رواية جديدة نزيلة المصحة لريناد يوسف - الفصل 1
قراءة رواية نزيلة المصحة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
قراءة رواية نزيلة المصحة
من روايات وقصص
الكاتبة ريناد يوسف
الفصل الأول
هاهى اشعة الشمس تتسلل من زجاج النافذه لتعلن عن يوم جديد، وتقف علي وجه ذلك النائم الكسول في محاولة فاشلة كالعاده لايقاظه، ولكن هيهات، فكل مافعله هو انه انقلب على جانبه الاخر، تاركاً المكان لاشعة الشمس كيف تمرح به كيفما تشاء، وذهب هو ليختبئ منها في الظل، ولكن هروبه ومراوغته لم تجدى نفعاً، فها هو جندى آخر مكلف بإيقاظه بدأ في إطلاق ابواقه العاليه معلناً عن حرب من الضوضاء علي ذلك النائم حتى يفيق.
وما ان حدث ذلك حتى ادرك النائم إن الاستيقاظ وجب لا محاله.
ف استيقظ من نومه العميق على صوت ذلك المزعج الصغير، تنهد بملل فكم يكره صوته وضوضائه في اكتر الاوقات راحة، والتي لا يحلو النوم الا فيها،
الا وهي ساعات الصباح الاولى.. مد يده وهو لا يزال مغمض العينين لكي يضربه علي راسه تلك الضربه التي يخرس بعدها ولا ينطق مرة اخري ويعم الهدوء،
نعم هو ذلك المنبه البغيض الذي لا يكن له سوى الكره ذلك الازعاج الذي جلبه لنفسه بنفسه وبماله ومع ذلك لا يستطيع الاستغناء عنه ومضطرا لتحمله.
نهض بتثاقل واخذ نظارته ارتداها وذهب الي الحمام فتحمم سريعا ودخل المطبخ وعلي الفور توجه الي كنكة القهوه لكي يعد له كوباً من القهوة يستهل به يومه كالمعتاد..
وضعها علي جانب الموقد والتف لاحضار مسحوق القهوة وماان امسك الاناء الخاص به حتي صُدم من مدي خفته وضرب مقدمة رأسه بباطن يده وهو يتذكر انه انهي آخر مابه في صنع كوبه الاخير بالامس ،
فتركه وتوجه الي الثلاجه ففتحها ليجدها خاوية تماما الا من برطمان من معجون الطماطم منذ متي هو هنا وهل لايزال صالحا ام لا الحقيقة لا يعلم،
وهاهو نسي مجددا ان يحضر طعاما او قليل من المؤن ليضعها في ثلاجته للاستعمال لاحقا، فلعن نسيانه المستمر لامور لايعرف اهميتها الا وقت الحاجه، ولملم اذيال خيبة امله وذهب الي غرفته فلبس ملابسه ، واخذ حقيبة يده ونزل مسرعا استقل سيارته الصغيرة المتواضعه واخذ طريقه المعتاد لعمله،
ولكنه توقف امام كوفي شوب اولاً وطلب كوبا من القهوه معد للتنقل، وكم زفر وهو قابع في سيارته ينتظر ان يأتي دوره يناظر ساعته كل برهه ومع مرور كل دقيقه يشعر بالحنق اكثر، الي ان وصل لذروة غضبه وفتح باب سيارته متخليا عن اخلاق الاطباء وها هو سيتخذ اسلوبا همجي ويرفع صوته لكي يُبت في امر كوبه الذي طال انتظاره ولكنه تراجع وهو يري نادلا يتقدم نحوه بكوبه فحمد الله واخذه منه وانطلق فورا بعد ان دفع ثمنه..
