الفصل الثالث والعشرون - مرآة مزدوجة
الفصل الثالث والعشرون
« اليوم يبدأ العام الدراسي الجديد، أشعر بقليل من التوتر لمعرفتي أنني يُمكن رؤية سليم، فأنا أحاول أن أتجاهله وأبتعد عنه، فقد كانت تلك العلاقة خاطئة وقد وُجب انتهائها، فرغم أن والدتي كانت على علم بهذا الأمر منذ البداية، فقد كنت أخبرها كل شيء مثلما أخبرت ليليان، فأنا صريحة معها ولا أفعل شيء دون أن أخبرها حتى وإن لم تهتم بالاستماع، وحقيقة أستغرب تلك الفتيات التي تعتاد أن تكون صريحات مع آبائهن، ثم عندما يأتي ذلك الوسيم حتى اللعنة، الجيد، المحترم، المهذب وكثير من تلك السخافات ينسين ما اعتادن أن يفعلوا ويكذبن على آبائهن، ثم يقعن بالمشاكل ويبكين، حقًا؟ لا يمكنني وصف تلك الفتيات سوى بالسخافة، وأحمد الله كثيرًا على نعمة العقل الناضج التي أنعم بها عليّ التي جعلتني لا أتأثر بذلك السليم، بالنهاية من يتأثر بهذا المزعج الذي يحب الثرثرة، فهو يستدرجني في أحاديث كثيرة، ولهذا وجب الابتعاد بشكل نهائي، ولشدة دهشتي قد تقبل الأمر، هذا غريب ولكنه جعلني أشعر بالراحة، رغم مشاعري غير المفسرة نحوه، والدتي تقول هذا الحب، ولكني لست متأكدة من هذا، ما زلت أشعر أنني اعتبره مجرد صديق، ولكن ابتعادنا يضايقني بحق، وما يضايقني أكثر أنني سألتقي به بعد ساعة أو اثنين وسيتعين علي ألا أتحدث معه، فرغم كوني أعلم أنه خاطئ ولا يجوز، ولهذا طلبت منه ألا نتحدث مجددًا بالأصل، ولكني سأفتقد أحاديثه التي أنا وهو نعلم أنه فارغ ولكننا لا نهتم، سأفتقد محاولاته الغريبة والأعذار التي بتكرها للحديث معي، لأنه يعلم أنني لا أحبذ الحديث مع الشبان.
كانت أمي على علم بكل هذا، كانت قد نصحتني أن ابتعد عنه، كان الأمر مبهمًا في البداية ولكن عندما سألتها في وقت لاحق قالت أنها تخاف عليّ أن يحاول استغلالي، حسنًا هذا سبب محتمل عندما لا تعرف الشخص، ولكني أعرف سليم، وقد كان تحليلي له صحيحًا؛ لهذا لا أشك من هذا الأمر، أنا فقط لا يمكنني رؤية نفسي وهو معًا، مثلما تفعل الفتيات الواقعات في الحب، لا أصدق هذا حتى، يمكنني تخيلنا معًا نجلس ونتناقش ونتمازح كالأصدقاء، وقد أسعدني هذا التخيل كثيرًا أكثر من النوع الرومانسي، فحتى عندما أسمع أغنية رومانسية بالصدفة أو أشاهد إحدى الأفلام الرومانسية القديمة الكلاسيكية التي تدمنها ليليان وأرى سليم بعقلي، أشعر بالانزعاج كثيرًا والتقزز في بعض الأوقات، ببساطة لا يمكنني تخيلي أنا وسليم سوى أصدقاء نفعل أشياء خرقاء معًا، وربما هذا لرغبتي في علاقة تعتمد على الصداقة، فإن كنت أرفض الزواج، ولكن عندما تراودني تلك الفكرة أتمنى لو أتزوج من شخص يعتبرني صديقته وأعتبره صديقي، ربما لا أعلم. »
وضعت ليلى القلم والدفتر جانبًا وارتشفت ما تبقى من كوب الشاي ووضعته في الحوض، ارتدت ثيابها وذهبت للجامعة، تنهدت ليلى بحزن لم تحسب حسابه يومًا، فهي للمرة الأولى تذهب للجامعة بمفردها دون أن تذهب ليليان معها، فهي قررت أنها ستستمر بالعمل ولن تذهب لجامعتها في سبيل هذا، ثم تستذكر عندما تعود من العمل، كانت ليليان قد ابتعدت أكثر من السابق عنها وعن والدتها بسبب العمل، والآن ستبتعد أضعافًا مضعفة لأنها ستضطر للعمل والدراسة في نفس الوقت، كانت ليلى معتادة على ابتعاد ليليان، فرغم أنهما شقيقتات وتتشاركان كل شيء، إلا أن ليليان كانت بعيدة دائمًا، كانت تتحدث مع ليلى دائمًا ولكن ليس عن مشاعرها، ليلى تعرف أفكارها، تعرف طموحها، ولكنها لا تعرف أهم شيء، مشاعرها، فليليان تفضل أن تحتفظ بتلك الأشياء لنفسها، هي دائمًا هادئة مما يجعل من الصعب قرائتها.
