-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 6 - 1 - الجمعة 27/12/2024

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السادس

1

تم النشر الجمعة

27/12/2024

رائحة العشق

الرسلانية ١٩١٥..

تأنقت توحيد مرتدية أفضل ملابسها، ثم وضعت على جسدها ذاك الملس الحريري القيم، ودفعت بطرحتها الحريرية كذلك فوق رأسها، ثم رفعت نقابها الأبيض مخفية وجهها وتحركت في اتجاه الخارج، قابلتها أنس التي كانت بصحبة نازك رفيقتها بالحديقة، ما دفع توحيد للتوجه نحوهما هاتفة في حرج لأنس: معلش بجى يا برنسيسة هخرج بس نص ساعة مش هعوج، وتني راچعة طوالي.. ولو احتچتي حاچة.. الدار باللي فيه كله تحت أمرك.. 

سألت أنس في فضول: أنتي رايحة فين توحيد!.. أنا نفسي أشوف البلد كلها معاكي.. 

ابتسمت توحيد مؤكدة: أني مينفعش أمشي فالنچع كده على راحتي، ده سعد أخوي يبهدلني، أني مش رايحة فسحة، أني رايحة زيارة مينفعش تتأچل..

تعجبت أنس من كلماتها التي لم تستوعبها، وسألت من جديد في فضول أكبر: زيارة مريض! 

اتسعت ابتسامة توحيد مؤكدة: لاه، مريض ايه، ده مات من ياچي ميت سنة..

ارتسمت الدهشة على وجه أنس مستفسرة: ورايحة تزوري واحد ميت ليه توحيد.. الله يرحمه.. 

قهقهت توحيد مفسرة: الله يرحمه يا برنسيسة، بس ده الشيخ السماحي، ولي من أولياء الله الصالحين، أني رايحة أزور المجام بتاعه، هنا جريب، أصلك دي زيارة كل شهر ومجدرش افوتها.. 

هتفت أنس معلنة: أه إيڤت، مقام شيخ! ممكن اجي معاكي! انتي أكيد بتقرأي الفاتحة وتدعي هناك توحيد! أنا كمان عايزة ادعي وأقرأ الفاتحة.. 

ابتسمت توحيد وهزت رأسها في إيجاب: تشرفي يا هانم، ده المجام يتبارك بزيادة.. 

نهضت أنس على الرغم من معارضة نازلي لذاك القرار، إلا أنها لم تستجب لمعارضتها، وسارت مع توحيد يتبعهن مصباح الذي رافقهن نحو المقام، الذي كان عبارة عن حجرة مربعة مدفون بقلبها ذاك المدعو الشيخ السماحي، يطل الناس على مقام دفنه المغطى بالحرير الأخضر الموشى بخيوط القصب الذهبي، من نافذة مربعة صغيرة بها قضبان حديدية قد يمسك بها الزائر وهو يبتهل داعيا، معتقدا أنه بذلك يكون أقرب ما يمكن لصاحب المقام الطاهر، فتُستجاب الدعوة.. وفوق تلك الحجرة المربعة هناك قبة خضراء تعد دلالة بعيدة على موضع المقام العالي، والتي أشارت لها توحيد وهي على مقربة تأكيدا على دنو الوصول.. 

وقفن أمام النافذة المربعة، وهمت توحيد برفع كفيها للدعاء، فإذا بأنس تسأل من جديد: بتقولي إيه توحيد! ممكن أعرف! 

ارتبكت توحيد قليلا، قبل أن ترد في كلمات مهتزة حاولت أن تهرب بها من إجابة سؤال أنس: بدعي ربنا، أهو مكان طاهر وربنا يستچيب إن شاء.. 

استفسرت أنس: بتقولي ايه! يمكن أدعو بكلماتك.. 

قالت توحيد وقد قررت كشف نياتها: بدعي ربنا يرزجني الصحة، ويبارك لأخوي سعد في صحته وماله، ويرزجه الست اللي توصنه، ويرزجني بالراچل اللي يصوني.. 

