رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل 18 - 1 الجمعة 24/5/2024
قراءة رواية نابغة بعصر الأغبياء كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري
الفصل الثامن عشر
1
تم النشر يوم الجمعة
24/5/2024
كم صعباً على المرء أن ينظر أمامه لتلك المصائب التي تحدث حوله ولا يستطيع فعل شيئ ليظل مكتوف الأيدي وكأنه مكبلا بسلاسل من حديد!
هذا ما شعر به إيدي وهو يرى فلذة كبده نائمة أمامه وجسدها بارد كالثلج وتنفسها ضعيف وكأنها بالكاد تسحب الهواء داخل رئتيها؛ فإقترب منها محاولاً إمساك كفها المسندة إلى جوارها ولكن خرج صوت المعالج دان محذراً:
-إياك ولمسها وإﻻ ستخرجها من نومها ولن نستطيع فهم ما يدور معها.
ابتعد بخطوات بطية للوراء وسأله بخوف:
-ولكنها نائمة ولا تجيبك فما المفترض أن يحدث اﻵن؟
رد عليه المعالج موضحاً:
-كان من المفترض أن تستجيب لصوتي وهي نائمة كما فعلت من قبل وتبدأ بالتحدث وإخبارنا عن كل ما يعلمه عقلها الباطن، ولكنني حقا لا أعلم ما بها!
تخوفت هانده من جديد فالمرة السابقة عندما كانت ابنتها بعمر طفلة صغيرة وقام بتنويمها مرت بأسوأ تجربه بحياتها وكانت كارثة حقيقة فهدرت به:
-لا أصدق أني وثقت بك للمرة الثانية وتركتها بين يديك الجاهلة تلك، ما المفترض أن نفعل اﻵن؟ هل نتركها هكذا حتى تلفظ انفاسها أمامنا فهي بالكاد تتنفس!
زم شفتيه للأمام مفكراً بحل مناسب وعاد ينظر لمكتبته العالية والتي تضم العديد والعديد من الكتب حتى وقعت عيناه على كتاب بعينه فإرتفع على أصابع قدمه حتى يصل له وأمسكه وأخذ يقلب صفحاته وثلاثتهم يقفون على أحر من الجمر فهدر به إمام:
-ماذا تفعل يا هذا؟ هل تقرأ لتتعلم اﻵن أيها المعتوه فزوجتي أصبحت كالطعام المجمد من برودة جسدها.
اقترب منه وأمسكه من تلابيبه هاتفا بصراخ:
-أفعل شيئا واللعنة.
أنزل قبضتيه من على ملابسه وعاد ينظر بالكتاب الذي بحوزته وقال متمتماً وكأنه لا يعيرهم أدنى اهتمام بل ويحدث نفسه:
-الفرعون سيتي، نسبة للمعبود ست إله الشر عند القدماء المصريين.
استرعى حديثه انتباههم فركزوا حواسهم معه وهو يقلب بصفحات الكتاب ويسرع للجهة الأخرى حيث مكتبه ممسكا بقلمه ومفكرته وبدأ بكتابة بعد الطلاسم الغريبة وهو يكمل همهمته:
-إن فعلها حقاً فلا يمكنه فعلها إﻻ بمساعدة السحرة.
جلس على المكتب وأخذ يدون كل ما وقعت عينيه عليه بذلك الكتاب وتمتم:
-أقوى سحرة هم سحرة المعبود آمون رع ولا يمكنه استخدامهم للخصومة التي بينه وبينهم.
قلب كثيرا بالصفحات وعاد يكتب بعض الملاحظات:
-ست معبود الشر هو معبوده المفضل وسحرته أقوياء لدرجة وقوفهم أمام باقي كهنة وسحرة المعبود آمون رع.
تنفس عميقا وقد لمعت عينيه ببريق الإنتصار وصاح مهللا:
-وجدتها.
❈-❈-❈
لم تستطع الوقوف هكذا دون فعل شيئ وهي تجده منهار هكذا أمام جثتها باكياً غير عابئا بمكانته ولا بماهيته، والساحرة تسحب جثتها من أسفله بمساعدة الحرس الخاص وتوت يحاول منعه من التمسك بها بهذه الطريقة وهو يخبره بحزن:
-مولاي، أرجوك ألم تكن تلك رغبتك!
نظر له بعينين محتقنتين ومبتله من كثرة البكاء وهو يؤكد له:
-نعم ولكني خائف من فشل التعويذة.
قال توت باستسلام:
-لقد أحضرت أفضل ساحرة عرفتها البلاد ومن حسن الحظ أنها تخدم أنحور معبود الحرب وحامي الفرعون وحامي الجيش، لذلك هي على أتم استعداد لفعل ما تريده يا مولاي بعد أن خصصت لهم منطقة أبيدوس لإقامة معابدهم هناك وأيضاً مجدت اسم معبودهم بتوسعاتك وانتصاراتك.
أومأ مستسلما والتفت ينظر لها فاقتربت الساحرة منه باحترام فسألها:
-ما اسمك؟
أجابته فورا:
-عنتي يا مولاي، أنا زوجة الكاهن الأكبر حوري خادم المعبود أنحور وعلى أتم استعداد لتنفيذ أوامرك.
سألها بتوتر: هل أنتِ على يقين أنكِ تستطيعين أن تجدي قرينتها كما قلتِ من قبل؟
أومأت له مؤكدة:
-لكل منا قرين بالعالم يا مولاي، يمكن أن يعيش قرينه بنفس الزمان الذي يعيش فيه الإنسان ويمكن أن يكون بزمن آخر تماماً، ربما مئات السنوات قد تفصل بينه وبين قرينه.
قوس فمه بإمتعاض وقال غاضبا:
-وما استفادتي من تواجدها بعيداً عني بمئات السنوات أيتها المعتوهة؟ هل سأخلد بالحياة؟ أنا أريدها لي ومعي اﻵن وليس بعد مئات الأعوام.
حاولت شرح الأمر له بهدوء:
-مولاي، لا نستطيع إحياء الموتي ولا إيقاف الزمن فلا تشيخ أو تموت، ولكننا نستطيع التلاعب بعالم الأرواح فالآجساد فانيه والأرواح باقية.
حاول فهم حديثها فسألها بحيرة:
-ماذا تعنين؟ أن ارواحنا فقط ستتلاقى!
ابتلعت ريقها برهبة عندما وجدت غضبه يطغى على وجهه وملامحه فقالت بحذر:
-ستشعر وكأنه حقيقي وسترى بنفسك يا مولاي.
صاح غاضبا:
-وهم، كل هذا من أجل أن أعيش الوهم معها لبضع لحظات مسروقة؟
رد توت نافياً:
-لا يا مولاي، لقد قالت أن أرواحكما ستتلاقى وليس كما تظن انه سيكون وهماً.
ارتفع صدره وحدة تنفسه ونظر لجسدها المسجى أمامه وملفوف بذلك الكتان الأبيض فانحنى يستند بكفه على بطنها المنتفخ هاتفا بحزن:
-لن أقدم القربان حتى أتأكد أولاً من صدق حديثك، فأنا لن أقامر بحياتي من أجل الوهم.
استمعت لحديثه فتذكرت أنها قرأت أنه مات ولم يتعدى عمره الأربعون عاما وعلى غفله وليس بميدان الحرب، على العكس من إبنه الذي حكم لتسعون عاماً ومات بعمر يناهز المئه عام وأكثر، ففهمت أن قربانه تعني تضحيته بحياته فظلت تصرخ ولكن لم يسمعها أو يراها فبكت حزنا عليه وهي تجده يتسطح بجسده بجوار جثتها والساحرة تقول له:
-التضحية بأعوام من عمرك لتجتمع بحبيتك ثمناً باهظا يا مولاي، ولو الأمر بيدي لمنعتك عن ذلك فالنجوم والطالع يؤكدا أنك من أعظم ملوك تلك السلالة ولكنه اختيارك بالنهاية.
سحب نفسا عميقا وكتمه بداخله وهو يفكر و قال مؤكداً:
-فقط اثبتي لي صحة قولك وبعدها أتخذ قراري.
أومأت موافقة وبدأت بإلقاء تلك التعويذة فغامت السماء واشتد المطر وصوتها يعلو أكثر وأكثر وهي تردد نفس الطلاسم والكلمات حتى اغلق سيتي عينيه لحظة وفتحها ليجد نفسه بمفرده وسط هدوء غريب وشمس ساطعه وهى واقفه أمامه بملابسها الفرعونية.
نظرت لإنعكاس صورتها بالمرآة فوجدت شكلها مغايرا لشكل الفتاة الإنجليزية دورثي لويز إيدي الشقراء والتي عتادت ملامحها ولكنها وجدت ملامحها الآن أقرب لأحلامها ولشخصيتها الحقيقة بنترشيت ابنة الجندي وبائعة الخضار فتنهدت بألم ليستمع هو لصوتها فالتفت سريعاً ناظرا لها بلهفة واشتياق وهرع تجاهها وسحبها داخل حضنه دافنا جسدها ليختفي بداخل جسده وهو يبكي بانهيار قائلاً بأسف:
-آسف يا حبيبتي على تركي لكِ، لم أكن أتخيل أن الأمور قد تصل لهذا الحد، سامحيني.
ظلت متسمرة لا تحرك قيد أنمله من جسدها فبكى بحرقه وهو يشعر بجمودها ويعلم بقرارة نفسه أنها لن تسامحه أبداً فاستطرد مضيفاً:
-لم تكن تلك المرة الأولى أو الوحيدة التي أتركك لأشهر طوال وأذهب للحرب أو لإدارة شئون البلاد لهذا لم أتخيل ولا بأحلامي أن يحدث ما حدث.
ردت بصوت حزين:
-حملي لطفلك هو ما أودى بحياتي يا مولاي.
ابتعد ينظر لها بحزن وأسف وتنحنح باكياً وكانه طفلاً صغيراً يطلب صفح أمه وقال بصوت متحشرج:
-سأقدم حياتي ثمناً لأكون معكِ قيثارتي، ألا يكفيكي هذا حتى تسامحيني!
فرت دمعة واحدة خائنة من عينها وهي تسمع صدى صوت ذلك المعالج من بعيد وكأنه يستدعيها فنهجت بشكل مبالغ فيه وتخبطت بأفكارها وهي تحاول جاهدة التحدث معه:
-لا تُقدم ذلك القربان يا مولاي، فأنت لا تعلم ما تقحم نفسك به فحياتي قد تدمرت بفعل تلك التعويذة فلا تفعلها.
رمقها بنظرة حزينة وسألها:
-أﻻ تريدين الإجتماع بي من جديد؟ هل تخليت عن حبنا وعشقنا بنترشيت؟
اغلقت عينيها وحركت رأسها نافية واطنبت:
-لا، فأنا لم ولن أعشق غيرك يا مولاي وحبيبي ولكنك حقا لا تعلم نتائج تلك التعويذة فأرجوك لا تفعلها فقد تعبت وخارت قواي ولن أتحمل أكثر. سنوات وسنوات وأنا أجاهد للعيش بحياة طبيعية ولكن هيهات فمن الصعب العيش بشخصيتين إحداهما من الماضي والأخرى من الحاضر، فكفى هذا العذاب الذي عشته وأعيشه.
لم يفهم ما تقوله فهو لا زال بالماضي ولم يعاصر أي مما تقصه عليه فسألها:
-ما هذا الذي تقوليه قيثارة الحب؟ أي عذاب عشته وتعيشيه؟ أنا لا أفهم، شخصيتين! كيف وضحي لي؟
لم يسعها الوقت فقد أصبح صوت المعالج أكثر قربا وقوة فقالت بعجالة:
-لن يسعني الوقت لإخبارك، فقط أعلم أن تضحيتك أكبر بكثير من تواجدنا معا فلقد عبثنا بالزمن وبحياة أُناس غيرنا لا ذنب لهم، فأرجوك للمرة الأخيرة لا تفعلها.
اقترب منها ونظر بعمق عينيها فتعجب من لونهما العسليتين فسألها:
-تلك عيني قرينتك بالعالم اﻵخر أليس كذلك؟
أومأت له وقد فهمت أن ملامحها ربما بدأت بالتغير استعداداً للعودة فإقترب أكثر وسألها بحيرة:
-إن قبلتك اﻵن هل سترفضينني بنترشيت؟
أغلقت عينيها باكية ونفت برأسها فوضع شفتيه على خاصتها وقال بصوت ثمل من نشوته ودفئ جسده بقربها:
-لأجل هذه الشفاة أضحي بالعالم أجمع وليس فقط بضع سنوات من عمري يا حبيبتي.
انهى حديثه وسحب شفتيها بقبلة عميقة مطالبة بمسامحتها له وراجيه مبادلته ففعلت ليشعر بنفسه وقد عاد للحياة من جديد بعد أن فقد رغبته بكل شيئ فقط لأجلها.