخصي يتصل به فأجابه برسمية:

- خير!


سلط تركيزه على ما سيقوله عله يحاول التخلص من تلك الذكريات البغيضة ومطالبة ابن عمه بالغفران الذي لا يستطيع منحه بسهولة بعد كل ما توالى عليه بسبب هذه الليلة المشؤومة بينما رد بلهجة آمرة:

- شوف ايه ده او اقراهولي!


أطبق اسنانه بغلٍ وهو لا يُصدق أنها فعلتها حقًا وفي غضون هذه الأيام القليلة، على ما يبدو أن هناك من يُساعدها بالأمر وتأخذه على محمل الجدية هذه المرة، فإخطار بحضوره إلي مكتب تسوية النزاعات الأُسرية بصفته زوج ترفع عليه زوجته دعوى خُلع كان آخر ما يتوقعه منها، وآخر ما ود إضافته إلي ذكرياته الكريهة بنفس المكان الذي لا يكره أكثر منه!

❈-❈-❈

بنفس الوقت..

وقفت أمام المرآة بغرفة الملابس ثم حدقت بتلك الزمردتين الزائفتين التي قامت بابتياعهما اليوم اثناء تسوقها وتمعنت بالنظر إلي نفسها لتبتلع بارتباك وهي ترى ملامحها اختلفت للغاية بمجرد تغير لون مُقلتيها ثم جمعت شعرها للخلف ووضعت فوقه وشاح جذبته لتعقده خافية به خصلاتها الطويلة ثم أخرجت ذلك الشعر المستعار أسود اللون الذي كان اقصر بكثير من خصلاتها البُنية وقامت بتثبيته ومن جديد حدقت بالمرآة مرة أخرى!


أهذا أكثر ما يحب يا تُرى؟ هل سيراها أفضل بهذه الهيئة والملامح التي تقارب بها "يُمنى" للغاية؟ هل سيشعر هكذا بالفخر لو حولها لامرأة أخرى تمامًا فاقدة كل ما تعرفه عن نفسها وتصبح مجرد نسخة طبق الأصل من حبيبته الخائنة؟!


أخرجت المزيد من تلك الحقائب ثم تناولت ثوبًا يُشابه طراز ملابسها التي استطاعت الآن التيقن منها عبر صورها المتواجدة على احدى مواقع التواصل الإجتماعي ثم قامت بإرتدائها ونظرت إلي نفسها من جديد، لا تستطيع سوى تخيل ملامحه وهو يراها تبدو توأمها بحق بعد هذه التعديلات البسيطة! سيُسر للغاية لو وقعت عينيه عليها الآن!


لوهلة سبحت شاردة ووقفت عسليتيها على هذا المعطف الذي وجدت به صورتها، لا يهم ما قاله عن ملامحها التي - كما قال عبر كلمات رائعة - تدفعه للقتل ويكرهها بشدة، لا يهم ما الذي يشعر به، ولا يهم ما رأيه بها ولا حتى مشاعره تجاهها، ماذا عنها هي؟!


هل من المفترض لفتاة عاشت لسنوات واثقة ثقة كُلية في فتنتها وملامحها وتلك الأناقة التي تجعل رؤوس الناس تلتفت متابعة لحُسنها، أن تتخلى الآن عن ما تثق به؟ هل عليها أن تتشبه بها أكثر حتى يكرهها؟ أم عليها أن تتخلى عن ملامحها بأكملها وتذهب لإجراء عملية تجميلية تُغير وجهها بأكمله خلالها كي تتخلص من كراهيتها لنفسها؟!


دون حديث، دون شجار ونزاع، دون افعلي ولا تفعلي، وهو بعيد مئات الكيلومترات عنها، وكل هذا الهواء حولها لتستنشق بحُرية منه كما يحلو لها، شعرت بالاختناق، الأسر، وبالطبع لعنتها التي تُلازمها منذ أن تزوجته، شعرت بالتشتت!!


لديه قُدرة لا يُنازعه بها مخلوق على دفع التشتت لسائر كيانها، وكأنه خُلق ليفعل هذا، وكأنه شيطان يوسوس بالتشتت.. وبالرغم من أنها اتخذت عشرات القرارات في غضون هذه الأيام المُنصرمة إلا أنها بداخلها تتيقن تمام اليقين أنها مُشتتة!


احتدمت كل مشاعرها بداخلها لتؤدي إلي السخط التام بعد الانكسار الذي يعصف بها منذ ذاك الوقت الذي اكتشفت به السبب المنطقي الوحيد لزواجهما، نعم ليس العشق ولا الحُسن ولا الفتنة ولا النجاح، فقط تشابه ملامحها لمجرد خائنة، أليس حقها أن تترك لمشاعر اليأس الساخطة أن تتحرر بدلًا من احتجازها بداخل قلبها الذي قارب على تهشيم ضلوعها ليترك كل ما به للخارج ليُحرره من أسره اللعين؟!