أخذت ليلى نفسًا عميقًا وحدقت في الطريق بينما كانت تجلس في إحدى وسائل المواصلات بأفكار متضاربة.
***
تسلل سليم ببطء وسحب قلم علي المفضل من معطفه وهرول سريعًا نحو الخارج متوجهًا لجامعته، كان قلمًا باهظًا قابل للتعبئة ولطالما أعجب سليم وأراد الحصول على قلم مثله، ولكن والده قدمه لعلي كهدية عندما تفوق بالجامعة وكان الأول على دفعته، وسليم لم يصل لهذا المركز يومًا؛ لهذا لم يحضر والده واحدًا له، ولكن سليم لطالما أراد سليم هذا القلم؛ لأنه كما يُقال: الممنوع مرغوب، وسليم رغم أنه يعلم أنه عندما يعود للمنزل سيبرحه علي ضربًا وسينتهي بهما الأمر ينزفان الدماء ويضحكان كالحمقى، ولكنه لا يمكنه منع نفسه من رغبة في هذا القلم، هو يعلم أن الرغبة المفرطة ليست جيدة، وأنه يحاول أن يتوقف عن هذا في سبيل إصلاح نفسه، هو حتى لا يعلم لماذا أصبح جديًا في أمر التغير عندما قابل ليلى، ربما لأنها أشعرته أن الحياة ليست طويلة كما نظن وأننا علينا اغتنامها بطريقة صحيحة وألا نضيعها على العناد، كان هو داخليًا يريد أن يتغير وكان قد سئم مما يفعله وقد كان هذا النداء الخارجي بمثابة الإلهام له، حاليًا هو لا يتحدث معها كما أرادت، هو بدوره شعر بخطأ ما يفعلاه، وحتى في خطة إصلاحه لنفسه كان قد قرر أنه سيتوقف نهائيًا عن الاختلاط بأي فتاة، أي أن مبادرتها تساعده، ربما لن يتحدثا مجددًا، مما أشعره بالحزن، فهو قد اعتاد على التحدث معها ومشاكستها بأحاديث فارغة وأعذار واهية، سيفتقدها حقًا، هي صديقة جيدة بحق، صديقة يُعتمد عليها، لديه الكثير من المشاعر تجاهها، مما جعله يتمنى لو يبوح لها بما يخبئه بصدره منذ سنوات، ورغم أن علاقات تكاد تكون منتهية بشكل كامل إلا أنه يشعر أن سيتحدث في القريب العاجل، هذا الشعور راوده كثيرًا خصوصًا عندما ابتعدا عن بعضهما البعض، لأنه يعلم طبيعته التي تجعله عندما يتخلى عن شخص ما تجبره على العودة مجددًا له، فإن كان يبتعد عن ليلى الآن كما تريد، فهو سيعود لها.
