-->

الفصل الثالث - كما يحلو لكِ - النسخة العامية

 


الفصل الثالث

النسخة العامية

لقد تم تفعيل وضع الدمار الشامل على ما يبدو في يومه، زوجته التي يعشقها تكتشف أنها تُشبه حبيبته الخائنة، تعرف عنه الكثير من الماضي وهو يجلس أمامها كالطفل يُطالب بالغفران، وهو الذي كان يتهرب مما حدث بطفولته بتلك البلدة التي لا يكره مكان أكثر مما يكرهه والآن والده بالأسفل، بالطبع لقد حضر كي يعرف لماذا قرر عدم السفر بعد اتفاقهما؟!


يتبقى أن تحضر "يُمنى" و "عدي" والشيطان الثاني يُغادر سجنه وسيتحول الدمار إلي جحيم!! لماذا لم ينتحر عندما آتت له الفكرة بالسابق؟ الإجابة لأنه غبي!!


أومأ إلي مُربيتها بالتفهم ثم حدثها بإقتضابٍ ليقول:

- تمام.. شكرًا..


اغلق الباب دون ترك الفرصة لها للإستماع للمزيد من الكلمات التي لن تُفيد ثم التفت نحوها بملامح منزعجة ولكن لم تقرأ غضبه على ملامحه واقترب منها بينما اشاحت هي بنظرها عنه لتجده يتلمس اسفل ذقنها كي يرغمها على النظر له وتكلم بهدوء بالرغم من تلك الغمامة السوداء التي باتت تغلف كل ثنايا مخه برأسه وباتت تنذره هو نفسه بإقتراب سيل لن ينقطع سوى بعد شهور على ما يبدو وسيحدث عاصفة ستلتهم كل ما يُقابلها في طريقها:

- كلامنا لسه مخلصش، هانزل اشوفه واطلع نكمل كلامنا!!


حاولت التحكم بنظراتها الساخرة التي كادت أن تكسو كل ملامحها وردت مُعقبة بهدوء:

- خلاص يا عمر احنا خلصنا كل الكلام ومبقاش فيه حاجة تتقال اكتر من كده


رفع حاجباه بنظرة اعتراضية بينما تخلصت هي من لمسته ونهضت من فوق فراشهما واتجهت لغرفة الملابس من جديد فلحق بها ممسكًا بساعدها وارغمها على الإلتفات:

- اسمعي


حاوط وجهها بين كفيه لتلمح بدايات الغضب على ملامحه واشتدت نظرات فحميتيه اللتين كانتا منذ قليل باهتتين بسبب بُكاءه وثبتت مترقبة ما ود قوله وهي بداخلها قد فعلت وضع عدم استقبال المزيد من تُراهاته بينما آتى صوته تحذيريًا بحتًا:

- صرخي، وعيطي، واعملي كل اللي انتي عايزاه، قولي إني كداب واتخانقي معايا او حتى اتجنبيني، بس مفيش طلاق هيحصل ما بينا، الطلاق مش اختيار ومتفكريش أبدًا فيه!


تفقدته وهو يملي بتعليماته التي لن تنتهي أبدًا وكأنه يأمرها كيف عليها التصرف فاكتفت بالنظر له ببرود وارتفع احدى حاجباها برمقة اعتراضية لا توافق على ما يقوله لتشتد عقدة حاجباه وهو بداخله يئن آلمًا على كل هذا التوسل الذي لم يعد سواه يغادر شفتاه منذ أن عرفت بالأمر فأطبق أسنانه بعنفٍ حتى كاد يُهشمها وأكمل بنفس النبرة التحذيرية السابقة:

- مش هاتكلم ولا اسمعك بتجيبي سيرة الطلاق تاني!


حرقتها رمقاته وهو يُشاها بغيظٍ بينما عقدت ذراعيها وازداد ارتفاع حاجبها ولم تنبس ببنت شفة لتسمعه يُتمتم مطلقًا سُبابًا ثم اقترب منها وجذب وجهها له وقبلها بعمق فحاولت هي دفعه ولكنه لم يتركها سوى بعد احتياجه هو للأنفاس ليلمحها وهي ترمقه بغيظٍ وعسليتيها تصوب نحوه آلاف من خناجر الغضب التي يستطيع التعامل معها عكس كل ذلك البرود الذي سبقها ثم تكلم من بين لهاثه وهو يحاول استعادة وتيرة انفاسه المنتظمة:

-  متخليهاش تكون السبب في كل حاجة بتحصل في حياتي، كفايا اللي حصلي لكذا مرة بسببها يا روان!