لم تُفد دعوى الخلع، لم تُفد جلسات العلاج، لم تُفد سيدة الأعمال الرسمية الذكية، ولم يُفد قضاء الوقت مع العائلة، وربما هي من تقوم بإصابة نفسها بهذا الضرر، لو كانت فعلت وتركت تلك المشاعر للتحرر لما كانت لتشعر الآن بهذه التخمة القاسية من الحُزن! على ما يبدو أن هذا هو الوقت المناسب كي تُحرر هذه الدموع لعلها تستطيع أن تُخفف عنها سبعة أيام قاسية من تماسكها وتشبثها بالقوة الواهية!


جلست على احدى المقاعد ثم القت بهذا الشعر المُستعار جانبًا ولا تدري حتى إلي أين ذهب، التفتت حولها وهي تحاول أن تجد بداخلها ذرة قوة متبقية، ولكنها لم تجد ذرة واحدة لتجعلها تتماسك لتسقط هاوية بنوبة بُكاء لم تدر متى انتهت!

❈-❈-❈

شعرت به بالأرجاء حولها، ربما هذه هي أنامله تلمسها لتستيقظ من نومها الذي على ما يبدو أنها سقطت به دون درايةً، يُحدقها بإبتسامة، وكأنه كان هُنا منذ مُدة يُشاهدها عندما غفت وكانت نائمة.. هل آتى حقًا؟ أليس من المفترض قدومه بعد أيام؟ أم غدًا.. ربما غدًا.. هذا ما تتذكره!


ارتجفت اثر شعورها بأنامله واستيقظت لتجد نفسها لا تزال بغرفة الملابس المُلحقة بغرفتهما، يبدو أنها انتحبت حتى سقطت في النوم.. ويبدو أنها قد غفت بتلك العدسات الملونة دون أن تزيلها، هل فعلت؟ هل سيُصيبها الأمر بضرر بعسليتيها؟!


اعتدلت بجلستها على هذا المقعد وهي تنظر له لتراه بوضوح أمام عينيها، هل يا تُرى تظهر اثار البُكاء عليها؟ ولماذا يبتسم لها بهذه الطريقة الغريبة؟

- وحشتيني يا بنوتي..


فركت عينيها وهي تشعر بالفزع من حقيقة تواجده من جديد بهذه السرعة، هل يا تُرى لديه علم عن طلبها للمساعدة من "يُمنى" بتوظيف واحدًا من المحامين كي يقوموا برفع دعوى الخلع من أجلها؟


حدقته وهي تنهض مبتلعة ثم ترددت سائلة:

- انت رجعت؟ جيت امتى؟


هز كتفيه كدلالة على عدم معرفته لتتعجب من اجابته بهذه الطريقة ثم حاولت الإبتعاد عنه لتذهب لخلع تلك العدسات الملونة ووضعتها بحافظتها لتجده يتبعها خلفها فلمحته خلال المرآة ثم هتفت به:

- ابعد عني .. مش عايزة اشوفك..


نظر له بلومٍ دفين واكتفى بالرد بإقتضاب وابتسامة ازعجتها بشدة:

- بس أنا مش قادر!


شعرت بدمائها تغلي بداخلها ثم التفتت لتصرخ بها:

- انت انسان مريض، استحملت كل ما فيك، وفي النهاية عايز تخليني مجرد صورة ونسخة منها، أنا شوفت يُمنى واتكلمت معاها، هي شبهي فعلًا، وكأننا توأم، وأنت كداب، مقولتليش بالحقيقة ... هطلقني يا عمر بمزاجك او غصب عنك.. دلوقتي ولا بعدين هتطلقني! ويكون في علمك أنا مش خايفة، ويُمنى هي اللي بتساعدني، وهخلص منك قريب!


نظر إليها بحزن وأمتلئت عينيه بالعبرات المكتومة حتى ظنت أنه سيبكي ولكن بطريقة غريبة ابتسم ابتسامة لأول مرة بحياتها تراها على شفتيه بين لحيته التي ازدادت كثافتها للغاية في غضون هذه الأيام التي سافر بها لدرجة جعلتها تبتلع ثم باغتها بصفعة قوية جعلتها تصرخ فزعًا..

❈-❈-❈


استيقظت من هذا الكابوس المُرعب لتجد نفسها قد غفت بالفعل بغرفة الملابس لتلعن غبائها الشديد، كيف حدث هذا دون أن تشعر بما تفعله؟ وكيف لم تخلع تلك العدسات ونامت بها؟ وهل هذا الكابوس حمل كل مخاوفها؟


بالطبع فعل، فلقد استعانت بمحامي لا تعرفه سوى "يُمنى" كي يُتابع دعوى الخلع، قرار غبي هي على يقين ن هذا، ولكن هذا بات الحل الوحيد أمامها كي تستطيع الفرار بنفسها من هذه الجحيم، لقد اختبرت الأمر مرة بالسابق وعرفت ما الذي يعنيه محامي ذو نفوذ مثله، بالطبع لو كانت ذهبت إلي أي محامٍ آخر كان سيعرض عليه الأمر أولًا.. كان لابد من الإتحاد مع العدو كي تنتصر بهذه الحرب الباردة!