دقائق معدودة ووصل وجهته وترجل من سيارته وبمجرد وضع اقدامه علي الارض واغلاق باب السيارة نظر للاعلي ثم أخذ نفسا عميقا وهو يناظر اللوحة المعلقه اعلى جدار المشفي فمرت عينيه على ماكتب عليها للمرة المليون تقريبا ومع ذلك لا يفوت صباح دون النظر الى اللوحة وقراءة ماكتب عليها فخورا بأنه وصل هنا فقد كانت حلما تعب كثيرا لاجل تحقيقه ((مستشفي الامراض النفسيه والعقليه بالعباسيه)) فتزداد عزيمته وحماسه فور ذلك على اصلاح ماافسدته الايام والظروف والاشخاص والمواقف في عقول بعض البشر.
دلف من بوابة المشفي يهرول كعادته ممسكا بحقيبته وكوب قهوته البلاستيكي والمتسبب الوحيد في تأخره يوميا اما وهو يشربه في بيته او وهو يشتريه من محل القهوه ، مما يعرضه للتوبيخ اليومي من مدير المشفي ولكن لا يهم..
ولا شيئ فالعالم عنده يهم مقابل كوب قهوتة الصباحي الذي يعادل عنده الدنيا ومن عليها..
دلف الي مكتب المدير بعد النقر على الباب المفتوح مرتين واخذت ملامحه وضع التجهم لكي يوحي لمديره انه لن يحتمل الكثير من التوبيخ اليوم،
ولكن على من تنطلي هذه الحيل وهو له مقدار قد كيل في نفس مديرة من التوبيخ ولابد ان يوفي له الكيل.
وبمجرد دخوله ورؤية المدير له انسابت عبارات المدير اليوميه اللاذعه للطبيب حمزة قائلا :
نص ساعه تأخير النهارده برضو يابيه، ياحمزه مش ممكن كده انت هتضطرني بتأخيرك واهمالك لمواعيد شغلك اني اتصرف معاك تصرف مش هيعجبك بالمره.. يابني دانا مدير المستشفي وبوصل قبلك يبني، يادكتور انا هضطر آسفا اني اخصملك اليوم اللي هتتأخر فيه عن ميعادك،حمزه انا استحملتك كتير وفوتلك كتير بس كده مش هينفع، بجد مش هينفع، بص لزملائك يااخي مفيش فيهم كلهم حد بيعمل كده، ولو حد عمل كده وعاقبته بيقولي اشمعنا حمزه، انت بقيت مثال للاهمال واللامبالاه وسط زملائك ياحمزه.. غير من نفسك عشان كده توووو ماتش بصراحه.
وكالعاده حمزه استقبل كلام مديره وتهديداته الكاذبه قالباً عينيه بملل، ودون ان يجيب أو يرد عليه بحرف واحد قرب كوب القهوه من انفه،
فأشتمه ونجحت رائحتها ان تأخذه بعيدا عن الدنيا ومافيها فأبتسم براحة وأغمض عينيه الي ان انتهي مديرة من افراغ مابجعبته من توبيخ وصمت اخيرا.
ففتح حمزه عينية و تقدم الي الدفتر الذي امامه على مكتب المدير فمضي حضور وانصرف على الفور، بمجرد ان اخذ التوجيهات اليوميه ورقم الغرفه التي يقطن بها مريض جديد كُلف بدراسة حالته والشروع في علاجه مع توصية خاصه من المدير بالحالة على غير عادته،
وانصرف بصمت غير مبالٍ لنظرات مديره النارية والتي رافقته الي ان تواري من امام عيناه،،
وما ان ابتعد قليلا حتي توقف عن المشي ليرتشف اولى رشفاته من معشوقته ليرتوي عقله ويرقص قلبه طربا وتنتعش روحه، فأغمض عينيه وأبتسم بأنتشاء يعادل نشوة النصر بعد حرب ضاريه من اجل الدفاع عن الوطن.
اكمل السير بعدها ماراً بطرقاته المعتادة في مشفاه وبيته الثاني كما يعتبره،
باحثا عن رقم الغرفه التي تقطن فيها حالته الجديده، وهو يستعد لمواجهة نوبة من الجنون قد تكون متعبة حد الانهاك من مريض في اشد نوباته هياجاً مثل ثور غاضب.