لم يقل المزيد والتفت ليُغادر إلي الخارج فهو عليه مواجهة والده كي يستكمل المزيد من المواجهات معها وتابعته هي بعسليتيها إلي أن غاب عن مرمى بصرها واستعت لباب غرفتهما وهو يقوم بإغلاقه ورغمًا عنها لم تستطع أن تمنع نفسها من البُكاء على كل ما واجهته معه منذ صباح اليوم!!

❈-❈-❈

حاول أن يُجبر ابتسامة على وجهه ولكنه بات بالفشل لتختفي شفتيه كخط رفيع وهو يزم كلتاها بين لحيته وشاربه وكان يكفي والده هذه الملامح المضطربة لمعرفة أن هناك شيئًا يحدث لولده لا يعرفه هو:

- ازيك يا بابا عامل ايه؟


رحب به وهو يجبر شفتيه اللعينتين التي تأبى كلتاهما التحرك بينما سهل والده الأمر عليه وهو يرمقه بتفحص شديد وكأنه يجذب من مُقلتيه الحقيقة حتى لمت الآلام بقرنيتيه وكأنه ينزعهما نزعًا بعينيه التي تشابه فحميتيه هو نفسه:

- اهلًا يا عُمر.. اجلت السفر ليه النهاردة؟


رفع حاجباه بتلقائية وقلب شفتاه يمطهما بينما لاحظ الآخر أنه سيحيد عن الحقيقة وسيقوم بالكذب وانتظر سماع ما لديه:

- مفيش.. عندي قضية مهمة شغال عليها!


ربت والده على كتفه ليلمح الآخر بوجهه السخرية اللاذعة وكأنما علم بكذبه بالفعل! على من ظن أنه سيدعي؟ على الذي علمه كيف يتبين الصادق من الكاذب دون مجهود يُذكر؟! اللعنة على غبائه المستمر منذ بداية اليوم!

- ما تيجي نتمشى شوية.. الجو بقى احلى الأيام دي واحنا خلاص كلها شهر ومش هنلاقي زيه تاني لما الصيف يبدأ، مش كده ولا ايه رأيك؟


يتحدث عن الطقس! هذه مُقدمة ليست بجيدة وخصوصًا وهو يمزجها بتلك الابتسامة الواهنة واللمحة السريعة تلك يعرف أن كل ما بعدها لن يكون حميدًا!


قدم يده بأن يفعلها واتجه كلاهما للخارج ليتأكد أن ما سيقوله والده سيكون سخيفًا للغاية ولاذعًا بدرجة ستجعل ما بعقله يسوء أكثر حتى يوشك على الإنفجار ولذلك بحث عن الخصوصية لأنه يستحيل أن يقوم بالإستهزاء من ابنه البكر على مقربة من الجميع!


سار كلاهما بمحاذاة ليُشعل والده سيجاره الضخم الذي لا يُفارق يده والتفت له بتفحص وهو يتوقف بعد أن ابتعدا عن المنزل بمسافة مقبولة:

- ايه بقى القضية المهمة يا عمر؟ تحب تكلمني عنها شوية؟؟


زفر وابتسم بسخرية وهو يعرف جيدًا حلقة الإستجواب تلك فأجابه سائلًا:

- عايز توصل لإيه يا بابا؟


انعكست على شفتي والده ابتسامة مماثلة كالتي سخر بها منذ قليل وأردف مغمغمًا بإعجاب:

- حقيقي ببقى فخور بيك وانت شبهي!


استنشق من سيجاره الضخم ثم نفث دخانه وكلاهما تنحيا عن السخرية ونظر لبعضهما البعض بندية وغُلفت ملامحهما بالجدية، فالقول الذي سيصدر عن أي منهما سيكون بمثابة المواجهة الفعلية بعد هذه المقدمات التي لم تُفد أي منهما وقد كان قول والده مباشرًا صريحًا بمنتصف فحميتيه تمامًا ليجعلها تشتعل بمزيد من الإنزعاج الذي يحاول أن يتجنبه منذ صباح اليوم:

- أنت من ساعة قضيتك للبنت اللي اتجوزتها دي وانت ممسكتش ولا قضية!


