رواية ذنبي عشقك - بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل السابع
رواية ذنبي عشقك
بقلم الكاتبة ميرا كريم
الفصل السابع
رواية
ذنبي عشقك
أتعجب من تلك العاصفة التي تكتسح رأسي
وتكاد تنزع ثباتي معها،
فكيف تعصف بدواخلي لهذا الحد و لا تحرّك غصنًا؟
❈-❈-❈
عاد إلى منزله بعد انتهاء عمله ليجد والدته تجلس برفقة تلك الطبيبة التي كانت تجلس تقرأ لها وفور أن رأته هبت من مكانها قائلة:
-طب عن أذنك بقى يا طنط اتأخرت على بابا بإذن الله نكمل الكتاب مرة تانية
تركزت نظراته عليها يستغرب حضورها بعد عجرفته معها فكان يظن أنها سوف تنقطع عن زيارة والدته ولكنها فاجأته وحضرت لذلك تحمحم بشيء من المجاملة:
-مستعجلة ليه يا دكتورة
أجابته بصوتها الرفيع وهي تتحاشى النظر له:
-معلش عندي عملية الصبح ولازم اكون نايمة كويس عن أذنكم
لتعترض "ليلى" وتقترح:
-طيب يا بنتي بس على الاقل خلي "سليم" يوصلك
زجر والدته بعدم رضا كي تكف عن توريطه فهو يقسم أن فقط صوتها يصيبه بنخر قواه السمعية فكيف سيتحمل ثرثرتها وهو يوصلها وتبقى بقربه بتلك الرائحة الفجة التي تفوح منها و تشعره بالغثيان، فكاد يتحجج لولآ انا سبقته هي معترضة:
-لأ شكرًا دي كلها خطوتين للبيت
عن اذنكم
قالتها وهي بالفعل تخطوا للخارج وإن غادرت اقترب من والدته ومال بجزعه عليها يقبل رأسها ثم ارتمى على الاريكة المجاورة بأرهاق لتعاتبه" ليلى":
-فيها ايه لو كنت اصريت توصلها دي البنت كتر خيرها قعدت معايا من الصبح ومرضتش تسيبني لوحدي
تأهب بجسده وتسائل مستغربًا:
-ليه هي "صباح" مجتش؟
-لأ اتصلت بيها كتير تلفونها مقفول تلاقيها مشغولة مع بنتها وبصراحة مرضتش اتصل بيك واقولك علشان متسبش شغلك وتيجي
ربت على ساقها ثم هدر:
-بس يا "ليلى" كانت بلغتني
اكيد حصل حاجة دي أول مرة تحصل من يوم ما اشتغلت معانا
-واللهِ ما عارفة يا ابني
طمئنها بحنو و ببسمة هادئة:
-متقلقيش يا ست الكل بكرة هروح اطمن عليها وبالمرة اروح اخد إيجار الأرض
دعت هي من قلبها:
-ربنا يقويك ويخليك ليا يا حبيبي معلش انا عارفة انك نفسك ابيعها واخلص من همها بس دي الحاجة الوحيدة اللي فضلالي من أهلي ويعز عليا اشوفه بقت بور علشان كده أجرتها علشان خيرها ميتقطعش زي ما ابويا كان عايز
-عارف يا "ليلى" و وعد مش هتكلم معاكِ تاني في بيعها
-طيب يلا قوم انا و"ميسون" طلبنا أكل وعملنا حسابك... كُل وارتاح ومتقلقش أخدت العلاج وهدخل أنام
-طيب هوصلك اوضتك الأول
اومأت له وإن فعل واطمئن عليها
توجه لغرفته كي ينعم بحمام دافئ ومن بعدها بحث عن الطعام و هو يشعر بأمعائه تستغيث تطالب به، فقد جلس على أحد مقاعد تلك الطاولة التي تتوسط مطبخه ينظر لعلبة الطعام بإحباط شديد فلا يحبذ ابدًا الطعام السريع يشعره بعدم الراحة ليزفر حانقًا وينهض يفتح باب تلك الشرفة الصغيرة داخل المطبخ والتي تطل على الشاطئ مباشرًا...وقف يستند بكفوفه على سورها يستنشق الهواء لعله يلهيه عن صوتها الذي مازال يتردد داخل رأسه.