ووجدتها توحيد فرصة لتسأل: جال بالحج يا هانم! هو فين البيه چوزك! 

نكست أنس رأسها في صمت لبرهة، مجيبة في نبرة مقهورة، رافعة رأسها متطلعة لتوحيد بنظرة منكسرة: دي حكاية طويلة توحيد، هحكي لك كل حاجة، إحنا بقينا أصحاب.. 

ابتسمت توحيد رافعة كفيها، داعية بصوت عالِ: يا رب، بحج چاه النبي وآل بيته، يريح جلبك ويهدي بالك، ويرزجك باللي يسعدك ويراضيكي، يا أُنس الوجود هانم يا بت.. 

تطلعت توحيد نحو أنس، متسائلة في جدية: هي الوالدة اسمها ايه! عشان الدعوة تكمل.. 

ابتسمت أنس لأفعال توحيد العفوية، وردت في أريحية: اسمها جشم هانم توحيد.. 

تعجبت توحيد: چشم! وماله.. واستطردت دعوتها: أنس الوچود هانم بت چشم هانم.. قادر يا كريم.. 

رفعت أنس كفيها متشبهة بتوحيد، وما أن أنهت دعوتها حتى رددت خلفها.. آمين.. ومسحت كلتاهما وجهها بباطن كفيها، ونازك تقف على مقربة متطلعة لما تفعله مخدومتها في استنكار.. ولم تهدأ حتى غادرن المقام عائدات نحو دار الرسلانية.. 

 ❈-❈-❈

طرقات متعاقبة بقوة على ذاك الباب المتهالك لدار متطرفة عن باقي دور النجع، جعلت صاحبها ينهض من موضعه جاذبا الباب في حرص مخافة خلعه، هاتفا في حنق بوجه الطارق: إيه يا حبيبي، ليه كل الخبط ده ع الباب! الباب هيتخلع ف إيدك، وهتغرم أجرة تصليحه..

هتف الرجل في لهفة: معلشي يا خواچه، سماح.. بس أصلك أني چايلك فمصلحة..

هتف نعيم في حنق: أدخل، مع إن انتوا مش وش مصلحة ولا بيجي من وراكم إلا الهم.. في ايه! 

طلب الرجل في نبرة مترجية: طالب سلفة يا خواچه، الواد فالاسبتالية بيموت، ولازمني عشرين صاغ وإلا هيروح مني، ده الحيلة.. 

هتف نعيم في نبرة قاسية بلا أي شفقة: عشرين صاغ بحالهم! كتير يا حبيبي.. 

هتف الرجل متذللا: بجولك الواد هيروح، ومحدش حيلته يسلفني إلا أنت يا خواچه.. 

هتف نعيم في حنق: ما يروح ولا يغور في داهية، هو انتوا حيلتكم إلا الخلفة زي الأرانب، خلف غيره أرخص.. 

صمت الرجل منكس الرأس في مذلة ولم يعقب بحرف، بينما استطرد نعيم في نبرة مدعيا التعاطف: ولا أقولك، هسلفك العشرين صاغ، عشان تعرف بس إن قلبي طيب، مش زي ما بتقولوا عني.. 

هتف الرجل وقد عاد له الأمل في إنقاذ ولده: بنجول عنك كل خير يا خواچه، بس هات العشرين صاغ رب يخليك.. 

هتف نعيم موضحا: موجودين، بس أنت عارف التظام، أنت مش هتردهم عشرين يا حبيبي، أنت هتردهم جنيه.. 

شهق الرجل في صدمة: يا سيدي السماحي!.. چنيه نوبة واحدة يا خواچه، كتير عليا جوي.. طب خليهم نص چنيه لجل الغاليين عندك.. 

ادعى نعيم الموافقة على مضض، هاتفا في نبرة مستكينة: ليه بس تحلفني بالغاليين! ماشي كلامك، نخليهم نص جنيه، خد ابصم هنا.. 