❈-❈-❈
لم ترغب هاجر في الذهاب للجامعة بهذا اليوم، فهذا هو اليوم الذي يتقابل به الجميع ويدعون أنهم يكترثون وأنهم اشتاقوا لبعضهم البعض، وهم بالأصل لا يطيقون النظر في وجوه بعضهم البعض، كانت هاجر في العادة تختلط في تلك الأجواء مثلهم رغم علمها بالنفاق السائد على تلك الجلسات ولكنها لم تهتم يكفي أنها تعرف ما تضمره تلك النفوس الخبيثة بداخلها، ولكنها اليوم لم تستطع مواجهة أحدهم من تلك الحلقة المنافقة، لم تستطع حتى مواجهة ليلى لأنها تعلم أنها ستستمر بسؤالها عن حالها وإذا كانت حزينة أم لا، هل هي تتألم أم لا، وهي لا تريد أن تتحدث عن هذا الأمر، تكفي الفوضى العارمة بداخلها، ما زالت تلعن نفسها، لا تعلم كيف وقعت له بتلك السهولة والسرعة، وربما هذا ما يحدث لجميع الفتيات حتى وإن لم يكن هناك حب بينهما، ربما لهذا تتألم، ربما لهذا هي حزينة، والمشكلة الأكبر أنها تترك الباب مفتوح له، نصف مفتوح في الواقع، قد يحتاج بعضًا من الوقت حتى يفتحه، ولكنها تركته بالنهاية مفتوحًا له، وهذه المشكلة الكبرى!
تنهدت هاجر بتعب، لماذا يحدث لها كل هذا؟ لماذا تشعر بضعف لم تشعر به يومًا؟ لماذا عندما وثقت بشخص أشعرها بأنها قليلة وهينة وأنا لا تستحق أن يحبها أحدهم ويحارب من أجلها؟ هي لا تعلم وتمنت لو طرحت تلك الأسئلة على زين، ولكنها لن تعرف، ولن تسأل زين حتى إن رأته بالجامعة، لن تلتفت له ولن تبالي، عليها أن تعود كما كانت، لا تكترث، مخيفة وصعبة المنال.
أسدلت هاجر شعرها ودلكت فروة رأسها كي تخفف من الصداع الذي انتابها، ثم دثرت نفسها بالغطاء رغم حرارة الطقس وحاولت أن تنام قليلًا.
❈-❈-❈
كانت ليلى تقضي يومها في حضور المحاضرات والجلوس بالمقهى قليلًا بين المحاضرات، صادفت سليم عدة مرات يحضر معظم المحاضرات التي حضرتها ويجلس بالمقهى بدوره، ولكن لا أحد منهما وجه كلمة للآخر مثلما قالا بمكالمتهما الأخيرة، بينما جلست ليلى على الطاولة بمفردها، فهاجر لم تأتِ مما أزاد حزنها ويئسها، كان سليم يجلس على طاولة بفمرده في مواجهتها يمسك بالدفتر ويخدش به بعض الأشياء، مثل المرة الثانية التي راقبته بها بعدما تشاجرا، في لحظة استعاد عقلها الأحداث التي حدثت في ما يقارب الخمسة أشهر السابقة، زفرت ليلى طاردة تلك الذكريات عن عقلها، وارتشفت من القهوة التي طلبتها بينما بدأت تراودها أسئلة وجودية غريبة، فابتسمت وهي تتحسر على نفسها، صديقتها تعاني من مشكلة ومختفية، شقيقتها بعيدة ولا تعرف عنها، هي نفسها حزينة منذ أن أنهت كل شيء مع سليم، وتفكر الآن بأشياء غريبة مثيرة للضحك، جذب انتباهها سليم الذي نهض وكان في طريقه للمغادرة، لا إراديًا تعلقت عينيها به حتى أتى ما يزيد من تعكر مزاجها، رأت فتاة تتوجه نحو سليم وهي تحمل بيدها ورقة ما وطلبت منه شيء كما يبدو فبدأ سليم يتحدث معها، يعدل نظارته من وقت للآخر مثلما يفعل دائمًا عندما يتحدث عن شيء يعتبره مهم، راقبت ليلى الوضع جيدًا حتى ذهب كل منهما لطريقة وما زالت ليلى تراقب البقعة التي وقفا بها، هل ينوي أن يعود لتلك العلاقات الغبية والطفولية؟ لا تعلم ولا يمكنها أن تهتم بأن تعلم، فقد قُطعت علاقتهما تمامًا وهي لا تهتم حتى وإن تمنت لو استمعت حديثهما أو تمكنت من قراءة ما تقوله شفتيهما، هي لا تهتم حتى وإن تعكر مزاجها من رؤية هذا المشهد، لا تهتم حتى وإن شعرت بمزيج من الغضب والكره تجاه تلك الفتاة كونها تتحدث معه وهي لا، هي لا تهتم بالأصل ولن تفعل!
