رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل 9 - 1 الخميس 9/5/2024
قراءة رواية نابغة بعصر الأغبياء كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري
الفصل التاسع
1
تم النشر يوم الخميس
9/5/2024
أشد الجروح ألما ليست التي تبدو آثارها على ملامحنا وجسدنا ولكن هي تلك التي تترك أثراً غائرا في أعماقنا لا يراه أحدا سوانا.
اضجع بجسده على عرشه الذهبي وهو ينظر حوله وحيداً متخبطا لا يعلم صحة أو خطأ ما اقترفه منذ أن رآها حتى اﻵن، ولكن جل ما يعلمه ويتأكد منه انه لن يستطيع العيش دونها فأطرق رأسه متحسرا على حاله فهو الفرعون العظم الذي كان يهابه الجميع ينتهي به الحال بمنفى كما اسمته هي بعيدا عن البشريه ودونها، تلك الطفلة التي زعزت ملكه وأثرت بحياته.
تذكر عودته من الحرب بعد أن جاءه خبر حبسها من قبل كهنة المعبد من حارسه الأمين حانوت رع الذي أرسل له تلك الرساله ولكن لبُعد المسافة تأخرت الرسالة بالوصول وتأخر هو بالعودة فوصل بعد فوات الأوان ليجدها قد قامت بقتل نفسها منذ عدة أيام.
دلف بحدة لغرفتها وأمسك ملابسها وظل يشتم عبيرها وهو يبكي ويتسائل بحزن:
-ماذا حدث؟ لماذا تم حبسها ولما انتحرت؟
رد عليه حانوت رع موضحا:
-مولاي، لقد اختارت الموت على أن تفصح عن سرك لأحد.
رفع بصره ناحيته وسأله بغضب:
-ماذا تقصد؟
رد مطنبا بتفسير:
-لقد علم الكهنة بفقدها لعذريتها وحاولوا معرفة من الفاعل فأذاقوها وابلا من العذاب لم يتحمله إنسان، وحاولت مساعدتها كثيراً ولكن سلطتي سقطت أمام سطوة رجال المعبد فلم يكن بيدي فعل شيئ سوى طمأنتها بأنني قد تراسلت معك، ولكن للأسف لم تتحمل أكثر فألقت بنفسها من أعلى سطح المعبد وكانت آخر كلماتها هي (أفضل الموت على أن أفشي سره).
بكى الفرعون، نعم بكى كما لم يبك أحدا قط واعتصر الألم داخله شاعرا بتمزق قلبه وأخذ يلملم ملابسها ويحتضنها بحزن ووهن حتى دلفت الملكة تويا ومعها بعض الجاريات فتفاجئت بذلك المشهد.
صرخ بها فأمرت الجاريات بالمغادرة فورا ونظرت له بتعجب ودهشة قائلة بسخرية لاذعة:
-ظننت أنها مجرد جسد تفرغ فيه شهوتك لا أكثر، لم أتخيل أن يؤلمك موتها إلى هذا الحد أيها الفرعون!
رد بغضب جحيمي:
-اصمتي.
أخرجت ضحكة ساخرة وقالت:
-وإن صمت فهذا لن يغير ما حدث.
وقف ونظر لها بنفور وقال بإهانة:
-أنا أمقتك يا هذي، وإن اكتشفت أن لكِ ضلع بما حدث فستكون نهايتك على يدي أنا ولن أهتم لا بدمائك الملكية ولا بابنائي.
حركت رأسها للجانب وقالت له ببسمة حذرة:
-فقط لتعلم أنني من أبلغت عنها الكهنة وهذه حقيقة وإن أردت قتلي فهلم وافعلها فلم أعد اكترث.
انتفض مقتربا منها وخنقها بيد واحدة وقال بغضب:
-أنتِ السبب! لماذا فعلتها؟ ألم أحذرك من إغضابي أو الاقتراب منها.
ردت بلامبالاة هاتفة:
-كنت على مشارف اﻻنجاب لابنتك الصغيرة وأنت بالحرب، انجبتها بمفردي وأنت بعيداً عني وتحملت كل شيئ من أجل ابنائي وعائلتي ولكن...
صمتت ونظرت له بنظرة حارقة:
-وإن تحملت أن تشاركني فيك لخمس سنوات وأنا صامتة لا أفعل شيئا وأنت تضاجعها أمام ناظري فلن أتحمل أن يشارك ما قد تنجبه لابنائي في حقوقهم لذا...
رفع حاجبه فور أن استمع لها وأحكم قبضته على عنقها أكثر فصمتت على الفور ونظرت له بوجل وخوف وهو يسألها بشراسة:
-ماذا تقصدين بما قد تنجبه؟
ردت بجمود وغضب:
-نعم، كانت تحمل بأحشائها نسلك اللقيط، فهل كنت تتخيل أن الأمر سيمر هكذا والكهنة سيتقبلون طفلا من زانيه نقضت نذورها ودنست جسدها منجبة طفل لقيط حتى وإن كان ابن الملك؟
صفعها صفعة عنيفة على وجهها ارتمت أرضا من قوتها وهدر بغضب:
-هل تسببتِ بقتل حبيبتي وابني أيتها البلهاء وتظنين أنني قد اعفو عنك؟
تمسكت بقدمه ورفعت وجهها تنظر له برجاء هاتفه:
-ستعفو عني لأجل ابنائك ورضيعتنا التي لم تكمل عشرة أيام قمرية.
رققت صوتها وقالت:
-أﻻ تعلم ماذا اسميتها يا مولاي؟
صمت فشجعها على المواصلة قائلة:
-حنوت مي رع (سيدة شمس رع) كما ستكون، فقد تنبأت العرافة لها بمستقبل باهر مثل أخيها.
دفع جسدها الملتصق بقدمه بنفور وابتعد عنها ناظرا لها من أعلى وقال بجمود:
-لكِ أن تختاري تويا أحد الأمرين وأنا افعل ذلك فقط لخاطر ابنائي، فإما أن اقتص منك اﻵن وأعدك بأنني لن اتخذ قرينة أخرى لي ويصبح رعمسيس هو الوريث الشرعي لي وولى عهدي الوحيد دون الدخول بصراعات على الحكم، أو أن تعودي للحريم وتصبحي مثلهم وأتخذ قرينة أخرى لنفسي تنجب لي وريث آخر فما رأيك؟
اعتمد على لهفتها لتولي نجلها لمقاليد الحكم وتمسكها بأصلها الملكي فانتظر رأيها الذي يعلمه جيدا فتلك البلهاء قد تختار الموت لتتأكد أن نجلها هو من سيخلفه، ولكنه لم يعلم بعد أنه أبعد ما يكون عن معرفة ما يجول بخاطرها فإن ابتعدت عن الساحة ستترك مجالا لغيرها حتى وإن وعدها بذلك لذا ردت بخفوت:
-اترك لك القرار مولاي، فحياتي وموتي بيدك أنت وحدك، ولا أشعر بالندم على فعلتي بسبب غيرتي منها.
نظر لها بغضب فهو يريد أن يقتص منها حياة حبيبته فرمقها بنظرة كارهة وغاضبة وقبيل أن يخبرها بقراره دلفت تيا لترى ذلك المشهد الذي جعلها تتسمر مكانها وهي تنظر لوالدتها الملكة راكعة أمام والدها تطلب الصفح والعفو عن حياتها فاستغلت تويا الأامر فوراً وتوسلت بانكسار زائف:
-اتوسل إليك مولاي أن ترأف بي لأجل ابنائي.
سألت تيا بحيره وتعجب:
-ماذا يحدث ابي؟
رمقها باشتياق فهو لم يرها منذ عدة اشهر ففتح لها ذراعيه فهرعت ترتمي بحضنه وقالت باشتياق:
-عودة حميدة مولاي، لقد اشتقت لك أبي.
ابتسم لها بحب وعقب عليها مؤكدا:
-وأنا أيضاً اشتقت لكِ جميلتي تيا.
سألته مجددا بدهشة:
-ماذا تفعلان بغرفة الفقيدة بنترشيت؟
نظر لابنته بحزن فوجد مشاعرها المتأثرة فسألها:
-هل حزنتِ لأجلها تيا؟
أومأت معقبة:
-كانت رفيقة وصديقة جيدة، وما حدث لها ظلمٌ بين يا أبي وإن كان الأمر بيدي لعاقبت كهنة المعبد ولكن لم يستطع أحد فعل أي شيئ لها.
ربت على كتفها وما زال ذلك الألم الذي يعتصر فؤاده يكبر أكثر وأكثر فأضافت:
-كنت أشعر بها شاردة وحزينة بالآونة الأخيرة واستطعت أن أعلم منها أنها تحمل جنين بأحشائها، وحاولت مساعدتها حتى أنني طلبت من أمي أن تقوم بتهريبها بعيدا ولكن الكهنة كانوا أسرع وعلموا بما اقترفته.
حسنا هو الآن ربط الخيوط بعضها ببعض وعلم القصة كاملة دون أن يقصها احدا له؛ فيبدو أن علمت بنترشيت بحملها بعد سفره للحرب ولم تستطع أن تخبره أو تخبر حارسه الذي يرافقها سرا وبحكم صداقتها مع ابنته علمت الأخيره بحملها ولكنها لم تعلم أنه هو نفسه والد ذلك الجنين الذي يعتبر أخاها، فتوجهت لطلب المساعدة من والدتها وهنا علمت تويل بحمل منافستها أو عدوتها وعوضا أن تساعدها على الهرب كما أرادت تيا قامت بإبلاغ كهنة المعبد معتمدة على ثقتها بأن بنترشيت لن تخبر أحداً بحقيقة والد الطفل أو ربما لم تهتم لذلك.
التفت ينظر لقرينته ورفع حاجبه الأيسر بغضب وسأل بصوت أجش:
-عندما أبلغتي الكهنة عنها ألم تتوقعي أن تبلغهم بحقيقة حملها بعد أن تلقت وابلا من العذاب؟ ألم تضعي باعتبارك ولو للحظة أنها قد تضعف وتقر بالحقيقة! ... و ما كان سيحدث وقتها؟ ألن تكن تلك نهاية تلك الأسرة إلى الأبد؟
اندهشت تيا من حديثه ونظرت لأمها بحيرة فأجابت الأخيرة:
-لقد اخذت احتياطي بهذا الشأن وحذرتها من البوح بسرك يا مولاي وإن كانت تحبك حقا فلم تكن لتفعلها!
فهمت تيا فوضعت كفها على فمها تكتم شهقتها بعد أن فهمت أصل حديثهما واستمعت لأبيها يجيب:
-تعشقني تويا وأنا أعشقها، وصدقيني لقد فكرت بأن موتك لن يؤلمك ولن يزل تلك النار التي أشعر بها بداخلي، لذلك لقد قررت أن اتركك تعيشين ولكن مثلك مثل أي جارية ولستِ زوجة ولا قرينه ولا حتى ملكة فأنا أعلم أن ذلك أقصى عقاب قد يؤلمك يا عديمة الضمير.
اقتربت تيا تسأل والدها بتلبك:
-أبي! انت....
صمتت فأومأ لها مؤكداً بنبرة جامدة:
-نعم، كانت عشيقتي ومن كان بأحشائها كان ابني واخاكي.
❈-❈-❈
توجه لقاعة حكمه وجلس على عرشه ممسكها قبضتى مقعدة الذهبى بقوة وغضب محاولا كتم مشاعره وفقط لو يتركوه بمفرده لحظات لترك العنان لعبراته أن تندفع وتخرج من مقلتيه لتصبح فيضانا قد يغرق الأرض كما يفعل النيل بفضيانه.
ظل يتابع أمور الدولة والرعيه حتى انتهى فاقترب منه حارسه بعد أن أشار له الأول بسبابته لينحني باحترام فقال سيتي:
-أتعلم أين دُفنت بترشيت؟
أومأ له قائلاً:
-بالطبع مولاي، فلقد أصر الكهنة على دفنها بدون شاهد للقبر أو بمقابر المعبد فأخذتُ جثتها ودفنتها بالقرب من منزلكما معا يا مولاي.
اعتصر عينيه بألم وخانته عبرة ساخنة نزلت من عينه فقد أصبح منزل عشقهما وملاذهما مقبرة لها ولجنينها الذي لم يولد بعد، فحزن حانوت رع على حاله وأخبره بحزن:
-كانت تعشقك يا مولاي.
مسح عبراته بظهر يده ووقف يهندم زيه الملكي وقال بصيغة آمرة:
-جهز المنزل ليصبح مقرا لمقبرها وقم بإحضار افضل البنائين لينقشوا الرسوم على جدرانه وأخبر اﻻطباء والمختصين بالتحنيط حتى يقوموا بتحنيطها.
تعجب حانوت رع وقال بتردد:
-ولكن يا مولاي أنت تعلم أن التحنيط فقط للعائلة الحاكمة، حتى الكهنة والكتاب لا يسمح لهم بذلك ولا نود أن يثور علينا العامة أو الكهنة إن علموا بالأمر!
رد صارخا بحزن:
-لا يهمني، فأنا الملك ولن أهتم لأحد.
توسله برجاء:
-لا تهدر تضحيتها يا مولاي، فلم يعلم أحدا بأنك الفاعل وقد ضحت بحياتها من أجلك فلا تهدر تضحيتها اﻵن.
نظر له سيتي بحيره فرآي حانوت رع حيرته فقال بتوضيح:
-تحنيطها ووضعها بمكان معلوم وعلى جدرانه نقوش تقول من هي سيجعل الأمر ظاهراً أكثر وإن انتقلت بيوم من الأيام للحياة الأخرى سيقوم كل من كرهها بتدنيس مقبرتها ومومياءها لذا انصحك مولاي بإخفائها.
سأله بعد أن فقد القدرة على التفكير السليم:
-كيف؟
أخبره مؤكدا:
-سأفعل كل ما امرتني به ولكن بداخل حجرة سرية داخل مقبرتك يا مولاي حتى تجتمعان معا بالعالم الآخر.
استحسن سيتي الفكرة وأمره بتجهيز اللازم حتى يقوم بإخراج جثة حبيبته وتحنيطها وإخفائها بأحد الحجرات السرية التي يجهزها داخل معبدة الذي لا يزال قيد اﻻنشاء ومن المفترض أن يحتوي على مقابر العائلة كلها.