اما في مكتب المدير فبمجرد ان اختفي حمزه عن ناظريه تبسم برضى وهو يهمس لنفسه بصوت مسموع :
اخ منك ياحمزه ومن اهمالك، بس لو مكنتش اكفأ اطبائي مكنتش خليتك عندي فالمستشفي ساعه وحده،
لكن اعمل ايه محتاجلك وهتحمل سوئاتك وجنونك لان من غيرك المستشفي دي متمشيش، ولا حد يخف فيها ويتعالج غير بعد سنين، للأسف كل العباقره دماغهم بتبقى ضاربه كده دا قانون ومش هيتغير
قالها وتنهد ثم انكب علي الاوراق امامه ينهي مابها قراءة وتدقيق ثم امضاء ..
اما حمزه فتوقف امام باب الغرفة المنشودة بعد ان تأكد من رقمها الصحيح وأبى ان يدخل الا ان ينهي قدح قهوته اولا فهو قادر على تحمل اي شيئ فالعالم الا ان تسكب قطرات من قهوته الصباحية بعيدا عن فمه ويضيع استمتاعه بالكوب كله..
انهي حمزه قهوته وضغط الكوب بقبضته مدمرا شكله الطبيعي ثم تقدم نحو صندوق القمامة فضغط على قاعدته بقدمه فانفتح الصندوق فرمي الكوب وابتعد فانغلق الصندوق، وتقدم نحو الغرفه شاحنا طاقته، مستدعيا قوته صاحبا هدوئه المعتاد، او برودة اعصابه كما يطلق عليه البعض، ففتح ترباس الباب الخارجي وذلك للتحكم في بقاء المريض داخل الغرفه واحباط اي محاولة هروب له وفتح الباب ودلف منه،،
وجاب الغرفة بعيناه يتفحصها ليعرف من اي زاوية سيتعرض للهجوم لكي يأخذ كامل استعداده.. ولكنه وقف لدقائق مذهول من هول مارأي..
فقد كانت فتاة تجلس على السرير في هدوء تام اشبه ماتكون بحورية من حوريات البحر علي حد ما سمع عنهم وعن حسنهم، وعلي حد افتراضه انهم يتحلون باضعاف جمال فتايات الارض..
قام بأغلاق الباب جيدا رغم انه استبعد تماما اي محاولة للعنف او الهرب من هذا الملاك الرقيق ولكن عمله هذا علمه الا يثق في الهدوء ابدا فقد يكون الهدوء الذي يسبق عاصفة هوجاء وايضاً، دائما وابدا الاحتياط واجب،
تقدم حمزه نحو ذلك الجمال المكنون بخطوات بطيئة وعيون فاحصه واول ماوقعت عليه عيناه شاش ملتف حول معصمها وشريط لاصق فوقه وهذا دليل قاطع علي محاولتها الانتحار،،،
ومن ثم انتقل بناظريه لمعصمها الاخر ووجد اثر لقطع قد شفي ولكنه ترك ندبة واضحه وهذا يؤكد له انها ليست محاولتها الاولي فالانتحار...
توقف امام سريرها ومد يده ليأخذ التقرير المعلق علي حافته والذي به كل تفاصيل الحاله وتوسعت عيناه وهو يقراء الحاله الاجتماعيه... متزوجه.. السن ٢٨
رفع رأسه من التقرير وطالعها بعيون متفحصه وعقل يشعر بغاية الغرابه فمن يراها للوهلة الاولى يظن انها فتاة يافعه لا تتعدى سنوات عمرها العشرون،، وعقل يتسائل تري من هو ذلك المجنون الذي يملك مثل هذا الجمال ويتركه يتألم الي ان يكره الحياة لدرجة الانتحار!!
عاد ينظر مجددا للتقرير وقرأ الاسم كاملا...
ود قاسم الشناوي... ديق حاجبيه لتعَود اذنيه علي وقع الاسم كأنما سمعه قبل ذلك مرات عديده، واخذ يكرره بينه وبين نفسه، وتوسعت عيناه اكثر حين قرأ المهنه.. عارضة ازياء !!