أنهت ليلى كوب قهوتها ودفعت ثمنه، ثم أخذت حقيبتها وكانت على وشك الذهاب لحضور إحدى المحاضرات، ولكنها شعرت أن وشاحها يكشف القليل من شعرها، فذهبت للمرحاض لتعدل وشاحها، وبينما كانت تثبت وشاحها مجددًا دلفت فتاتين عرفت ليلى إحداهما جيدًا، كانت تلك الفتاة التي تتحدث مع سليم منذ قليل، تبطأت ليلى فيما تقوم به حتى تستمتع لحديثهما، قالت الفتاة التي تحدث لسليم:
- بس والله كيوت وقمر وكدا كدا يعني كنت هحاول معاه.
ضحكت الفتاة الأخرى وقالت بتهكم:
- كيوت؟ إشحال هو اللي علم على علا اللي معلمه على شباب الدفعة كلها.
رفعت الفتاة كتفيها وأخفضتهما وقالت:
- ما هو شكله النوع ده هو اللي بيجيب مع البنات، اللي هو عرض تاخديه ترتبطي بيه وفي نفس الوقت كيوت وتربيه زي ابنك.
ضحكت الفتاتان معًا، ثم قالت الفتاة الأخرى بعد برهة بتشكك:
- بس تفتكري خطتك دي هتنجح؟، ده هو اللي ساب علا يعني وزمانها مش طايقاه.
وضعت الفتاة أحمر شفاه خفيف وقالت وهي تعدل من ملابسها:
- لا علا من النوع اللي عيني فيه واقول كخيه، حتى لو هو اللي سابها فهي عينها منه بردو، وهتتغاظ جامد لما تلاقيه معايا.
- طب يلا نروح نشوف سي السيد بتاعك ده.
ضحكتا مرة أخرى ورحلتا، لتنظر ليلى للمكان الذي وقفتا به كلتاهما بتقزز وقد جعلها حديثهما تستشيط غضبًا، لماذا واللعنة جميع الفتيات تعجب بذلك المزعج!، انتهت من تعديل وشاحها وبداخلها تلعن سليم وتلك الفتاتان والعلاقات البشرية والبشر بشكل عام، التقطت حقيبتها بغضب ونظرت مجددًا للمكان الذي وقفتا به وقالت مقلدة نبرة إحداهن بغيظ:
- يلا نشوف سي السيد.
ثم تابعت بانفعال:
- بيئة، بيئة، هو بيئة، وحتى اللي بيتلموا عليه بيئة زيه، أوف!
وتركت المرحاض بخطوات تكاد تكسر الأرضية بغضب جلي.
❈-❈-❈
كان عمر يقرأ إحدى الملفات بتركيز، ولكنه كان يفقد تركيزه عدة مرات، ثم يزجر نفسه ويحاول أن يعود لعمله، تلك كانت المرة الأولى التي يشرد بها أثناء العمل، كان يعلم أنه سيتعين عليه مواجهة ليليان عاجلًا أم آجلًا، ليس لأنه مجبر، ولكن لأنه يريد أن يخبرها، يريدها أن تسمعه، فليليان بنظره فتاة مميزة، يكفي قدرتها على الاستماع تلك، هو نفسه بعد كل تلك المحاولات في إيجاد شخصية مثالية يزيفها باحتراف، فهو لم يستطع أن يكون مستمعًا مثلها، يمكنه تخيلها زوجة كاتب ما، ستكون مثالية مثل زوجات الكُتاب في العصر القديم، النوع الذي يحافظ على هدوء المنزل حتى يتمكن ذلك الكاتب من التركيز على روايته أو كتابه، بل هي ستكون أفضل؛ لأنها متعلمة ومثقفة، ستناقش زوجها، ستعطيه أفكارًا ومواضيع هامة يتحدث عنها، ستكون زوجة مثالية لكاتب، وهو كاتب.
