الفصل الأول - كما يحلو لكِ - النسخة العامية
الفصل الأول
النسخة العامية
لعن بداخل نفسه آلاف المرات على حظه العثر الذي لا يريد أن يتغير طوال حياته، لا يدري لماذا عليها أن تعرف هذا الأمر الآن؟ وهذا المعطف، يقسم أنه قد نسي امتلاكه، كيف آتت صورة تلك اللعينة بجيب معطفه!! ولماذا اليوم تحديدًا؟ هو بالكاد يُصدق انهما اصبحا بخيرٍ وكان مترددًا بشأن اخبارها، لهذا لم يكن يريد أن يُرسل لها بقية رسائله خوفًا من ردة فعلها! كان كل ما يقصده هو أن يحظيا ببعض الهدوء ليس إلا!
رمقت الصورة مُجددًا بتعجب ولكنه قرأ الهلع بعينيها عندما رفعت رأسها لتنظر له وسرعان ما امتزج خوفها بخيبة أملها ثم كررت سؤالها من جديد بصوتٍ مرتجف:
- مين دي يا عمر؟
اقترب نحوها آخذًا خطوة واحدة لتصرخ به:
- متقربش مني ومش هتقرب قبل ما تقولي مين دي!
زفر بضيقٍ ثم اجابها بإقتضاب وفحميتيه يتفحصاها في ثباتٍ خافيًا كل ما شعر به خلف ملامحه التي كساها الجمود:
- يُمنى..
زفرت بخفوت بصوتٍ مصاحب للإندهاش ثم حدقت بالصورة مرة أخرى بمنتهى الصدمة وبعدها رفعت نظرها نحوه وهي تزم شفتيها والخذلان يكسو ملامحها وأومأت له بالموافقة ثم همست بخفوت:
- كده انا فهمت.. كل حاجة بقت واضحة اوي!
توجه ليقترب منها لتصيح به بغضب:
- اياك! متقربش مني بعد النهاردة!
بدأت في خلع معطفه بتحركاتٍ سريعة وسرعان ما تحول الخذلان لملامحح متقززة غاضبة ليقترب منها غير مُكترثًا بما قالته لتوقفه صارخة من جديد وهي تُلقي المعطف وكذلك صورتها بإتجاهه:
- قلتلك متقربش وسيبني في حالي..
التقطهما بتلقائية بينما دخلت هي لغرفة الملابس ليتبعها ورآها تشرع بتبديل ثيابها فحدثها بنبرة مُعتدلة وهو يضع المعطف جانبًا:
- روان استني، خلينا نتكلم..
التفتت له بأعين متسعة وهي تستهجن من قوله:
- نتكلم! ما كان قدامك خمس شهور بطولهم من ساعة ما شوفتني واجبرتني على الجواز ومحاولات كتير واحنا بنفتح مليون صفحة جديدة ونقاشات اكتر ومخطرش عللى بالك ولو مرة واحدة أنك تقولي اني شبهها!
رمقته بإحتقار ثم استطردت:
- كان نفسي اسامح زي كل مرة بس انت اتأخرت اوي!
التفتت من جديد وهي تباشر تبديلها لثيابها بينما كلمها بنبرة مُعتدلة مرة أخرى:
- كنت هاقولك، أنا قولتلك فعلًا
استدارت مرة اخرى وعينيها تتسع من هول ما استمعت له ثم كادت أن تصيح بالكثير ولكنها تراجعت لتكتفي بإعطائه ابتسامة مستهزءة واكتفت بكلماتها المقتضبة:
- قول اللي تقوله، مبقتش فارقة خلاص انت كنت وهتفضل في عيني راجل كداب!
عقد حاجباه بإنزعاجٍ من قولها وتوجه ليقترب منها بينما لم تكترث هي لتواجده واكملت تبديل ملابسها لتشعر بيده تُمسك بذراعها فالتفتت له صارخة:
- قلتلك تبعد، ايه الصعب في كلامي!
تفقدها ببعض الحيرة وقال بتردد:
- احنا مش اتفقنا اننا هنتعامل بصراحة وهدوء من غير عصبية واتفقنا نتعامل بود واحترام سوا! اديني فرصة واسمعيني يا روان!
كادت أن تنفجر بصراخٍ قد يرج هذا المنزل ويدمدمه على كل من فيه من شدة صراخها، هل هو من جديد يستخدم كلماتها ضدها وهي في هذه اللحظة تشعر بغليان دمائها بعروقها من كثرة استفزازه لها فتريثت مُفكرة وهي تُمسك بلسانها ألا يتفلت ولكنها حاولت أن تكون ذكية بتعقيبها عليه:
- إنك تحترم قراري برغبتي في اني مش عايزة اكلمك ولا اقرب منك هي دي قمة الإحترام، وانا مش شايفة منك اي حاجة تدل على الاحترام ده! ده طبعًا موضوع، وموضوع إنك خبيت عليا إني شبهها موضوع تاني خالص! فأرجوك بلاش كلام عن الهدوء والإحترام دلوقتي!
تنهد وهو يبتعد رافعًا يداه بإستسلام ثم حدثها بهدوء:
- تمام.. هاسيبك تهدي وبعدها هنتكلم، ومش هاقرب منك زي ما انتي عايزة
تفقدته بملامح غاضبة لوهلة ثم عادت من جديد لتُكمل ارتداء ملابسها بينما استمعت لصوته وهو يقول:
- بس مش هتطلعي من الأوضة دي غير لما نتكلم في كل حاجة
اغمضت عينيها وهي تزفر كل انفاسها التي تحرق صدرها من كثرة الغضب والتفتت له لتقول بغيظٍ وهي تحاول أن تتحكم بنبرة صوتها كي لا ترتفع وتصيبها بالمزيد من الغضب:
- هو مش انت كنت هتسافر.. روح بقى شوف سفرك وسيبني في حالي وامشي ولا ممشيش أنا حرة!
ترددت عينيه بملامحها وهو يُحدق بها ثم اردف بهدوء:
- مش هامشي غير لما نتكلم وتعرفي كل حاجة!
خللت خصلات شعرها ويديها تتثبت فوق رأسها وهي تشعر أنها ستفقد عقلها من كثرة الغضب الجم بينما وجدته يتفحصها وكأن عينيه لا تنوي مغادرتها أبدًا وتتمنى لو انها تستطيع الصراخ ففعلت وصرخت بصرخة مكتومة وجسدها بأكمله ينتفض كحركة اعتراضية ثم تركت غرفة الملابس واتجهت للخارج مما دفعه للإبتسام على ما رآه!
تبعها سريعًا وهو يحاول نسيان حركتها تلك ليجدها تغادر لتقف بالشرفة المُلحقة بغرفتهما بينما توجه سريعًا لهاتفه وقام بإرسال رسالة صوتية إلي والده مُكتفيًا بقول أنه سيتأخر يومان لوجود بعض العمل الذي لا يستطيع السفر قبل إنهائه وتوجه ليقف بالقرب من الشرفة قاصدًا أن تستمع لحديثه فهو يستحيل ألا يستخدم كل ما لديه من دلائل حتى يُثبت لها أنه لم يكن يقصد أن يُخفي عليها الأمر:
- ممكن تطلعي يا هدى .. ايوة في اوضتنا.. شكرًا
التفتت بعد ما سمعته منه بينما هو اغلق هاتفه تمامًا لأنه يعلم جيدًا أن والده لن يكتفي برسالته وسيريد أن يتحدث معه وسيعترض على تأجيله لسفره واكتفى بمتابعة عينيها المُندهشتان بهدوء لتسأله بإستنكار:
- انت بتعمل ايه بالظبط؟!
هي حقًا لا تصدق مدى سخفه واستهانته بالأمر، لقد تحملت اكثر مما قد يستطيع عقلها تصديقه بل وتخيله، لقد عانت من أجل أن تستمر معه في هذا الزواج، ولكن تأتي في النهاية لتكتشف أنه كان يفعل كل ذلك منذ أن رآها لأنها فقط تشبهها وها هو يتعامل مع الأمر وكأنها قد عرفت أمرًا تافهًا.. حسنًا.. هو لا يشعر بما يدور بداخلها ولا بعقلها، هو يظن لأنها تحملت الكثير ستتحمل كذلك حقيقة أنها تُشبهها، ربما عليه التيقن أن هذا الأمر، وهذه المرة، لن تمر مرور الكرام!
اكتفى بمشاهدتها بعينيه واجابها بمنتهى البرود:
- هتشوفي
زفرت بضيق وهي لا تحتمل النظر بوجهه وازداد الغيظ بالإندفاع بدمائها والتفتت من جديد لتشيح بنظرها عن ملامحه الغريبة اليوم وكأنه قد تخلص من قناعٍ جديدٍ وليس فقط من بعض الخصلات الطويلة!
استمع لطرقاتٍ على باب غرفته ولكنها لم تهتم بما يحدث خلفها وأغمضت عينيها لتنساب دموعها فورًا وهي لا تكره أكثر من أن تكون مغفلة وساذجة بهذه الشناعة!
ربما كانت غبية منذ البداية، ربما كانت ساذجة بشأن العلاقات في المطلق، قد تكون مريضة وتشعر بالرعب من اهتزاز صورتها بأعين الجميع، لا تريد أن تكون فاشلة ولقد ابتلاها قدرها بعشق رجلٌ مريض مثله.. قبلت كل هذا، ظنت أنه مع الوقت سيتغير، سيكونا أفضل، حاولت آلاف الأمور معه، حاولت تفهم ساديته وحاولت أن تُرضيه وتقبلت كل ما به، ولكن أن تصبح مجرد بديل لإمرأة أخرى، هذا لن تتحمله!
الآن كل شيء يبدو منطقي، تزوجها في غضون أيام وهو يجعلها توقع على عقد زواجهما دون حتى شهود، يستطيع فعل الكثير والكثير ودائمًا ما شتتها بالكثير من الحُجج المنطقية واللامنطقية، وكانت على قدر هائل من الغباء ألا ترتاب بالأمر!
ما الذي سينفعها به الجميع الآن عندما تنظر لفحميتيه وهي ترى بهما انعكاس صورتها التي هي مجرد صورة اخرى لحبيبته التي عشقها لسنوات.. يا له من كاذب ومخادع!! يا له من حقير، اشتد نحيبها الذي كانت تحاول أن تكتمه وظنت بتواجدها هنا بالشرفة بجانب هذا الهواء سيُهدأ من وطأة ما تشعر به ولكنها غبية وتزداد غباءًا ببقائها هُنا!
ما الذي تفرقه الآن عن أي إمرأة ضعيفة فاشلة لا تستطيع أن تتملك زمام أمور حياتها؟ ما الذي أدت إليها كل محاولاتها مع هذا الرجل الملعون الذي يكذب ويكذب ويتمادى بكذبه؟ تقسم أنها اسوأ حالًا من تلك النساء التي تثرثر على مواقع التواصل الإجتماعي بأنها لا تمتلك حلًا مع زوجها ولا تملك شيئًا تستطيع النجاة من زوجها بإستخدامه.. ولكنها لن تكون بمثل هذا الضعف..