تردد الرجل: هو لازما يا خواچه حكاية ابصم دي.. 

أكد نعيما مكشرا عن أنيابه، وقد تبدلت سحنته: اومال اضمن حقي إزاي يا حبيبي! هتبصم ولا كل واحد يروح لحاله!.. 

مد الرجل إبهامه في ازعان، ليغمسه نعيم في مادة زرقاء أولا، قبل أن يضغط به فوق ورقة لم يعلم الرجل حرفا مما كُتب فيها، حتى ولو علم، فتلك الحاجة التي دفعته ليستدين بالربا، قاهرة حد الاستغناء عن الغالي مهما كان في سبيل إنقاذ حياة ولده.. 

نزع نعيم الورقة، طاويا إياها في رفق دافعا بها لعمق جيب سترته المتهالكة، متنحيا قليلا مخرجا بعض العملات النقدية، عد منها عشرين قرش صاغ على مهل وبيد مثقلة، وبلا رغبة دفع به ليد الرجل، أمرا إياه في غيظ: خدهم وغور.. 

أخذ الرجل بغيته مندفعا لخارج الدار، ليهتف نعيم خلفه في حنق بالغ: خلف العار، شحاتين وطول عمركم هتفضلوا شحاتين.. 

هتفت رحيل زوجة نعيم، التي جاءت من الداخل تترنح في مشيتها بثقل حملها الواضح: في ايه يا نعيم! هو أنت كل ما هطلع مليم من جيبك، تفضل متعكنن كده النهار بطوله! 

هتف نعيم وهو يغلق باب الدار المتواضعة في حرص زائد: ده مش مليم يا رحيل، ده نص جنيه بحاله، نص جنيه كامل! 

تطلعت نحوه رحيل في أسى، ترد عليه في تعجب: طب ما هو هيرجعلك الضعف يا نعيم! اهدا وتعالى كل لك لقمة ب..

تطلع نعيم نحو الأطباق صارخا: جبتي الأكل ده منين! 

هتفت رحيل ساخرة: هجيبه منين يعني، ده صدقة يا غالي، حتة جبنة من بهية جارتنا، وشوية العسل الأسود دول من واحدة جت خدت منديلين من اللي مش قادرة ألف ابيعهم ببطني اللي قدامي دي، على رغيف ناشف بليته أهو، وربطتين جرجير من الأرض اللي قصاد الدار.. 

هدأت نفس نعيم، وجلس يأكل في راحة، متسائلا في لا مبالاة: هم فين العيال! مش سامع لهم حس.. 

هتفت رحيل وهي تضع لقيمة بفمها: أهم سارحين بالنجع، على بيت ده شوية، وده شوية، يكلوا لقمة هنا ولا هناك، ويجيبوا الأخبار اللي بيسمعوها فكل بيت ويجوا يقولوهالي.. 

هتف نعيم منشرحا: سمعان وسارة جدعان، طالعين لأبوهم، عارفين إزاي ياخدوا اللي هم عايزينه ولو كان في حنك السبع.. 

ربتت رحيل على بطنها هاتفة: عقبال اللي جاي! عايزه واد ولا بت! 

أكد نعيم في نبرة تنضح كبرا: مش فارقة واد ولا بت، نعيم ولاده بيمشوا ع الخط اللي هو راسمه، وعمر ما حد فيهم هيخرج عنه.. أبدا... 

صمتت رحيل ولم تعقب، بينما دفع نعيم بلقمة كبيرة بفمه، يمضغطها في بطء وتلذذ، لا لطعمها المحبب، فالطعام لم يكن شهي من الأساس، لكن لتفكيره في العشرين صاغا الذين سيبيتون بعيدا عن أحضانه الدافئة، لكنهم سيعودون قريبا مع مثلهم ليزاد بهم دفئا، ويرتاح باله.. 


الصفحة التالية