فنعم! هو متسرع لحد كبير وغالباً ما يفرض نية السوء بحكم عمله، وكل ما مر به اجبره أن يضع الجميع موضع شك؛ ولكن اليوم بعد خطابها المفعم بالكبرياء وعزة النفس شعر ولأول مرة بالندم كونه تسرع في حكمه عليها،
فمجرد استخدامها لكلمات بسيطة دون تطاول استطاعت أن ترد اعتبارها وذلك حقًا افحمه وجعله يقف امام ذاته كي يعيد حساباته فنعم هي كل الحق معها؛ لا ذنب لها بجحود أخيها ولا ذنب لها ان القدر القى بها في طريقه ولا كون فضوله اللعين دفعه نحوها أجل ذلك المسمى الذي انطبق عليه حين أمطرها بتساؤلاته التي لا معنى لها...حسنًا هو يشعر بالرضا مهما كان ردها فصدقًا اهون بكثير من سوء توقعاته التي كاد عقله ينسجها لها.
مهلًا لمَ بالأساس يدفعه فضوله نحوها!
ألم يقنع ذاته أنها كتلة بائسة استفزت ضميره اليقظ ليس إلا.
نعم يقسم أن ذلك ما حاول إقناع ذاته به بالايام السابقة ولكن بعد حديثها اليوم نظرته المحدودة لها قد تداعت فمن كانت أمامه اليوم هي ذاتها الانثى الشـ رسة التي تـ صدت له وجابـ هته يوم أن ارتطم بها واسقط الطعام من يدها فلا ينكر وقتها أنه تعمد استفزازها ليستمتع بردود افعالها.
لـ عن ذاته بسره وهو يتدارك كونها استحوذت على تفكيره بلا داعي ليزفر أنفاسه حانـ قًا ثم
توجه لغرفته دون طعام وكأنه دون ان يعي أراد أن يعاقب ذاته فتلك الأفكار التي تعصف برأسه لا تتناسب بأي شكل مع قواعده الثابتة.
❈-❈-❈
أما عند ذلك الصالح الذي لم ينل صفة واحدة من اسمه فقد عاد إلى المنزل بعد ان اطمئن أن لا شيء سيحدث فقد أخبروه رجال "سلطان" أن الأيام التي مرت لم يأتي ذلك الضابط ولم يبحث عنه مرة آخرى لذلك اعتقد أن الأمر مر بسلام لذلك أول شيء كان يفعله هو زيارة طليقته فقد طرق باب غرفتها لعدة مرات لحين فتحت هي متوجسة:
-خير عايز ايه؟
إزاحها عن طريقه ثم تقدم بخطواته لداخل الغرفة يجول بعيناه في أرجائها هادرًا:
-ده انتم عيشتكم ارتاحت بقى وانا معرفش
ابتلعت ريقها واجابته عرفانًا بجميل "شمس":
-اختك الله يسترها هي اللي جابت كل ده
حانت منه بسمة سامة متوعدة وسب "شمس" بخفوت لم يصل لها:
-بنت*** ضيـ عت الفلوس على الاونطة
-عايز ايه يا "صالح" جيت ليه اوعى يكون طلع عندك دم وجاي تسأل على ابنك
نظر نحو ابنه الغافي على السرير ثم اجابها بجـ حود غير عادي:
-ابني ما هو زي الفل اهو ونايم على سرير مبينمش عليه ابوه
انتفخت أوداج "بدور" من جحـ وده و
انانـ يته اللا متناهية وقالت وهي تقف على أعتاب الغرفة تفتح بابها على مصراعيه:
-طيب طالما مش جاي علشان ابنك يبقى اتفضل من غير مطرود انا مبقتش على ذمتك وميصحش وجودك هنا
ضحك بملئ صوته الغليظ ثم تهكم قائلًا:
-بتردهالي يا بت ماشي...على العموم أنا جاي اسألك على "شمس"
انقـ بض قلبها وتسائلت متخوفة:
-مالها "شمس"
-بقالها كام يوم سايبة البيت ومعرفش طريقها وانا ورجالة "سلطان" بندور عليها
-اكيد عملتلها حاجة" شمس "عمرها ما هتبعد غير لما تكون انت عامل مـ صيبة فيها
-متكتريش في الكلام و جاوبي وبس تعرفي عنها حاجة
نفت برأسها ليحذرها هو:
-لو طلعتي بتكدبي عليا يا" بدور" هزعلك
-قولتلك معرفش
هز رأسه بتفهم وتناول هاتفها الصغير قديم الطراز الذي بالكاد يفي بالغرض ودسه بجيب بنطاله قائلًا:
-تليفونك يلزمني
كادت أن تعـ ترض ولكنه باغتها وهو يقترب منها ويقـ بض على فكها ببسمة مليئة بالخـ بث:
-متخافيش هرجعه بس لما اوصلها أصل انا عارف اختي قلبها رهيف واكيد هتتصل بيك علشان تطمن على المحروس ابنك
ذلك آخر ما نطق به قبل أن يتركها تبصق في ظهره وتلعن سوء اختيارها لتغلق باب غرفتها و تهرول تضم صغيرها وتدعوا ل "شمس" أن ينجيها منه و يرأف بحالها.