نعم لم تُدلي بأي تفاصيل، ونعم لم تتحدث مع "يُمنى" سوى بكل ما قل ودل، ونعم هي ربما تشعر أنها انتصرت لو كانت تقصد أي خديعة لعينة، ولكنها بالرغم من كل هذا إلا أنها اكتفت من كثرة ماضيه ومصائبه التي لا تنتهي، هي فقط تريد الخلاص من كل شيء، من كل علاقتها به، وليُعينها القدر في التخلص من عشقه الذي على ما يبدو لن تتخلص منه عما قريب!


هي لا تكرهه، وتُقسم أنها ستبكي، ستشعر بإعتصار تلك العضلة اللعينة التي تضخ الدماء والعشق على حد سواء بقلبها، لن تخمد تلك النيران التي حولتها من فتاة ذات كبرياء إلي امرأة تعشق بجنون وسذاجة تحاول وتغفر وتسامح، الأمر ليس بهينٍ أن تتخلى عن عشق زوجها، ولكن خطوة بخطوة ستستطيع فعلها!


اتجهت لترقد اسفل الاغطية تجذبها عليها بشدة، لم تخلع ملابسها بعد، يكفي أنها تخلصت من الزمردتين الصناعيتين، هي لم تعتد بعد ارتدائهما، لماذا ارادت أن ترى نفسها اليوم وهي تشابهها؟


حاولت التوقف عن التفكير، ولم يعد لديها المقدرة على البُكاء مرة ثانية، فلقد بكت كثيرًا، ولقد تحدثت لإبنة خالتها وناقشت تلك المشاعر والافكار مع "مريم" ولقد قررت قرارها، لم يعد هناك مجالًا للتراجع بعد أن بدأت بهذه الإجراءات!


لم تلبث إلا عدة دقائق حتى سقطت في النوم من جديد بعد إنهاكها الشديد في زوبعتها العصفة التي تهب بها نحو الحزن تارة، وتتعرقل في ناطحات العشق آلاف المرات، ثم ترتطم بقسوة بأرض الواقع.. ومن ثم تنجرف برياح الماضي خاصته التي لا ملجأ ولا ملاذ منها، وفجأة تستمع لصوت والدتها وأخيها والعمل ينادوا جميعهم بها، ولقد أرهقت من كثرة التحمل! النوم قد يكون الحل الوحيد لتواجه به كل هذا..


الليلة استراحة من كل شيء، لا للتفكير، ولا للمزيد من المبالغة بالشعور أو النقيض، المبالغة بكبت المشاعر وحقائق مُعاناتها على حد سواء.. ولكن ربما كان لديه وجهة نظر أخرى، فلقد ترك لها ما يقارب من عشرة أيام لتستريح بهم كما يحلو لها.. ربما عليها التنبه بأن ما تفعله خاطئ للغاية، بحقه وبحقها، وبحق عشقهما الذي لا تُصدق به إلي الآن ولا تؤمن به!


تلمس وجنتها بأنامله بلمسات دافئة مُتأنية، لا يريديها أن تشعر بالفزع منه، على الأقل الآن واليوم، أو؛ بعد أن يحاول معها المحاولة الأخيرة!


شعرت بالفزع من تلك اللمسات لتظن أنها كانت ترى واحدًا من الأحلام المُزعجة.. ولكن يا ليت الأمر كان كذلك!!


امتدت يدها لضوء الفراش الجانبي ثم قامت بفتحه لتجده هو، بنفسه، بلحيته الكثيفة كما زارها بحلمها، ربما شعره يبدو اطول قليلًا، وملامحه مُرهقة، وابتسامته هي نفسها لتبتلع ونظرت له بتوجس، تتساءل بينها وبين نفسها لماذا عاد باكرًا، ربما قد علم بشأن دعوى الخلع التي قدمتها بالفعل، عينيه ينهمر منها الاشتياق الجلي، والعشق الذي ظنت، بسذاجتها المتناهية، أنه حقيقي!

لانت شفتاه من ابتسامته ليودعها ثم همس لها وهو يجلس على طرف الفراش بجانبها:

- وحشتيني يا بنوتي!

ازداد فزعها من قوله وتقهقرت للخلف وهي ترمقه متأهبة لأي حركة فُجائية قد يباغتها بها ونظرت له وهي لا تُصدق، هل ما حدث بالحلم سيُصبح حقيقة أم هي مجرد تخيلات من عقلها الذي قتله الشتات!


يُتبع ..



الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الفصل الثامن

الفصل التاسع