لقد اعترفت ليليان أسرع مما توقع، في الحقيقة في لم تؤكد ولم تنفي بشكل مباشر، حتى لا تجعله ينتصر عليها، ولكن من يمكنه قراءة ما بين السطور سيفهم أنها تؤكد له خوفها، حسنًا، لقد ظن أنها ستكون عنيدة، ولكنها أذهلته بكونها أكثر لطفًا من أن تتسلح بالعناد، وهذا يؤثر عليه بالسلب حقًا، وكونها قد اعترفت يعني أنه عليه أن يفعل المثل، فهو لم يكسر كلمة قالها يومًا، حتى وإن كانت لنفسه، لقد انتهى وقت المماطلة، وسيتعين عليه البوح بكل شيء، وربما لهذا كان يتعامل معها ببرود في الآونة الأخيرة، فهو يشعر أنها تسلب منه شيء ثمين عنوة وهو لا يستطيع المعارضة، بل هو من يقدمه لها بنفس راضية.
أغلق عمر الملف وشبك يديه واضعًا إياهما أمام فمه، لماذا الخوف؟ زين يخاف، ليليان تخاف، هو يخاف، لماذا الخوف هو السبب الرئيسي لجميع معاناة البشر، لماذا جميع المشاعر السلبية أساسها الخوف؟، وكأن الخوف هو الأب الروحي لكل شيء سيء، لكل معاناة؟ لا يعلم، فرك عينيه وأبعد جميع الأشياء عن مكتبه، ثم فتح حاسوبه الشخصي واستكمل كتابة روايته الجديدة.
❈-❈-❈
جلس زين بالمقهى بعد رحلة بحث طويلة عن هاجر، رأى ليلى تسير بغضب بمفردها نحو إحدى المدرجات، وصادف سليم الذي نظر له بازدراء وتابع سيره، إذًا هي لم تأتِ، ربما تتهرب، وربما لا طاقة لها للمواجهة، ربما ما زالت حزينة، المؤكد أنها ساخطة عليه، ولن تتوانى لحظة في صفعة ما إن تراه، يعلم كل هذا ومستعد له، كما أنه قد جهز العديد من الكلمات الذي سيرددها لها ليستفزها، فتصيح به غاضبة، أولهم اسمها، يعلم أنها تبدو خطة ساذجة، ولكنها في الواقع بحاجه للشجاعة، لمواجهة شخصية عنيفة مثل هاجر خاصة وهي ساخطة عليك، سيجعلك بحاجه للتأمين على حياتك، يعلم هذا ولن يهرب، يكفي ما أضاعه من وقت في سخافات ابتكرها عقله وخوف مزيف أراد إخفائه، كان عمر محقًا، في بداية الكثير من العلاقات تحدث خلافات سخيفة توشك على إنهاء العلاقة، وهذا ما حدث عندما استمع لتوجساته، ولكنه لن يفعل مجددًا، سيعيدها له مهما كلف الأمر من إعتذار أو تعرض للصفع، سيتحمل بكل سرور؛ لأنه السبب وراء هذا.
❈-❈-❈
كانت ليليان تعمل بذهن شارد، لا ترى حتى ما تفعله، فقد سيطرت عليها العديد من الأفكار المخيفة، فمنذ أن جعلها عمر تعترف أنها خائفة مترددة وهما لم يتحدثا، لماذا كان يضغط عليها بهذا الشكل حتى تخبره؟ هل كان يريدها أن تتحدث عن نفسها؟ هل يريد استغلالها؟ هل يريد أن يعلم عنها المزيد حتى يوقعها بفخه ويستغلها؟ ربما، بل يكاد الأمر يصبح مؤكدًا بالنسبة لها في تلك اللحظة، فقد رأت أن كل ما يفعله قد يجذب أي فتاة، ربما هو يستخدم تلك الاستراتيجية للإيقاع بالفتيات، ربما تلك هي تسليته، ربما هو شخص سيء عليها الحذر منه، ستكون حذرة بالمستقبل، لن تتحدث عن نفسها ولن تخبره عن أي شيء تشعر به، وهذا قرار نهائي.