واضح للغاية أنه السيد "يزيد الجندي" ترك كل ما لديه من قضايا ليتابع ما يدور بحياته كالمرصاد:

- أنا واخدها واحدة واحدة.. كفاية اوي القضايا اللي مسكتها زمان!


انقشعت ابتسامته الملتوية لأحدى جوانب وجهه وهو يتفحصه بعينيه هاكمًا من قول ابنه ثم اضاف متعحبًا:

- واحدة واحدة وانت عندك تلاتة وتلاتين سنة... مش شايف إن المعاش المبكر اللي اديته لنفسك ده بدري اوي على شاب في سنك؟


زفر بعمقٍ شديد ثم سأله مباشرةً:

- عايز ايه مني يا بابا؟


رفع حاجباه وهو يأخذ خطوة متراجعًا للخلف كعلامة استسلام واجابه بإبتسامة مستفزة:

- عايز اتفرج على ابني والكل شايفه محامي شاطر ومجتهد والكل بيعملك ألف حساب... مش وانت مجرد موظف إداري زيه زي اللي بيدير شغله بشوية امضاءات وبيقضي وقته في البيت زي الستات!


تسمر بمكانه لتوجيه والده هذا الإتهام له صراحةً واستعرت فحميتيه بالغضب بينما وجده يُضيف:

- ده بالظبط اللي بتعمله البنت اللي انت اتجوزتها، بتباشر شغلها كله من البيت، وتروح شغلها مرة ولا اتنين في الأسبوع، وانت بقيت زيها، مش كده؟


جيد للغاية، هو يخبره بإستتار أن ما يفعله من شيم النساء، ومثله مثل الزوجة الأنثى التي يتبقى لها أن تقوم بصنع الطعام والتزين لزوجها عن قدومه بعد يوم عمل شاق!!


اكشر أخيرًا والده عن غضبه الحقيقي من تأجيل السفر الذي تم بالطبع بسببه هو نفسه وحدثه مُحذرًا:

- انا مش هارجع في كلمتي قصاد حد بسببك، قدامك يوم واحد يا عمر تخلص فيه اللي انت عايزه...  بكرة في نفس الوقت هنسافر.. كل اخواتي مستنين حضوري أنا وأنت ... وأنا كلمتي الكل بيسمعها وبيعملها الف حساب، مش هتوقع من الراجل اللي ربيته أن يحافظ على كلمتي قدام الكل وعلى صورتي غير انه يسمعها... وكفاية أننا اتأخرنا عليهم يوم!


رمقه بغضب يمزق فحميتيه احتراقًا والتفت والده للمغادرة فناداه:

- استنى يا بـ..


نظر له مرة اخرى وقاطعه بتحديجه بنظرات تصرخ بالجفاء والقسوة ماثلت خاصته هو نفسه:

- مبقاش فيه فايدة من كتر الكلام زي النسوان اللي لا بيقدم ولا بيأخر، وبرضو مفيش فايدة من تهربك من البلد يا عمر... اللي حصلك عدا عليه اكتر من عشرين سنة وراجل زيك في سنك ده، وبشخصيتك اللي الكل يعرفها هتقدر تستحمل اي حاجة! خليك راجل زي ما ربيتك وبطل تخيب املي فيك!


ازداد تيبس جسده وانعقد لسانه وهو يعرف تمامًا إلي ماذا يُرمي، عن تلك الحادثة وهو طفل صغير، عن الثلاث أشهر وهو بمفرده، عن تلك الليلة اللعينة التي غيرته بالكامل وجعلته كدرع بشري أمام الجميع، ولكنه لن يقف دون مواجهة تُذكر حتى لو التفت وتركه من جديد وهو يغادره!

ذهب خلفه بخطواتٍ واسعة قبل أن يدخل سيارته التي كانت في انتظاره بصحبة السائق بينما قطعت عليه الطريق "روان" التي تحركت بخطواتٍ مهرولة نحو والده كغزال رشيق جعلته يتسمر ويتفقدها اكثر ليرآها قد بدلت ملابسها وعكصت شعرها للخلف بفوضوية وهتفت بوالده منادية بإبتسامة عذبة:

- انكل يزيد..

