رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 5 - 3 الجمعة 20/12/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الخامس
3
تم النشر الجمعة
20/12/2024
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٠..
اقتربت من الفراش العتيق الضخم، وازاحت بكفها الرقيق الناموسية التلية في هوادة، تتطلع إلى تلك التي تتمدد في وداعة بفراشها، ارتسم على وجهها ابتسامة رقيقة ما لبثت أن ضاعت معالمها ما أن استيقظت الفتاة النائمة متطلعة نحوها في ذهول، تسألها في حروف متلعثمة: أنتي مين!
ابتسمت المرأة في شجن: معقول مش فكراني، ولا عارفة أنا مين! أنا أنس الوجود..
هتفت الفتاة في حنق: أنا أنس الوجود..
قهقهت المرأة في رقة: ما أنا عارفة.. عشان كده مستغربة إنك مش فكراني.. ده إحنا تقريبا نسخة من بعض.. معقول محدش حكالك عني!
لم ترد أنس على سؤالها، نافية بهزة من رأسها، ما جعل المرأة تنكس رأسها في حزن دام لبرهة قبل أن تهمس في عجالة متسائلة: أنتي جاية هنا ليه!
أكدت أنس: جاية أخد حقي، وحق أمي..
أكدت المرأة وعلى وجهها علامات من ضيق مخلوط بحسرة: يا خسارة.. وألف خسارة.. كنت فاكرة إنك جاية تمدي الجدر اللي انقطع، وتوصلي اللي كان..
أكدت أنس في اضطراب حانق: أنا جاية أخد حقي وحق أمي..
همست المرأة من جديد، وهي تولي راحلة: يا خسارة.. كنتي فكراكي راجعة تصلحي اللي انكسر، وتشفي الجرح اللي لسه نازف، اتاريكي جاية تعيدي نفس الغلطة، وعيونك لسه مغمية مش شايفة مين اللي ليكي، ومين اللي عليكي.. يا خسارة..
ابتعدت المرأة وهي تردد كلمتها الأخيرة في حسرة وحزن عميق، قبل أن تختفي كليا وأنس تؤكد عليها في إصرار: أنا جاية أخد حقي وحق أمي، أنا مليش دعوة بأي حكاية قديمة.. أنا مليش دعوة..
صرخت أنس مجددا بجملتها الأخيرة، تحاول نفي تهمة ما عن كاهلها، مؤكدة سبب قدومها للرسلانية، لكن صرختها المعترضة وهي تكرر الجملة منتفضة، جعلتها تدرك أنها كانت غارقة في منام عجيب.. وأن كل ما مضى ما هو إلا أضغاث أحلام.. تنهدت في محاولة لاستعادة هدوء نفسها، لكنها تذكرت تلك المرأة كبيرة العمر التي كانت نسخة منها في ملامحها الشكلية، وحاولت تذكر الحوار بينهما بالحلم، فشعرت بالضيق يحتل نفسها..
نهضت من موضعها مدركة أن الساعة قد جاوزت العاشرة مساءً بقليل، تطلعت لتلك الساعة القيمة على الحائط القريب نسبيا من موضعها، لتدرك أنها قاربت الحادية عشرة مساء بالفعل..
فتحت النافذة وتطلعت للسكون المخيم على الأجواء، إنها الليلة الثانية بعد عقد القران البارحة، وكان النهار طويلا مكتظ بالكثير من الزغاريد والطبل والأغاني التي لم تسمع مثيلتها من قبل، رددتها النساء فرحا وابتهاجا بنقل حاجيات العروس أو المعروف بشوارها لبيت عريسها استعداد للزفاف بعد عدة أيام..
وجدت نفسها تكرر أحد المقاطع دون وعي:
اعمليله حلة محشي، يوقع فيها ميطلعشي..
اتسعت ابتسامتها محاولة إجلاء ذاك الضيق الذي اكتنف دواخلها جراء ذاك المنام الغريب.. لكنها لم تفلح في ذلك .. تنهدت في قلة حيلة فقد كانت تمني نفسها بالجلوس مع حبيب لإنهاء الأمر بينهما كما وعد، والابتعاد عن هنا بأسرع وقت ممكن، لكنها لم تلمح له ظلا طوال اليوم، وكأن الأرض انشقت وابتلعته.. ربما كان يعلم أن السراي تعج بالكثير والكثير من النساء، ما دفعه للابتعاد عنها طوال النهار، حتى يعطي لهن مجالا للتحرك بحرية لخدمة العروس في تلك الليالي الباقية لها في دار أبيها، قبل انتقالها لدار زوجها..
ما زال الضيق يطبق على صدرها، فقررت الخروج والسير بالحديقة قليلا، ربما بعض المسير في هذا الجو المنعش المحمل بهبات الريح الباردة، قد ينعش روحها ويعيد لها بعض من تلك السكينة التي تفتقدها..
أرتدت مئزرها الشتوي وتركت شعرها منسدلا على طول ظهرها، فما من داعِ لجمعه وهي وحيدة بلا رفقة، وقد ذهب الجميع للنوم بعد ذاك اليوم الطويل والمجهد، همت بفتح الباب مغادرة فوقع ناظرها على شال أمها الذي جاءت به، لا تعرف لما أتت به من الأساس وهي التي لم تعتد ارتداؤه، حقيقة لا تدرك لذلك سببا، ربما كانت في حاجة لبعض الأمان وهي في طريقها لهذه البلاد، فقررت جلبه معها تستمد منه بعض من طمأنينة عجزت عن خلقها ذاتيا.. مدت كفها نحوه واضعة إياه حول كتفيها دافعة أحد طرفيه الأطول قليلا ليستقر على كتفها، مخفيا شعرها المنساب تحت نسيجه..
هبطت الدرج المفضي نحو الاستراحة التي وطأتها في حذر، محاولة تجنب أي مقابلة مع أي من كان، فلا رغبة لديها اللحظة في مواجهة مخلوق..
تنهدت في راحة ما أن وجدت الاستراحة فارغة، ففتحت بابها في حرص نحو الخارج، تاركة إياه مواربا قليلا ليسهل عليها طريق العودة.. سارت في هوادة لتصل للحديقة الخلفية، وما أن همت بالاقتراب من الموضع الذي قررت الاستقرار به وحيدة، والذي كان متطرفا نوعا ما عن الحديقة بكل مقاعدها وآرائكها.. حتى سمعت أصوات هامسة، لم تتبين أصحابها، لكنها حاولت على قدر استطاعتها تمييزهما، كان صوت لرجل حاول أن يكون صوته على قدر خشونته رقيقا وهامسا وهو يقول لمرافقته: هاتي يدك..
تمنعت الفتاة التي كانت تقف بالقرب من السور الداخلي للحديقة، على الجانب الذي تقف فيه، رافضة الازعان لطلبه، ليطلب في إلحاح من جديد: يا بت هاتي يدك، خدي ده.. بجى أچي لك الساعة دي عشان اديهولك، وانتي تعملي فيا كده..
مدت الفتاة يد مرتجفة في اضطراب، ليلتقط الشاب كفها في لهفة، دافعا خاتم من ذهب مزينا أحد أصابعها الرقيقة، هاتفا في وله: اوعاكي تخلعيه من يدك يا منيرة.. ده أغلى عندي من كل الدهب اللي چبتهولك.. دي أول هدية اچبهالك بعد ما بجيتي حلالي..
همست منيرة في نبرة خجلة متعثرة الأحرف حياءً: ولا هيحصل في يوم يا عزت، تطلع روحي ولا أخلعه من يدي..
هم عزت بالانحناء قليلا ملثما باطن الكف البض الذي ملكه بين كفيه، إلا أن منيرة جذبت كفها في سرعة خجلة، وما أن همت بعتابه لفعلته حتى انتفضت موضعها تكتم شهقة كادت أن تصدر عنها، تشير له ليرحل على عجل، ما دفعه للهرولة مبتعدا حين كادت أنس أن تتعثر بحجارة صغيرة تفتت تحت قدمها وهي تحاول الابتعاد، وصدر عنها أهة مكتومة دفعت منيرة لترك موضعها قرب السور، وما أن أدركت وجود أنس حتى هدأت قليلا، مندفعة صوبها تتأكد أنها بخير، ابتسمت أنس نحوها مطمئنة: أنا كويسة متقلقيش..
وسألت في فضول باسمة، مشيرة لموضع وقوفها مع عزت: بتحبيه!
نكست منيرة رأسها خجلا، قبل أن تجيب بإيماءة إيجاب من رأسها، هامسة في وجد: بحبه دي كلمة جليّلة، ده أني وعيت على دنيتي لجيت عزت هو الدنيا كلها..
همست أنس متعجبة: للدرجة دي! طب ما يمكن عشان كده، عشان مشفتيش رجالة غيره، فهو ف عينك كل الرجالة..
أكدت منيرة وما زالت غارقة بحالتها الولهانة: ومش هشوف رچالة غيره، ولو حطوه فكفة ورچالة الدنيا كلها ف كفة.. كفته هو الراچحة.. الجلب وما يهوى يا أستاذة.. أجصد يا أنس..
هزت أنس رأسها لتذكر منيرة رفضها نعتها بالأستاذة كما الجميع، ومفضلة عليه اسمها.. وابتسمت مجاملة، فهي لا تدرك تلك المشاعر التي تصفها منيرة بكل هذا الشغف، بل هي على يقين أنها مجرد أكذوبة لا أكثر.. وفترة دامت أو قصرت ستنقشع الغمامة الوردية عن عيون العقل، ويبصر حقيقة تلك المشاعر الزائفة.. فلا منطق ولا تعقل يقر على ما يحدث.. وهي التي لم تقس أمرا يوما إلا بميزاني العقل ومنطق الأشياء..
تطلعت لمنيرة في مودة حقيقية، لا تعلم لما هذه الفتاة خطفت قلبها وشعرت نحوها بعاطفة خاصة، ربما لأنها لم يكن لها أخوات من قبل، وعلى الرغم من وجود هاجر بحياتها إلا أن ابتعادها لسفراتها المتعددة جوار سيد عملها، جعلتهما بعيدتين قليلا عن الأحداث اليومية التي يتشاركها عادة الاصدقاء المقربين، لكن منيرة شعرت نحوها بتعاطف ومحبة هي استغربتها في نفسها.. لكنها أيقنت أن ذاك المكان وناسه لم يكن ليسير عليهم قواعد المنطق التي تعلمتها، ولا أساليب التعقل التي تقيس بها الأمور، هم حالة خاصة جدا.. وهي قد عجزت عن تفسيرها فقررت تجاهل التفسير من الأساس.. وأخيرا ربتت على كتفها في تعاطف، هامسة في نبرة ودود: ربنا يسعدكم ويتم لكم على خير..
اتسعت ابتسامة منيرة النضرة، وهمست في حياء: عقبالك يا أُنس.. ربنا يبعت لك الراچل اللي يصونك ويستاهلك.. كان نفسي تكون..
قاطع حديثهما صوت سعال خفيف يقترب، تنبهت أنس تدير وجهها في اتجاه القادم، الذي ظهر مجتازا تعريشة العنب حتى طل أمامها وقد ظهر على ملامحه الدهشة لمرآها هنا في هذه الساعة وحيدة..