اخرج هاتفه ليتأكد مما هاتفه به عقله وكتب الاسم وقام بالبحث علي محرك جوجل وابتسم حين تأكدت ظنونه وظهرت صورتها علي شاشه المحمول وقام بقرائة النبذة المختصره عنها، وادرك الان ان هذا الاسم كثيرا ما تردد علي مسامعه ومر امام عينيه علي صفحات الصحف وشاشة الهاتف وفي اعلانات التلفاز..
نعم فهي عارضة الازياء المشهوة والتي تملك اكبر مصانع للملابس في البلاد، وصاحبة الماركه المشهورة ليفاد!!!
امعن النظر في صورها التي سرعان ماامتلئت بها شاشة هاتفه بمجرد ان ضغط على كلمة (المزيد من الصور)
وتعجب اين ذهب هذا الوهج وهذة الهاله التي كانت تحيط وجهها من السعادة!
واين اختفت تلك اللمعة التي فى عينيها وابتسامتها الساحره التي تأسر الالباب وكيف تبدلت من سيدة كانت تشع حيوية الي هذه الكتلة المنطفئه ؟!
نعم لازال الجمال موجودا، ولكنه جمال ذابل كزهرة اقتطفت من غصنها بمجرد ان تفتحت فذبلت قبل اوانها..
اعاد التقرير لمكانه وتقدم ساحبا مقعد كان في طرف الغرفه ليجلس امامها مباشرة، ولكن علي مسافة منها تبلغ حوالي المترين وهذا ايضا من احدى دواعي السلامه، وأمسك اطار نظارته فعدله رغم اعتداله ولكنها حركة اعتاد عليها ودائما مايلجأ لها في اشد اللحظات توترا..
تنحنح محدثا صوتاً لكي تلتفت اليه ويجذب اليه عيناها المتعلقتان بالنافذه منذ دخوله ولكن كان ذلك دون جدوي فقد استمرت علي نفس الوضع..
فقرر التحدث مباشرة وجذبها بالكلمات واستهل حديثه بسؤال تمني ان تجيبه عليه لكي يرضي فضوله فالمقام الاول ثم يساعده في علاجها فالمقام الثاني ولكن في قرارة نفسه يعلم انه لن يتلقي أية اجابات :
ممكن تقوليلي عملتي فنفسك كده ليه؟
انتظر لحظات ثم تحولت لدقيقه ثم دقائق ولم يجد اي اجابة منها كما توقع، او حتى التفاتة تدل على انها سمعته فطرح عليها سؤال آخر ولكن بطبقة صوت اعلى متمنيا ان تأتي بنتيجة هذه المره:
طيب ممكن تقوليلي اسمك... انت عارفه اسمك مش كده ؟
ولكن هاهي ثاني محاوله تبوء بالفشل ايضا حينما ظلت على نفس صمتها غير آبهة به او بأسألته، او لوجودة من الاساس، وكل مايشغلها الان هي اورق شجرة الزيزفون التي تتأرجح مع الريح ذهابا وايابا امام عينيها ،،
تحدث حمزة مرة اخرى واخرى واخري وفي كل مرة لا يجد منها غير الصمت ردا على حديثه،
فامسك بقلمة واخذ ينقر به على حافة المنضدة بجوارة نقرات متتاليه محاولاً ان يدخل على عقلها تغيرا لحالة الثُبات التي تسيطر عليه، وليغير رتم الهدوء الذي اعتادته وماهي الا دقائق من استمرارة في النقر حتي ابتسم فها هي طريقته تنجح مجددا وهو يري ود ترمش بيعينيها عدة مرات قبل ان تحول وجهها عليه وقد ارتسم عليه علامات الازعاج الواضحة وسرعان ماانتقلت بعينيها من عليه الي القلم الذي بيده فركزت عليه ثم لانت ملامحها مرة اخري فعرف انها ستعتاد علي صوته وتسرح معه فغير طريقة نقره في محاوله لتشتيت عقلها وحثه علي الانتباه فتبدلت ملامحها للانزعاج مرة ثانية وقبل ان تفقد انتباهها مرة اخرى قال لها ممازحا : سيدتي الجميلة الرقيقه هلا تكرمتي بالرد على سؤالى ايه اللي خلاكي عملتي فنفسك كده؟ واشار لها بعينيه ووجهه على معصمها فنظرت لمعصمها وتوترت وبدأت تفرك يداها ببعضهم بينما جفونها بدا عليها التثاقل وكأنها ستغمضهم قريبا،
