-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 24 - 2


قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


 



رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 

تابع قراءة الفصل الرابع والعشرون 


العودة للصفحة السابقة


إلهاء الفكر بالأعمال المتزايدة، والمهام العاجلة، وسيلة ضعيفة للهروب من الواقع، ولكنها أحيانا ما تأتي بنتائجها المرجوة، ولا يوجد في تجربتها أي مانع. اختزل "عاصم" فكره بجهد جهيد في العمل الذي يقوم به، ودرء كل تلك الأمور المؤرقة عن ذهنه، حتى لا يهمل عمله، أو يجهد أكثر من ذلك عقله، وفي ظل ما يؤده، دلف "كرم" مكتبه، بعد طرقتين على باب الغرفة، منبها إياه إلى حضوره، نظر له "عاصم" بنظرة خاطفة، بينما تكلم الآخر ببعض الغرابة وهو يتقدم نحو المكتب: 


-جاي الشركة بدري أوي النهاردة، مش عادتك يعني تيجي قبلي.


ظل "عاصم" على صمته لعدة ثوانٍ، حتى انتهى من قراءة الورقة أمامه، ورد عليه بنبرة عادية وهو ينتقل إلى الورقة خلفها:


-في ورق كنت محتاج أراجعه قبل الاجتماع.


حرك "كرم" الملف -الذي وضعه لتوه غلى سطح المكتب- نحو "عاصم"، وهتف في عملية:


-طيب بما إن في لسه وقت قدامنا، في عقود محتاجة إمضتك.


انتقل "عاصم" بنظره نحو الملف الذي صار أمامه، ثم حول عينيه نحو "كرم" وأخبره في صوت فاتر:


-مكانش فيه داعي تيجي بنفسك يا كرم، كنت ابعتهم للسكرتيرة، وأنا همضميهم وابعتهملك؟


ضم "كرم" شفتيه في تفكير، بينما عاد الآخر لمتابعة مراجعته للأوراق أمامه، مجيء "كرم" إليه في باطنه لم يكن لأجل إمضاء العقود، إنما اقتناص فرصة حضور "عاصم" باكرا، ووجود متسع من الوقت أمامهم، سيسعفه للتحدث إليه عن أمر خطوبته التي ستقام بعد بضعة أيام، فقد رأى أن ذلك الوقت مناسبا لإبلاغه، فلم ينهمك أي منهما في العمل بعد، وما يزال "عاصم" على طور هدوئه، لم تشتد أعصابه كونهما في بداية اليوم، لذا سيسهل عليه إخباره بالكلمات المزيفة التي أعادها في ذهنه، حتى لا يجعل الشكوك تنبجس في رأسه نحوه، وبعد صمت دام لما يقرب من الدقيقة، قال "كرم" بحذر:


-ماهو بصراحة أنا كنت عايز اتكلم معاك في حاجة كده.


سأله "عاصم" بهدوء، دون النظر إليه:


-حاجة خاصة بالشغل؟


رد عليه نافيا، بصوت يحمل لمحة من التوتر:


-لأ، خاصة بيا أنا.


لتركيز "عاصم" المنصب على الورق، لم ينتبه إلى الارتباك الظاهر في صوت الآخر، وبنفس النبرة الغير عابئة أخبره:


-طب خليها بعد الاجتماع.


زم "كرم" شفتيه ببعض الضيق، وقال له بصوت واجم:


-خلاص ماشي، العقود معاك، أمضيها لما تفضى وابقى ابعتهالي بقى.


رد عليه بغير مبالاة وبإيجاز موجزٍ:


-تمام.


نهض عن جلسته، ثم تكلم بنبرة عادت إلى عمليتها مرة أخرى:


-هرجع أنا مكتبي عشان معطلكش، نتقابل في الاجتماع.


أومأ له بالموافقة، ثم غادر الآخر، وبعد أن أغلق الباب من خلفه، رفع "عاصم" رأسه، وقام بفؤك وجهه بكفيه، وهو يزفر ببعض الاختناق، الذي داهمه، ولا يدري أمصدره ما حدث ليلة البارحة من جلده ذاته، أم تهربه بوضع أعمال مضاعفة على كاهله؟


❈-❈-❈


الصمت، ليس إلا هروب فعلي من تبعات الكلام، فأحيانا يوجد بين طيات الحديث منافذ للأوجاع، وأحيانا أخرى ينجم عن الحديث دخول الأشخاص مع بعضهم البعض في صراع. لذلك قرر "عاصم" أن يلتزم الصمت مع زوجته، حتى يريح رأسه من الكلام فيما لا يفيد، أو حتى يمنع ما سينتج عن الكلام من مشاكل أو أي أمر غير حميد.


