-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 60 - 4 الأحد 10/12/2023

  

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الستون

4

تم النشر يوم الأحد

 10/12/2023



رؤيته على حالة أخرى، غير تلك الذي كان بها طريح الفراش، لا يغادره سوى أنفاسًا، تربط بينه وبين الحياة، الذي غاب عنها لشهرٍ ونصف، مؤكدً لها بالغ السعادة في نفس "عز الدين"، الذي ما إن رآه من شرفته جالسًا في الحديقة، حتى قرر النزول إليه، فبعد تناولهم لطعام الفطور معًا، واختطف معه بعض الأحاديث، عن مواضيع متفرقة، كان يود عن طريقها أن يشعر بعودة الأمور في ذلك البيت إلى نصابها السابق بعودته، صمت خلالها لشعوره بالإرهاق من كثرة الحديث، وكذلك من التغير المفاجئ الذي استقبله جسده، بعد مرور العديد من الأيام عليه كامنًا، لا يصدر منه لا حركة ولا صوت، ومنذ ذلك الحين صباحًا وقد عاد إلى غرفته ليستريح.


رآه آتيًا من على بُعد عدة أقدام منه، مرسوم على وجهه بسمة عريضة، توحي بسروره الواضح معروف السبب بالنسبة إليه، فهو لا يخفى عنه لهفته باستفاقته من تلك الغيبوبة، وبعدما سرد عليه تفاصيل عدة، وكذلك زوجته، بشأن ما عانوه خلال نومه الطويل، مع العوارض القاسمة التي حدثت خلال فترة غيبوبته، اتضح له غلاوته في قلوبهم جميعًا، قلب أخ لم يكن يعلم عن وجوده شيئًا، وطليقة لوالده كان قد غُرز كرهها في قلبه ظلمًا، وزوجة لم تر منه قبل زواجه بها غير كل سوء وحطمها قهرًا، وزوجة أخ مقت وجودها مقتًا، وابن صغير نفر من شقاوته نفرًا، وآهٍ لو علموا بما ألحقه برب أسرتهم، أخوه، الذي أراد أن يتخلص من نسبه تعسفًا واستبدادًا.


ورغم ذلك كله لم يلقَ منهم جميعًا إلا الإحسان، ودائمًا ما كانوا يقابلون ظلمه بالغفران، وماذا قدم هو لهم؟ لا شيء، فهو دائما ما كان بارعًا في تقديم اللاشيء بإتقان، لقد كان معميًا عن حقيقة كونه مصدر شقاء لهم، وإذا صح الوصف فقد كان هو الشيطان في روايتهم، كل فرد بلا استثناء طاله أذاه، حتى وإن كان بنظرة قاسية رماه. فاق من شروده الذي تسبب في رسم تعبيرات بائسة على محياه، على سؤال أخيه، الذي جاوره في جلسته على الأسريكة الخشبية المتوسطة الحديقة الواسعة، مستفهمًا بود:


-عامل إيه النهارده؟

تنهد بتعب من شعور الندم الذي لا ينفك ينهكه، ثم رد عليه بعدما لفظ نفسًا مطولًا:


-الحمد لله.


استطاع أن يلاحظ بسهولة وجومه مجهول السبب، ولكنه أرجح الظن ان يكون راجعًا إلى عدم تكيفه على الأجواء بعد، خاصة وأنه قد عاد إليه الوعي بعد اكثر من شهر ونصف، ومحتمل أن تتضرر نفسيته لذلك، ولهذا استمر في تجاذب أطراف الحديث، حتى لا يتركه لصوت عقله المشتت، متسائلًا:


-حاسس إنك أحسن عن الأيام اللي فاتت؟


رمقه بنظرة مستغربة، مضيقًا ما بين حاحبيه، وعقب بلهجة متعجبة:


-وانا يعني كنت حاسس بحاجة الأيام اللي فاتت عشان اعرف احدد؟


تدارك "عز الدين" سؤاله النزق، وحك مؤخرة عنقه بحرج وهو يردد:


-آه صحيح إيه اللي انا بقوله ده..