وبالفعل هذا ما حدث حينما تكورت على نفسها وهي تهبط على السرير آخذة وضع النوم وعلم الطبيب حمزه حينها انها تفعل كل مابوسعها للهروب من عالمها الحالي وتأكد ان صدمتها اقوي من مستوي تحمل عقلها،
وانه بصدد مواجهة ضاريه مع حالة بارانويا شديدة وهمس لنفسه قائلا :
ياتري ايه بس اللي وصلك للحاله دي وياتري هتاخدي وقت قد ايه لغاية ماتظهر عليكي بوادر استجابه لعلاج او حتي مجرد انتباه ورجوع للدنيا ؟ بس اللي متوقعه انك هتطولي، وهتطولي اوي واني هتعب معاكي جدااا.
وبعد عدة محاولات فاشله من الطبيب حمزه لجذب انتباه ود، استلقت علي فراشها واغمضت عينيها هربا لا يعلم ان كان من اسئلته او من الدنيا بما فيها،
فتنهد ووقف وامسك حقيبته وخرج من الغرفه تاركا لها المجال لتستريح قليلا مع برغم انه يعلم جيدا انه لاتوجد راحة فالهرب، واغلق الباب عليها جيدا من الخارج واخذ طريقه الي مريض آخر ولكن عقله وفكره مع تلك التي تشبه نسيم الصباح في هدوئها وتنزف عيناها الما من جرحها الغائر الذي عاهد نفسه ان يعرف سببه بأي ثمن.
دلف الي مريضه القديم ذلك الكهل الذي غدر اولاده وجحودهم اودي بعقله في غياهب الجنون وجعله ثائرا دائما وابدا، ساخطا علي الدنيا وعلي البشر، ساخطا علي حاله، متمنيا الموت في كل لحظه، احيانا يكون اعلى قائمة العقلاء وارزنهم، وفي ثانية التي تليها تنقلب احواله فيتصدر قائمة المختلين عقليا فلا تأمن تصرفاته من لحظه الي اخرى ومن يتعامل معه عليه الحذر دائما،
نظر الطبيب حمزه الي احسان متفحصا لحالته بنظرة سريعه فانفرجت اساريره علي الفور وهو يري ابتسامة احسان الصافيه مما يدل علي انه في قمة هدوئه النفسي اليوم وان حالته مستقره ، فتقدم منه بهدوء وجلس علي الكرسي امامه وهو يكاد يجزم ان اليوم هو يوم حظه.
تحدث معه كعادته مخففا لوحدته والامه النفسيه فهو اليوم لا يحتاج اكثر من التحدث الي شخص ما يكون مستمعا جيدا، ومن يضاهي الدكتور حمزه في هذه النقطه؟
انهي معه اخيرا حديثاً طويلاً ازاح عن صدر احسان هما كبيرا ثم تركه متمنياً له يوما سعيدا داعيا الا تنقلب احواله لنهاية اليوم مشفقا علي جسده النحيل من تعب التخبط.
اكمل طريقه بعدها الي غرفة الاطباء حيث كان ينتظره كلا من رفيقي العمل دكتور وحيد ودكتور عمرو وبمجرد دخوله وجدهم علي وشك البدء في تناول الطعام وقد كانت الساعة شارفت علي الحادية عشر..
حمزه : ياااه ولاد حلال دنا ميت من الجوع مفطرتش.