 

توقف والتفت لها بإبتسامة لم تلمس عينيه بينما وقف "عمر" كذلك وهو يتابع ما سيحدث بينهما حيث أن تلك الإبتسامة المغتاظة المُحتقرة على وجه والده التي بالطبع لن تفهمها "روان" ليحاول الإقتراب اكثر بخطوات حذرة كي يستمع لما يدور:

- ماشي بسرعة كده ليه، ملحقناش نقعد مع حضرتك.. خليك حتى معانا لغاية وقت الغدا ونتغدا سوا وممكن كمان اكلم عنود وعدي وطنط ونقضي اليوم سوا، احنا مبنقعدش مع حضرتك خالص


ابتسمت له بعد أن تصافحا بينما التفت له والده بنظراتٍ مستهجنة واعاد نظره لها بنفس الإبتسامة الدبلوماسية التي تحمل الإعتراض والسخرية بطياتها وحدثها قائلًا:

- زي ما انتي عارفة عمر اجل السفر علشان مشغول، فرصة كويسة اشتغل انا كمان اكتر، زي ما انتي عارفة بقى المحامي الشاطر مبيبطلش قضايا مهمة وصعبة..


توقف لبرهة ورمق "عمر" بنظرة علم جيدًا أنه يسخر منه خلالها ثم واصل حديثه:

- اظنك ابتديتي تتعودي خلاص، جوازك من محامي ناجح مثال على ده، واظنك ملاحظة هو بيتعب في شغله قد ايه!!


القى بذلك اللغم فيما بينهما منتظر من سيطأ بقدمه عليه أولًا بينما اتسعت ابتسامته ليودعها:

- هاجيلكم تاني اكيد، ونخلي الغدا مرة تانية.. سلام!


قامت هي الأخرى بتوديعه وهي تستغرب للغاية من رسميته الشديدة وذلك الفتور الذي عاملها به ولكن سرعان ما تراجعت بينها وبين نفسها، فلو كان ابنه نفسه كان بمثل هذه الفظاظة في يومٍ من الأيام، لم عليها أن تستغرب الأمر الآن؟


التفتت نحوه ليقترب منها بنظراتٍ تحمل الإعتذار وهو يتفقدها بتفحص وهي غارقة بهذا اللون الأحمر الغناء الذي وكأنه ينعكس على ملامحها ليُغرقها بالمزيد من الفتنة والمثالية التي تجعل عسليتيها كشمسين تفتق بهذا الشفق الدامي وكلتاهما تقبلاه بحُزنٍ دفين بينهما:

- روان، مكنش لازم  تقابليه.. المرة الجاية خليـ..


قاطعته بتنهيدة وعينيها تُكيل له اللوم الصامت:

-  من باب الذوق اللي عملته مش اكتر، ضيف ووالد جوزي، وفي بيتي، لازم استقبله بطريقة كويسة..


رمقته لمرة اخيرة وقرأ بعينيها أنها لا تزال متشبثة بما قالته صباح اليوم ثم استطردت:

- عمومًا أنا يادوب الحق ابدأ شغلي وانا عمالة اضيع وقت كتير من الصبح، حتى مش هالحق اروح الشركة.. باي..


اضاعت وقتها!! حقًا؟! هذا ما تشعر به! جيد للغاية.. اكتفى برمقها وهي تتوجه لداخل المنزل الذي رمقه من الخارج بتشتت وهو يتسائل بداخل نفسه، هل لهذا المنزل العظيم الإستمرار أم سينتهي به الحال ليُصبح ركامًا في يوم من الأيام؟

- إما أن تستمر إلى النهاية أو لا تحاول على الإطلاق.. نسيت أوفيد قال ايه؟!


لعن آلاف المرات بداخله، هو ليس مستعدًا للتحدث لهذا الصوت الذي بات يجعله يكره نفسه ويكره حياته بأكملها ولم يكن عليه سوى أن يتجاهله تمامًا ليجده يحثه ناصحًا مرة اخرى:

- سيبها براحتها، بلاش خناق معاها.. خليها تحس انها هي المتحكمة في كل حاجة علشان متجيش على كرامتها اكتر من كده.. كفاية بقى اللي عملته لغاية دلوقتي يا عمر.. أنا وأنت عارفين كويس انها بتحبك.. سيبها تختار بنفسها، ولو اجبرتها مش هتلاقي منها غير الرفض وانا وانت فاهمينها كويس!


لوهلة شعر وكأن هذا هو الحل المناسب، لقد قام بإجبارها قبلًا وتوابع فعلته ظل يعاني منها لكثير من الوقت معها.. ربما ليس لديه حلًا آخر سوى الإنصات ولو لبعض الوقت لصوت افكاره الذي لا يتوقف عن ازعاجه ولا يأتي سوى بأحلك لحظات حياته!

❈-❈-❈

مساءًا نفس اليوم..

ظل يُتابعها بفحميتيه وهي جالسة تعمل، تقود كل من تتحدث معه بمنتهى الاحترافية، تُلقي بالآوامر هنا وهناك، افعل ولا تفعل، رابضًا بركنه لا يتحرك، منتظرًا تلك اللحظة المناسبة للإنقضاض فلقد سأم تجاهلها اياه وتعاملها مع الجميع وبكل شيء في نفس الوقت وكأنها ولدت لتصنع آلاف الأشياء بنفس الوقت وبنفس مقدار الحيوية والنشاط من الوهلة الأولى حتى بعد تطاير كل هذه الساعات!


بدأ الغضب بداخله يصل لأعلى درجات اشتعاله، كان يتصور الكثير من المشاهد سوى أنه جالس بركن ينتظر غفرانها، ولكنه لم يكن يعلم أن هذا هو الحل الوحيد أمامها حتى تستطيع الفرار من الإنهيار الحتمي الذي يلوح بداخلها وكلما اقتربت من هذه البؤرة سرعان ما حاولت أن تنتشل نفسها من التفكير بأنها مجرد بديلة لإمرأة أخرى.. إمرأة خائنة!!


فجأة لاحظ كيف تضع يدها على عينيها تحجبهما في يأسٍ عما يبدو اخبارًا ليست بجيدة وقبل أن تُعطيه الفرصة للنهوض والسؤال عما تمر به وجدها تتحدث إلي مساعدتها الشخصية:

- هو احنا لازم نبدل الـ laptops دي الشهر ده؟


نهض ليقترب نحوها بينما وجدها تتابع الحديث بتنهيدة تجلى الإرهاق خلالها:

- لا لا.. بلاش، سيبيلي الموضوع وملهاش لازمة إدارة المشتريات تدخل وتعمل comission (عمولة) على حسابنا.. أنا اعرف حد هيديني سعر احسن.. ايوة هو، هاشووووف كده هاعمل ايه، باي..


اقترب نحوها وهي تحدق بشاشة هاتفها تستخرج بها شيئًا ما وتلمس كتفها لترفع عينيها له وحدثته بإستياء قبل أن يتحدث هو:

- قولتلك سيبني يا عمر، ورايا حاجات كتيرة جدًا.. ولا، مش هتكلم ولا هنتكلم وخلاص خلصنا كلام في الموضوع ده وايوة لسه بفكر ومحتاجة وقتي لو سمحت!


تفاجئ من ردة فعلها بينما نهضت هي وابتعدت مستندة بيدها بمنتصف ظهرها ووضعت الهاتف على اذنها وأخذت تتجول بغرفة المكتب اسفل عينيه التي اشتعلت بالغضب ولم تمر سوى لحظات حتى قام الطرف الآخر بالرد عليها ليجدها تبتسم ابتسامة غريبة للغاية عليها ولأول مرة يراها تعتلي ثغرها ثم انصت جيدًا لما ستقوله:

- ايوة ايوة، أنا بنت الخالة الشريرة اللي مش بتكلمك غير لما بتعوز منك حاجة.. بس بجد عامل ايه؟


حسنًا.. هذه المُكالمة لم تلق اعجابه وازادته غضبًا على غضبٍ بعد تخمينه إلي من تتحدث، أليس هذا هو نفسه ابنة خالتها الذي قام بعرض الزواج عليها:

- معاك حق، وأنا تمام، والجواز الحمد لله كويس.. وهادخل في الموضوع على طول!!


تنهدت وهي تزم شفتاها وتابعت:

- عايزة كمية laptops مهولة بسبب موضوع تغيير الإصدار الأخير من windows ومحتجاها الشهر ده، أنت عارف ده هيكلفن قد ايه.. علشان كده بعدته خالص عن إدارة المشتريات، وانت اللي هتقدر تستوردلي الكمية دي كلها، وبسعر كويس جدًا محلمش بيه.. قولت ايه؟!!


تريثت لبرهة واعينها ترمق الأرضية بتركيز ولم تر تلك الأعين التي كادت أن تفتك بها وذهب ليجلس على احدى المقاعد وهو يتابعها ببرودٍ شديد بينما اندفعت هي لحاسوبها وأخذت تفعل شيئًا لم يتعد ثوانٍ ثم صاحت بهاتفها:

- لا يا يونس!! أنت اكيد بتهزر! الاسعار دي متنفعنيش خالص! ده أنا لو طلبت من إدارة المشتريات بيان اسعار هيجبولي اسعار اقل من دي!


لاحظ مدى جديتها، وانها فقط تتحدث بشأن العمل ليس إلا ولكن لا يزال ناقمًا على المكالمة، وعليه، وعليها، وعلى حظه العسر الذي يجعله جالسًا كالشبل الوديع لا يستطيع أن يزأر في عرينه بسبب ما حدث بينهما صباحًا:

- لا، لا يا يونس لأ!!، ده انا المفروض كنت اكلم يارا الأول بقى علشان تعرف تتصرف معاك وتخليك تجيبلي اللي انا عايزاه!


صدحت ضحكتها فجأة واستمع لتردد صدى ضحكة هذا الكريه تنطلق من هاتفها لتحتدم دمائه بالمزيد من الإشتعال ثم استمع لها وهي تقول:

- الكمية مش هتكون أقل من آلف .. بس بالسعر يستحيل اقبل العرض خالص..


تنهدت ثم اختلفت ملامحها وعادت من جديد للجدية ثم قالت:

- اوك هستنى الـ offer اللي هتبعتهولي، بس يا ريت تشيل السعر الفلكي ده ومتحلمش اني اقراه في الايميل بتاعي!


ضيقت ما بين حاجبيها وازداد صمتها وملامحها تتهلل شيئًا فشيئًا ثم تحدثت بإبتسامة:

- بجد!! مقالتليش خالص.. ده انا لازم اباركلها بنفسي..


التفتت ثم نظرت إليه مباشرة وهو جالس يحاول أن يتحكم بتلك النيران السارية بجسده بينما رأى التردد بعسليتيها واكملت مكالمتها:

- مش عارفة، هو بيجهز للسفر علشان مسافر، عنده شغل اه، بس انا هكون فاضية الويك اند ده!


هنا لم يحتمل واتجه نحوها بملامح عكست غليان دمائه المتقدة بينما تابعت هي الحديث:

- ولما يرجع ممكن طبعًا تقابله.. بعد اسبوعين اعتقد.. أوك، تفقنا.. سلملي عليهم، باي!


انهت مكالمتها ثم التفتت لتعود نحو مقعدها لتُكمل عملها ليوقفها بقبضة فولاذية لترفع هي عينيها نحوه بغيظٍ متقد وغضبٍ مماثل لغضبه وقبل أن تبادر بالكلام فعل هو:

- أنتي قاصدة تستفزيني مش كده!! خدي بالك الحركات دي مش في صفي ولا في صفك دلوقتي بالذات يا روان!


زفرت وهي تقلب عينيها ثم حدثته بنبرة مستفزة:

- انت فاكرني اني بكلم إبن خالتي اللي طلب مني الجواز علشان اضايقك واستفز غيرتك العميا، كرد فعل يعنيعلى حقيقة أنك خبيت عني التشابه بيني وبين حبيبتك اللي فضلت تحبها سبع سنين! لا مش انا اللي تعمل كده!


التفتت رأسها مشيرة إلي حاسوبها ثم عادت لترمقه بإحتقارٍ وحدثته قائلة:

- ما تروح تشوف الايميل اللي على الابتوب اللي فيه طلب تبديل الـ laptops القديمة علشان الاصدارات الجديدة هتأجل الإجراءات مع العملا، روح واتأكد اني مش عاملة كل ده علشان اضايقك واعصبك.. مش انا اللي تقعد بالأيام والليالي تجهز في كلام حلو اوي واكتبه علشان بعدها اخليك تغير!