❈-❈-❈
ذهب لمنزلها بعد يأس من محاكاتها وإن وصل لهناك اخبروه جيرانها بأنها اصيبت في حادث سير وترقد بالمشفى، وها هو يطرق على باب الغرفة ويدخل لها ليجدها ترقد في الفراش لا حول ولا قوة لها...اقتربت منه ابنتها قائلة فور أن وقعت عيناها عليه:
-شوفت اللي حصل لماما يا "سليم "بيه
احتل الحُزن معالم وجهه و واساها قائلًا:
-ألف سلامة عليها يا "شيرين"
متقلقيش الدكتور طمني
-بجد طمنك
اومأ لها بتأكيد ثم سألها:
-اومال فين خطيبك مش معاكِ ليه
اجابته بحرج وهي مطرقة الرأس:
-راح يتصرف في فلوس علشان حساب المستشفى
تنهد واخبرها بمودة وطيب اصل:
-انا دفعت الحساب قبل ما اطلع
ليخرج من جيبه حفنة نقود ويضعها على الكومود ويتابع:
-ده مبلغ خليه معاكِ لو احتاجتى حاجة…
قالت بحرج شديد:
-بس ده كده كتير يا "سليم" بيه
قال هو بكل ثقة:
-الفلوس دي حق امك
امتنت له قائلة:
-والله ما عارفين نودي جمايلك فين
-ده واجبي وانتِ وامك مسؤولين مني وبإذن الله هتبقى كويسة والفرح هيتعمل في معاده
-فرح ايه بقى المهم اطمن عليها
-ربنا يطمنا عليها ياريت أي جديد تبلغيني بيه وانا هاجي ازورها تاني واطمن بنفسي
قالها قبل ان يغادر تاركها تنظر لآثاره وهي حقًا ممتنة له فبعد وفاة والدها في أحد المهام معه وهو يشعر بالمسؤولية تجاههم و لا يقصر معهم في شيء.
❈-❈-❈
بعد مرور عدة أيام مرت عليها دون جديد سوى عملها الممتع مع" حكمت" التي بالفعل بدأت به، فنعم ممتع وكيف لايكون وهي تفعل الشيء التي تعشقه وتجيد صنعه حد التميز.
فمع أول مال حصلت عليه من عملها قررت أن تبتاع بعض الأشياء الشخصية التي تلزمها فلم تستغرق كثيرًا من الوقت بسبب خـ وفها أن يراها أحد يعرفها ويبلغ شقيقها وها هي تسير في طريق العودة حين لمحته عن بُعد يجلس أمام محل الجزارة خاصته، فقد اسرعت في خطواتها على أمل أن لا يراها ويلتهي بمن يضع الارجيلة أمامه،
فكانت لا ترفع انظارها عن الأرض وهي تهرول حاملة الأكياس حين ظهر امامها من العدم عارضًا خدماته:
-عنك يا مزمزيل خليني اوصلك بيهم
انتفخت أوداجها وقلبت عيناها بسأم من محاولاته المتكررة في اعتراض طريقها ثم رفضـ ت بإقتضاب وهي تكمل سيرها:
-لأ شكرًا
لـ حق بها يتعلق بما تحمله قائلًا:
-هاتي بس وبلاش الوش الخشب ده يا مزمزيل ده انا قلبي عليكِ
نطـ رت يدها بالأكياس كي يتركها ثم هدرت بحنق:
-قولتلك شكرًا يا عم "صابر" ولو سمحت بقى مش في الرايحة والجاية توقفني ميصـ حش كده انا زي بنتك واللي مترضهوش عليها مترضهوش ليا
رفع منكبيه وأجابها وكأن ما سيقوله سيتشفع له:
-بس انا معنديش بنات لمؤاخذة
استفزت من طريقته وهدرت بنبرة
شـ رسة عدائـ ية:
-اسمع انا عارفة ان البيه موصيك عليا بس لغاية كده وكتر خيرك وكل اللي ليك عندي ايجار الأوضة وبإذن الله كل اول شهر هيكون عندك... غير كده لأ ومش من حقك توقفني ولا تتكلم معايا من غير سبب
القت حديثها بوجهه وغادرت تاركته يستشيط غيظًا من صـ دها المتكرر له
فقد عدل من موضع جلبابه فوق كتفه حين لاحظ وقوفه في منتصف الطريق لتزوغ نظراته بحرج و يعود لمقعده يتناول خرطوم ارجيلته يسلب انفاسًا ضبـ ابية متعددة لحين قال مساعده وهو يرص الفحم المـ شتعل فوق الحجر:
-لسه منشفة راسها شكلها تمام وملهاش في الجو ده يا معلمي
لوح بيده يدعي الثقة:
-ده تقل اسألني أنا بس اعمل ايه طالعة من عيني وصنف جديد هـ موت واجربه
-طب عندي فكرة يا معلم
-قول يا ناصح
ليـ بخ سـ مه في أُذنه:
-روح للباشا واطلبها منه وساعتها هتلين وتقدر أنك رايدها في الحلال ونظرتها ليك هتتغير
راقت له الفكرة كثيرًا ولكن هناك أمر يجعله مترددًا إلا وهو:
-اتجوزها طب وافرض "سنية" عرفت دي هتهد الدنيا على دماغي
-وهي هتعرف منين بس ولو عرفت ساعتها هتـ نكر و تطلق البت وترميلها قرشين يسدوا بؤقها هي أول مرة يا معلمي
هز رأسه دليل على اقتناعه بالأمر ثم ببسمة سـ امة تحمل خلفها نوايا مسـ تترة سحب نفس طويل من ارجيلته ثم زفره بتمهل شديد وهو يمني ذاته أنه سيحصل عليها بتلك الطريقة ثم إن نال غرضه سيلحقها بغيرها.
❈-❈-❈
فتحت بابها هاتفة فور أن شعرت بها تصعد الدرج:
-كده برضو يا "شمس" كل ده غياب
اجابتها "شمس" بتنهيدة مثقلة:
-معلش يا "حكمت" كنت بجيب كام حاجة ناقصاني
-ضيعتي الفلوس يا فقـ رية ده احنا لسه في الأول
ابتسمت ببهوت وقالت برضا:
-مش مشكلة الفلوس تتصرف ربنا هيكرم و هيبعت غيرها
لتعقب "حكمت" مُستبشرة:
-إن شاء الله هيكرمنا احلى كرم ده الكام يوم اللي اشتغلتيهم معايا الطلبات نازلة زي الرز ومش ملاحقة...لتضيف وهي تشير على ذاتها بثقة:
-اصل انا كان ليا نظرة وقولتلك وشك حلو ومتفائلة بيكِ
ربتت "شمس" على كتفها بلطف لمدحها ثم قالت:
-إن شاء الله...انا هطلع أوضتي
عايزة حاجة
امعنت "حكمت" النظر لها ثم تسائلت بريبة:
-مالك شكلك مش عاجبني حاجة حصلت؟
تلـ جم لسانها وكل ما صدر منها أن عيناها التمعت بالدموع لشهق "حكمت" وتجذبها هاتفة:
-في ايه بس تعالي ادخلي واحكيلي
انصاعت لها وفور أن دخلت قصت لها عن مضايقات ذلك ال"صابر" لها
لتضرب "حكمت" فوق صـ درها وتنطق كـ ارهة:
-وبعدين في الراجل ده مش هيرتاح غير لما انزل اعرفه مقامه
نفت "شمس" برأسها ومنعتها قائلة بصوت مخـ تنق على حافة البكاء:
-لأ انا مش عايزة فضـ ايح...وكل اللي طلباه أعيش في حالي بكرامتي ومش عايزة حاجة غير اني ابقي مرتاحة
لتفر دموعها هاربة من سـ جن عيناها الآبية وتتسأل بنبرة مثقلة بالكثير:
-هو كتير عليا يا "حكمت" ارتاح
واستها "حكمت" بود وبكلمات طيبة:
-مفيش حاجة كتير عليكِ يا بت ده أنتِ تستاهلي كل خير
واكيد ربنا هيعوضك
ابتسمت بسمة مـ ريرة تتزين بدموعها ثم غمغمت وألـ م الـ خذلان يطعـ ن احشائها:
-صعب اوي الواحدة تعيش في الدنيا دي لوحدها أنا رغم كل مساوء "صالح" واللي كان بيعمله فيا بس كنت بتحمله وكان عندي استعداد اعمل أي حاجة علشان مبقاش لوحدي لتشهق ببكاء مرير وتضيف والغصة تخنق كلماتها:
-لكن بعد ما هونت عليه وكان عايز
يـ موتني صعبت عليا نفسي...صعب أوي تهوني على اللي منك يا "حكمت" والأصعب منه أنك تحسي أن ملكيش ظهر والكل بيستباح كسرك
غامت عين "حكمت" حُزنًا على حالها ثم جذبتها لاحضانها قائلة:
-بت انتِ أنا قلبي رهيف ودمعتي قريبة بَطلي عياط وارمي ورا ظهرك
وبدل أن تتوقف تزايد نحيبها وكأنها كانت بحاجة لذلك الحضن الدافئ لتطلق سراح دموعها
فما كان من "حكمت" غير أن تربت على ظهرها وتواسيها بالدموع مثلها وبينها وبين ذاتها تدعو الله لها أن يريح بالها ويهبها السكينة التي تفتقدها.
❈-❈-❈
كان يجلس داخل مكتبه يهاتف والدته ربما للمرة العاشرة لذلك اليوم فيكاد يـ موت من شدة قلقه عليها كونها بمفردها ورغم أنها تخبره في كل مرة انها بخير وتتدبر أمرها ولكن هو لم يكن مُرتاح بالمرة...اغلق معها متنهدًا يفكر جديًا في أمر بعينه لحين
اتاه احد العساكر قائلًا بعدما ادى التحية بتبجيل:
-في راجل بره اسمه "صابر" عايز يقابلك يا "سليم" بيه
انعقد حاجبيه وتسائل مستغربًا:
-مقالش عايز ايه؟
-لا يا فندم
-طب دخله وابعتلي قهوة
اطاعه العسكري وفي غضون ثوانِ كان يدخل "صابر" بهيئته المتغيرة بتلك الحِلة الرمادية وحذائه اللامع وخصلاته الذي غزاها الشيب يثبتها بشكل غريب جعلت بسمة ساخرة تكاد تظهر على فمه ولكنه كبتها بصعوبه قبل أن ينهض يصافحه:
-اهلا يا معلم "صابر" اتفضل
صافحه "صابر" وجلس مواجه له قائلًا:
-يا مراحب يا "سليم" بيه
ليجلس "سليم" مرة أخرى ويتسأل بترقب:
-خير
عدل "صابر" من ياقة قميصه وكأنه يتباهى بحِلته معدومة الذوق ثم قال ببسمة واسعة:
-خير… كل خير
ليتحمحم يجلي صوته ويتابع:
-انت عارف يا "سليم" بيه إني ميسور الحال وعندي بدل الجزارة اتنين ده غير البيت وعندي في البنك اللي يكفيني وزيادة
زفر "سليم" بملل من تباهيه البـ غيض وقاطعه بنفاذ صبر:
-من غير مقدمات كتير يا معلم "صابر" الله يكرمك قول عايز ايه
-"شمس"
باغته باسمها دون مقدمات، لتتجمد معالمه ويتأهب برأسه وينطق متسرعًا:
-مالها
اتسعت بسمة "صابر" واجابه متأملًا:
-عايزها في الحلال وجاي اطلب ايدها منك علشان اكيد هي هتهابك و تعملك خاطر
انكمشت معالمه يستنكر الأمر وضم قبضة يده بقوة يحاول كظم غيظه وهو يقول:
-بس أنت متجوز
اجابه بملامح ضاحكة مستفزة:
-وماله يا بيه الشرع محلل اربعة وطالما اقدر اصرف عليها إيه المشكلة
تحدث من بين أسنانه بغيظ:
-المشكلة انها اصغر من عيالك يا معلم
ليرد "صابر" بتبجح وبذات الملامح الضاحكة التي استفزت "سليم" بشدة وجعلت الدماء تغلي برأسه:
-وماله الراجل مننا محتاج واحدة صغيرة علشان تراعيه وتدلعه وترجعه لأيام الشباب تاني
جز على نواجذه بقوة من تبجح ذلك الصابر المتصابي وبمجرد فكرة عابرة مرت برأسه تسأل مترقبًا:
-هي اللي قالت ليك تيجي تطلب مني الطلب ده
اجابه "صابر" وقد تهدلت معالمه دليل على استيائه:
-الشهادة لله يا بيه لأ دي مش عطياني ريق حلو بس ولاد الحلال نصحوني اجيلك وعندي عشم أنك تقنعها وتخليها توافق
اعتلى جانب فمه وعقب ساخرًا:
-هو انت جبت العشم ده منين عايز افهم
برر هو ببسمة بلهاء:
-يا بيه أنت كلمتك مسموعة ولو قولتلها كلمتين في حقي هتوافق
هز "سليم "رأسه وكأنه يرفض من الاساس التفكير بالأمر ثم هدر بعصبية مُفرطة غير مبررة بالمرة:
-طلبك مرفوض من غير حتى ما اسألها لان مفيش حد عاقل هيوافق على اللي انت بتقوله ده.
استغرب رفضه كثيرًا وتسائل بنبرة متهكمة:
-ليه يعيبني ايه ولا مكنش أد المقام يا بيه
زمجر الأخر غاضبًا يحاول جاهدًا أن يتحكم في زمام نفسه:
-افهمها زي ما تفهمها أنا قولت اللي عندي
هب" صابر" من مقعده وقال نادمًا:
-يظهر إني غلطت لما قولت أكبرك يا بيه على العموم أنا هفاتحها بمعرفتي ومش عايز خدماتك
دون أي منطقية أو ادنى تعقل ثارت ثائرته ونهض ينقض عليه يرفعه من حاشية ملابسه هادرًا بلا تهاون:
-لو وصلني منها إنك اتعرضتلها ولا كلمتها هيكون ليا تصرف تاني معاك... الموضوع ده تشيله نهائي من راسك فاهم
جحظت عين" صابر" من تصرفه وهدر بغل:
-وانت محموق ليه كده كنت وصي عليها
-اسمع يا راجل انت متعـ صبنيش أكتر من كده علشان انا خلقي ضيق ومضمنش ممكن اعمل فيك ايه لو ما مشيتش من قدامي
قالها من بين اسنانه بعصبية مفرطة وهو يدفعه صوب الباب فما كان من الآخر غير انه عدل من سترته وقال بنبرة متوعدة تحمل الغليل بين طياتها:
-بقى كده! طب تشكر اوي يا "سليم" بيه
ليغادر "صابر"بخطوات غاضبة تارك "سليم" خلفه يكاد يطحن اسنانه من شدة ضغطه عليها حتى أنه تناول المنفضة الكرستالية الموضوعة على سطح مكتبه وألقى بها نحو الحائط هشمها و قد تناثرت شظايا الزجاج منها كما تهشم ثبات أفكاره داخل عقله وتناثرت الحيرة معها.
❈-❈-❈
وضعت لمساتها الأخيرة على قالب الحلوى قبل أن تغلفه وتسلمه ل "حسام" كي يوصله وبعد أن انتهت صعدت لغرفتها وهناك على بابها وجدت سيدة بشعر اصفر فاقع و بملامح ملطخة بمواد التجميل بشكل فج تقف متأهبة وتضع يدها بخصرها، استغربت "شمس" وتسائلت ترى من تكون! ولكن حين باغتتها بسؤالها علمت من هي:
-أنتِ الساكنة الجديدة اللي جوزي "صابر" مقعدها في الأوضة
هزت "شمس" رأسها بتنهيدة حانقة
لتستأنف السيدة بصوت جهوري غير عابئة:
-تلمي حاجتك ومش عايزة اشوف وشك تاني إحنا خلاص مش عايزين نأجرها
-ليه؟
اصدرت صوت ساخر من فمها ثم تخصرت أمامها متهكمة:
-بقى مش عارفة ليه ده الحتة كلها بتتكلم وبتقول ان عينك من المعلم ورامية شباكك عليه
أوضحت "شمس" بصدق دفاعًا عن ذاتها:
-اقسملك مفيش حاجة بيني وبينه هو اللي بيفرض نفسه عليا
لوت فمها وشـ ككت بها:
-وانا مفروض اصدق اشكالك
استنكرت طريقتها بعصـ بية وهي تمهل ذاتها كامل الوقت قبل أن تتهور وتنقض عليها:
-انا مغلطتش فيك لو سمحتي اتكلمي كويس أنتِ ست كبيرة وانا لغاية أخر وقت عايزة احترمك
-أنتِ اللي هتعلميني اتكلم ازاي يا بت ولا ايه!
زفرت "شمس" انفاسها تحاول جاهدة أن لا تفلت زمام اعصابها ثم كادت ترد لولآ أن "حكمت" تدخلت واحالت بينهم بعدما استمعت لـ صراخهم:
-في ايه بس يا "سنية" ايه اللي حصل
بررت "سنية" بصوت جهوري وهي تلوح بوجهها:
-في أن ده ملك جوزي ومن حقي اعمل فيه اللي على كيفي والبت دي مش عايزاها تستنى في الأوضة ليلة واحدة
تسائلت"حكمت" وهي تـ ضرب فوق
صـ درها:
-عملت ايه بس ده أغلب من الغلب
-هو كده وبلاش تتصدري ليها يا "حكمت" بدل ما ارميكِ انتِ وحللك وابنك في الشارع زيها
هاجمـ تها "حكمت" بقولها:
-هو ايه افترى والسلام...روحي اتشطري على جوزك البـ جح الأول اللي فارض نفسه عليها وبعدين تعالي اتكلمي..."شمس" مش هتسيب أوضتها والإيجار جوزك أخذه لما يبقى يخلص الشهر تبقي تعالي اتكلمي
-بقى كده يا "حكمت" بتقفي قصادي
اجابتها "حكمت" بشجاعة متـ صدية:
-واقف قصاد اللي يتشددلك أنا مع الحق
زمـ جرت "سنية" غاضبة وغادرت بينما "شمس" وقفت تنظر لآثارها بعيون بائسة لا تعرف ماذا تفعل كل ما تعلمه أن سمعتها على المحك ومازالت الحياة
تـ تأمر عليها وتلحق بها الحظ السيء كي يسبق خطواتها.
❈-❈-❈
في الصباح
كان يجلس يتناول فطوره مع والدته حين تعالى رنين هاتفه ليزفر لاعـ نًا ما أن رأى رقم ذلك المتبجح على شاشته ليجيب بحـ نق:
-هو انت مش بتيأس ولا ايه يا معلم؟
اجابه "صابر "من الجانب الأخر:
-من غير نقورة يا بيه الله يخليك أنا بطلب منك تعفيني الجماعة بتاعتي عرفت إني رايدها ومن ساعتها منغصة عليا عيشتي وحاكمة عليا امشيها من الأوضة
اغمض عينه بقوة وقال مجـ برًا وهو يعتصر الهاتف بين يده:
-انا هتصرف
-اعذرني يا بيه انا مش عاوز مشاكل و....
دون أن يستمع لبقية حديثه كان يغلق الخط ويشرد بأفكاره بعيدًا فلم يفق إلا على يد" ليلى" وهي تلوح امام وجهه متسائلة:
-مالك سرحان في إيه يا حبيبي ومين اللي كان بيكلمك
ابتلع ريقه وقال بعدما انتبه على ذاته:
-"ليلى"عايز اخد رأيك في موضوع كده
هزت رأسها مُرحبة، ليسترسل هو ويخبرها بكل ما حدث وبالأخير أعطته ذات الاقتراح الذي انهك رأسه لأيام ولكن بالطبع استنكر أن يتفوه به وتمسك بقواعده الثابتة .
❈-❈-❈
في المساء وخاصًة في شقة "حمكت "
كانت هي تقوم برش السكر على الكعكات حين قاطعها "حسام" هاتفًا بأنفاس متلاحقة:
-"شمس" في واحد ظابط عايزك تحت
انكمشت معالمها، بينما "حكمت" قالت بخضة وهي تضـ رب فوق صـ درها:
- يا لـ هوي ظابط
تناولت" شمس" نفسٍ عميق تشجع به ذاتها ولديها يقين أنه هو لا أحد غيره فقد طمأنت "حكمت"
وذهبت وإن وقعت عيناها عليه يستند على مقدمة سيارة الشرطة تسائلت وهي تنظر بريبة لنظرات الجميع حولها:
-خير يا "سليم" بيه
أمرها دون تمهيد وبملامح ثلجية باردة:
-اطلعي لمي حاجتك هتيجي معايا
ابتلعت غصة بِحلقها وتسائلت متوجسة:
-ليه...واجي معاك فين؟
زفر انفاسه وألقى الكلمة بإقتضاب بوجهها:
-بيتي
تقلصت معالم وجهها وامالت رأسها متهكمة:
-نعم! بيتك
استرسل هو بثقة بعد أن اعتدل بوقفته واضعًا يده بجيب بنطاله:
-سمعت أن مرات "صابر" طردتك
قطمت شفاهها بحرج فلابد أن وصله ايضًا اتهامها ولكن لا يهم لم يعد لديها طاقة أن توقف كل شخص وتثبت حُسن سلوكها لذلك بررت بشموخ وبنظرات ثابتة:
-مش مشكلة هدور على سكن تاني وهفضل اشتغل مع "حكمت"
تنهد واخبرها بنفاذ صبر دون أن يحسب وقع كلماته عليها:
-مش هيسبوكِ في حالك وبعدين مش هتبقى محتاجة لشغل "حكمت" هتشتغلي عندي و هديكِ اللي تطلبيه ويمكن اكتر كمان
ألم يكفيه طـ عن في كبريائها ففي كل مرة يتعمد التقليل من شأنها لذلك عقبت بشراسة مستنكرة:
-عايزني خدامة يعني!