سمعت صوت باب يُفتح، ونظرًا لقرب مكتبها من مكتب عمر تمكنت من سماع صوت خطواته الذي حفظته عن ظهر قلب، بدت لها تلك الجولة الأسوأ على الإطلاق، خصوصًا بعد أن كانت تفكر به تفكيرًا سيئًا جعلها تخاف منه، كانت تتمنى أن يمر بجانبها وينظر نظرة عابرة ثم يرحل، هي خائفة منه ولن تستطيع مواجهته وهي خائفة، عليها أن تستعيد رباطة جأشها أولًا، ولكن بدا هذا صعبًا خاصة أنها عليها أن تركز بعملها حتى لا يوبخها، أو على الأقل تدعي ذلك.
بعد دقيقة أو اثنتين تمكنت من تجاهل وجوده بالمكان والتركيز على عملها، سارت الدقائق اللاحقة بخير، فهي ما عادت تشعر بأحد حولها ونصبت تركيزها على الحاسوب أمامها، كان ذلك حتى وصل عمر لمكتبها ووقف خلفها لوقت طويل، عندها فقط فقدت تركيزها وأصبحت مشتتة لا تعلم ماذا تفعل، توقفت يدها تلقائيًا عن العمل وبقيت ساكنة تدعو الله داخليًا أن يجعله يبتعد الآن، حمحم عمر ليجذب انتباهها وقال جملته المعتادة التي بدت روتينية بالنسبة لها، بينما جعلت الآخرون يبتسموا بخبث:
- أبقي هاتي لي شغلك، آنسة ليليان.
ثم تركها وذهب لمكتبه مجددًا، لتتنفس ليليان الصعداء، ثم تحاول أن تجد طريقة جديدة للتعامل عندما تصبح في مكتبه.
وبالفعل في وقت الاستراحة طرقت ليليان على باب المكتب، كانت بداخلها مليئة بمشاعر متضاربة لا تعلم كنها، فهي تشعر بالشيء ونقيضه بطريقة تضايقها، ولكنها ذكرت نفسها أن كان جيدًا معها حتى الآن، ذكرت نفسها أنه شخصًا محترمًا، ويجب أن تحسن الظن به رغمًا عن أنف جميع توجساتها التي تخيفها، فهي تمعنها عن استكشاف الحياة ومعرفة ما بها من أشياء جديدة، مهلًا! هذا يعني أن عمر محق؟ هذا الرجل يتمكن من قراءة البشر وكأنهم كتب بمكتبته ينتقي منهم ما يريد ويقرأه بسلاسة، أذن لها عمر بالدخول، ففعلت وتقدمت لتجلس على المقعد، كان عمر يسير بخطوات أقرب للهرولة في المكتب بنشاط ملحوظ وكأنه يعاني من فرط الحركة، نظرت له بأعين متوسعة قليلًا من الدهشة، التقطت الدفتر والقلم منتظرة أن يبدأ حديثه، ولكنه فاجئها قائلًا:
- لا لا سيبك من ده، خلاص مفيش أسئلة وجودية تاني خلاص.
وضعت ليليان الدفتر والقلم مجددًا ونظرت له باستفتسار، كان عمر يحاول أن يجد طريقة للتحدث معها عن الأمر، كان يحاول المماطلة قليلًا، ولكنه أخبر نفسه عدة مرات أن وقت المواجهة قد حان وأنه مخير وليس مسير، جلس على المقعد المواجه لها وابتسم وقال بنبرته الهادئة المعتادة:
- زي ما سألتك عن نفسك وقعدت أزن، وأنا زنان فعلًا، جه الوقت اللي تسألي فيه وأنا أجاوب.
تنهدت ليليان براحة، هذا يزيل جميع توجساتها، هو سيخبرها عن نفسه مثلما فعلت، أهذا يعني أنه يثق بها؟ بدا هذا لها كشعور دافئ يدعو للاطمئنان، وخاصة لأنه هو من سيتحدث وهي من ستستمع، فكرت عدة مرات حتى تذكرت سؤالها القديم وقالت:
- طب مبدأيًا تسمح لي أقولك عمر من غير كلفة؟
رفع عمر كتفيه وأخفضهما وقال بلا مبالاة:
- زي ما تحبي، أنا أصلًا قولت لك ده من زمان وأنتِ رفضتِ.