تفلتت منه ضحكة صغيرة، ثم ما لبث أن أضاف:


-انا بخرف باين عشان منمتش امبارح كويس.


تطرق لرأسه تفكير عابث، ضيق عيناه وهو يسأله بهدوء يتناقض مع إيحائه:


-وإيه اللي منيمكش امبارح كويس؟


تجاهل "عز الدين" مقصده، بالرغم من عدم قدرته على إهفاء بسمته، إثرًا لنظراته الماكرة، ومسح بحركة تلقائية مقدمة أنفه، وحمحم جاليًا بحلقه قبل أن يرد عليه:


-عاصم.


هز رأسه وهو يسأله بانتباه:


-إيه؟


فطن من سؤاله ظنه أنه نداءً، ولكنه مان ردًا خبريًا، وضحه بقوله:


-لأ عاصم ابني، عاصم ابني اللي منيمنيش كويس.


ارتفع حاجباه بتفهم، وردد:


-آاه.


لم تمر لحظة وارتسمت بسمة على محياه، وأضاف بغبطة:


-متتخيلش فرحتي بإنك سميته على اسمي، أول مرة أحس إني غالي أوي عند حد غير ماما وداليا.


تعجب من عدم إضافة والده، ولم يمنع نفسه من سؤاله بفضول:


-وكمال بيه؟


بدون تزين لرده الذي بدا صريحًا لأبعد حد، أجابه:


-لا بابا مكانش فيه حد غالي عنده.


حرك "عز الدين" رأسه في إنكار وهو يعلق بتهكم يخالطه الأسف:


-كوميديا سوداء.


لفهما الصمت لعدة لحظات، شرد خلالها "عاصم" في ذكر أخيه الدائم لوالده بطريقة رسميه، وكأنه ليس والده، مم جعله يسأله بتحير:


-ليه ولا مرة سمعتك قلت بابا يا عز؟


لم يفكر في الرد للحظة، الذي قاله مباشرة على صورة استنكارية:


-هو عملي إيه عشان أقول بابا؟


عجز "عاصم" عن التعليق، فهو بالرغم من كل مساوئه معه عاش في كنفه، ولكن ماذا أعطى لأخيه غير الرفض، النبذ، والإقصاء، ضم شفتيه بأسف وهو ينصت إلى إكماله بنبرة يشيع فيها التحسر:


-أبوك حرمني طول عمره من اني اقول الكلمة دي.


هز رأسه بالرفض وهو يضيف بضعف:


-مش هقدر اقولها بعد ما مات وانا بسببه هكمل حياتي كلها وانا بتحسر على نفسي اني مقولتهاش ليه وهو عايش.


التمعت عيناه بدموع متحجرة وهو يتابع بانكسار:


-انا مخدتش منه حاجة يا عاصم لا حب ولا اهتمام ولا رعاية ولا حتى فلوس، ولا شوفته في حياتي كلها غير مرة واحدة من ساعة ماتولدت.


عند تذكره لتلك المرة، التي بالرغم من صغر سنه حينها، إلا أن أطيافها القاسية، ما تزال محفورة في ذاكرته، أطرق برأسه لأسفل مطنبًا بشجن شديد:


-والمرة دي بتمنى تتمحي من ذاكرتي كل مابتفكرها.


حز في قلب "عاصم" رؤية أخيه في تلك الحالة الشجية والكئيبة، وهو الذي كان يستمد منه طوال الفترة الماضية الأمل والتفاؤل، ندم على سؤال من البداية، وقبل أن يفوه بعبارات مواسية، انتبه له يرفع يده مكفكفًا دمعة خائنة، وحاول أن يتغلب على حزنه برسم بسمة محبة على شفتيه وهو يرفع وجهه لأخيه، ثم أخبره بعاطفة:


-بس يمكن اللي يشفعله عندي هو الكام شهر اللي عيشتهم معاك.


أشرق وجهه "عاصم" بسرور واضح، في حين الآخر حتى يضفى بعض المرح كعادته، تكلم بجدية مصطنعة:


-رغم إنك كنت في الأول لا تطاق وحاجة كده استغفر الله العظيم.


اختفت البسمة من وجهه، ورفع حاجبيه مشدوهًا وهو يستمع إلى متابعة أخيه السريعة بطريقة مضحكة:


-بس بعد ماتغيرت بقيت حد كويس. 


طريقة إلقاء عباراته المرحه لم تفشل مرة في إضحاكه، شاركه أخوه الضحك، وهو فرح لتحقيق مسعاه من البداية، وبعدما خف ضحكهما، استطرد "عز الدين" بجدية:


-بس بجد إحساس إن يبقى ليك أخ في ضهرك وجنبك إحساس ميتوصفش وخلاني غصب عني أقرب منك، زي ما خلاك انت كمان تفتحلي قلبك وتقرب مني.


وافقه الرأي فيمَ قاله، فهذا الإحساس المفعم بالألفة، الذي استشعره جواره، جذبه إليه، وصعب عليه كذلك فراقه، رآه وهو يرمقه بنظرات مليئة بعاطفة أخوية قوية، تتحول بسمته إلى أخرى شقية وهو يضيف:


-يعني أنا مثلا مع الوقت مبقتش اتخيل ارجع تاني من غيرك.


اتسعت ابتسامته إثرًا لأسلوبه اللطيف، في حين أكمل "عز الدين" تلك المرة بتأثر:


-وعرفت كمان قد إيه انت غالي عندي لما كنت هخسرك.


أبقى "عاصم" نظره عليه وهو محافظ على بسمته التي اعتلاها حبًا صادقًا، لأخ جاء في أشد أوقاته احتياجًا له، وبعد برهة قال له بلهجة تساؤلية:


-عارف ايه الحاجة الوحيدة اللي ممكن اشكر بابا عليها؟


لم يستغرق ثانيتين –كان قد نجح خلالهما في استرعاء اهتمام أخيه لمعرفة ذلك الشيء- وصرح عنه بحب:


-انه جابلي أخ زيك يا عز.


لم تدوم تعبيرات العاطفة السائدة فوق وجهيهما، فقد تبدلت بأخرى متهكمة على وجه "عز الدين" أولًا وهو يعلق بتهكم:


-وياريته كان عايزني.


لاحت تعبيرات مماثلة على وجه الآخر، وعقب بنفس اللهجة الساخرة:


-قال يعني كان عايزني انا، اسكت وخليني ساكت.


مع عبارته التي تتضمن نفس الشعور، وتوحي بنفس الجرح، عاود "عز الدين" التعليق ببساطة تخفي أساه الدفين:


-مش بقولك كوميديا سوداء.


صمتا للحظات بعد ذلك، وكل واحد منهما سحبته أفكاره المتضاربة، والمثير للدهشة أن الاثنين كان يفكران في الأمر ذاته، أو بالأحرى نفس الشخص، فـ"عز الدين" كان يشغله منذ البارحة طريقة أخيه الواجمة مع زوجته، والتي اتضحت بصورة أكبر منذ استيقاظه صباح اليوم، غير متفهمًا سبب فتوره الملحوظ، والتي صنفته "داليا" على إنه مجرد إرهاق نتيجة لاستفاقته، وعودته إلى البيت في نفس اليوم، ولكنه كان متيقنًا من وجود سبب آخر. أراد أن يصلح ذات بينهما، حتى لا تتزعزع مجددًا علاقتهما، وتعود الشجارات للنشوب بينهما، وأخوه لن يتحمل تبعات ذلك الضغط العصبي ثانيةً، لهذا لم يرجئ التحدث عن ذلك الأمر لوقت آخر، وعلى حين غرة، وفي خضم شرود الآخر، ناداه:


-عاصم.


ما إن حول إليه نظره، حتى سأله مباشرة بملامح جادة، ومترقبة:


-هو انت متغير مع داليا ليه؟


 الصفحة التالية