-->

الفصل الواحد والعشرون - مرآة مزدوجة





الفصل الواحد والعشرون



شرد عمر بينما كانت يقود سيارته نحو منزل عمته، فقد علم من والدته أن ابن عمته زين قد ألغى خطبته، فأراد أن يتحدث معه قليلًا ربما قد يبوح له بالسبب الحقيقي وراء هذا؛ لأنه يرفض أن يخبر أحد بهذا.

 

كانت ليليان من تشغل تفكيره في تلك اللحظة، رغم أنه قد قرأها، قد فهم شخصيتها، ولكنه رغم هذا يريد التوغل في دواخلها أكثر، يريد أن يعرف المزيد عنها، يعرف آرائها في كل الأمور ويفهم كيف تفكر، هي الفتاة الوحيدة التي آثارت فضوله بهذا الشكل؛ لأنها تشبهه ولا تشبهه، وحيدة مثله، ولكنها لا تريد أن تواجه الأضواء عكسه، فقد لاحظ أنها تفضل أن تبتعد عن الجماعات أو أي تجمع بشكل عام، عكسه، هو يريد أن يكون بين الجماعات وأن يجذب أنظار الجميع، أن يجبر من كانوا لا يلتفتون له في السابق أن يلتفتوا له الآن، وهي رغم وحدتها التي تشبهه لا تريد هذا مما يجعله يتعجب، جميع آرائها مشابهه لرأيع ولكنها تمثل نقيضها في نفس الوقت، فكما قالت جميع الأمور لها أبعاد وكذلك الآراء لها أبعاد، هو يرى بُعدًا ما وهو ترى البُعد الآخر، كانا متكاملين وقد شعر بالراحة بالحديث معها؛ لهذا السبب، قد يخبرها في المستقبل عن نفسه بشكل أعمق، وهو يعلم أنها لن تتفوه بحرف مما يقال اللعب أو كما يُقال باللهجة العامية « الاستعباط »، الآن سيحب أن يتعمق بدواخلها أكثر، أن يجعلها تنفتح وأن تعترف أنها تخاف، عندها فقط سيتحدث بدورها، سيعترف أنه وحيد، سيعترف أنه يزيف حياته بأكملها حتى تلاقي الإعجاب من الجميع، عندها سيتحرر كلاهما من القيود، معًا، هو يعلم أن الأمر قد يأخذ بعض الوقت، هما لم يعرفا بعضهما البعض سوى من شهر، ما زال ليست هناك أي ثقة بينهما، ولكنه سيعمل على أن تنشأ سريعًا، لماذا؟ لأنه قد ضاق ذرعًا من الحياة التي يعيشها، ولم يشعر أنه يعيش بسجن يفرضه على نفسه إلا عندما أصبح بحاجه للتحدث عن الأمر، أصبح بحاجه لشخص يسمع كل هذا ويهون عليه، أصبح بحاجه للتحرر، ولكنه خائف بدوره، خائف أن يظهر بطبيعته، خائف أن تتركه الأضواء، وألا يلتفت له أحد مثل السابق، وأن يعود وحيدًا مهمشًا من الجميع، يريد أن يكسر هذا الخوف، فكيف له أن ينصحها بألا تخاف وهو بدوره خائف؟ لن يفلح الأمر، ولكنه لن يبوح ولن يعترف الآن، فهو في وقت اللعب.

 

وصل عمر للحي الذي تسكن به عمته، صف سيارته وصعد المبنى الذي تسكن به عمته، رحبت به عمته بحبور، فهي تعتبره ابنها الأول الذي حاولت مساعدته كثيرًا بالصغر، بعد القليل من كلمات الترحيب المعتادة منها ومن داليا تركاه ليدلف لغرفة زين، وكان من المتوقع أنهما تقفا للتنصت على ما سيتحدثان به.

 

نظر عمر لزين بجمود للحظة وهو يعلم أن زين يكره جموده الدائم في التعامل؛ لهذا كان يتعمد أن يتجاهله ويبتعد عنه دائمًا، ولكن اليوم لا مفر له من جمود عمر الذي ينوي أن يستغله في جعل زين يبوح بكل شيء، اقترب عمر وجلس على طرف الفراش الذي يتوسط الغرفة وقال:

 

- سمعت إنك فسخت خطوبتك

 

نظر له زين من طرف عينه بصمت، ثم عاد للتحديق بالسقف بجمود شابه به عمر، وكأن جميع أبناء تلك العائلة يتميزون بالقدرة الغريبة على إظهار الجمود وإخفاء مشاعرهم، تنهد عمر وقال بشجن:

 

- أنا حسيت إني السبب يعني لما اتخانقتوا بسببي في الخطوبة، فـ جيت أشوف لو فيه حاجه أقدر أصلحها

 

تعمد عمر إظهار الحزن وتأنيب الضمير ليؤثر على زين، يعلم أن تلك المشكلة قد حُلت بالفعل وأنهما تصالحا بعد ذلك الشجار، ولكنه أراد أن يسمع النفي من زين بنفسه؛ ليتمكن من استدراجه، وقد تحققت رغبته بالفعل عندما قال زين بجمود دون أن له:

 

- لا مش أنت السبب

 

أصر عمر مدعيًا الحزن:

 

- لا أنا السبب أكيد وأنت مش عايز تقولي

 

قال زين نافيًا بانفعال طفيف:

 

« مش أنت يا عمر، مش أنت. »

 

ثم تأفأف بنفاذ صبر، ليعيد عمر الكرة وقال:

 

- يا زين لو سيبتها علشان كدا قولي

 

صاح زين به:

 

- مش أنت الزفت السبب، ومش أنا اللي اتنيلت سيبتها، هي اللي سابتني

 

ابتسم عمر داخليًا، ها قد وصل لطرف الخيط عليه سحبه فقط حتى يفهم كل شيء؛ لهذا ادعى الدهشة وقال:

 

- سابتك؟ ازاي؟ ده أنت بتموت فيها ازاي تسيبك كدا، ده أنـ.. 

 

كان على عمر على وشك عد العديد من الصفات به حتى يستمر بالضغط عليه، ولكن زين قاطعه قائلًا بجمود:

 

- علشان مش عايزة حد متردد

 

حسنًا لم يتصور عمر بأنه يتحدث بتلك السرعة والسلالة، ولكنه انتهز تلك الفرصة وقال:

 

- لا لحظة كدا، اشرح لي علشان مش فاهم

 

تنهد زين ومرت لحظة من الصمت دون أن يقول شيئًا، فصاح عمر بنفاذ صبر:

 

- لا اخلص معندناش العمر كله يعني

 

تنهد زين مجددًا وقال باقتضاب:

 

- لما حصلت الخناقة الأولانية بينا، بدأت افكر ودماغي توسوس لي، دلوقت حصلت خناقة بسبب حاجه تافهه ده معناه إنه ممكن مع المشاكل الكبيرة في المستقبل تحصل حاجه زي الطلاق مثلًا ومصايب كتيرة، فـ بدأت اتردد بس كدا

 

هذا أقل مما يريد عمر، سيحصل على المزيد رغمًا عن أنف ابن عمته؛ لهذا قال مستفسرًا:

 

- يعني بقيت مش عارف أنت عايزها ولا لا؟ 

 

همس زين مجيبًا:

 

- حاجه زي كدا

 

قال عمر مستخدمًا نبرته الهادئة التي توحي بالحكمة:

 

- طب ومثلًا محصلش بينكوا مشاكل تانية في الشهر اللي فات؟ 

 

ضيق زين عينيه متذكرًا، ثم قال

 

مش مشاكل بالمعنى الحرفي، يعني كان بيبقا شد بس- والحوار بيعدي في ساعتها

 

وضع عمر ساقًا فوق الأخرى مما جعله يشبه أحد أبطال الروايات المتكبرين خصوصًا مع بذلته الرسمية التي ارتداها، حك ذقنه الكثيفة مدعيًا التفكير وقال:

 

- ومين كان بيبقا السبب في الشد ده؟ 

 

ابتسم زين بسخرية وأجاب:

 

- أنا 

 

عاد عمر يسأل:

 

- وهي ردة فعلها كانت بتبقا عاملة ازاي؟ 

 

زفر زين بنفاذ صبر، لماذا يشعره عمر بأنه بإحدى الجلسات النفسية وأن من يجلس أمامه طبيبًا نفسيًا وليس ابن خاله، اعتدل في جلسته ونظر لعمر وأجاب:

 

- كانت بتحاول تلم الحوار وتعدي وكدا

 

« اللعنة على هذا الغبي! كيف يفرط بفتاة تحملت مزاجه اللعين الذي لا تتحمله والدته حتى! » صرخ عقل عمر ولكنه حافظ على مظهره الهادئ وكأن شيئًا لا يحدث، وكأن عقله لا يستمر في لعنه في تلك اللحظة، تنهد وقرر أن ينصحه عله يجد ضالته، أو ربما يفهم ما فعله ويحاول تصحيح خطئه، فقال:

 