يكفيها محاولات، ويكفيها عشقًا لرجل كل يوم ستكتشف عنه المزيد والمزيد من الأسرار والألغاز التي لا تنتهي، لقد حاولت معه بدل المرة آلاف المرات.. ولقد كان لديه كل الوقت ليُخبرها، ولقد سألته هي بدلًا من المرة مئات المرات عن علاقته بها! لن تكون مجرد بديل لإمرأة.. قد تتحمل الكثير من أجله ولكن ليس هذا! لقد طفح بها الكيل من كل ما هو عليه وبه!
التفتت لتعود لداخل الغرفة لتجده منتظر ويجلس على كرسي ذو مسندان بغرفتهما لتجفف دموعها بغلٍ شديد ثم حدثته بين اسنانها المُطبقة:
- اسمعني كويس.. أنا هاخرج علشان مش طايقة اكون معاك تحت سقف واحد ومش مهم رأيك ايه، واعمل اللي يعجبك بخصوص خروجي بس ده قراري ومش هرجع عنه!
نهض وهو يتجه نحوها ثم كلمها بهدوء وتأثرت ملامحه لرؤية بُكائها:
- هنروح مكان ما تحبي!
يبدو وأنه مصمم على أن يستمع لهما كل من بالمنزل، ليكون هذا هو الحل إذن!
عادت متقهقرة للوراء وهي تلمح بعينيها باب الغرفة، هي حتى لا تدري إلي أين تود الذهاب، هي فقط تريد أن تبتعد عنه آلاف الأميال وتنهي من وجهه، ولن تتوقف عن الصراخ به حتى يقبل الأمر:
- قلتلك مش عايزة اشوف كداب زيك! مش عايزك ابقى معاك في نفس المكان! اقولك حاجة احلى.. طلقني يا عمر.. أنا عايزة اتطلق! مش هاسحتمل اكون مراتك البديلة لواحدة حبيتها وأنت شاب صغير، مش هتحمل أني اصحى كل يوم الصبح وأنت شايفني وبتتخيلني هي.. كفاية بقى كل محاولاتنا لغاية كده.. وكل البدايات الجديدة منفعتش.. وانا خلاص تعبت من كل اللي شوفته معاك..
عقد حاجباه متأثرًا بإنهيارها الذي انعكس بصياحها واقترب نحوها من جديد لتصرخ مرة اخرى:
- قلتلك ابعد عني، انت مبتفهمش عربي.. سيبني بقى وروحلها لو تحب!
توقف عندما ارتفعت نبرتها بطريقة قد تدفع كل من بالمنزل لسماعها ليتنهد وقال بنبرة مُحذرة دون أن يبالغ:
- روان، اهدي وخلينا نتكلم
ارتفعا حاجباها بدهشة ثم صاحت بجنون:
- نتكلم في ايه؟ هاه؟ نتكلم مثلًا عن قد ايه أنت بتخدعني من يوم ما عرفتني، ولا كل كلامك وانا بحبك وانا بعشقك كانت عبارة عن كدب في كدب، ولا يمكن نتكلم في انك كنت عايز تحولني لواحدة تانية عمري ما كنت زيها ولا هاكون.. أني ابقى خاضعة لمرضك القذر ده زيها وزي ما كانت بتشاركك مرضك، ولا نتكلم في انك بتقولي البس ايه وملبسش ايه علشان تخليني نسخة طبق الاصل منها، ولا نتكلم عن جواباتك اللي بتقولي فيها ماضيك وأنت مستني مني تعاطف زي ما اتعاطفت معاك واقبلك زي ما قبلتك هي.. بتفرض علي حراسة لأن عقلك المريض بيخيلك أني مش بعيد اكون خاينة زيها واعمل حاجات انت متعرفش عنها حاجة، ما انا اصلي شبهها، طب اقولك حاجة؟ اه انا حاولت اعمل كل ده وفشلت في كل اللي حاولت فيه..
التقطت انفاسها بصعوبة بين بُكائها الهستيري ثم خفتت نبرتها وهي تناضل شهقات بُكائها:
- خلينا نخلص بقى بهدوء لو سمحت، خليك محترم وزي ما الكل شايفك ورا وشوشك اللي مبتخلصش وسيبني وابعد عني.. طلقني يا عمر وروح لمليون واحدة تتمناك ما عدا أنا!
رمقها بغضب ثم قال بإندفاع:
- انا عارف إني بالغت معاكي في حاجات كتير قبل كده، وعملت حاجات مش بتقبليها، بس انتي اتجننتي علشان نكرر تاني كلام مالـ..
قاطعته صارخة وهي تبكي بحرقة:
- انت اللي مجنون وانا فوقت من جنوني ورجعلي عقلي الساذج اللي صدقك في يوم.. هتطلقني عمر بإرادتك، وإلا والله هرفع قضية علشان تطلقني وهاخلعك ويبقى اللي يتكلم عني بقى يتكلم، مبقاش فارق معايا هاخسر ايه، المهم تكون برا حياتي
فرت مهرولة لباب الغرفة بينما تبعها بسرعة وامسك بجسدها محيطًا خصرها ليوقفها عن المغادرة ثم حدثها قائلًا:
- صدقيني قولتلك كل حاجة في الجوابات اللي كتبتهالك.. اهدي، انتي متعرفيش حاجة.. وصدقيني انتي ابعد ما يكون عنها ومش شبهها في اي حاجة
كرهت لمسته التي يحيطها بها لشتد بُكائها وجسدها يحاول التخلص منه إلي أن تحول كل تحملها للهوان ليزداد بُكائها قلة حيلة بينما حاول هو أن يضمها إليه وهو يُربت عليها ومن جديد حاول أن يخبرها:
- كنت مخبي الحقيقة عنك لأني كنت خايف من رد فعلك لما تعرفي، مكونتش عايزك تكرهيني أو تبعدي عني زي ما انتي ما بتعملي كده دلوقتي
هتفت بنحيب وهي تحاول أن تتخلص من يديه حول خصرها ووهي تدفع صدره بظهرها بكل ما لديها من قوة وتحدثت بين بُكائها:
- انا صدقت كل حاجة قلتهالي، بمنتهى الغباء والسذاجة، وجاي تخليني مجرد بديلة ونسخة للخاينة دي! ابعد عني قلت!
حملها رغمًا عنها وتوجه لنفس الكرسي الذي كان يجلس عليه منذ قليل وحاول أن يعيق حركتها ثم حدثها محاولًا أن يهدئها من جديد:
- خلينا نتكلم، هاقولك كل حاجة، اهدي واديني ساعة واحدة علشان تشوفي كل الموضوع بوضوح، هنتكلم بس اوعدك
استمعت لكلامه وقاربت على الصراخ من جديد ولكنها تعلم جيدًا أنه لن يتوقف عما يُريده فلمحت الساعة بعينيها ثم حاولت التقاط انفاسها والتوقف عن البُكاء لتقول:
- تمام، اوك.. ساعة واحدة، وأنت بعيد عني، مفيش لمسة واحدة، ومتتوقعش مني أني اغير قراري في موضوع الطلاق، الساعة تسعة ونص.. عشرة ونص هاقوم واسيبك وهاروح شغلي ومالكش دعوة بيا!
استجاب لما قالته وابعد يداه عنها ولكنها لا يزال محاوطًا لخصرها وفال:
- ماشي.. اتفقنا، بس مش هتمشي غير لما اخلص كل اللي عايز اقوله!
دفعته بكل قوتها لتتفلت من محاوطته لخصرها ثم اتجهت لتجلس بمقابلته على الفراش وهي تعقد ذراعيها ووضعت ساقًا تعاكس الأخرى بزهوٍ وسألته بغطرسة وملامح نافرة من النظر لوجهه الذي يبدو غريبًا حد اللعنة منذ أن قام بتقصير شعره وهي قد قررت بالفعل بعقلها ألا تُصدق حرفًا مما سيقوله:
- اتفضل عايز ايه؟
رفع احدى حاجباه بتعجب امتزج بالإنزعاج وسلط عليها فحميتيه لبُرهة وهو لا يدري كيف تعامله إمرأة بمثل هذه الطريقة، ولكنه سرعان ما تحاشى افكاره الصارخة به واهتدى إلي أنه يعشقها، حتى كبريائها هذا بات يعشقه، ربما ليس لديه مفر من عشقه لها فالتفت ليُمسك ببقية الرسائل التي كان ينوي أن تقرأها خلال سفره واعطاها بالفعل إلي مُربيتها ولكنه كان يريد التمهل بالأمر قليلًا ليتنهد وهو يتفقدها ثم كلمها بهدوء:
- انا حكيت الموضوع كله في الجوابات اللي كنت ببعتهالك، يمكن بطلت فترة لأني مكونتش عايز اخسر الهدوء والتفاهم اللي بقوا ما بينا بالذات طول الشهر اللي فات
تريث لبرهة ببعض التردد وهو يقرأ الرفض الصريح على ملامحها ولكنه تابع وبداخله بدأ يغضب لطريقتها معه وفي نفس الوقت هو يُدرك خطأه التام بعدم اخبارها منذ البداية ليحسم امره بمواصلة كلماته:
- هقرالك الجوابين اللي فيهم الموضوع ده، علشان يكون عندك فكرة باللي عمالة تصرخي بيه من الصبح!
اطلقت ضحكة زافرة بخفوت بمنتهى الإستهجان وبعقلها لا تُصدق أنه مصمم حقًا على أن يُتابع بنفس اسلوبه المعهود، هو يؤثر عليها بالكلمات من جديد ليُشتتها ويكسب المزيد من تعاطفها.. ولك لا، ليس هذه المرة، هي لم تكن تواظب على تمرينات وجلسات من أجل اللاشيء! بل هي تعرف لعبته اللعينة هذه جيدًا ولقد طفح كيلها منها!
شاهدها تنهض وتتوجه لدرج التخزين الجانبي بجانب جهتها من الفراش ليعقد حاجباه بإنزعاج من تصرفاتها اليوم كما أن ضحكتها الساخرة تلك لم تلق اعجابه ولكنه حاول التحمل قدر الإمكان حتى وجدها تلتفت نحوه ممسكة بعدة اوراق سرعان ما أدرك أنها رسائله التي كتبها إليها ثم ذهبت وهي تقدم له يدها ممسكة بها ورمقته بعلوٍ وحدثته بهدوء:
- خدها يا عمر، تخصك، ومبقتش تخصني في حاجة!
اطبق اسنانه بعنف وابتسم بغيظٍ حتى تحولت شفتاه لخط واحد مستقيم بين لحيته المُهذبة الكثيفة وشاربه وهو يتفقدها بنظراتٍ مُحذرة كان من شأنها تُصيبها بالخوف والإرتباك بالماضي ولكن ليس بعد الآن!
رفعت احدى حاجبيها واعينهما تتبادل نظرات كثيرة فهو لا يزال يرمقها بتحذير وهي لا تزال محافظة على كل ما قررت بشأنه لتبتسم ابتسامة مشابهة لخاصته ثم القت الرسائل والأوراق بوجهه وتشدقت قائلة:
- مبقتش محتجاها، ممكن تبعتها ليُمنى أو ممكن تفيدك مع اللي هترتبط بيها بعدي
ازدادت قسوته على اسنانه حتى قارب على تهشيمها من شدة غضبه وتلك الرسائل تتبعثر حوله ليسقط البعض منها ارضًا والبعض استقر على جسده ونظر لها نظرات مُهيبة جعلتها ترتعد بداخلها ولكنها حاولت الصمود لتؤكد له أن هذه المرة تخالف أي مرة واجهته بها واضافت بالرغم من خوفها الذي قرأه على ملامحها:
- انصحك تبعتهالها في فترة الخطوبة، هتخليها تحبك اوي من اول جوابين!
اختنقت نبرتها وهي تنطق بكلماتها الأخيرة وامتلئت اعينها بالعبرات التي لم تفر بعد وشعرت أنها ستبكي من جديد لتتماسك بينما هو لم يمنعه سوى تلك المُقلتين التي أُسرتا خلف خوفها وضعفها وبرائتها الشديدة التي جعلته يقع في عشقها رغمًا عن انفه ليتنهد مجددًا وحاول التماسك ليُمزق غلاف الرسالة الأولى التي سيقرأها عليها وهي الرسالة التاسعة التي كان لابد أن تقرأها هي وحدها وكادت أن تنهض لتمنعه عن تمزيق الغلاف بهذا الأسلوب النزق فهي تحتفظ بهم بأفضل حال ولكنها سرعان ما امتنعت وهي تزجر نفسها متذكرة قرارها الذي اتخذته بشأنه من قليل وقبل أن تُطنب بالمزيد من افكارها آتى صوته المنزعج وهو يقرأ من الورق بيده:
يومي السابع اللعين، الوقت لا يريد المرور، وعقلي لا يتوقف عن التذكر.. ولكنني أريد أن أصل للنهاية..
خطابك التاسع روان، أو رسالة التماس أن تكملي معي للنهاية حتى يصبح لديك الصورة الكاملة عن عمر يزيد أكمل الجندي الذي لم ولن يملكها سواك!
بدأت اغضب، الغضب لا يود أن يتركني كلما مر الوقت، أريد رؤيتك واتمنى لو قتلت نفسي التي اجبرتني على هذا العقاب السخيف.. ليتكِ قمتِ بعقابي بعشر جلدات بسوطٍ من حمم براكينية لعينة لا تخمد وتلظيني بها مرارًا وتكرارًا بدلًا من العشر أيام التي تقتلني وأنا لا أراكِ..
حبيبتي.. سموم الجحيم لي اهون من عدم رؤيتكِ وغيابك عني!
تبًا للإبتعاد.. وتبًا ملايين المرات للعقاب..
رجل سادي يهزأ بالعقاب! لابد من أن يتحدث التاريخ عن هذا بطيات كُتبه ليسخر مني على ما اشعر به!
حمحم بصعوبة ولمحها لمحة سريعة وهو يشعر ببعض الإرتباك وهو سيتفوه بهذه الكلمات التي ظن أنه لن يكون على الإعتراف بها أمام عينيها بل ويقرأها على مسامعها وهي تنظر له غاضبة بمثل هذه الطريقة وواصل من جديد:
قد تظنين صغيرتي أنكِ عرفتِ الأصعب بالفعل ولكن ربما يجب عليكِ أن تتحلي بالقوة والصلابة وأنتِ تقرأين هذه الرسالة والرسالة العاشرة كذلك..
ارجوكِ روان، أنا اثق بكِ، اثق بعشقنا الشديد لبعضنا البعض، واثق أنك لن تخيبي املي ورجائي بأن تتحملي هذه الرسالة وما بعدها..
فالأصعب يقع بين يداكي الآن! ولأكون صريحًا، أنا لا اضمن ما الذي ستفعليه بعد معرفتك ولكن..
تذكري دائمًا أن العشق يدفعنا لفعل كل ما لا نؤمن به.. وأنتِ عاشقة، وأنا مغرمٍ بكِ هائمًا بأبحرٍ من عشق لا أريد سوى أن اغرق بالمزيد منها بكامل رغبتي وادراكي..
توقف عن القراءة وهو يزفر بصعوبة وعقدة حاجباه تشتد لتجعل ملامحه مُخيفة خاصة بصحبة لحيته وشعره القصير لتعقد ذراعيها وهي تتابعه وكادت أن تصرخ به ليُكمل ولكنها تماسكت فهي يستحيل أن تكون بمثل السذاجة من جديد وتركته يفعل ما يحلو له ثم تابعت الساعة بعينها لتجد أن الوقت لم يمر منه سوى دقائق قليلة فتريثت والتزمت الصمت بينما تابع هو بملامح منزعجة:
سأكون صادقًا، وسأكمل صدقي حتى النهاية، وأنتِ قطتي ال عليكِ أن تعرفين كل شيء، لم اعد اجد بداخلي الرغبة بأن اخفي عليكِ أمرًا، قد أفعل هذا مع جميع البشر ولكن ليس معكِ أنتِ صغيرتي.. لقد اصبحتِ أماني، حبيبتي، وكل ما لي!
