رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 10 - 1 - الجمعة 17/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل العاشر
1
تم النشر الجمعة
17/1/2025
منديل حرير
القاهرة ١٩١٦..
لهاث عالِ، وخفقات قلب تضاعفت حتى بلغت الحلقوم، وضربات أقدام لأحذية ميري تخطو في قوة.. خطوات ثابتة سريعة خلف هدف محدد لا تحيد عنه، هدف يحاول الهرب بلا جدوى، صوت العشب الذي يتكسر تحت أقدامها الرقيقة، حفيف ثوبها الثمين الذي بدأت أطرافه في التمزق ما أن تعلقت في بعض الأغصان الجافة، وكفه القوية التي تحتضن كفها في عزم وتشبث، ليسحبها ورائه خلال تلك الغابة المظلمة الموحلة، هربا من جنود الشرطة الذين يتعقبونهما، تكمل صورة نمطية عن فرار من أمر محتوم، لتهتف أنس الوجود لاهثة بقوة غير قادرة على التقاط أنفاسها: توقف يا نوري، توقف.. ما عدت استطيع..
توقف نوري تنفيذا لرجائها، وهتف وهو ينحني مشجعا إياها، يقابل نظراتها محفزا وهي منحنية على نفسها تسند جسدها على جذع أحد الأشجار الضخمة، محاولا حثها على الاستمرار: أعلم حبيبتي أنكِ تعبتي، لكن لو توقفنا الآن فمصيرنا الموت.. وإذا استطعنا الهرب سنحيا معا أنس.. ونحقق حلمنا.. المزيد من القوة لأجلنا.. هيا..
دفعها حديثه لتضغط على نفسها، شحذها لتستقم مندفعة خلفه بكل ما اوتيت من قوة، فحياتهما معا كانت تتمثل أمام ناظريها اللحظة، بيت دافىء وأطفال صغار، وهي بأحضان نوري حبيبها أخيرا.. يا له من حلم رائع! لن تدع الفرصة لمجموعة من كلاب والدها انتزاعه منها.. لكن هل سفن أحلامنا، يرأف بها بحر الحياة ويكون بها رحيما!.. يتركها لحالها.. بلا أنواء أو أمواج عاتية، فترسو السفينة على شواطىء الحلم!.. هيهات..
اقترب صوت الكلاب النابحة التي يستعين بها الجند لايجادهما، بل دنا كثيرا من موضعها ونوري، الذي تطلع نحوها في قلة حيلة وكأنه يعلم أن لا مفر، لكن بدافع من الرغبة في البقاء أكمل الركض وهي خلفه، تكاد أن تموت ذعرا من مجرد تخيل ما هو قادم..
لكنها صرخت في قوة، صرخة مدوية تردد صداها بين جنبات الغابة، حين قفز أحد الكلاب ممسكا بنوري، الذي صرخ في ألم بدوره، محاولا دفع الكلب الذي نشب أسنانه الحادة بكم معطفه، صارخا في أنس أمرا: اركضي أنس، اركضي ولا تلتفتي، اذهبي ولا تتطلعي للوراء، وتذكرى فقط، أن نوري كان وسيظل يحبك..
ركضت وركضت كما أمرها، تسمع اعتراضاته حين وصل الجند لموضعه، دافعين به أرضا.. كان ينازع الجند وينازعونه، حتى أطلق أحدهم إحدى رصاصات سلاحه محدثة دويا جمدها برهة بموضعها، جعلها ذلك تخالف أوامره وتنظر للخلف، استدارت في ذعر.. ورأت ما رأت فشرعت في الركض عائدة نحو مكان سقوطه مجددا، وقد وعت ضرب أحد الجند له بكعب بندقيته، ما جعله يترنح قليلا وقد سالت الدماء على جانب وجهه، الذي ما زال معلق النظرة بها، وصلت موضعه صارخة، وهو يجاهد لتظل عيناه مفتوحة، ونظراته متشبثة بمحياها تشبث المحتضر بآخر أنفاس الحياة، دافعة الجند المتحلقين حوله في دائرة ضيقة، لتحمل رأسه الجريح بين ذراعيها، تهدهده في عدم تصديق، تنادي اسمه في تكرار محموم، لتتعالى بغتة ضحكات متشفية، قهقهات حقيرة جعلتها ترفع رأسها عن محياه لبرهة، لتستطلع صاحب هذه الضحكات المقيتة، لتصدر عنها شهقة في صدمة، لاكتشافها أن صاحب هذه الضحكات لم يكن سوى والدها، كاظم أوغلو باشا، الذي وقف يتطلع نحوهما في سعادة شريرة ممزوجة بتلذذ سادي، أمرا رجاله في سطوة، وبنبرة قوية حازمة، أن يجذبوها بعيدا عن ذاك المجرم، الذي خضب بدمائه النجسة ثوبها الطاهر، وقد نفذ الجند بلا إبطاء أوامره، لتتشبث هي أكثر برأس حبيبها بأحضانها، متطلعة لملامح وجهه الرجولية، تتشربها وتحفظ تفاصيلها، لتكتشف في لحظة فارقة، أن ذاك الذي بين ذراعيها ما هو إلا سعد وليس نوري، نعم هو سعد رسلان، الذي فتح عينيه لوهلة متطلعا نحو محياها الذي يعشق، وقد ارتسم على شفتيه بصعوبة شبح ابتسامة تحمل الكثير من الرضا، قبل أن يغلق عينيه ويثقل رأسه مجددا ساقطا بأحضانها، لتصرخ في صدمة، وقد انهارت مقاومتها لنزعه منها، لكن بلا رحمة انسلخ جسدها مبتعدا عنه، لتصرخ من جديدة صرخة اودعتها كل القهر، والمزيد من اللوعة، تتشابك في تنافر عجيب مع ضحكات والدها التي بدأت تتعالى في نشوة مريضة، وهي تنادي بوجع قاهر باسمه، اسم حبيبها.. سعد..
انتفضت أنس صارخة من نومها، لتلحق بها وصيفتها نازك، ويأتي مهرولا من حجرته رستم باشا، تتبعه زوجته ألفت هانم.. ليتم استدعاء الطبيب من جديد..
كان ذاك هو الطبيب الثالث الذي يمر على قصر رستم باشا لمعاينة أخته أنس الوجود بعد سقوطها صارخة لسبب لا يعلمه الجميع، لكن السبب الحقيقي الذي كان دافعا للحدث المؤسف، هو حزنها الذي ظل محبوسا داخلها لرفض والدها طلب سعد الزواج بها، كانت صرخة عبرت عن الكثير مما لم يُقال أو يُحكى.. صرخة أودعتها كل قهر السنوات الضائعة من عمرها بلا طائل..
سأل رستم باشا في قلق ما أن خرج الطبيب من غرفة أخته بصحبة ألفت: ها يا حضرة الباشحكيم، ايه أخبار صحتها!
نكس الطبيب رأسه لبرهة، قبل أن يؤكد: والله يا باشا مفيش علة جسدية ، الهانم محتاجة تهدي أعصابها، لازم تغير جو ضروري..
هز رستم باشا رأسه متفهما، مودعا الطبيب الذي استأذن للرحيل بصحبة أحد الخدم للخارج..
تطلعت ألفت لزوجها متسائلة: رستم باشا، هتسيب أختك تعاني بالشكل ده!..
هتف رستم في ضيق: وأنا في أيدي ايه يا هانم ومعملتوش، انا وضعي صعب حقيقي، مش قادر اشوفها فالحال ده، ومش عارف أعمل ايه يخرجها منه، احساس مرير بالعجز يا هانم، أنا حقيقي عاجز..
هتفت ألفت في عزم: العجز ده للضعفا يا باشا، وانت عمرك ما كنت ضعيف أو منهزم، فاكر عملت ايه يوم ما والدك كان معارض زواجنا، لمجرد إني بنت من عيلة متوسطة الحال.. وقفت واتمسكت بيا، وقلت مش هتجوز إلا هي وبس، ومع اصرارك على الرغم من عدم رضا الباشا حتى وقتنا الحالي عن جوازنا، لكن الأهم إننا تحدينا الكل واتجوزنا..
هتف رستم مفسرا: ده كان أمر يخصني يا ألفت، وأنا كرجل مفيش عليا نفس القيود اللي على أنس كامرأة، سلطة والدها عليها هي النافدة، وكمان متنسيش، أنا مش أخ شقيق، يعني حتى سلطتي عليها كأخ في نظر والدي ملهاش وجود ..
تنهدت ألفت في رقة: عارفة ومتأكدة إن أنس تهمك كأخت سواء كانت أخت شقيقة أو لا.. وإنك هتعمل اللي في مصلحتها، أنس محتاجة تفرح يا رستم، أنا كنت في يوم مكانها لما بلغني رفض الباشا لزواجي بك، الألم اللي عيشاه أنس مميت صدقني، اعمل اللي في مصلحتها يا رستم وريح قلبها.. ورد لها روحها زي ما رديت لي روحي بتمسكك بزواجنا..
ساد الصمت لبرهة، لتستطرد ألفت حديثها، وهي تربت على كتف رستم في حنو: عارفة إن ممكن يعني تفكر إني بحاول اعصيك ع الباشا لرغبة انتقام في نفسي بسبب رفضه لزواجنا، لكن اقسم لك يا رستم، أنس وحالها هما بس الدافع لكلامي، وأنا جوايا مش شايلة للباشا إلا كل احترام لأنه في الآخر والدك.. لكن أنا بستحث روح الأخوة جواك ترأف بحال أختك.. وتعمل اللي فيه مصلحتها..
هتف رستم بنبرة مضطربة: يعني هرسل فطلب سعد بيه أقوله تعالى غيرنا رأينا واتجوز أختنا!.. لا يجوز يا هانم..
ساد الصمت حين أدركت ألفت أن كلام زوجها صحيح، فهذا غير مقبول، ما دفعها لتقترح: طب خلينا ناخد أنس العزبة يمكن ده يخليها تخرج من حالتها دي، نعمل زي ما وصى الحكيم وتغير جو..
هز رستم رأسه رافضا: لا.. بلاش العزبة، جوها هيفكرها بالرسلانية، ممكن تروحوا اسكندرية، اعتقد جوها الفترة دي لطيف ومناسب لحالة أنس.. وكمان نيازي باشا كان قاللي إن في مطرب جديد اسمه تقريبا سيد درويش، له صيت واسع فالاسكندرية الفترة دي، تقدروا تروحوا التياترو اللي بيغني فيه مع عيلة نيازي باشا، حاولي تكون أنس مش وحيدة، وخليكي دايما معاها يا ألفت، وأنا هحصلكم بعد يومين، بس أخلص بعض الأشغال الضرورية..
هزت ألفت راسها موافقة، وقد عزموا أمرهم على السفر من أجل اخراج أنس من حالتها، لكن هل لعلة العشق دواء إلا وصل الحبيب!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩١٦..
عزم سعد أمره على السفر ليبتعد عن جو الرسلانية الخانق بكل أحداثه التي تلقي بظلالها القاتمة على نفسه المحملة بالهم من الأساس، لكن ما أن هم بالخروج من غرفته إلا وعاجله مصباح مشيرا للخارج، مفسرا في هدوء: يا سعد بيه، وهدان الحراني وبدنته كلاتهم بره الدار طالبين الإذن، أدخلهم يا بيه!..
أمره سعد في هدوء: دخلهم المندرة يا مصباح.. وجوم بالواچب لحد ما أچيهم..
اطاع مصباح منفذا في سرعة، وما أن هم سعد بالدخول لحجرته مجددا حاملا حقيبة سفره، حتى عاجلته توحيد منادية: سعد!..
تسمر سعد موضعه، لكنه لم يستدر لمواجتها، ما دفعها لتتقدم تقف خلفه مباشرة، هاتفة بنبرة باكية: مصدر لي ضهرك يا واد أبوي! لساتك واخد على خاطرك من توحيد!
ربتت على كتفه في شوق ليواجهها، لتتطلع لمحياه بلا وجه عابس لم تعتده منه أبدا: طُل على توحيد يا سعد، متوجعش جلبها بهچرك وخصامك كده!.. طب أني محجوجالك، بس بلاها وچع.. إلا أنت يا حبة العين..
شهقت توحيد باكية، فلم يحتمل سعد دموعها، واستدار لمواجتها، هامسا بنبرة عاتبة: يا توحيد إنتي بتي جبل ما تكوني أختى الصغيرة، يوم ما أبوي حطك بين درعاتي وأني ابن عشر سنين، جالي دي خيتك، العمر كله تبجى سندها وفضهرها، واللي يرشها بالميا ترشه بالدم، أني عمري ما أجدر اوچع جلبك يا توحيد، لكني خايف عليكي من نفسك يا بت أبوي.. واعية لحديتي، ولا كنك مش خابرة الحرانية وناسهم!..
هزت توحيد رأسها متفهمة وهي تمسح دموعها عن صفحة وجهها، ليستطرد سعد في نبرة حانية: وهدان الحراني تحت هو وناسه، ايه آخرة جولك فالموال ده!.. لساتك ريداه!..
لم تنطق توحيد بحرف، ليسأل سعد مكررا: ريداه يا خية!..