- طيب، بص يا زين أنا مش هقولك إن مشكلتك تافهة أو كدا، أنت بتقول إنك متردد وده مش شيء تافه، بس هقولك حاجه ممكن تمحي لك التردد ده، هو إن فيه علاقات كتيرة في بدايتها بتحصل مشاكل كبيرة بسبب أمور تافهة، وأحيانًا بتأدي الحاجات دي للإنفصال أو الطلاق، والفكرة إنها مش تافهة أو هما مش نافعين لبعض أو كل اللي أنت فكرت فيه ده، الفكرة أن الطرفين بيبقوا لسه بيحاولوا يتأقلموا ويتعودوا على العلاقة دي وعلى الطرف الآخر، ولأنهم لسه مش فاهمين بعض ولا عرفين دماغ بعض بتحصل المشاكل دي، فـ المفروض في البداية بيبقا فيه بعض التجاوزات عن بعض الأخطاء رغم إن ده مبيمنعش حدوث المشاكل التافهة لأنها كدا كدا لازم تحصل، بس بيقللها يعني، ولو لاحظت هاجر في الأول صممت على رأيها في أول مشكلة مما خلاها تزيد ولو تلاحظ كمان إنها زي ما بتقول كل ما كان يبقا فيه شرارة بعد كدا كانت بتحاول تطفيها علشان متعملش مشكلة، ده اسمه التأقلم والتفويت بمعنى أصح، هي كانت بتفوت لك وبتحاول تتأقلم وتتعود على طبيعتك، وده الصح،وبصراحة أنت اللي فيه ده مش تردد، أنت خوفت، لما لقيت مشكلة حصلت من حاجه تافهة خوفت العلاقة تفشل، وده اللي بيحصل مع الناس اللي بتنفصل وتطلق، فـ حتى بعد كدا بيرجعوا لبعض وحياتهم بتبقا كويسة، وأنا عكس الكل شايف إن الإنفصال ده كان واجب حدوثه علشان كل طرف يعرف هو فعلًا كان يقدر يكمل مع الطرف التاني ولا لا

 

نهض عمر بعد أن شعر بأن كلماته قد تركت أثرًا على زين حتى وإن لم يفكر بها، ثم تابع:

 

- أنا كل اللي هقولك تعمله هو إن أنت تشوف هاجر بشخصيتها عاجباك مميزاتها وعيوبها بتحبها، تقدر تشوف واحدة غيرها مراتك ولا هي بس، والأهم أنت شايف إنك غلطان لما فكرت إنك متردد ولا لا

 

أغلق زر سترته وتركه بمفرده يفكر قليلًا.

 

--

جلست هاجر في غرفتها تفكر، أو بالأحرى تلعن حظها الذي جعلها تقع لا يثق بها، لا يثق في رغبته في أن تكون بجانبه حتى! منذ أن عادت من منزلها ولاحظت والدتها خاتمها المفقودة حتى بدأت تنعي حظها وحظ ابنتها، مما زاد الطين بلة؛ لهذا اضطرت لحبس نفسها بغرفتها طوال اليوم حتى تتجنب مواجهتها، كانت تشعر باليأس ويحزن يغلفا قلبها، لقد فعلت الكثير من أجله بهذا الشهر، لقد تفاوتت عن بعض الأشياء، لقد حاولت أن تكون لطيفة، لقد اعتمدت نصيحة أن تكون الجانب الرقيق واللطيف حتى تستمر العلاقة، ليأتي هو باعترافه ويدمران كل هذا، يدمران ما فعلته وكانت تنوي فعله، يدمران المشاعر التي بدأت تدغدغ قلبها، يدمرانها ويثبتان لها أنها كانت مخطئة عندما ظنت أنها تستطيع تحصين نفسها ضد أي جرح قد تتعرض له.

 

طرق أحدهم على الباب ودلف، ظنتها والدتها فلم ترد أن تواجهها؛ لهذا ادعت النوم سريعًا، ولكنها استمعت لصوت آخر غير صوت والدتها يقول:

 

- أنا عارف إنك صاحية يا هاجر

 

كان هذا صوت محمد شقيقها وليس صوت والدتها، مما جعل هاجر تتنهد براحة ونهضت جالسة فوق فراشها مجددًا، أغلق محمد الباب خلفه وجلس أمامها على الفراش وقال بهدوء منافي لطبيعته:

 

- زعلانة؟ 

 

أومأت هاجر بصمت، فقال مجددًا:

 

- هو ايه اللي حصل بالظبط؟ محدش قالي وماما عمالة تقول البت اتجننت

 

أخذت هاجر نفسًا عميقًا وقالت:

 

- قالي إنه متردد من العلاقة دي وحاسس إنها كانت الأفضل لو مكملتش وإنه بيحس ناحيتي بحاجه بس مش متأكد منها

 

لم يكن هذا ما قاله زين نصًا ولكنها قالت ما فهمته وشعرت به، نظر لها محمد بصمت قبل أن يقول بغضب:

 

- هو عبيط ولا ايه؟ أروح أكسر له دماغه يعني علشان يرجع يفهم؟

 

أمسكت هاجر بقبضته التي ضمها يضغط عليها بغضب وقالت بخفوت:

 

- لا مش مهم اللي حصل حصل

 

كانت تعلم أن محمد لا يهدد، وأنه إن أصر على تلك الفكرة سيفعلها، وهذا سيحدث مشاكل هم في غنى عنها، ولكنها عندما حاولت أن تثنيه عما يريد أن يفعل، خرجت نبرتها مبحوحة حزينة ومنكسرة، مما أزاد غضب محمد، ولكنه حاول أن يخفيه حتى لا تزداد هاجر همًا، فقال بخفوت:

 

- وأنتِ عاملة ايه دلوقت؟ 

 

كانت هاجر تنظر لقبضته في أول الأمر، ولكنه عندما سألها رفعت نظرها له وفي نفس اللحظة تشكلت طبقة رقيقة على عينيها، فهمست بصوت متحشرج:

 

- عايزة أعيط

 

عانقها محمد وربت على ظهرها وشعرها وقال:

 

- عيطي طيب

 

وبالفعل أطلقت هاجر لعينيها العنان لذرف دموعها، هي لم تبكِ منذ وقت طويل، فهذا ما تعلمته أن البكاء ضعف، ولكنها بحاجه لأن تكون ضعيفة قليلًا، وأن تستند على شقيقها؛ لأنها أصبحت عاجزة عن التظاهر بالقوة واستكمال حياتها.

 

--

كانت ليلى تلعب مع نعناع حتى صدح هاتفها معلنًا وصول رسالة جديدة، فالتقطته ليلى وفتحت الرسالة التي وجدت أنها من سليم، لتجد أنه أرسل صورة لوجهه تظهر بها عينه المتورمة وكتب أسفل الصورة: « أنا ووشي والكنترول تحت ايد زين. »

 

ثم هاتفها لتجيب المكالمة وقالت:

 

- ايه اللي عمل فيك كدا بس؟ 

 

أجاب سليم باستعطاف:

 

- مفيش البيه جالي وضربني، يرضيكِ كدا؟ 

 

ابتسمت ليلى حالما استمعت لنبرته وقالت:

 

- شكل الحوار كبير فعلًا

 

- يوه، ده كبر مننا خالص وشكلنا داخلين على أيام فل

 

تنهدت ليلى وقالت بثقل:

 

- أه، ربنا يستر

 

ثم عمالصمت للحظة، فقال سليم مدعيًا اللا مبالاة ليقطع الصمت:

 

- يا ستي، احنا مالنا بقا، خليهم يضربوا في بعض

 

قالت ليلى معارضة:

 

- بس دول صحابنا يا سليم

 

تنهد سليم وصمت، ثم عاد يقول بلا مبالاة:

 

- أنا صاحب الغلطان، فـ يستاهل بقا

 

ابتسمت ليلى وصمتت للحظة، قبل أن تدارك ما تفعله، فقالت لتختبره:

 

- سليم أنت صليت؟ 

 

أجاب سليم بتلقائية دون أن يشك بشيء:

 

- أه 

 

ضيقت ليلى عينيها وقالت بريبة:

 

- مش مطمنة لك

 

ضحك سليم باستنكار وقال:

 

- طب حتى لو قولت لك أخلي بابا يصورني وأنا بصلي مش هتصدقي وهتقولي إني بعمل كدا علشان أثبت لك إني بصلي بس

 

قالت ليلى مؤكدة:

 

- بالظبط 

 

تنهد سليم وقد بدا عليه أنه سئم منها، أو هذا ما ظنته ليلى، ولكنه قال بهدوء:

 

- ليلى أنا مش متقرب من ربنا علشان أرضي حد أو علشان أنا عايز حاجه ولو خدتها هبعد، أنا في حرب، حرب ضد كل عاداتي الوحشة، وأنا بستعين بقربي من ربنا إني مرجعش ليها تاني، وده شيء دائم، زي حاجه مريض السكر الدائمة للأنسولين، شيء لبقية العمر يعني

 

اتسعت ابتسامة ليلى وقد شعرت أنها تكاد تطير فرحًا، ولكنها عادت تقول بتشكك:

 

- سليم أنت حد اللي خلاك تعمل كدا؟ مجبور يعني؟ 

 

ابتسم سليم وتنهد بتعب وقال:

 

- روحي شوفي دنيتك يا ليلى

 

أنهت ليلى المكالمة مع سليم، ثم عادت لتذكر أمر هاجر، فأغمضت عينيها وشعرت بالقلق، فقررت أنها ستذهب إليها لتطمئن عليها، ونهضت لتبدل ملابسها.

 

دلفت ليليان الغرفة لتجد شقيقتها تعدل من وشاحها، فقالت:

 

- رايحة فين؟ 

 

أجابت ليلى وهي تثبت الوشاح:

 

- رايحة لهاجر لسه مختفية وأنا قلقانة عليها

 

- طب استنيني ألبس آجي معاكِ

 

ذهبتا كلتاهما لمنزل هاجر، وما إن طرقت ليلى الباب، حتى فتح محمد، لتنظر له ليليان بتعجب وقالت:

 

- أستاذ محمد؟ 

 

ابتسم لها محمد وقال بتذمر:

 

- أستاذ مين يا ليليان، شايفاني طالع معاش؟ 

 

ابتسمت ليليان بتوتر، بينما أفسح محمد لهما الطريق لتدلفا، حيت ليلى والدة هاجر التي نظرت لها بامتعاض وامتنعت عن الرد، فابتسم محمد بحرج وقادهما لغرفة هاجر، همست ليلى لها بعد أن دلفتا:

 

- تعرفي محمد منين؟ 

 

أجابت ليليان بصوت عالٍ نسبيًا وصل لمسامع هاجر:

 

- ما هو بيشتغل في الدار تحت ايد عمر

 

صاحت هاجر ما إن سمعت تلك الكلمات:

 

- لحظة محمد بيشتغل مع عمر وأنا معرفش؟

 

جلست ليلى على الفراش بجانب هاجر، بينما أحضرت ليليان كرسي ووضعت بجانب الفراش وأجابت:

 

- أه، اللي أعرفه إنهم كانوا صحاب من أيام المدرسة

 

- كمان؟ 

 

قالت ليلى تجذب انتباه هاجر:

 

- مختفية بقالك كتير يا أستاذة

 

ابتسمت هاجر بوهن وقالت:

 

- هعمل ايه يعني؟ 

 

قالت ليليان بتلقائية:

 

- تعالي عندنا ارغي معانا

 

أومأت ليلى موافقة، فنظرت لهما هاجر بوجوم، لتحاولا جذب أطراف الحديث معها حتى تنسى هاجر حزنها.

 

--

 

أنهت ليليان عملها في وقت الاستراحةالاستراحة، وتوجهت نحو مكتب عمر كما اعتادت أن تفعل، بعد أن طرقت الباب وجلست على المقعد المعتاد، لتواجه عمر الذي دائمًا ما يكون مظهره مبعثرًا في هذا الوقت من اليوم، ولكن اليوم كان حتى شعره مبعثرًا وهو من كان يجعله مرتبًا دائمًا، كما أن ذقنه قد أصبحت كثيفة أكثر من السابق، تجول عمر بالمكتب كما المعتاد وقال:

 

- تفتكري ليه الشخص بيبقا متردد؟ 

 

أجابت ليليان بتلقائية دون أن تشعر:

 

- علشان بيبقا خايف

 

ابتسم عمر بمكر ونظر لها وقال بنبرة ماكرة:

 

- يعني أنتِ مترددة؟ 

 

توقف عقلها عن العمل لوهلة وحدقت به ببلاهة، فقال موضحًا:

 

- علشان أنتِ دايمًا خايفة، فهل ده معناه إنك مترددة؟ 

 

جفلت ليليان وقالت نافية:

 

- أولًا أنا مش خايفة، ثانيًا الخوف بيأدي لحاجات كتيرة من ضمنها التردد، التردد بيجي من الخوف، بس مش كل حد خايف يبقا متردد، ممكن الخوف ده يأدي لحاجات تانية.

 

أومأ عمر موافقًا وقال:

 

- طب يا ترى خوفك بيأدي لايه؟ 

 

لماذا يصر على التحدث عنها؟ الأمر يوترها، فهي تشعر أنه يريد أن يتعمق بدواخلها، هي تشعر بهذا، ولكن رغم كونها تحاول التعمق بدواخله وقد اكتشفت عدة أشياء، ولكنها تفعل هذا بطريقة مستترة دون أن يشعر هو، ولكنه يريدها أن تخبره عن دواخلها بنفسها، كيف يمكنه فعل هذا؟ لماذا يجعلها تشعر أنها تريد أن تخبره حقًا؟ ولكنها ليست خائفة وهذا ما ستقوله الآن، تنهدت ونظر له برسمية وقالت:

 

- حضرتك عايز توصل بالحوار ده لفين؟ 

 

ابتسم عمر مهنئًا نفسه على نجاحه، فلطالما كان ينجح في استدراج من يتحدثون بطريقة مستترة، أو كما يقال من أسفل الطاولة للحديث علانية؛ لهذا أجاب على سؤالها بسرور:

 

- عايزك تعترفي إنك خايفة

 

أصرت ليليان بعناد:

 

- بس أنا مش كدا

 

تنهد عمر وجلس على المقعد المواجه لها وفتح أول زرين من قميصه وقال بهدوء ليقنعها:

 

- لا أنتِ كدا، أكبر دليل على كدا إنك مش محجبة، هتقولي ايه العلاقة؟ هقولك إن أختك محجبة، مش قصدي إنكوا علشان أخوات لازم تبقوا شبه بعض بالملي، بس كونها محجبة ده بيعكس التربية، واللي رباها نفس اللي رباكِ، يبقا ليه هي محجبة وأنتِ لا؟ 

 

كيف يمكنه التوغل في شخصيتها بتلك الطريقة؟ كيف يمكنه أن يكون خبيرًا بالبشر ويستطيع قرائتهم بتلك الطريقة؟ أصبحت معرفته الواسعة تلك تخيفها بحق، اقترب عمر منها قليلًا ونظر لها بفضول وقال مشجعًا:

 

- جاوبي طيب حتى لو أنا غلط، اثبتي إني غلط واكسري غروري

 

تنهدت ليليان بارتباك، ماذا ستقول له؟ أنه محق؟ لا تعلم ولا تفهم لماذا يريدها أن تجيب، لماذا يصر على الاستماع لها؟ نظرت في كل مكان بالغرفة وهي تبحث عن كلماتها، وقالت بخفوت وهي تتمنى لو تستطيع أن تفر من أمام عينيه التي تراقبها:

 

- أه، بس مش زي ما أنت فاكر، أنا خايفة إني بعد ما ألبسه أسيبه، وده غلط وحرام، فـ مش عايزة علشان مسيبهوش، بس

 

قالت كلماتها بصعوبة واضحة لعمر، كانت تجاهد للاعتراف بشيء ما، فهي لم تعترف يومًا لأحد ما بشيء يخيفها، أو بشيء يشغل بالها، فهي دائمًا معتادة على الاستماع، واليوم هي تجرب التحدث للمرة الأولى، كان صعبًا، ولكن عندما تصرف عمر معها نفس تصرفها شعرت بالراحة الشديدة، فقد تعمد عمر أن يترك تلك المسألة جانبًا عندما رأى أنها تشكل صعوبة عليها، بالنهاية كونها تعترف له بشيء حتى لو بسيط يعني أنها بدأت تثق به، وهذا يعني أنه سيثق بها بدوره، فأشخاص كليليان إن وثقوا بك عليك أن تثق بهم بدورك لاإراديًا، لأنهم عندما يثقون بك، سيسعون لكسب ثقتك، التقط عمر الدفتر الذي دونت به ليليان قبلًا والقلم وأعطاهما لها وقال مبتسمًا:

 

- طيب ينفع نكمل نقاشنا وتكتبي اللي بنقوله؟ 

 

أومأت ليليان وأخذتهما منه، كانت تشعر بالراحة كونه تجاهل اعترافها، وبدأت لمناقشته بحماس، فهي دائمًا ما تحب أن تناقش الجميع في المواضيع العامة، وقد كان هذا ما تفعله دائمًا مع ليلى.

 

--

انتهزت ليلى فرصة أن ليليان بالعمل وقررت أن تتحدث مع والدتها قليلًا، فهي في حيرة من أمرها وتشعر بالتخبط حيال أمر سليم، كلما فكرت به ساورتها مشاعر مختلطة، تحاول الابتعاد عنه لأن علاقتهما ليست صحيحة وهي تشعر بالذنب رغم أن والدتها تعلم بأمره، ولكن فكرة أنها لا تحدد مشاعرها نحوه تزعجها، تريد أن تحدد مشاعرها نحوه حتى وإن لم يعجبها ما ستكتشفه، دلفت ليلى المطبخ حيث تقف والدتها تطهي الطعام، استندت ليلى على الأدراج الخشبية، وقالت بفضول:

 

- ماما 

 

همهمت والدتها تحثها على المتابعة، فقالت:

 

- هو بما إنك اتجوزتِ بابا الله يرحمه عن حب، احكي لي حبيتيه ازاي؟ 

 

استدارت والدتها ونظرت لها نظرة ذات مغزى، ابتسمت وعادت لمواجهة الموقد وقالت:

 

- على فكرة أنا وأبوكِ في البداية مكناش بنحب بعض، احنا اتخطبنا صالونات في البداية، بس بعضها حبيته، بالنسبال ازاي هقولك، مع الوقت بقيت بستنى اليوم اللي هشوفه فيه، بقيت بحب اتكلم معاه دايمًا وأسمع صوته، بحس دايمًا بالفضول إني أعرف عنه أكتر، والأهم إني دايمًا معاه رغم إني كنت أبان عادي بس من جوايا كنت ببقا متلخبطة وجوايا مشاعر كتيرة عكس بعض بس كنت ببقا مبسوطة واقعد افتكر كلامنا وأضحك زي الهبلة

 

اللعنة! كادت ليلى أن تصرخ وتولول كالنساء بإحدى الجنازات، هذا هو ما تشعر به تحديدًا تجاه سليم، كانت تشعر بالفضول نحوه في البداية، وأحبت حديثهما معًا، حتى وإن كان قليلًا، تستمتع لصوته كثيرًا دون أن تجد سببًا لهذا، تبتسم كالبلهاء كلما تذكرت أحاديثهما، وفي النهاية تشعر بمشاعر متخبطة تجاهه، هذا كل ما قالته والدتها!

 

حمحمت ليلى بتوتر، عليها أن تخبر والدتها بهذا، عليها أن تكون حريصة معها مثلما اعتادت؛ لهذا قالت بخفوت:

 

- أنا بحس بكل ده يا ماما

 

تركت والدتها الملعقة التي كانت بيدها واستدارت لتنظر لها وسألت:

 

- سليم؟ 

 

اللعنة هي تعرف! شيء ما بداخلها كان يجعلها تود الهروب من نظرات والدتها، ولكنها قررت أن تتحلى بالشجاعة وتواجه، أومأت ببطء، فزفرت والدتها وقالت:

 

- كنت حاسة علشان كدا مكنتش حاباه

 

شعرت ليلى برغبة في البكاء أو الهروب أو الاثنين معًا، فهي للمرة الأولى تقف بمواجهة كتلك جعلتها تشعر بالعار من نفسها، فهي من كانت تتباهى بكونها لن تقع في الحب يومًا، ولكنها فعلت!

 

تفاجأت ليلى بوالدتها تعانقها وقالت:

 

- أنا مبسوطة إنك حبيتي على فكرة، بس هقولك حاجه ابعدي عنه أفضل ليكِ

 

فصلت والدتها عناقهما وقالت:

 

- كفاية بقا مشاعر وسيبك من كل ده، وتعالي ساعديني

 

ابتسمت وأومأت موافقة، ولكن بداخلها ثارت البراكين وعصفت الرياح بقوة، أصبحت أفكارها مشوشة، لا تعرف ماذا تفعل الآن ولا تفهم لماذا بالأصل تحدثت مع والدتها بشيء كهذا، لا تشعر أنها مقتنعة بذلك الحديث ولا تزال تنكر ما تشعر به، لأنها ببساطة ما زالت تراه ذلك الصديق اللطيف صاحب الرأس العنيد، هي لا تستطيع أن تراه سوى بتلك الطريقة، ولكن الآن تراودها التساؤلات، هل يا تُرى أرادت أن تخوض هذا الحديث حتى تقتنع وتصدق أنها تحبه؟ هل داخليًا أرادت أن تشعر بمعنى الحب وماذا يحدث للذين يقعون بالحب؟ ربما

 

أرادت أن تناقش والدتها في هذا الأمر، ولكن رأيها القاطع جعلها تصمت، هي حتى لم تعلق عليه، ببساطة لأنها تفهم خوف والدتها عليها من أن يجعلها هذا الحب تقدم تنازلات قد تضييع حياتها بسببها، وبعد هذا النقاش القصير لم يكن في وسع ليلى أن توضح لوالدتها أنها ما زالت حائرة في هذا الأمر وأنها ليست مقتنعة بأن ما تشعر به هو الحب، لأنها صدقت هذا ولا مجال لتصحيح تصورها؛ لهذا ستصمت وتبقي تلك الفوضى العارمة من الأفكار والتساؤلات في رأسها وحدها، فهي من فعلت هذا بنفسها عندما آثارت تساؤل كهذا علانية

 

--

 

نهضت هاجر بتكاسل بعد محاولات عديدة من محمد ليقنعها بالخروج لتناول الطعام معهم على المائدة مثلما اعتادوا، خرجت هاجر وجلست بصمت دون أن تلاحظ الابتسامة التي اعتلت وجه والدها ومحمد، ولكنها لاحظت ملامح والدتها الممتعضة؛ لأنها كانت تجلس في مواجهتها، ولكنها لم تفهم أن ملامحها تلك كانت حسرة على حال ابنتها، وخوف عليها مما سيُقال، تعلم أن الأفكار السامة التي سممت عقول البشر على مدار قرون لن ترأف بها، سيتهمونها كونها الأنثى وهي من تُعاب؛ لأن كما هو متعارف الرجل لا يعيبه سوى جيبه، بينما الفتاة يعيبهايعيبها كل شيء وأي شيء، فإن كانت قد أنهى زواجه أو خطبتها يُعاب عليها هي ويُلقى اللوم عليها هي، حتى وإن كانت متزوجة من حيوان قذر لا يمت للانسانية بصلة!، سيرى الجميع أنها هي المخطئة وأنها كان عليها أن تعمي بصرها عن بعض الأشياء حتى تستمر العلاقة، دائمًا يكون التغاضي عن عيوب الطرف الآخر مطالب من المرأة بينما الرجل من حقه أن يعيب زوجته وينتقدها!، وكل هذا لاستمرار علاقة تستنزف طاقات أحد طرفين والذي يكون دائمًا المرأة، كل هذا حتى لا تُعاب وتنبذ من المجتمع، فيتوجب عليها قتل روحها داخل علاقة سامة بدلًا من التحرر من تلك العلاقة، ليتم قتلها من الجميع.

 

كانت والدتها تعلم كل هذا، مما جعلها تشعر بالحسرة على ابنتها التي سيتعين عليها مواجهة الأعين الشامتة والساخرة، والاستماع إلى كلمات مثل السم تُبصق من أفاعي بشرية.

 

كانت هاجر تتناول طعامها في صمت دون أن تحيد عينيها عن صحنها، حتى جذب انتباهها والدها الذي قال:

 

- سمعت إن ليلى وأختها كانوا عندك هنا امبارح

 

أومأت هاجر وقبل أن تتفوه بشيء، قالت والدتها بامتعاض:

 

- أه خربتها وجات تقعد على تلتها

 

تركت هاجر الملعقة من يدها وقالت:

 

- قصدك ايه يا ماما؟ 

 

زمت والدتها شفتيها وأجابت بلا مبالاة:

 

- قصدي كلنا عارفينه

 

تنهدت هاجر بتعب وهي تعلم أنه ستخوض الآن عراك عديم النفع مع والدتها كما المعتاد، فهي لا تستمع لها ولا تهتم لما تقوله؛ لهذا لم ترد هاجر أن تترك غرفتها، شبكت يديها معًا وقالت مدافعة عن صديقتها:

 

- على فكرة أنا فاهمة قصدك ايه ومستغربة بصراحة ردة فعلك دي؛ لأنك بتحبي ليلى أصلًا، إنما لما تيجي تضرب في معتقد عقيم من معتقدات المجتمع اللي أنتِ ما.. 

 

قاطعتها والدتها قائلة ببرود:

 

- اتكلمي معايا بأسلوب أحسن من كدا

 

زفرت هاجر بغضب وصمتت، ها هي تستخدم سلاحها التقليدي لتسكتها، كانت تراهن أنها لم تستمع لشيء مما قالته بالأصل، ولكنها أرادت فقط أن تنهي هذا النقاش قبل أن يبدأ، ولكن اليوم هي لن تتركها لتسكتها كما المعتاد، ستقول كل ما في جعبتها وترحل؛ لهذا اضطرت أن تتحدث بسرعة قبل أن تتمكن من مقاطعتها وقالت:

 

- أنا مش عيلة صغيرة هيتاكل بعقلها حلاوة، وليلى مخدعتنيش زي ما أنتِ مفكرة وإنها حرباية وعايزة تخرب عليا علشان غيرانة وكل الهبل ده، هي عرفت حاجه وقالتها وأنا لما واجهت زين ما أنكرش، وأنا مش مستعدة أكمل حياتي مع واحد متردد مش عارف ياخد قرار، وده نهاية النقاش

 

ثم تركتهم وهرعت نحو غرفتها ولكنها سمعت والدتها تقول باستنكار:

 

- شوفت يا عصام بنتك وتربيتها؟ 

يُتبع..