أنتِ تُكفينني عن الجميع!
حاولت ألا تتأثر بكلماته اللعينة التي طالما اصابتها بعشقٍ جارفٍ له وهذه المرة اللعينة هو يقرأ لها بنفسه تلك الكلمات الإحترافية التي تدفع خفقات قلبها لتتسارع لتصيبها بحالة تامة من الذهول الغرامي الذي تقع به كالمراهقة النزقة وتابعته بعسليتيها بنظراتٍ استرقتها بإستحياءٍ فلقد فتت كبريائها لمراتٍ ومرات ولقد طفح الكيل منه!
رطب شفتاه متنهدًا بعمق واتضحت الصعوبة على ملامحه ليحاول إرغام نفسه على المتابعة دون أن يتوقف من جديد وهو لا يريد تقبل أنه يُعاني من مجرد قراءة كلمات خطها بيده:
لقد حدثتك عن أوفيد، ما قاله، ما تمسكت أنا به، ما راقني وكان جليس من جلساء وحدتي وصمتي وأنا مجرد شاب ومراهق، ومما اتذكره أنه قال يومًا ما، يكشف الفراغ أي نوع من الناس نحن، ولقد اكتشفت روان حقيقة نفسي.. رأيت شري المؤدي للموت..
قاربت على قتل فتاة، وقتل آخر ذرة بداخلي من الخير.. فالشر حبيبتي النقية كما قال أوفيد هو ضرب من ضروب الموت!
بليلة تعيسة من تلك الليالي التي كنت اذهب بها للشيطان الثاني متخفيًا دعاني لإلقاء نظرة على دفعة جديدة من النساء والرجال الذين يستخدمهم بتجارته البشعة.. كنت افعلها دون قيم ولا مبادئ.. ولكنني لم اشترك قط بأي نشاط جنسي بالعلن!
وجدتها روان، وجدت إمرأة تشابهها حد اللعنة، نفس زمرديتيها، نفس ملامحها، اختلاف كلتاهما كان يكاد لا يُذكر، فالفتاة التي شابهت يُمنى كانت شقراء، وقامتها اطول منها قليلًا!
يا ليتكِ تعرفين ما الذي احدثته بعقلي فتاة اخذت عنوة من بلادها الأم وانتهى بها الطريق لتقف امامي مرتدية ملابس تكاد تخفي جسدها ومفاتنها ومن لعنة حظها العسر أن عيناي وقعت عليها!
يومها تفاوضت معه على اخذها، لأتسلى معها قليلًا بالإضافة إلي الأوراق اللازمة التي علي أن احتفظ بها وأنا ازيفها لتكون هويات خادعة لهذه الدُفعة الجديدة من جنود دعارته القذرة.. ولقد كان كريمًا للغاية معي!
انتقلت لمنزلي، لغرفة متعتي، كنت ابالغ معها كثيرًا، ولكن لم يُكفني أن امزق تلك الملامح بمنتهى الغل وأن أرى يُمنى مكانها، كم تمنيت ملايين المرات أن افعل، كم وددت أن احصل على رغبتي وأنا اؤلم يمنى، ملامحها باتت تثير غثياني، كرهتها بأكملها، وتلك الفتاة التي لم يكن لها ذنب قد تحملت الكثير والكثير ولكنه لم يكن ليُكفيني بعد ويُكفي ساديتي التي لا تخمد بداخلي..
الأمر يُشابه الإدمان، ولقد ادمنت إيلام هذه الفتاة بمنتهى الشناعة!
امتعضت ملامحها بشدة من استماع تلك الكلمات وشعرت بالتقزز الشديد بل والخوف منه وكأنه بات رجلًا غريبًا بملامحه وكلماته التي لأول مرة تستمع لها منه وهو يقرأ عليها تلك الكلمات ليزفر بصعوبة ثم ابتلع دون أن يواجهها ولو بنظرة ثم تفوه مُكملًا:
بيوم ميلادي الحادي والثلاثون استيقظت، تذكرت كل ما حدث لي من بشاعة شاركتها ليُمنى وكي اتذكر المزيد شاهدت دليل خيانتها لي.. من جديد.. مرة أخرى.. لأذكر نفسي أنها لا تستحق..
اشاهد خيانتها كل يوم ميلاد لي.. طوال السنوات المنصرمة.. كي اتوقف عن العشق روان.. كي اجبر نفسي أن اولد مجددًا بصلابة وبأس وخاصة مع النساء!
يومها اخذت هذه الفتاة التي بكت قهرًا على شعرها الذي قصرته لها مثل ما كانت تفعل يُمنى دائمًا فهي لطالما كانت طالبة مجتهدة متفوقة مثالية ولا تكترث بالكثير من امور الفتيات وبداخلها ثقة شديدة أنها فاتنة بملامحها وليس عليها أن تكترث للمزيد..
اصطحبت الفتاة لصالون تجميل، اعطيت اوامري بأن يقوموا بتلوين شعرها حتى يُصبح فحميًا داكنًا كما كان شعر يُمنى، وكذلك حاجباها، وابتعت لها ملابس مماثلة لما كانت ترتديه ثم اخذتها إلي مكانٍ ناءٍ املكه! ودعيني اخبرك أن هذا المكان هو الجحيم بذاتها.. جحيم يُصاحبني بها نسخة طبق الأصل من يُمنى!