فإذا فتح مجالا للحديث بينهما، من المؤكد أنها ستأتي على ذكر ما قاله لها، وبالتحديد ما يتعلق بابنهما، وستجعل الألم يمزق قلبه من لومها المتوقع، كما ستعجله يرى نفسه كأبيه الذي كان لا يغدق عليه بمشاعر أبوية في صغره، أو حتى يظهر الجانب الحاني في معاملته، وهو لا يود أن يبغض نفسه أكثر من ذلك.


كعادة دائمة لا تنقطع عنده، جلس في غرفة المكتب المتواجدة في بيته، بعد عودته من شركته، ولكن الفارق الوحيد إنه لم يكن يقوم بأي عمل على الإطلاق، كان هروبا بحتا من الجلوس مع زوجته، عندما شعر بتيبس جسده، لجلوسه على نفس الوضعيه طوال ساعات عمله، ومنذ عاد إلى بيته حتى الوقت الحالي لما يقري من الثلاث ساعات، نهض عن مقد المكتب، وتوحه نحو الأريكة الوثيرة، الجلدي، الموضوعة في مقابلته.


جلس عليها وهو يتنهد بإنهاك، أراح ظهره للخلف، وأغمض عينيه، حاول بكل طاقته صرف أي أمر عن رأسه، فالتفكير أصيح مؤخرا أكبر مشاكله، لم يدم استرخاؤه طويلا، فبغتة شعر بأصابع يد صغيرة لمست ظهر كفه، فتح عيناه على الفور، ونظر في تفقد، تفاجأ من وجود ابن أخيه، الصغير ذو الثلاث أعوام، يناظره في براءة طفولية، وعلى وجهه بسمة واسعة.


تأفف من دخوله دون إذن مسبق، وحرك وجهه للجهة الأخرى في ضجر، عبس الصغير عندما وجده صامتا، لا يلقي له بالا، على عكس ما كان ينتظره منه، فهو معتاد على الملاطفة، والمداعبة من كل من يراه، صعد الطفل الأريكة بعد مجهود مضني، واقترب من "عاصم" الذي كان مترائيا إليه اقترابه منه، وعلى حين غرة وضع "يونس" يده على وجنة الآخر.


التفت "عاصم" نحوه، وتعبيراته توضح انزعاجه من أفعال الطفل الذي رآها مجردة من التهذيب، غير منتبهٍ إلى عمره الصغير، فكيف سيضع عمره في حسبانه وهو يذكر أنه وهو في مثل عمره، أو ربما كان أكبر منه ببضعة أشهر، عُوقب على حديثه إلى والده، عندما كان مستضيفا بعض شركائه. رفع يده حتى يبعد الولد عنه، مانعا نفسه عن تعنيفه على تجاوزه الحدود معه، ولكن الطفل ثبت محله، وابتعد عن قبضة يده، ودون سابق إنذار اندفع بجسده الصغير نحو حضنه.


فعلته العفوية جعلت "عاصم" عاجزا عن ابعاده، كأنما كد كبل يديه، أو أوقف عقله عن التفكير، ولكنث ما لمس قلبه، وجعل وجيبن يشتد، هو صوت الطفل، وهو يقول ببراءة شديد:


-بحبك.


كانت تلك اللكمة المعتاد الكفل على ترديدها لكل من يراه، لاستماعه لها كثيرا تتردد على لسان والديه له، ولكنها جعلت "عاصم" يشعر بمشاعر غريبة، فللمرة الأولى يصرح طفل صغير بحبه، أو يتقرب من على وجه العموم، رفع "يونس" وجهه نحو الآخر الذي ما زال صامتا، ونظر له بنظرة متفحصة له، وهو يخبره بصوت طفولي:


-عز قالي إنك بتحبني.


انفرجت شفتا "عاصم" تدرجيا مع كم البراءة التي تشع من عيني الصغير، ومن كلماته التي نفذت عبر شغاف قلبه، قرب يديه من جسده، وحمله مجلسا إياه فوق قدميه، عبث في خصلاته المستطالة، والناعمة بأنامله، وأثناء تفحصه لملامحه الجميلة، شعر بأنه يشبهه إلى درجة كبيرة، ازدادت بسمته، وشعر بنفس الألفة التي يشعر بها مع طفليه معه، لييقن أن تأثير الأطفال عليه قويا، وطاغيا. رفع عينيه عن وجه الصغير عندما انتبه إلى دخول أحدهم الغرفة، كانت زوجة أخيه، التي هتفت بتلهف عندما رأت صغيرها جالسا على قدميه:


-يونس


تنفست الصعداء، وتوجهت نحوهما، وقالت لصغيرها بأنفاس لاهثة تحمل القلق:


-كنت بتدور عليك.