وحيد : ياضنايه يبني
عمرو : تعالا حماتك بتحبك
رد عليهم حمزه ضاحكا وهو يجلس بجانبهم : وانا بس الاقي بنتها هعشق امها.. قالها وشرع في تناول الطعام معهم وبدأو في تجاذب اطراف الحديث عن المرضي وحالاتهم الصحيه ومدي تقدمها وتأخرها وفي وسط الحديث توقف حمزه عن الاكل حينما تحدث وحيد مازحا :
لا بس القر شغال عليك من امبارح بالليل ياميزو من اول ماجات المريضه ال Vip والمدير رفض ان اي حد يباشر حالتها غيرك، متعرفش ياجدع انت عامل ايه للمدير او ماذا بينك وبين الله عشان تعالج الحاله القمر دي لوحدك يابن المحظوظه !!
اكمل حمزه مضغ مابفمه بهدوء قبل ان يرد عليه : يمكن عشان انا هتعامل مع الحاله كأي حاله تانيه من غير مايشغلني شكلها او مواصفاتها ودا اللي المدير عارفه وعشان كده كلفني انا دونا عن الاوباش بالمهمه؟
عمرو غمض علي علي شفته السفلي قبل ان يلكم حمزه في كتفه وهو ينطق من بين اسنانه : اوباش ها.. احنا اوباش برضوا يلا..
وكرر وحيد نفس حركة عمرو ولكن فالكتف الاخر لحمزه وهو يقول له : طب يلا قب بتمن الاكل عشان الاوباش زعلوا، فضحك حمزه وهو يتنحي عن كرسيه ويبتعد عنهم ليجلس علي مكتبه ويقوم بفتح حقيبته واخراج قلمه ودفتر ملاحظاته وهو يرد عليهم :
يبقالكم عندي فطار وبعدين مانا ياما اكلتكم ياجعانين ولو هحاسبكم هبيعكم هدومكم وبرضوا مش هتسدوا اللي عليكم.
صمت الاثنان بعدها فهو لايقول سوي الحقيقه فبالفعل حمزه افضاله عليهم وعلي الجميع لا تعد ولا تحصي، فهو نعم الاخ ونعم الصديق ونعم الخل، هو من يلبي النداء مسرعا في اي وقت وتحت اي ظرف، هو من يحبه الجميع بلا استثناء الا من بعض النفوس المريضه الحاقده علي كل انسان ناجح محبوب..
بدأ حمزه في وضع ملاحظاته لليوم وكانت كلها حول حالة ود وبعد الانتهاء اخرج حاسوبه المتنقل من الحقيبه وبدأ في البحث عن كل مايخص حالتها فيما درسه فالطب.
وبعدها دخل صفحتها الشخصيه علي الفيس بوك وعلي كل مواقع التواصل التي تملك عليها حسابا بأسمها مثل تويتر وانستجرام وغيرهم وجمع المعلومات المتاحه عنها ثم اخيرا وآخراًحصل علي رقم هاتفها وقرر الاتصال عليه فهو بالتأكيد الان مع اولي القربي منها..
خرج الي حديقة المشفي وتمشي بضعة خطوات وهو يضع هاتفه علي اذنه بعد ان طلب الرقم ووقف مكانه فور اجابة الطرف الاخر من المحادثه فتنحنح دكتور حمزه وهو يتحدث بجديه :
حمزه : ايوه السلام عليكم، معاكي دكتور حمزه الصاوي من مستشفي الامراض العقليه، حضرتك انا المشرف علي حالة مدام ود والمتابع لحالتها، ممكن اعرف حضرتك تبقيلها ايه عشان لو حضرتك قريبتها محتاج اتكلم معاكي شويه عن حالتها.
اخذت المرأه نفسا عميقا ثم زفرته بقلة صبر واجابته بعدها بحنق.. انا امها ، افندم عايز تقول ايه بخصوص المجنونه دي؟
حمزه بهدوء : مااسمهاش مجنونه يافندم اسمها مريضه وهتخف باذن الله تعالي بس محتاج مساعدتك عشان دا يحصل بسرعه
ردت عليه السيده بنبره مازحه : وهو المجنون بيعقل تاني يادكتور؟ بص احنا عارفين ان ود ملهاش علاج ودماغها لحست خلاص ومتفتكرش اننا محاولناش معاها بكل الطرق، لا يادكتور دي بقالها سنتين بتتعالج عند دكتور نفسي من اكبر الدكاتره فالبلد وعلاجه ولا جاب معاها اي نتيجه بالعكس حالتها كانت كل يوم تسوء عن اليوم اللي قبله لغاية. ماتعبتنا معاها هتقوم انت بقي يادكتور الحكومه تقدر تعالجها؟
بص يادكتور احنا مش طالبين منكم غير انكم تخلوها عندكم وتسيطروا عليها ومتخلوهاش تنتحر مره تانيه ويبقي كتر الف خيركم.
الطبيب حمزه استقبل حديثها بصبر ورحابة صدر كعادته الي ان انتهت ولكنه كان مستنكرا لحديثها جدا فهذا الكلام لايمكن ان يصدر من ام اطلاقا! ثم اردف بهدوئه المعتاد :
يافندم مش معني فشل محاوله ان كل المحاولات تفشل انا بأكدلك ان ود، وقبل ان يكمل باقي جملته سمع صافرة انتهاء المكالمه فأبعد الهاتف من فوق اذنه ونظر له وضم حاجبيه بغرابة لتصرف تلك السيدة!! وقام بطلب الرقم مرة اخري اعتقادا منه ان المكالمه قد انهيت لسبب ما خارج عن ارادتها ولكن ظنونه تبددت حين أُنهيت مكالمته قبل الرد عليها فالمرة الثانيه وتأكد الان انها كانت مقصودة.
فوضع الهاتف في جيبه وعاد للداخل وهو يتسائل : هو ايه اللي بيحصل بالظبط؟ هو فيه ام ممكن تتصرف كده تجاه بنتها فعلا؟ ايه القسوة دي! ولا هي كتر المحاولات والفشل فقدتها الامل ووصلتها لدرجة الاحباط دي وكل اللي بيتمنوه دلوقتي انهم يرتاحو منها؟ تسائل في قرارة نفسه كثيرا ولم يجد لاسئلته اية اجابات فعاد الي الداخل وبدأ في اكمال مهامه تجاه مرضاه ومتابعتهم والتنقل بينهم حتي نهاية اليوم، واجل الدخول لتلك الحورية حتي النهاية لكي يختم بها يومه كما استهله بها.
دلف اليها اخيرا وحاول معها مرة اخري ان يجعلها تتحدث معه بكافة الطرق لكنه فشل مجددا فزفر بقلة حيله وخرج تاركا اياها غارقة في صمتها المطبق.
مر على مديره قبل ان يعود للبيت محاولا ان يخرج منه بأي تفصيلة ولو صغيره بخصوص حالة ود ولكن المدير قال له انه لايعلم عنها اكثر من المعلومات التي في ملفها الطبي،
حمزه : ايوه يامدير بس حضرتك وصيت عالحاله جامد ودي مش عادتك لدرجة اني شكيت انها قريبتك او حد من العيله او حتي معرفه قريبه.
المديد : لا ابدا كل ماهنالك انها شخصيه معروفه وجوزها شخصيه ذو نفوذ وسطوه ونوعية الناس دي مبيجيش من وراهم غير وجع القلب فامش عايزين اي تقصير من ناحيتنا يفتح علينا وعلي المستشفي ابواب جهنم.
حمزه : ومن امته احنا بنقصر فشغلنا يادكتور عشان نخاف؟
المدير :عارف انك مش بتقصر ياحمزه وعشان كده انا اخترتك دونا عن غيرك لمتابعة الحاله دي، وهكون مطمن طول ماانت بنفسك اللي متولي علاجها ورعايتها، بص كلام جوزها كان واضح وصريح انه مش طالب مننا اكتر من اننا نحافظ علي حياتها ونحافظ عليها بصحه جسديه جيده ودا هو السبب الاكبر اللي خلاه يقرر يودعها المستشفي عندنا لانهم تعبوا من محاولاتها المستمره للانتحار وحالات الانهيار الحاد المتكرره.
