-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 6 - 4 - الجمعة 27/12/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السادس

4

تم النشر الجمعة

27/12/2024

كان ذاك الحشد من الرسلانية ومن لهم بهم صلات نسب أو قرابة، جاءوا وقد هالهم ما حدث لابنتهم على حد قولهم، ما دفع حبيب ليهتف بهم في هدوء: الليلة كلها عندي يا رچالة، ده حج أختي وأني أولى به، ومحدش هيچيب لها حجها إلا أني..

هتف أحدهم صارخا في نعرة كاذبة: لاه، مهياش أختك لحالك، واللي چرا ده مس الرسلانية كلاتهم، وإحنا لينا حج ولازما نخدوه من واد أبو زكيبة.. مش بت الرسلانية اللي يتعمل فيها كده! 

تطلع حبيب صوب ذاك الرجل المتحدث في حسرة، ثم جال بناظره نحو وجوه الرجال الواقفين رافعين أسلحتهم ونبابيتهم بهذه القوة، يكاد ينفجر ضاحكا على هبتهم الكاذبة في سبيل نعرة هو أدرى الناس بكذبها، فكم من يد مدها نحوهم يستنجد بهم في أمر يخص الرسلانية، ولم بجد منهم إلا آذان مصمتة، واستجابة بلا روح، وكأنها صادرة عن موتى، وذاك الذي يزعق بهذه القوة بدعوة الحمية لأخته، ما فعل ذلك إلا لخصومة متجذرة بينه وبين عمدة الرسلانية السيد أبو زكيبة منذ زمن بعيد، وهذه الحمية لم تكن أبدا لأجل شرف العائلة وكرامتها كما يدعي ذاك الأفاق، ما دفع حبيب ليهتف في ثورة: اللي چاي لچل حبيب رسلان وكرامة الرسلانية بحج ربنا يبجى يسمع كلام حبيب، ويسيبه ياخد حجه بيده، ويتفضل يشرفنا ياخد واچبه، واللي چاي يصيد ف الميا العكرة، ويجوم العداوات على حساب حبيب، يفارجنا من غير مطرود، يا ينجطنا بسكاته.. ايه جولكم!... 

ساد الصمت لبرهة، لينفض الجمع بعدها في هدوء، بعضهم غادر غاضبا وكان أولهم ذاك الأفاق ومرافقيه، ومنهم من دخل السراي ليرحب بهم حبيب مصطحبهم نحو التعريشة.. لتبدأ وصلة من أكواب الشاي التي ترك شبل بوابة السراي من أجل إعدادها.. 

همس ممدوح في ذهول: حبيب ده طلع مش سهل، شوفتي عرف يلم الموضوع إزاي! ده أنا قلبي وقع في رجلي وقلت الحرب هتقوم هنا بالجيش اللي كان داخل عليه شايلين السلاح دول!.. 

لم تعقب أنس بحرف.. فما عساها أن تقول، وهي تدرك أن كلمات ممدوح صائبة تماما.. 

❈-❈-❈

تنبهت أنس ذات مرة أن هناك درج يفضي لطابق آخر بآخر الرواق الذي يكمن فيه حجرتها، فقررت أن تستطلع الأمر وخاصة أن هذه هي ليلتها الأخيرة هنا بنجع الرسلانية.. سارت صوب ذاك الدرج في حذر، ومنه وجدت نفسها أمام براح واسع بعرض المندرة والدار، وقفت على أعتابه تتطلع حولها في تيه لبرهة قبل أن تسير لتصل للسور المتوسط الطويل لتطالعها الرسلانية كلها قبالة ناظريها.. 

كان المنظر خلابا في ذاك الوقت من آخر النهار والشمس تستعد للرحيل غاربة عن سماء النجع.. ساحبة خلفها ثوبها البرتقالي الذي بدأ يميل قليلا للشحوب.. ضمت جسدها بذراعيها وقد شعرت بلسعة برد خفيفة، وشكرت نفسها لحسن تدبرها حين قررت أن تضع شال أمها على كتفيها قبل أن تقرر الصعود إلى هنا.. 

قررت استطلاع الجوانب المختلفة من السطح الواسع، والتطلع للرسلانية من كافة أركانها قبل أن يسدل الليل أستاره المعتمة على معالمها.. لا تعلم لما تحدوها الرغبة في حفظ تلك المعالم ببالها قبل الرحيل! سؤال بزغ برأسه بقلب خواطرها لم تجد له إجابة شافية.. 

وقفت عند أحد الجوانب تتطلع للنيل بفرعه الضيق الذي يمر بالقرب من السراي وذاك الجبل البعيد نوعا ما، وتنبهت لذاك المقام العالي ذي القبة الخضراء الشاحبة، كان ذاك على ما سمعت هو مقام الشيخ السماحي.. شيخ جاء من بلاد بعيدة وحط الرحال بالرسلانية منذ ما يقرب عن المئتي عام، اختلط بأهلها ورأوا منه علامات الصلاح والتقوى وبعض الكرامات التي جعلت منه وليا، وما أن مات حتى أقام له مريديه مقاما حيث دُفن.. 

هبت نسمة باردة جعلتها تغلق عينيها في راحة مستمتعة بتلك السكينة التي غمرتها وخاصة حين تناهى لمسامعها صوت محمود الشجي وهو يرتل القرآن في خشوع لمس قلبها.. فتحت عينيها في هوادة وتنبهت أن صوت محمود قادم من حجرة أخته منيرة التي أدركت أن نافذتها أسفل موضع وقوفها.. شعرت برغبة في النزول والبقاء بقرب هذه المسكينة قبل أن تغادر.. 

نزلت الدرج ومنه غادرت الاستراحة في اتجاه غرفة منيرة، طرقت بابها وصوت محمود كان طاغيا عما عداه فلم يسمح لها أحد بالدخول، لذا دفعت الباب في رفق ودخلت لتجد محمود جالسا بالقرب من أخته التي ما تزال على حالها من الصمت.. تتطلع نحو الفراغ في تيه، بعد أن استفاقت بالفعل لكنها ظلت غائبة عن إدراك الواقع حولها.. 

اقتربت أنس من موضع منيرة بالفراش، وجلست على أطرافه في هدوء بالقرب من موضع قدميها، تنبه محمود لوجود أحدهم فصمت لبرهة، إلا أن أنس حثته مطمئنة: أنا أنس يا شيخ محمود، جيت اطمن على منيرة.. كمل متوقفش.. 

استطرد محمود بالقراءة: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ”.. ظل يكرر الآية الكريمة حتى تنبهت أنس لتحشرج صوته، تطلعت نحوه لتدرك أنه يبكي وقد انسابت دموعه في هدوء.. نهضت من موضعها مشفقة على حاله.. وجلست بالقرب منه رابتة على كتفه، هامسة في نبرة متعاطفة: قوم يا شيخ محمود أرتاح، أنا هقعد جنب منيرة.. ومتقلقش عليها فترة وهتعدي.. 

هز محمود رأسه متفهما، ونهض في هوادة يتعثر نحو الباب ما دفع أنس لتعرض عليه توصيله حتى باب حجرة نومه، التي ما كانت تعرف موضعها، وقد وافق بلا معارضة تذكر، سارا معا حتى أشار لها لباب حجرته بآخر الرواق الطويل، وما تركته إلا حين وصلا لبابه الذي فتحته تاركة إياه يدخل مغلقا الباب خلفه لتهم بالعودة نحو غرفة منيرة من جديد، والتي ما أن وصلتها حتى وجدت حبيب يقف على باب الغرفة مصدما لفعل ما لم تدركه أنس بعد.. وحين توقفت أنس عند عتبة الباب بمحازاته أدركت سبب صدمته، وقد هالها ما رأت.. كانت منيرة قد نهضت من موضعها وجلست أرضا حاملة ثوب زفافها الذي كان معلق بأحد الأركان استعدادا لارتدائه، آخذة في تمزيق نسيجه بمقص معدني حصلت عليه من أحد الأدراج.. 

اقترب حبيب من موضع أخته، وانحنى في هدوء نحوها هامسا باسمها، فلم تستجب، ربت على رأسها مملسا على شعرها في حنو، معيدا الهمس باسمها كي ترفع رأسها ناظرة إليه في استجابة طبيعية لندائه، لكنها لم تفعل بل استمرت في تمزيع الثوب وشقه لقطع كأنما تنتقم منه، مد حبيب كفه نحو المقص خوفا عليها محاولا نزعه من كفها، لكنها كانت الأسرع ولم تدعه يجذبه من يدها واستمرت في النيل من الثوب، اقتربت أُنس من موضعهما وجلست بجوار منيرة وقد قررت مطاوعتها هاتفة لمنيرة في عزم: عايزة تقطعيه! 

هزت منيرة رأسها تأكيدا، ما دفع أُنس لتقول في محاولة لإخراجها من حالتها: طب خليني أساعدك، ياللاه.. 

ومدت يدها نحو الثوب الذي أضحى مجرد أنسجة ممزقة منزوعة عن بعضها، وبدأت في مساعدتها في التمزيق، مرة تلو المرة.. وحبيب يتابع في وجع ما يحدث، وأخيرا قالت أنس: اديني بس المقص ده عشان الحتة دي صعبة ولازم نقصها ونخلص.. 

ترددت منيرة قليلا، لكنها بالآخير مدت كفها نحو أنس بالمقص، فتناولته أنس وبدأت في قص ما تبقى من الثوب الأبيض وجاءت عليه كليا حتى أنه أصبح جزئين منفصلين تماما، لتهتف أنس أخيرا وهي تمرر المقص لحبيب بشكل خفي: أهو جبناه نصين يا ستي، هااا ارتاحتي دلوقت! 

تطلعت منيرة نحو أنس في تيه لبرهة، ثم هزت رأسها في نفي، هامسة: لاه، مرتحتش يا أنس... 

وأخيرا وبلا مقدمات شهقت وبدأت دموعها في الانسياب على خديها ساخنة حارة، وطبطبت على صدرها بقوة، معترفة في قهر: لاه مرتحتش.. هنا في حاچة وجعاني جوي، حد يخرچها يا أنس، أني روحي بتروح مني.. أني.. 

وتتابعت شهقات نحيبها في وجع مجددا، ما دفع أنس لتجذبها لصدرها تطوقها بذراعيها في تعاطف حقيقي، تهدهدها حتى أنها شاطرتها البكاء بلا وعي.. ما دفع حبيب للنهوض مغادرا الغرفة في عجالة، فما عاد له القدرة على تحمل حال أخته، مقررا أن يرسل في طلب الطبيب الذي يتابعها، حتى يطلعه على آخر تطورات حالتها، وكيفية التعامل معها.. يحاول السيطرة على تلك الرغبة الجامحة في الذهاب لدار العمدة وتفريغ طبنجته كلها بصدر ذاك الحقير عزت، وليكن بعدها ما يكون.. 

❈-❈-❈

أصبحت السراي أشبه بمكان مهجور بعد أن انطفأت أنوار الفرح التي كانت تكسوها، باتت مثال لمكان خرب بلا روح، حتى الجدة صفية التي لم يكن ينقطع من حجرتها صوت الجرامفون حاملا العديد من الأغاني والألحان، صمت حزنا وما عاد له صوتا بعد معرفتها بما جرى لحفيدتها الغالية، والتي خرجت اللحظة من غرفتها على كرسيها المدولب، زاعقة تنادي على حبيب، الذي جاء من موضعه بالخارج مهرولا: خير يا ستي! إيه في! 

أشارت للدرج أمرة في قوة: خدني لأختك.. 

انحنى حبيب رابتا على كتفها، هامسا في حنو: بلاش يا ستي، حالتها مش هتسرك.. 

كانت نظرة صفية قاطعة الإصرار ما دفع حبيب للازعان لطلبها، مقتربا منها حاملا إياها نحو الدرج ومنه لحجرة منيرة، التي طرق بابها لتطالعه أنس على أعتابها فما فارقت منيرة منذ انهيارها الأخير منذ ساعات وحتى حضر الطبيب، مفسحة الطريق لحامل جدته ليدخل للحجرة واضعا حمله جوار منيرة على الفراش، متقهقرا لأحد الأركان في هدوء ليجد نفسه جوار أنس التي كانت قد اتخذت مكانا قصيا ما أن ظهرت صفية في المشهد، تاركا المجال لجدته التي مدت كفها المتغضن تملس على رأس منيرة الملقى على الوسادة وقد راحت في سباتها بعد ذاك الدواء الذي وصفه الطبيب لتهدئتها، لحظات وفتحت منيرة عينيها وتطلعت لجدتها في قهر، تشكو بلا حرف ما جرى، لتقرأ صفية ما لم تنطق به حفيدتها، هامسة وهي ما تزال تمرر كفها المرتجف قليلا على شعرها: طول عمر ولاد الرسلانية بلوتهم في جلوبهم، لكن كتافهم كانت شَديدة، شالوا الوچع ومتهزوش، لحد ما الوچع بذات نفسه زهج م الحطة، هو مل وهم لا ملوا ولا كلوا، كان ستر ربنا صالب عودهم، ورحمته بهم أوسع من براح الكون، وعوضهم كان بحضن أحباب عرفوا جيمة الجلب الأبيض حمال الآسية.. 

سال دمع منيرة ساخن على وجنتيها وهي ما تزال ممددة على فراشها تتطلع لجدتها في نظرات كلها وجيعة، لتستطرد صفية في حنو متفهم: الضربة شَديدة، واعية يا حبيبتي.. أبكي يا غالية، أبكي وخرچي الهم اللي ساكن چواكي، مع كل دمعة الفرچ بيجرب، وما حد فينا يعلم يا بتي، سكك الدنيا إيه مخبية ورا أيامها ولياليها.. ولعله خير.. 

همست منيرة بصوت متحشرج، ينضح وجعا وقهرة: واعرة جوي يا ستي! شديد على جلبي اللي بيحصل ده!

الصفحة التالية