أنزله "عاصم" عن ساقيه، ووضعه على الأريكة ليسهل على والدته حمله، بينما الصغير أخبرها ببراءة:


-كنت بكلم عاصم.


تراقصت بسمة ضاحكة على شفتي "عاصم" من نطقه اللذيذ لاسمه، كما أنه كان متفاجئا من كونه مجردا من أي ألقاب، بينما نظرت له "زينة" ببعض الحرج، واعتذرت منه عن عفوية طفلها:


-معلش هو متعود ينهدلنا بأسمينا.


أومأ لها "عاصم" بصمت يحمل التفهم، وتابعها وهي تنزله عن الأريكة، وتقول له في حنان:


-يلا يا حبيبي عشان تنام.


عندما لمس الصغير بقدميه الأرض، وبدأت أمه في السير به نحو الخارج، طلب منها في تلهف:


-استني يا زينة.


توقفت عن السير، ونظرت له في استفسار، لتجده يسحب يده من بين أصابعها، وتوجه نحو عمه، مد يده نحو رأسه، فاقترب منه "عاصم"، ليرى ما الذي يريده، حينها تفاجأ بتقبيله له على وجنته، بعد أن قال له:


-تصبح على الخير.


لمعت عينا "عاصم" بوهج شديد، ورد عليه ببسمة صغيرة:


-وانت من أهل الخير.


تابعت "زينة" ما حدث بابتسامة محبة، وعندما انتهى الصغير مما يريد، توحه نحو والدته، ووضع يده في يدها، وسارت هي حينها به إلى الخارج، بينما ظل "عاصم" على حالته، وجهه يعلوه بسمة متأثرة بلطافة الصغير، والذي جعله يشعر برغبة شديدة في احتضان طفليه.


لم يفكر كثيرا، نهض عن جلسته وتوجه إلى خارج المكتب صاعدا إلى غرفته، دخل إلى الغرفة ليجد الصمت يعمها، لم يبحث عن وجود زوجته ككل مرة، بل توجه إلى موضع سرير الرضيعين، وجدهما مستيقيظان، ويصدران همهمات طفولية تتلاعب على أوتار قلبه. 


قرب يده نحو وجنة ابنه المسمى ب"نائل"، ملس بخفة على رأسه، ثم داعب وجنته، وبعدها انتقل بيده نحو "رائف"، ولكنه حينما نظر إلى وجهه تذكر ما قاله، شعر بالضيق من نفسه، وقرب يده الأخرى منه وحمله، قرب فمه من مقدمة رأس الصغير، وقبله قبلة مطولة كأنما تحمل اعتذارا عما بدر منه، ثم ضمه إلى صدره، وبتأثر -جعل عينيه تلمع بالدموع- همس له:


-متزعلش مني، مكنتش أقصد اللي قلته.


ثم ما لبث أن اضاف بصوت مهزوز بعدما انهمرت دموعه:


-أنا بحبك أوي، وعمري ماهكرهك.


كأنما في عبارته رفضا في أن يصبح كوالده، كارها لطفليه دون سبب وجيه، أو يؤثر بمشاعر أبوته عليهما تعسفا وظلما منه. لم ينتبه أثناء اجتماعه الهادئ بوليديه، لمن تقف في الزاوية المقابلة له، منزوية بجانب عتبة الباب الذي يؤدي إلى غرفة الثياب، حارصة كل الحرص على عدم قطع ذلك التواصل الحسي بين الاب وابنيه، ولكنها لم تستطع أن تتحكم في دموعها التي انسابت، تأثرا بما التقطته أذنيها؛ من العبارات التي همس بها "عاصم" إلى الطفلين، وبالأخص إلى "رائف"، ليبدد عن طريق تلك الكلمات القليلة -والمليئة مشاعر أبوة لم تشعر بها منه منذ ولدا كما شعرت بها الحين- من خوفها بشأن علاقته به مستقبلا.



❈-❈-❈


في صباح اليوم التالي..


في لحظة أسود أمام عينيها كل شيء كانت تراه مذدهرا ليلة البارحة، فغرت عينيها بصدمة، خفق قلبها بقوة، وشعرت بهروب الدماء من عروقها، وضعت يدها على فمها، كاتمة شهقتها، وهي واقفة في منتصف الحمام الملحق بغرفتها، ونطقت بغير تصديق بصوت هامس حتى لا يصل إلى صوتها إلى "عاصم" الذي يكمل ارتداء ثيابه في غرفة الثياب الملاصقة للمرحاض:


-مستحيل، حامل ازاي!


يُتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة