رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل 24 - 1 الخميس 6/6/2024
قراءة رواية نابغة بعصر الأغبياء كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري
الفصل الرابع والعشرون
1
تم النشر يوم الخميس
6/6/2024
سرعان ما عاد من شروده وخيالات عقله التي ظلت تنسج له خيوط حياته القادمة والحالية إن صح التعبير، فهو لن يخطئ كالماضي وينتظر وقوع البلاء، بل سيتصرف اﻵن وفوراً قبل أن يفقد حياته ومعها حبيبته وأسرته التي انتظر آلاف الأعوام ليجتمع بها.
نادى على زوجته بصوت مسموع هاتفا:
-فين الشاي يا بلبل؟
لم يعلم أنها كانت تقف على مقربة منهم تستمع لحديثهم بتوتر وهي ترتعد خوفاً من كشف أمرهما، هذا بالإضافة لاحساس الذنب الذي تملكها من داخلها اﻵن ودائما تجاه إمام بذنبه الوحيد وهو وقوعه بحبها وثقته بها والزواج منها.
ارتبكت فور أن استمعت لصوته المنادي وهي حتى لم تقم باشعال الغاز أسفل المياه فجاءت بخطوات بطيئة وقالت بحرج:
-آسف إمام، سيتي كان عايز ينام.
ابتسم لها والتوتر يغزو وجهه فرأت هي ملامحه المتوترة فزاد ذعرها وتجهم وجهها، ولكنها التفتت لتسمع عزيزة ترد عليها:
-ولا يهمك يا بنتي، تعالي اقعدي معانا خلينا نشوف حل للمصيبة اللي احنا فيها دي.
التفت سيتي ينظر لها بغضب ورد محتدا:
-جرا ايه يا امه! هو عشان ما أنا ساكت على كلامكم الغريب ده فخلاص يعني هتصدقوا نفسكم؟
ردت بحرقة:
-ده مش كلام غريب، وأنت تقدر تثبت عكس كلامي ده لو عايز.
تردد قليلاً من ثقتها الزائدة ورد مؤكداً:
-ايدي على كتفك يا أم إمام، اثبت ازاي إن انا ابنكم بس؟
ضحك ضحكات مصطنعة وأضاف:
-والله هم يضحك يا امه، هو كل واحد اسلوبه اتغير شويه بعد ما بقى راجل ومسؤول عن بيت وزوجه واسره، ده يخلي اهله يشكوا فيه بالمنظر ده!
زفر عبد المجيد بفروغ صبر وقال مؤكداً:
-معاك حق يا ابني، ولو أنت معندكش مشكله في اننا نخلي الشيخ حسب النبي ييجي هنا اهو يقرا شويه قرآن ويحصن البيت شويه بالادعيه و.....
قاطعه سيتي رافضا بتعليل كاذب:
-يابا ما أنت عارف ان دورثي مسيحيه، وهي برده مش بتحاول تفرض عليا دينها وأنا....
قاطعه عبد المجيد صارخاً:
-وعشان كده بطلت تصلي وبقيت تتصرف كده؟ محدش قالك خليها تسلم، بس أنت كمان اتمسك بدينك وزي ما بتحترم دينها هي كمان لازم تحترمك وتحترم دينك.
وكأن أي منهما يعتنق إحدى هاتين الديانتين السماويتين، ولكن والدي إمام لم يعلما أنهما يعتنقان الديانة الخاصة بقدماء المصريين ويمارسان شعائرها ويبجلان معبوداتها.
استمع سيتي لغضب عبد المجيد فهمس مؤكداً:
-أنا وهي متفاهمين يابا ومفيش حاجه من اللي في دماغكم، بس اجيب شيخ يقرا قرآن يبقى اسمه ايه ده؟
رد عليه بغضب:
-تطهير للبيت، انا مش بقولك اعمل الغلط يا بني ولو مش موافق براحتك.
صدح صوت عزيزة الصارخ:
-لاااا براحته ايه؟ هو مش بيقول ان كلامي تخاريف! يثبت لنا العكس ويجاوب على السؤال ده.
نظرت له بتحدي فترقب هو سؤالها وقال بثقة:
-قولي يا امه سؤالك.
سألته بتحفز:
-نتيجة التوجيهيه بتاعتك فاكرها؟
أومأ لها صامتا فأضافت:
-كان في سر خبناه على ابوك وقتها، فاكره؟
صمت قليلاً وهو يحاول اعتصار رأسه وقال بالنهاية:
-طبعا يا امه فاكره، بس تعالي اقولهولك بيني وبينك مش هينفع هنا.
صمم عبد المجيد هادراً:
-اتكلم قدامنا يا إمام.
رد واجما ومتصنعا الحزن:
-ايوه يا بابا انا إمام أخيراً قولتها، بس ده كان سر بيني وبين امي ومش معنى انها شاكه اني مش ابنها فتقوم تقول سري للناس كلها بالشكل ده.
وافقت بإيمائة من رأسها وسحبته من ذراعه وهي تنظر لزوجها هاتفة باعتذار:
-حقك عليا يا ابو إمام، هو صح ولو قال السر ده يبقى ابني.
دلفا معا وهي تضع يدها خلف ظهره:
-تعالي جوه يا إمام.
وكأن موافقته المبدئية هيئت عقلها على تقبل أنه نجلها فنادته باسمه بشكل طبيعي، دلفا معا للغرفه ومكثا بعض الوقت فاقتربت بترشيت حاملة صينية الشاي الساخن وقدمتها لعبد المجيد الجالس بترقب وقالت بصوت متلعثم وقلق:
-اتفضل شاي.
ابتسم لها ابتسامة صفراء وأخذ منها الكوب ووضعه أمامه فجلست بجواره هامسه بصوت متردد:
-ازاي شاكك في إمام انه مش ابنك؟ يعني مين هو؟
رد موضحاً:
-امه بتقول انه ملبوس.
حركت كتفيها بعدم فهم:
-يعني ايه دي؟
أجاب بتوضيح أكثر:
-يعني يا بنتي واحد من الجن ولا روح من الأرواح لبست جسمه والعياذ بالله، وعشان كده طريقته غريبه وكل حاجه فيه اتغيرت.
ابتسمت بخفوت وقالت:
-بس هو إمام، أنا عارف إن هو.
ربت على ظهرها وقال بمودة:
-متقلقيش يا بنتي، كلها ثواني ونعرف ونتأكد من كل حاجه.
وبالفعل ما هي إﻻ لحظات وخرجا محتضنين بعضهما البعض تحاوطه بذراعها وتقبله بحب واشتياق وهي تقول بفرحة:
-هو إمام ابني يا عبد المجيد الحمد لله يا رب، هو إمام.
ظلت تردد كلماتها بفرحة وكأنها خرجت من حالة الحزن التي تلبستها لفترات طويلة واطمأنت أخيراً أن ابنها وفلذة كبدها بأمان وبخير:
-هو إمام يا عبده، ربنا يحفظه ليا يا رب.
ضحك سيتي بسخرية مزيفة هاتفا بمزاح:
-والله يا امه انتي عليكي حاجات، طبعا أنا إمام اومال هكون مين يعني!
ابتسم عبد المجيد بعد أن اطمأن باله فزوجته هي من زرعت تلك الفكرة بعقله من الأساس وإن كانت هي قد صدقت أخيراً أنه ابنها إذن فليكن.
اقترب منه واحتضنه قائلا بحب:
-الحمد لله يا بني، ربنا يهديك ومن انهارده عايزك ترجع تصلي زي الأول وخد بالك من نفسك.
وافق بحركة بسيطة من رأسه ونظر لزوجته المندهشه مما حدث، فكيف استطاع بثوان قليلة أن يغير حدتها وإصرارها على أنه ليس نجلها لتخرج بتلك السعادة المرسومة على وجهها وكأنها انتصرت بآخر حروب حياتها.
اقتربت عزيزة وقبلتها من وجنتها هاتفة بحب:
-متأخذنيش يا بلبل، والله الواحد ما عارف يقول ايه بس... الظاهر اني كبرت وخرفت.
ابتسمت لها بنترشيت بتحفظ وربتت على كتفها قائلة:
-أنت حلو ماما عزيزة، أنا بحبك أنت وباب عبد المجيد.
ضحكوا ثلاثتهم على حديثها وقال عبد المجيد ساخراً:
-اهي لما قالت اسمي صح حطت قبله كلمة باب.
نظرت له بحيرة فقبلها سيتي وأوضح:
-اسمها بابا مش باب يا بلبل.
ضحكت وأومأت مبتسمة ومرددة:
-بابا عبد المجيد، صح كده؟
رد عبد المجيد وهو يربت على كتفها:
-صح يا بلبل.
استأذنا بلباقة:
-نسيبكم بقى عشان تاخدوا راحتكم، وخد بالك على نفسك وعلى مراتك وابنك.
ابتسم لهما وأغلق وراءهما الباب فوجدها تنظر له بتحفز وترقب شديدين هامسة بصوت منخفض حتى لا يستمعا لها إن كانا لا يزالا على الدرج:
-ما الذي حدث سيتي؟ اخبرني فقد قتلني القلق وأنت بالداخل معها، وكيف استطعت أن تقنعها بأنك إمام؟
ظل ينظر لها وهو مبتسم لتلك التي عشقها عشقا لا مثيل له وزاد عشقه لها ليشمل كل تفصيلة بها، فرحها وحزنها، خوفها وطمأنتها، حبها وكرهها، نضجها وطفولتها، هدوئها وعصبيتها؛ فرد مازحا بصوت جهور وبنفس اللغة التي تحدثه بها:
-ولماذا تخفضين صوتك؟
ردت بدون تردد:
-حتى لا يستمع أحداً لحديثنا.
ضحك عاليا واحتضنها وقبلها من تجويف عنقها وسألها بمشاكسة:
-وهل يستطيع أحد بتلك الحياة التحدث باللغة الهيروغليفية بنترشيت؟
وضعت كفها أعلى فمها بعد أن أدركت تشتتها وضحكت ساخرة من نفسها وأومأت له معقبة:
-لقد تشتت بسبب ما حدث، واﻵن اخبرني ما حدث بالداخل مع والدة إمام وكيف استطعت أن تقنعها بتلك السهولة؟
رد مطنباً:
-بالماضي استخففت بقدرات تويا ولم أظن أنها تستطيع إيذائي أو أن تتخطاني فتفعل ما هو أكبر وأعتى من إيذائي وتؤذيكي أنتِ حبيبتي وقيثارتي.
احتضنها بتملك وقبلها قبل كثيرة وأكمل استرساله بالحديث:
-تركت الأمور تسير وفق الحاجة ولم أضع بحساباتي أن ربما أتفه الأمور قد تنهي عالمي وحياتي.
رمقها بنظرة حزينة وكأنه استعاد الماضي بكل آلامه وقال:
-إن اتخذت حذري سابقاً ما فقدتك حبيبتي وما كنت مررت بكل تلك الأهوال وما كنا قدمنا كل تلك التضحيات حتى نكون معاً، ولذلك لم أترك تلك المرة مجالاً لأي ثغرة قد تؤرق حياتنا سوياً.
اتكئ بجسده ممدداً على الأريكة واضعا رأسه على فخذيها وقامت هي بمداعبة شعره وهو يسترسل بحديثه:
-عندما كنت أزور جسد إمام قبلا كنت دائما استطيع رؤيته والشعور به بكل حالاته، وأرى بعينيه العالم كما يراه هو، عندما كنتِ تستدعيني كنت اسمعك وأحضر عندما ينام حتى لا يشعر بي كما حدث بالسابق.
أمسك راحتها وقبلها بعمق وأكمل:
-لم يكن هو يرى عالمي ولكنني كنت أرى عالمه، لم يكن هو يستطيع التحكم بي ولكنني استطعت التحكم به، ولم يكن هو يستطيع أن يشعر أو يرى عالمه عندما أتلبسه كليا ولكنني استطعت أنا فعلها.
اعتدل بجسده ونظر لها مبتسما وأوضح:
-لقد نسيت للحظة أنني المتحكم هنا حتى وإن كان جسده، وعندما تلبسته بشكل دائم عشت معكِ كبشر عادي ولم أراقبه أو أراقب أفعاله بمحبسه، فقط اخترت أن أتناساه بإرادتي حتى أعيش معك بسعادة دون وجود شيئ يؤرق حياتنا سويا.
بلل شفتيه بطرف لسانه وابتلع ريقه ليجلي جفاف حلقه من كثرة التحدث وأضاف:
-حتى علمت أنه يزور والدته بأحلامها كما كنت أفعل معكِ، مجرد استطاعته فتح ذلك الباب جعلني أدرك أمرا هاماً.
رمقها بنظرة خالية من أي مشاعر وقال بتأكيد:
-أنه أصبح خطرا علي وعلى وجودي وكياني؛ فاليوم استطاع فتح بوابة التواصل بالأحلام وغدا قد يفتح أبواب أخرى كثيرة كمراقبته لحياتنا أو حتى باب العودة لذلك الجسد لذلك تأكدت من أمرين هامين وهما، أولا أنه لا يمكن تركه دون مراقبة وثانيا انني لابد أن اتخلص منه نهائياً وأهدم ذلك العالم المحبوس به اﻵن وإلى الأبد.
❈-❈-❈
فور عودتهما للمنزل دلفت عزيزة بسعادة وبسمتها تتسع لأذنيها وارتمت على الأريكة تتنهد بارتياح وكأنها تشعر أخيراً براحة البال والطمأنينة.
نظر لها عبد للمجيد مبتسما وقبل رأسها قائلاً برضاء:
-الحمد لله على فضله ونعمته، ربنا ريح بالنا.
أومأت بصمت وكأن الكلمات قد نفذت من جوفها ولا تريد شيئاً آخر سوى أن تغلق عينيها بارتياح وتنام نوماً عميقاً لم تهنئ به منذ أن تلاعبت بها أحلامها أو كما تظن بعد أن أقنعها اﻵخر بطريقته الملتوية.
سألها زوجها بصوت هامس:
-ساكته ليه يا أم إمام؟
نظرت له بفرحة وردت موضحة:
-لأني اطمنت وقلب الأم لما بيطمن مش بيكون عايز حاجه تانيه من الدنيا.
تنهد تنهيدة عميقة وزفر أنفاسه للخارج قويا وقال ممتعضاً:
-أنا مردتش اكسر فرحتك، بس.......
صمت فنظرت له بترقب فأضاف:
-انتي أتأكدتي أنه ابننا ودي حاجه كويسه، بس برده في النهايه تصرفاته الغلط هي هي، بعده عن ربنا هوه هو، كل الحاجات اللي مش عجبانا فيه من وقت ما رجع من بلاد بره وهي زي ما هي.
استنكرت عزيزة كلامه وقالت مدافعة عنه:
-إمام طول عمره محترم وبيعرف ربنا، ده تربيتي بس يمكن الدنيا وخداه شويه وكلنا يا أبو إمام ياما عدى علينا أوقات زي دي واحنا في سنه.
أصر برأيه هاتفا:
-عارف... بس ده ميمنعش إننا نكمل في طريقنا ونحاول نرجعه عن عمايله، مش هسيب ابني يعيش زي الأجانب.
وافقته مؤكدة:
-اكيد مش هنسيبه يا عبده بس برده بالراحه وبالعقل عشان منخسرهوش، احسن ده قالي انه بيفكر يسافر تاني.
احتدت تعابيره وهو يصرخ بها متسائلاً:
-نعم! هو بيهددك؟
ردت نافية:
-لا يا عبده بيهدد ايه بس، هو كل الحكايه زهق من الشغل هنا وكان مرتاح اكتر في بلاد بره عشان كده عايز يرجع لولا إن أنا حلفته بغلاوتي عشان ميسافرش فمش عيزاك تضايقه ابوس ايدك وخده بالهداوه أنا ما صدقت انه رجع لحضني.
تنهد باستسلام وتحرك صوب غرفة نومه ليرتاح قليلاً ويفكر كيف عليه أن ينقذ فلذة كبده من السير بذلك الطريق المعوج.