ابتسمت ليليان ابتسامة صغيرة وقالت بنبرة بدت في غاية اللطف كونها تشعر بالخجل منه دون سبب واضح منذ أن أخبرها بحريتها في سؤالها عما تريد:
- أنا كنت سألتك سؤال لما جيت زورتني في البيت، فاكره؟
ابتسم عمر وأسند ظهره إلى ظهر المقعد، إنها تصر أن تعلم أعمق أسراره والذي لم يعلمه أحدًا، ولكن هذا من حقها بالنهاية؛ لأنه بدوره كشف عن أعمق سر بداخلها، ولكنه لن يعطيها الإجابة فورًا، سيماطل قليلًا؛ لهذا قال وهو ينظر داخل عينيها البنيتين:
- هقولك، بس في الأول قولي لي ايه اللي خلاكِ تفكري كدا؟
أجابت ليليان بتلقائية وابتسمت باتساع كونها تعلم أن إجابتها ستدهشه:
- أصل أنا علشان ساكتة على طول، بركز في الناس وبسمع لهم وبترجم حركات جسدهم وكدا، يعني رغم إني أبان على الله حكايتي بس بردو مش ساذجة وبشوف وبلاحظ، لاحظت أكتر من مرة إنك بتفكر جامد وبتركز في كل كلمة بتقولها وكل كلمة بتقولها بتبقا بترضي جميع الأطراف فـ تلقائي ربطت الاتنين ببعض، ولقيت إنك بتحاول ترضي الناس بكافة الطرق.
نظر لها عمر بدهشة وضحك بهدوء، لم يتخيل أنها بدورها تحلل شخصيته أو الشخصيات المحيطة بها بشكل عام، لقد انقلب السحر على الساحر، ولكنه يشعر بالسعادة من وقوعه تحت إحدى التعاويذ، خفتت ابتسامته ثم تحولت ملامحه للعملية وأجاب مقررًا أن كل كلمة سيقولها ستكون صادقة:
- بصي إجابة ده بتحتاج نرجع ورا شوية، أنا كنت وحيد زمان زيك يعني، بس الفرق إن محبتش الوحدة دي، فـ جيت غيرت من نفسي بشكل كامل، بقيت بلبس أسود علشان أجذب الأنظار علشان الأفكار المعتادة المترسخة في عقولنا كلنا إن الشخص العملي بتاع الشغل وبس ده شخص بيلبس أسود وصارم وجدي وكل كلامه موزون وبيرضي جميع الأطراف وكل حاجه بيعملها بتبقا لامعة ومميزة وبتعجب الكل، فبقيت الشخص ده، صحيح إن الموضوع خد مني وقت طويل بس وصلت وبقيت بالنسبال الناس حاجه ياما هنا ياما هناك.
إذًا هو وحيد مثلها، كان أمرًا غير متوقع بالنسبة لها، فحقًا تلك الشخصية التي رسمها كان محترفًا بحق في رسمها، حسنًا لقد استمعت، ولكن عليها أن تتحدث الآن وتقدم النصح مثلما كانت تفعل دومًا فقالت بهدوء ماثل نبرة صوته:
- اسمح لي أقولك إنك غلط، هشرح لك، أنا على فكرة مش حابة وحدتي، بس على الأقل مش ماشية أرضي في الناس، ومبسوطة بحياتي زي ما هي رغم إني بتعرض للانتقاد على أسلوب حياتي، بس مش مهم!، كفاية إني مبسوطة وعايشة مرتاحة، مش مهتمة بكلام الناس لأني لما سمعته كنت برجع لورا مبتقدمش وبان لي إن تقدمي ده وهمي، رغم إني أصغر منك وفيه فرق بيني وبين حوالي ست سنين، بس خليني أديك نصيحة بما إني وحيدة زيك، متفكرش تبهر الناس طول ما أنت مش مبسوط.
أرادت الهروب منه في تلك اللحظة ولا تعلم لماذا، ولكنها لم ترد أن ترى ردة فعله، وأرادت أن تتركه يفكر بما قالته علها تكون سببًا في مساعدته؛ لهذا نظرت لساعتها التي أشارت أن وقت الاستراحة قد قارب على الانتهاء، فقالت:
- الوقت خلص للأسف وهضطر أخرج علشان أروح شغلي.
نهضت وتوجهت نحو الخارج ولكنها لم تشعر بنظراته التي تابعتها والابتسامة التي ارتسمت على فمه.
يتبع