لانت قبضته على ذراعها بينما اقتلعت ساعدها منه وتوجهت لتتفقد ما الذي يتبقى من عملها فلقد مزقها الإرهاق والتفكير على حد سواء بينما اشتد غضبه واقترب نحوها وحدثها بإنزعاج:

- روان، بلاش تكبري المواضيع، انتي من الصبح و..


رفعت نظرها له وقاطعته غير متقبلة للهراء الذي يغادر شفتاه:

- اكبر المواضيع! بكبر مواضيع ايه يا عمر؟


نهضت لتواجهه وهو يأبى تركها وشأنها منذ صباح اليوم حتى شعرت بشدة اختناقها منه وعقدت ذراعيها بتحفزٍ لتقول:

- بكبر المواضيع في اني بحاول من الصبح افكر في إنك خبيت عني اكتر من خمس شهور الحقيقة، من ساعة ما شوفتني وعرفتني، من يوم ما طلبت مني الجواز، واللي اجبرتني عليه بالمناسبة، مضايق اني بفكر في انك خبيت عليا إني شبهها وشايفني مكبرة المواضيع!


اعادت شعرها للخلف وهي تومأ بالإنكار غير مُصدقة ما يقوله وقبل أن يتحدث انتزعت هي منه مجرى هذا الشجار:

- كل اللي طلبته هو تسيبلي وقت علشان افكر، ده مش تكبير للمواضيع، دي الطريقة الاحسن لحل المشاكل كأي اتنين متجوزين ناضجين عندهم شوية عقل وحبة تفاهم! يوم قصاد خمس شهور مش قليل شوية؟!


اشاحت بنظرها عنه وسلطت نظرها للأرضية ثم خفتت نبرتها وهي تواصل:

- لو واجهتك على دلوقتي على اللي عرفته الصبح، وعلى كل اللي سمعته منك، مش هارضى غير بالطلاق كحل نهائي يخلصني منك أنت وحياتك وماضيك..


ابتلعت لوهلة ثم رفعت عينيها التي احتجبت خلف عبراتها المتكومة وهمست له بصوتٍ يناضل الدموع المالحة:

- واياك تستغل الحب اللي بيني وبينك في الموضوع ده، وخد بالك ان على قد الحب على قد الصدمة عمر!


اتجهت سريعًا لتحمل حاسوبها كي تغادر غرفة المكتب الماكث بها بينما ناداها:

- استني يا روان


لم تستجب لندائه بينما اكملت الطريق نحو الباب وتوقفت من تلقاء نفسها وحدثته بصوت مسموع يغالبه النحيب:

- بالمناسبة،  يونس كان بيعزمنا أنا وأنت ومامي وبسام على الغدا مع اخته وجوزها راشد.. بس انت هتسافر.. وضيف لمعلوماتك اني مش عايزاك معايا في نفس الأوضة الليلادي.. حاول تخلص وتسافر وتبعد!


تركته ودموعها تنهمر لتجففها سريعًا كي لا يراها أحد بالمنزل ليزفر هو وخلل شعره بغضب وبالرغم من قدرته على فعل الكثير ولكن هذه المرة فقط سيتركها لفعل ما تشاء بعد أن صفعته بالكثير من الحقائق التي يود أن يهرب منها.. سيُسافر إذن، ليس لديه حل آخر.. ربما كان يتمنى أن يُقضي وقته بعيدًا عن كل ما يحتويه الماضي بتفاصيله ولكن يبدو وأن هذا هو الحل الوحيد أمامه الآن!

توجه بخطواتٍ متعجلة دون حتى أن يرى أين هي بعد أن احبطت جميع محاولاته بالصلح أو حتى الحديث واتجه فورًا نحو غرفتهما ليُمسك بحقيبة سفره التي قاما بإعدادها سويًا منذ ساعات ثم غادر بسرعة، دون وداع، ودون المزيد من الحديث الذي لن يُفيد!

يُتبع ..



الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الفصل الثامن

الفصل التاسع