الأسواط النادر امتلاكها، ادوات تعذيب توقف الجميع عن استخدامها منذ العصور الوسطى، استطعت المزايدة عليها عن طريق الشبكة العنكبوتية أو كما يسميها البعض "السوق السوداء" ، وبعض الأدوات الأخرى كنت احصل عليها خلال الشيطان الثاني.. الأمر كان مرعب ولا أود الخوض في المزيد من التفاصيل التي لا احبذ تذكرها!
يومها عذبتها بطريقة بشعة، دماء جسدها كانت تسيل اسفل قدمي وهي تصرخ وتبكي حتى فقدت وعيها تمامًا!
ويا له من سبب تافه، مجرد ملامحها التي لا اكره اكثر منها هي التي جعلتني اذيقها كل هذا العذاب.. ملامح يُمنى وكل من كان على شاكلتها يجعلني اود قتل من امامي وأنا ارى بهن صورتها واتخيلها بدلًا من أي إمرأة أو فتاة تشاركها الملامح!
ولكن ربما كانت هذه الفتاة هي من صفعتني بقسوة شديدة وهي تنبهني على ما وصلت له! جسدها الذي اوشك على مفارقة الحياة وفقدانها لوعيها كان الأمر الذي ايقظني من سنواتٍ مظلمة كان لابد لها من شمسٍ تنيرها وتُذهب بقسوة برودتها التي غلفت قلبي بجبروتٍ سرمدي لا ينتهي!
لا أقول أنني شريف، ولا أنادي بأنني افضل الرجال، ولا اتظاهر سوى بالرسمية، ولكنني لست بقاتلٍ روان! لم استطع أن اتحمل هذا!
لقد نجت الفتاة، وكانت أول من اساعدها بعودتها لبلدتها سالمة، بل واغدقت عليها ببعض الأموال وشراء منزلٍ لها بعد أن كانت شريدة!
هي التي جعلتني استيقظ من نوم كل ذرة خير بداخلي، ساعدتني على إدراك أن الطريق الفارغ الذي اسير به سيُهديني إلي حقيقة اكتسبتها طوال سنواتي التي عبرت الثلاثون بعامٍ واحد، أنا رجل لا املك بقلبي رحمة أو شفقة، لم يعد يتبقى سوى ذراتٍ معدودة، ذرات قد تعصف بها نسمة هواء صيفية لا تدم سوى لجزء من الثانية ولو تركتها أمام مجرد تنهيدة من المزيد من افعالي ستفتك بي وسأصبح مجرد شيطان لا يوقع سوى الشر بالجميع!
بعدها اخذت القرار بأن اتوقف، سعيت إلي أن سجنت هذا الرجل اللعين بعد كثير من العمل المُرهق، حاولت مساعدة الرجال والنساء المتبقيين لديه بتهريبهم إلي بلادهم، حاولت الإنتهاء من الكثير من قاذوراتي التي اكتسبتها بعد سنواتٍ ليست بقليلة..
لقد نجوت من بئر دنسٍ عميق بسبب هذه الفتاة!
قولي بأنني امتلكت عدة لحظات من توبة خالصة، بحثت عن الفتى والشاب الذي كنت يومًا عليه وهو يقرأ اسطورة اغريقية وينبهر بها وتوسلته أن يعود.. فتى كان يتخيل قبل نومه زيارة روما عندما يُصبح رجلًا لرؤية أين نشأ الكثير من التاريخ وترجيته أن يغفر لي، طفل ود أن يذهب لبلاد الإغريق ليغلق عينيه وهو يتخيل الآلهة الأسطورية وهم يتحاربوا بأسلحتهم وقدراتهم الخارقة!
بكيت متوسلًا له أن يتقبلني ويُسامحني على افعالي..
توبة خالصة لي، لنفسي، لذاك الطفل بداخلي الذي افتقدته لسنواتٍ كثيرة وكاد أن يتلاشى بأكمله، صدقيني روان لقد كنت يومًا طفلًا بريئًا قبل كل ما فعلته.. لدي احلام يقظة طفولية ولم ارد أي من هذا الوحل الذي دنسني..
اجتمعت به من جديد، اكملت اظهار قوتي بالعمل وبسجن الشيطان الثاني وبمحاولات اصلاح شتى للكثيرين مما اذيتهم بطريقي وأنا محامي الشيطان!
ثم بالمساء اجتمعت به وأنا أقرأ مرة ثانية، وثالثة، وآلف! لقد كنت وقتها اشتقت للقراءة وهي الوحيدة التي كانت تصاحبني.. فلقد اعتزلت النساء بأكملهن!
لقد تصافحنا وتعاهدنا عهدًا جديدًا.. ألا اذهب بطريق الظلمة على أن يبقى مؤنسًا لي بوحدتي.. لقد وجدت بعض من نفسي روان!
أرأيت حظي القاسي؟ لا يملك العشق علي سلطان بأن أكف عن عذابي لفتاة لأنها تُشابهها.. يكفيني تقززًا من نفسي أن مجرد تشابه ملامح فتنتني يومًا وعشقتها حد الثمالة لسنوات، دفعتني مجرد تقاسيم وجهها اللعين لقتل فتاة..
لا أدري كيف نجت وانقذتني بدورها دون أن يكون لها يد بالأمر.. ربما كانت علامة بحياتي، بيوم ميلادي، أن اتوقف عن افعالي والخطايا التي ارتكبها بحق نفسي قبل أن ارتكبها بحق الجميع..
التقط انفاسه وهو لا يقوى على قراءة السطر القادم عندما تذكر تفاصيل لم يرد ذكرها لبشاعتها الشديدة التي قد تجعلها تنفر منه بينما نظرت هي له بتأثر حاولت مليًا أن تُخفيه وعاود القارءة من جديد بنبرة مختنقة وغصة بحلقه لم يستطع التخلص منها:
أنا لست بقاتلٍ روان! لا اقبل هذا.. قد أكون أسوأ ما يكون ولكن تلك الفتاة وأنا اترك كل ما عايشته مع يُمنى لينعكس عليها وعلى جسدها إلي أن ذاقت عذاب مقيم لا ينتهي ثم استمعت منها لشهقات وكأنني اقوم بنحرها!
رؤيتها يومها افاقتني على ما افعله.. الظلمة لا تولد سوى الظلمة.. والشر لا يفضي سوى للموت.. وكان على أن افر واهرب قبل أنا القى حتفي لأجد ملاذ من جديد، حتى ولو ببضع اساطير كُتبت من مئات السنين لتقص قصص غير منطقية ولكنها اهون بكثير من العالم المؤلم الذي نعيش به!
حاولت التغلب على كراهيتي لملامح يُمنى، حاولت أن اكفر عن خطاياي أمام عين نفسي، حاولت أن اثابر اكثر واكثر وأنا اصبح محامي شاب عازب مرموق، لعنت النساء والعشق والسادية وكل ما كنت عليه وحاولت بكل ما اوتيت من قوة أن ابتعد عن طريق الظلمات وانا احاول التشبث بشعاع ضياء منكسر!
حلق عامان بمنتهى القسوة وأنا كطائر جريح بسماءٍ فقدت نهارها وتحلت بلون الشفق الدامي المعكوس من شدة اختناقي بالظلمة ولكنني حاولت التشبث بالحمرة التي كانت انعكاس لرمال خطايا خانقة لا انفك احتقر نفسي عليها إلي الآن.. والطفل يؤازرني بأحلامه البريئة!
ولكنني كنت ارثي نفسي بأن كدرة شفقي، على الأقل، ولو لم تكن ناصعة ولا تنتمي إلي شمس الصباح، ستظل اخف وطأة من السواد القاتم..
عامان من المزاج العكر، عامان رماديان، احلق بجانب الشفق الدامي وهو يُلطخني فأذهب بصحبة الطفل الذي كنت عليه يومًا لأعماق أبحرٍ من خيال عله يُزيل دماء شفقي عن جسدي المحموم بحمى الخطايا..
اصافحه وابتسم له يالرغم من كل ما يحدث واحلق بصحبته بين اسطرٍ جديدة واخرى قرأتها آلاف المرات..
إلي أن آتى يوم ميلادي الثاني..
طفل يسير لتوه، بلغ عامان من المحاولات..
عامان من عدم ارتكاب خطايا، وعامان من المعاناة الضارية.. ليتكِ تعلمين كيف كنت وقتها احاول صد نفسي عن الكثير..
ولكن حدث أمرًا يومها جعلني اعود لنقطة الصفر..
جعلني أولد من جديد!
لقد آتت إمرأة، فاتنة، واثقة من نفسها، مثالية الملامح والجسد وحتى نبرة الصوت..
تريث لبرهة ملتقطًا انفاسه وشعر بالرعب لو نظر لها فأكمل بغصة يحاربها وصوته بات مُرتجفًا:
نقية وبريئة ولا تعرف سوى الوضوح والصراحة.. ناقضت كل خبثي الذي بت مبدعًا به..
لقد دمرت كل محاولاتي التي كنت احارب ببسالة خلالها لعامين..
ملامحها تشابه كلتاهما.. دفعت كل ما بي للإنهيار.. لم احتمل يومها امامها وتخليت عن تشبثي بالشفق الدامي!
ولو ستجذبني لهوة من ظلمات لن انجو منها، ولو باتت جحيمي المُقيم، ولو ملامحها تشابه كلتاهما، كانت رغبتي في امتلاكها أكبر من كل شيء..
ليس افتتان، وليس عشق من النظرة الأولى، وليس بدافع الإنتقام..
بل كان تحدي وحرب.. هل الفتى الوليد الذي لتوه يُكمل عامان بداخلي سيُكمل طريقه نحو البلوغ بإستقامة، أم سيموت في خضم الشر الذي سأوقعه بها، ولكن الحقيقة أنها لا تبدو مثل أي فتاة..
لا نظراتها ولا حديثها ولا برائتها في التعامل كانت تنم على انها ستدفعني للظلمات وطريق الخطايا..
وضوحها ونقائها وعدم استغلالها تجلى بكل تحركاتها وعسليتيها يومها..
لقد كان اسعد يوم ميلاد لي طوال عمري حبيبتي..
يومها دخلت مكتبي، وقفت أمامي، ارتج كياني وكأنني يُخسف بي الأرض وأنا لا ادري ما الذي يحدث لي وهي تُحدثني بمنتهى الكبرياء، تأمرني بغطرسة وغرور، غاضبة بملامح تسربت لقلبي بالرغم من كراهيتها وهي تُصيح قائلة
"لدي قضية لن تحتمل الإنتظار، أريدك أن تترافع لأجلي وسأعطي لك ما تُريد "
وبكل ما بي من عقل وتفكير وحروب خضتها وهُزمت بها كان أنتِ كل ما أريد!
دعيني اخبرك ما الذي حدث..
ولأنني اثق بك، أنا على يقين بأنكِ ستقرأين خطابي القادم..
سأبدأ بكتابته من الآن..
زوجك
عمر يزيد
يُتبع..