رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 10 - 2 - الجمعة 17/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل العاشر
2
تم النشر الجمعة
17/1/2025
نكست توحيد رأسها خجلا ولم ترد، ما دفع سعد ليهز رأسه متفهما، قبل أن يهم بمغادرة الغرفة، لتستوقفه توحيد متمهلة: سعد!.. أنت ناوي على ايه!..
هتف سعد مطمئنا: على كل خير يا غالية، واللي فيه مصلحتك هعمله كيف ما ربنا يجدرني..
اندفع سعد لخارج الغرفة، تاركا توحيد تضرب اخماسا في اسداسا، لا تعلم كيف سيدير سعد الأمور مع وهدان ورجال الحرانية بالأسفل..
دخل سعد المندرة، فانتفض وهدان ورجال الحرانية ما أن هلت هيبته لتسيطر على أجواء الغرفة، وخاصة حين توقف لبرهة متطلعا للجمع المنتظر، وأخيرا وقع نظره على وهدان، الذي هتف في لهفة مؤكدا: أني چيت كيف ما طلبت يا سعد بيه، چمعت كل رچالة الحرانية لچل ما أطلب يد أختك..
جلس سعد فجلس الجمع بالتبعية، ليهتف متسائلا في نبرة هادئة: وهتجدر على طلبات ست الناس يا وهدان!..
أكد وهدان في عجالة: ولو طلبت لبن العصفور، أچيبه، بس هي ترضى..
هز سعد رأسه متفهما، هاتفا في رزانة: كلام زين، حيث كده بجى، نجول طلباتنا، الأول المهر، خمسين چنية مهر، وميت چنيه مؤخر..
شهق بعض الرجال في صدمة، فقد المبلغ المطلوب مبالغا فيه، لم ينطق وهدان بحرف للوهلة الأولى، مستشعرا أن سعد يحاول أن يضع له شروط تعجيزية، إلا إنه تدارك الأمر هاتفا في إصرار: وماله! وهي ست الناس أي واحدة!.. دي مأصلة وبت حسب.. وده أجله.. موافج..
هتف سعد مستطردا: ياچيها كد اللي عنديها مرتين دهب،.. تشبكها بهم!..
هز وهدان رأسه موافقا: اللي تشاور عليه يكون من نصيبها..
وأخيرا أكد سعد: والسكنى.. هتكون..
قاطعه وهدان مؤكدا: هيبجى لها دور كامل لحالها فالدار، واتنين حريم يكونوا تحت رچليها ورهن اشارتها.. وهعمل لها ليلة هچيب فيه الغوازي من المحروسة، وأجيم الفرح لتلات ليالي.. همد فيهم الطبالي لكل محروم وچعان.. لك طلبات تاني يا سعد بيه!..
هز سعد رأسه نافيا، ليهتف وهدان في لهفة: طب نجرا الفاتحة على بركة الله، والليلة الكبيرة تكون على هلة الشهر العربي بالمشئة، جلت إيه يا سعد بيه!..
هز سعد رأسه موافقا: على بركة الله..
رفع الجميع أكفهم لقراءة الفاتحة، التي ما أن أتم الرجال تلاوتها، إلا واندفعت الخادمة التي ارسلتها توحيد لتتسمع حوار الرجال، لتعلمها الخبر السعيد، ارتفع صدى الزغاريد عاليا بين جنبات الدار، التي ما طالها الفرح منذ أمد بعيد..
دمعت عينى توحيد في فرحة، حين تجمعت نسوة الدار، وتواترت زغاريد الفرحة واحدة تلو الأخرى يرقص لها قلبها طربا، فها هي تستشعر كيف تكون فرحة العروس، تلك الفرحة التي حلمت بها كثيرا.. وها قد جاءتها على غير ميعاد..
❈-❈-❈
الإسكندرية ١٩١٦..
جلس سعد داخل إحدى الوكالات التجارية التي يتعامل معها حين يأتي للإسكندرية، وبدأ الحديث مع صاحب الوكالة اليوناني، الذي تنهد في ضيق مؤكدا: الحالة جيم يا سعد بيه!.. الحرب صعبت الأمور على الكل، والأسعار بقت غالي كتير..
أكد سعد: كل حاچة اتسحبت للكامب الإنچليزي والعساكر الإنچليز..
رد الخواجه اليوناني مقرا: يا سعد بيه، الوكالة قصاد عينك بقت مفيش بضاعة، منين! لا في فلوس، ولا حتى فيه بضاعة فالسوق، الحرب وقفت السفن اللي كانت بتيجي بالبضاعة فالبحر، وحركة المينا كله واقف..
ساد الصمت لبرهة قبل أن يهتف بيونانية غاضبة(ديس كو لوس).. صعب سعد بيه، الدنيا مبقاش تمام ..
تذكر سعد حالة النجع الذي تم تفريغه من كل شبابه ورجاله حتى أصبح أرض للاشباح، وباتت الأرض التي كانت عامرة بأيدي التملية والشغيلة خاوية بلا عناية، فمن أين تأتي المحاصيل والبضائع، إذا كانت الأرض خربة مهملة لا تجد يد تشق فيها جدولا، أو تضرب فيها فأسا!..
نهض مغادرا الوكالة مودعا الخواجه اليوناني على أمل اللقاء من جديد، سائرا في اتجاه الشارع الرئيسي، يخرج من ذاك الزقاق الضيق الذي كاد أن ينهيه، حين انطلقت صافرة الإنذار معلنة عن قدوم غارة لطائرات دول المحور، بدأ الناس بالهرولة في سرعة نحو المخابيء القريبة، وأغلق الجميع الأنوار، بيوتا ودكاكين، لتغرق الشوارع في الظلام الدامس.. حتى بعض المسارح هجرها زائريها خوفا، مهرولين نحو المخبأ ليحتموا به من غدر الطائرات التي بدأت تلقي بقنابلها في عشوائية فجرت الزعر في نفوس بعض المارة..
حاول سعد أن يتخذ له ملجأ يركن إليه حتى انتهاء الغارة الشرسة، التي بدأ يسمع دوي رصاصها وانفجار قنابلها على مدى ليس بالبعيد نسبيا عن موضعه، وهم بالعودة لوكالة الخواجه اليوناني يحتمي به حتى انقشاع الغمة، لكن تلك الصرخات القريبة من مكان ارتكانه، جعلته يتسمر بلا حراك وصوت امرأة ما.. ينادي في ذعر باحثا عن امرأة أحلامه، هل يعقل هذا!.. حاول على قدر استطاعته إجلاء العتمة مندفعا بلا رهبة باحثا شرقا وغربا، ليقع ناظره عليها أخيرا وقد تاهت في زحام الأجساد المندفعة زعرا، ففقدت طريقها..
هرول مندفعا صوبها، جاذبا إياها نحو أقرب زقاق لموضعهما، حاولت هي التخلص منه في بسالة، معتقدة أنه أحد الرجال السكارى، الذي يحاول استغلال فرصة الظلام والفوضى، لكن ما أن سمعته يأمرها في لطف: اهدي يا هانم، أنا سعد..
استكان كل شيء فيها، إلا ذاك القلب الذي تضاعفت خفقاته في جنون، وتلك النظرات التي جالت في محياه، لا تصدق أن حلم الأمس بات حقيقة جلية اليوم، وأن من فارقته وظنت أن لا لقاء قد يكتب لهما من جديد، هو ذاته الذي يقف بكل هذا الشموخ لائذا عنها، تحتمي بين ذراعيه من شرور الدنيا، وآثام العالم.. وجدها بلا موعد، ولا اتفاق، كما أنهى تيهها يوم أن فقدت طريقها بالنجع، هل أصبح قدرها أن تضل الطريق فيهديها هو بوصلة الأمان، لواحة الطمأنينة!..
همست غير مصدقة، وبنبرة شوق لا يمكن إغفاله: سعد بيه!.. ده حقيقي أنت!..
رد بصوت متحشرج، وعيناه تبحث عن عينيها في ظلام بلا قلب، يحاول أن يضبط مخارج أحرفه مدعيا ثباتا لا قبل له على ادعائه، وهي بين ذراعيه كما اللحظة، تذوب رقة، ويذوب هو حسرة: ايوه يا هانم، أني هو، سعد رسلان..
نسى كلاهما صوت البنادق، وطلقات البارود، وقنابل الطائرات، وهما في خضم مشاعر مستورة تكاد تزهق روح أصحابها كتمانا، حتى سقطت قذيفة جعلتها تصرخ في رعب منتفضة، تحتمي داخل صدره من مخاوفها، ليحتويها هو بين ذراعيه في قوة، يخبئها تحت طرفي عباءته، محاولا بث الطمأنينة لروحها، ولو كلفه ذلك روحه، كانت ترتجف بقوة وهي تضع كفيها على جانبي وجهها تحاول أن تخرس أصوات القنابل والرصاصات عن الوصول لمسامعها، تغلق عينيها في قوة، فتتمثل أمام ناظريها ذكريات مضت، كان صوت البارود فيها هو الأقسى أثرا.. كان ارتجافها بين ذراعيه بهذا الشكل الموجع، يدفعه ليزيد من فرض الحماية عليها، مطوقا إياها أكثر، مدنيها نحو صدره رغبة في تهدئة ذاك الارتجاف الذي يهز جنبات روحه اشفاقا على حالها..
انطلقت الصافرة من جديد، معلنة انتهاء الغارة، ليبدأ كل شيء في العودة لطبيعته رويدا رويدا، إلاهما، ظل هو على حاله كالطود في حمايتها، وظلت هي على حالها من الارتجاف، حتى همس سعد في نبرة حانية: خلاص يا هانم، اطمني، الغارة خلصت..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تستجيب مبتعدة عن صدره في هوادة بعد أن استوعبت كلماته، لترفع رأسها تلقي إليه بنظرة دامعة اودعتها الكثير من الامتنان المغلف بالشوق، هامسة بصوت رقيق اختلع الثبات اختلاعا من جذور تعقله: ممنونة لوجودك دايما يا سعد بيه في أوقاتي الحرجة.. تشكرات..
همس سعد بلا حس: العفو يا هانم.. رضا چنابك واچب..
هما بالتحرك، لكن ذاك السكير المترنح الذي كان مغيبا عن أحوال العالم من حوله، ظن أن سعد وأنس يتبادلان الغرام، ما دفعه ليقترب منهما في خطوات مهزوزة، يحاول أن ينل من أنس بعض مما اعتقد أن سعد يناله في ذاك الزقاق الضيق، إلا أن سعد دفع به بعيدا قبل أن يمس منها شعرة، ما جعلها تتشبث به بشكل أكثر ذعرا، حينما بدأ ذاك السكير في الاعتراض على ما فعله سعد به، وقد سقط أرضا وتهشمت زجاجة الخمر التي كان يحملها، ما حث سعد ليشير عليها للخروج من الزقاق الضيق المظلم نوعا ما لبراح الشارع العمومي، حتى لا يقابلهما أمثال هذه الأشكال الضالة التي تعج بها الأزقة في مثل هذه الساعة، فاطاعت في هدوء، هامسة بنبرة مهزوزة وخطوات متمهلة: فضلكم زاد سعد بيه، ورد جميلك واجب..
لم يرد سعد بحرف، لكن قفز ذاك السؤال الذي كان يلح على خاطره، على شفتيه في عجالة: ليه منلناش الرضا يا هانم، وكان وصلكم أمنية غالية!
توقفت أنس فجأة، ورفعت أعين دامعة بنظرة حسرة نحو محيا سعد اخترقت سويداء قلبه، هامسة بنبرة تحمل قهر العالم: ليس بأيدينا سعد بيه، هذا الوصل كان أعظم أمانينا.. لكن النصيب قدر..والفراق مكتوب.. مجبورون سعد بيه.. مجبورون..
نطقت كلمتها الأخيرة في أحرف متقطعة ونبرة مهتزة، جعلت سعد يكاد أن يصرخ فرحا، فهي ما كانت رافضة له يوما، بل كانت راغبة فيه بقدر رغبته، لكن أمر والدها ورفضه، هو ذاك الذي وضع الأسوار والسدود بينهما..
هم بالحديث، لكن نداءات نازك المحمومة باسمها، جعلتها تنتبه مندفعة صوبها، قبل أن يخبرها بما عزم عليه، مندفعا في طريقه، نحو تحقيق ما يصبو إليه..