انت ليه مُصر تعمل كده؟
زفر بقوة ونفى بعصبية مُفرطة:
-انا مقولتش خدامة
-كلامك ما يتفهمش غير كده وملهوش معنى تاني وانا بعتذر منك انا مش بشتغل في البيوت وعمري هقبل تهيني اكتر من كده
قالتها ما قالته بشـ راسة عـ دائية وبنبرة تحمل الكبرياء بين طياتها وقبل أن تنتظر رده كانت تواليه ظهرها وتنوي المغادرة لكن استوقفتها نبرة صوته المغايرة من خلفها:
-انا امي قعيدة ومحتاجة حد يراعيها لأن الست اللي كانت معاها عملت حادثة انا مش هطلب منك حاجة كل اللي هيبقى مطلوب منك تخلي بالك منها وتديها علاجها في معاده وتنظمي أكلها
نظرت له وهي تستغرب لين نبرته والصدق الذي يقطر مع حروفها، ولوهلة فكرت بطيب خاطر أن توافق ليس من اجله بل من اجلها ولكن عقلها أبى وطفر على حديثها:
-تقدر تجيب لها ممرضة
وضع يده من جديد بجيب بنطاله بكل ثقة وقد اخشوشنت نبرته من جديد وهو يعقب على حديثها:
-اقدر وصدقيني مش هفرض عليكِ حاجة علشان مش هغلب...القرار في الأول والأخر راجع ليكِ.
ذلك أخر ما تفوه به قبل أن يصعد للسيارة وينطلق بها تحت نظراتها الحائرة وبالطبع نظرات وهمسات المارة من حولها.
❈-❈-❈
صباح يوم جديد يخبئ بين طياته الكثير فقد
فتحت عيناها بتكاسل تحاول التغلب على النعاس الذي يسيطر عليها...فلم تنم وقت كافي و طوال الليل تتحايل على النوم ولكن بلافائدة تتقلب وتتقلب وكأنها ترقد على جمر مشتعل، وكأن السخب لم يجد مأوى غير رأسها فكانت تفكر في ذلك العرض السخي الذي تواضع من أجل عرضه عليها، ربما بالفعل والدته تحتاج لمساعدة ولكن هو لن يغلب كما أخبرها...فا بالطبع لن تقبل ولن تقلل من شأنها من أجل العرفان بمعروفه...وكيف تقبل وهي كقـ لعة مشيدة بالكبرياء ضد
الـ ذل والاستعباد...
نفضت ذاتها من الفراش تعاند النوم ثم توجهت للمرحاض لتغتسل وتتوضأ ومن بعدها تؤدي فردها وبعد قرأتها لوردها اليومي ارتدت ملابسها و وقفت أمام مرآتها تمشط شعرها وصوته المغاير للين وهو يخبرها عن والدته يتكرر بعقلها لتتنهد بضيق تحاول نفضه عن رأسها فقد حسمت قرارها.
فقد خرجت من غرفتها في طريقها لشقة "حكمت" ولكن ما وطأت قدمها مقدمة الدرج استمعت لصوت غليظ تعلم صاحبه تمام المعرفة لتتعالى دقات قلبها ويشحب وجهها حين اشرأبت برأسها و وجدت "صابر" ومعه شقيقها...نعم شقيقها لم يكن يهيأ لها لا والأنكى أنه في طريقه لها
شهقة مرتعبة فلتت من فمها كتمتها بيدها ثم تراجعت تلتصق بالحائط خلفها تتمنى لو ينشق ويخفيها فحتى قلبها تبرأ من شجاعتها وهوى بين ضلوعها مع كل خطوة لأقدامه نحوها وكأنه ينذرها أن لا مهرب أمامها...
يتبع