زفر حمزه بحنق بعد سماع هذا الكلام فها هو المدير يؤكد لحمزه الفكره التي بدأت تتكون في ذهنه بأن امر هذه المسكينه لا يهم احد حقا وكل ما يصبون اليه هو التخلص من مسئوليتها..
استأذن حمزه من مديره وخرج من المشفي عائدا الي بيته وهو شارد الفكر ولكن شروده لم يمنعه هذه المره من تذكر ان بيته لا يوجد به شيئ قابل للاكل، او حتي للشرب فدلف الي هايبر ماركت وقام بالتسوق وشراء كل ما يلزمه.
وصل شقته وقام بافراغ ما تسوقه ووضع كل غرض في مكانه المخصص ثم دلف الي الحمام لأخذ حمام دافئ يزيل عن بدنه ارهاق العمل، ثم خرج وشرع في تحضير وجبة خفيفه من النقانق وفور طهوها قام بتغطيتها وتركها قليلا الي ان يحضر بعضا من الخبز والماء والقليل من المخلل وزجاجة من المياه الغازيه لكي تكتمل عناصر وجبه شهيه من وجهة نظره،
احضر كل شيئ ووضعه على منضدة صغيره في غرفة المعيشه ثم احضر اخيرا طبق النقانق وجلس براحه،
فها هو سيأكل اخيرا بعد التعب وقام بتشغيل التلفاز من الريموت الذي بجانبه واداره على قناة الاخبار ثم وضع الريموت بجانبه مرة اخري وشرع في تناول الطعام.
هي فقط بضع لقمات صغيرة دخلت جوفه وانتبه على نغمة هاتفه تصدح لتعلن عن اتصال، مد يده بجواره وامسك الهاتف ونظر في شاشته لكي يفاجأ بنفس الرقم الذي هاتفه في الصباح والعائد لام ود هو المتصل..
ففتح الخط سريعا وهو يهمس لنفسه مبتسما : اييييون
وقام بالرد بمنتهي الهدوء والرزانه : ايوه يافندم.. وانتظر بعدها ام ود لكي تبدأ بالحديث لكنه فوجئ بصوت آخر يرجف خائفاً يجيبه بدلا من ذلك :
الووو، ايوه يادكتور انا مامت ود واللي ردت عليك الصبح مش مامتها.. اسمعني يادكتور للآخر ومتتكلمش انا بترجاك يادكتور انك تعمل المستحيل عشان تعالج بنتي وترجعها زي الاول تانى.. رجعهالي تاني ود العاقله الجميله، عالجها يادكتور ولك مني كل اللي تطلبه من فلوس.
حمزه بذهول : امها؟ امها ازاي!! امال مين اللي اتكلمت معاها الصبح دي، وليه قالت انها امها؟
ردت السيدة سريعا وبنفس نبرة الخوف : اسمعني كويس يادكتور الكلام دا مش وقته وانا مش هقدر اتكلم معاك اكتر من كده اديني عنوان اجيلك عليه واقابلك واقولك علي كل المعلومات اللي محتاج تعرفها عشان تعالجلي بنتي، بس اهم حاجه انك متتصلش علي الرقم دا مره تانيه ولا تكلم حد منه، وبعدين هفهمك ليه وانا هاخد رقمك وارنلك من تليفوني اللي هنتواصل عليه بعد كده.
قالتها وانهت الاتصال سريعا تاركة الطبيب حمزه في حالة من العجب الذي يزداد تدريجيا من بداية اليوم وحتي لحظته هذه فاكل مايتعلق بمريضته الجديده لا يدعوه الا للمزيد من العجب.. لماذا تدعي امرآة غريبه انها امها، وما سر الخوف الذي كان يسيطر على امها الحقيقيه ويجعل احبالها ترجف وكلماتها خرج خائفة؟ بالتأكيد هناك سر كبير وراء كل هذا، وسيفعل المستحيل لكي يكتشفه.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ريناد يوسف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية