رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 14 - 2 - الجمعة 31/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الرابع عشر
2
تم النشر الجمعة
31/1/2025
القاهرة.. في نهايات ١٩١٨..قصر رستم باشا..
استقبل رستم أخته وزوجها في حفاوة كبيرة، فقد مرت شهور منذ أن نزل سعد للقاهرة، ليهتف رستم مازحا: سعد بيه بعد ما كان كل شهر هنا بالمحروسة، أصبح يغيب عنا بالشهور في الرسلانية.. تقصير كبير سعد بيه..
وارتفعت قهقهات رستم ما أن لاحظ خجل أنس الوجود، والتي همست في حياء: هذا ليس تقصير من سعد بيه، فهو لا يقصر أبدا.. هذا ذنبنا نحن رستم باشا.. ولنا عذرنا..
ابتسمت ألفت مؤكدة: عذرك معاكي أنس، ورستم بيحب يهز، انتوا شرفتونا حقيقي النهاردة..
هتف سعد في تأدب: الشرف لينا يا هانم، والله فعلا مجصرين كيف ما رستم باشا جال..
وابتسم مستطردا في مرح: بس لنا عذرنا، مش لما سألوا چحا، فين بلدك، جلهم اللي فيها مرتي، يعني أني كده تمام.. ولا ايه يا رستم باشا!
هتف رستم مؤكدا: مظبوط، طالما الهوانم موجودين، لازم نقول مظبوط ونبصم بالعشرة كمان..
علت ضحكات الجميع، حتى استأذنت النساء، ما دفع سعد للتحدث بأريحية مع رستم طالبا النصح: أني مش مرتاح لموضوع سفر الهانم لاسطنبول يا رستم باشا! أني معرفش رد فعل الباشا الوالد معاها هيكون ايه! وفي نفس الوجت، مش جادر اجول لها لاه، وأنت أكدت عليا إن الباشا فعلا صحته مش ولابد، طب تشور عليا ب ايه!
تنهد رستم مفسرا: والله يا سعد بيه، أنت لم طبعا حق في القلق محدش يقدر ينكر عليك ده أبدا!.. لكن الوالد مهما كان أب، وقلبه هيحن لما يشوف بنته داخله عليه وهو بقاله سنين مشفهاش،ومعاها كمان حفيده الوحيد، لحد دلوقت!..
تنبه سعد للجملة الأخيرة، والتي قالها رستم في نبرة تشي أنه على وشك الاعلان عن خبر ما، ما دفع سعد بفطنته ليهتف متسائلا في نبرة فرحة: لحد دلوجت! لهو اللي فبالي حصل يا رستم باشا!..
هز رستم رأسه في تأكيد، هاتفا في سعادة لا يعادلها براح الكون، مؤكدا في نبرة تقطر فخرا: ايوه يا سعد بيه، حصل، ألفت هانم في انتظار مولونا الأول، أخيرا بعد كل السنين دي! ..
هلل سعد مباركا، وقد غمرته الفرحة لفرحة رستم الجلية على محياه، والذي استطرد في هوادة: طبعا أنا كنت ناوي أسافر للوالد من فترة عشان استسمحه، وأخد الإذن لأنس بالزيارة، لكن بعد خبر حمل الهانم حرمنا، بقى صعب التحرك وتركها وحيدة، وخاصة إنها رحلة ممكن اغيب فيها شهور..
وتطلع رستم نحو سعد مستطردا: أنا عارف إنك كنت متعشم إني أسافر معاها يا سعد بيه، اهو تبقى مطمن وأنا معاها..
هز سعد رأسه مؤكدا على صدق ظن رستم، الذي استطرد في صدق: وده حقيقي كان غرضي حتى من قبل ما أعرف برغبة أنس فالسفر، كنت هعرض عليها الأمر أول ما بلغنا الخبر عن صحة والدنا، لكن خبر حمل ألف حقيقي عطل كل خططي..
همس سعد متنهدا: لله الأمر من قبل ومن بعد..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يسأل سعد مستفسرا: طاب يعني تسافر وتتوكل على الله! ولا بلاها السفرية دي يا رستم باشا!. وخصوصي لو جلت لا.. ممكن لا قدر الله الباشا الوالد وصحته التعبانة دي.. يعني.. حضرتك فاهم..
هز رستم رأسه متفهما، ليستطرد سعد متحيرا: هعمل ايه ساعتها، الهانم يمكن متسامحنيش إني منعتها تروح تشوفه.. أني أعمل ايه طيب!.. يا دي الحيرة!..
ربت رستم باشا على كتف سعد مؤازرا، قبل أن يهتف مؤكدا: بص، هو الأمور استقرت في المنطقة الحمد لله، والحرب انتهت والملاحة اتفتحت والسفر بقى متاح دلوقت، فلو خلتها تسافر تشوف الوالد ومطولش، هيبقى كده أفضل.. مسكت العصاية من النص زي ما بيقولوا.. ايه رأيك!..
سأل سعد متحيرا: فكرك كده يا رستم باشا!..
أكد رستم في هدوء: ملهاش حل إلا كده يا سعد بيه، توكل على الله..
هتف سعد متنهدا: توكلنا على الله..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩١٨.. دار الحرانية..
وقف الخواجه نعيم على أعتاب دار وهدان طالبا الإذن بالدخول، أمره خفير الدار بالانتظار في المندرة حتى إبلاغ سيد الدار، ما دفع نعيم للتهكم ساخرا في نفسه من حال وهدان الذي انقلب فجأة من رجل كان يتناول طعامه أرضا في صحن الدار، ويدخل عليه كل من هب ودب دون الحاجة لا لإذن، ولا داعِ لكل هذه الجلبة، لصاحب دار لها خفيرا يقف على بوابتها حارسا، ويطلب منه الإذن بالدخول لحرمها، ويجلس في الانتظار لفترة حتى يأتيه ويستطيع الجلوس إليه!..
انتفض نعيم ملقيا التحية على وهدان، الذي طل عليه بهيبة زعزعت تلك الثقة التي كان قادما بها لمقابلته، أين ذهب وهدان القديم!.. سأل نعيم حاله وهو يتطلع لذاك الرجل الواثق الذي يجلس قبالته متلحفا بعباءته الصوفية الثمينة، لكنه عاد يتمسك بآخر أذيال من أمل، متأملا أن يكون هذا التغير الذي يلاحظه ما هو إلا تغير شكلي، وأن وهدان ما يزال وهدان من داخله، ما تغير إلا المظهر لكن الجوهر ثابت.. وأنه ما زال يملك اليد الطولى، وله ذاك التأثير القديم على أفكاره، ويستطيع اللعب من جديد بمقدراته، وتوجيهه بالشكل الذي يخدم أغراضه!..
تنحنح نعيم وقد نهض ليقترب من موضع وهدان، هامسا كما هي عادته: أخبارك ايه يا سي وهدان! سمعت إن العيل التاني جاي فالسكة..
تجاهل وهدان كلمات نعيم هاتفا في نبرة قوية متسائلا: خير يا خواچه! لك حاچة اجضيهالك! ..
همس نعيم متعجبا: حاجة! شكلك نسيت! كان الله فالعون، مشاغلك كتير..
هتف وهدان متسائلا: نسيت ايه! فكرني كده!
همس نعيم مذكرا: أرض البركة، سبب چوازك من الهانم، أخت سعد بيه!
انتفض وهدان حانقا: بجيناه الحديت ده، كان موال وراح لحاله..
همس نعيم، وهو يقترب من موضع وقوف وهدان مؤكدا: لاه مكنش موال وراح لحاله يا سي وهدان، ده كان أصل الحكاية كلها، أنت مش اتقدمت تتجوز أخت سعد لجل ما نوصلوا للأرض، ولا ده مكنش اتفجنا!..
هتف وهدان محتدا: حتى ولو كان، اعتربه مكانش، وسك ع الحديت ده خلاص، أني لا بجي ليا عازة ف أرض ولا دار، أني ربنا رزجني باللي أكتر من اللي اتمنيه كمان، خلص الموال ده، ومتفتحوش معاي تاني..
همس نعيم مستفسرا في خبث: طاب والهانم تعرف موضوع الأرض ده! ولا..
قاطع وهدان نعيم منتفضا، ممسكا في تلابيه، تخرج الكلمات حنقا من بين أسنانه التي يجز عليها وهو يهتف غاضبا: حكاوي أرض البركة دي تنساها.. ومتاچيش على لسانك تاني، ولو فتحت حنكك مع أي مخلوج بالحديت ده، والله ما هيكون حد راميك لكلاب السكك أنت وناسك بره النچع إلا أني.. مفهوم يا نعيم الكلب!..
دفع وهدان نعيم في شدة اسقطته أرضا، ساد السكوت لبرهة، قبل أن يتحامل نعيم على نفسه ناهضا في هوادة، ينفض ملابسه في لا مبالاة، متجها لباب المندرة ليرحل، إلا أن وهدان استوقفه متسائلا في نبرة قوية: مجلتش، مفهوم الحديت اللي جلته، ولا أجول تاني!..
هتف نعيم في استكانة: مفهوم يا سي وهدان، مفهوم أوي.. أقدر امشي!..
هتف به وهدان في حنق: غور، ويا ريت متورنيش خلجتك تاني ولو حتى صدفة..
هز نعيم رأسه في طاعة، وجر أذيال خيبته وخرج من دار وهدان الحراني، وقد أقسم أن تلك السقطة التي نالها بالداخل، سيدفع ثمنها ذاك الأحمق، الذي ظن نفسه رجلا، غاليا.. بل أغلى مما يتصور!..
❈-❈-❈
الإسكندرية مطلع ١٩١٩..
سارا معا في إتجاه الباخرة المتجهة لإسطنبول، ونازك تتأخر عنهما خطوات تسير خلفهما في هوادة حاملة ولدهما فضل الله، كان يتطلع نحوها في كل لحظة، لا يصدق أنه وافقها على البعاد، ولا يستوعب أنه جاء إلى هنا بكامل إرادته لوداعها!..
كان المسافرون قد بدأوا في الصعود لظهر الباخرة الضخمة التي تظهر الآن بكامل هيلمانها على رصيف الميناء في انتظار التوقيت المناسب للمغادرة.. توقفا أخيرا عند السلم المفضي لقلب السفينة، وحانت لحظة الوداع، سال دمع أُنس الوجود في حرارة وهي تتطلع لوجه سعد الذي يجاهد صامدا حتى لا تتجلى أوجاع قلبه مرتسمة على قسماته وملامحه التي حاول الحفاظ على رزانتها قدر استطاعته، هامسا في نبرة حانية: خلي بالك على حالك، وفضل الله، حطيه في عنيكي، ده أول الفرح يا برنسيسة..
همست أنس الوجود في رقة: أول الفرح كان لقاؤنا سعد بيه..
همس سعد بقلب خافق: واااه، بلاه الحديت ده عاد!.. أني حايش روحي وربك العالم باللي چوايا.. بعادكم كن روحي بتنزع من صدري..
هزت أُنس الوجود رأسها متفهمة، هامسة: امانتك في رقبتي نفسي وولدنا سنعود بخير إن شاء الله، حافظ على روحك من أجل خاطرنا سعد بيه..
مدت أنس كفها تبادله التحية، فضم سعد كفها في عشق، ضاغطا عليه في حنو كأنه يضمها لأضلعه، وأخيرا رفع كفها ملثما ظاهره في قبلة أودعها كل شوق ضاق به صدره قبل الرحيل من الأساس، ترك كفها وأنين نحيبها الخافت، الذي حاولت كتمانه قدر استطاعتها، يمزق دواخله، ما جعله ليندفع تاركا موضعه قبالتها، مقبلا فضل الله ولده الذي كان ناعسا بين ذراعي نازك، مندفعا نحو بوابة الخروج، لا يرغب في النظر للخلف فهو ما عاد قادرا على مطالعة رحيلهما عنه، لكن ما أن ارتفع نفير الباخرة معلنة أنها في سبيلها للإبحار، حتى توقف متسمرا، وعاد القهقري مسرعا، يقف بين المودعين على الرصيف، ملوحين للأحباب المغادرين باحثا عن محياها بين المسافرين على سطح الباخرة، ظل يبحث ويبحث، وأخيرا ظهرت على السطح وكأنها تبحث عنه بالمقابل، وما أن تنبهت لوجوده، حتى لوحت له بمنديلها في لهفة، ليرد عليها السلام ملوحا، هامسا بقلب وجل: هم في أمانتك يا رب.. احفظهم بعينك التي لا تنام.. وما تسؤني فيهم يا حفيظ..
نعقت الباخرة لآخر مرة معلنة تحركها مبتعدة، لتهمس أنس باكية، وهي تتطلع لرصيف الميناء وهو يبتعد، وصورة سعد الملوح الذي لم يبرح موضعه، تتضاءل أمام ناظريها: أسأل الله السلام لروحك، والسكينة لقلبك حتى نلتقي سعد بيه..
مسحت أنس دمعها بمنديل وداعها حين اقتربت نازك هامسة، وفضل الله يتململ بين ذراعيها: سيدتي، علينا النزول لقمرتنا، الصغير في حاجة لإطعامه..
هزت أِنس الوجود رأسها موافقة، وما أن همت بالتحرك، حتى توقفت برهة ملقية نظرة أخيرة على رصيف الميناء الذي أضحى مجرد ظل بعيد متنهدة، قبل أن تغادر سطح الباخرة لقمرتها، وقد استشعرت خواء رهيب داخلها، وكأنها أضحت جثة بلا روح، ولم لا! وقد رحلت تاركة بالمحروسة روحها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩١٩.. دار الحرانية..
تعالى صوت تلك الدلالة تبحث عن مشترين لبضاعتها من العطور والأقمشة، ما دفع شفاعات لتهمس وهي تجلس بحديقة الدار، القهر لا يفارقها: الله يرحمك يا خالة مكحلة، أهو كنتي مهونة علي جهرة الجلب..
تطلعت الدلالة من بين قضبان سور الحديقة نحو مجلس شفاعات، هاتفة في نبرة مستعطفة: اشتري مني يا ست، والله ما هتخسري..
تطلعت شفاعات نحو المرأة التي تحمل طفل تدليه فوق إحدى كتفيها، تسنده بكف، وتحمل بؤجتها بالكف الآخرى، لتشير لها شفاعات بنزق أن أرحلي، لكن المرأة تصر في نبرة مستكينة تكاد أن تبكي: جربي يا ست، الحال بقت شحيحة، ومين غير ست الرسلانية كلها، تقدر تشتري وتنقي وتختار!..
لامست كلمات المرأة اللحوح وترا داخل نفس شفاعات، التي أشارت للمرأة أن تدخل، لحظات وأصبحت تجلس تحت قدميها تفتح بؤجتها أمام شفاعات، هاتفة في لهفة: والله معايا اللي يستاهل ست الكل، وما يليق إلا لها.. بصي يا ست..
وبدأت في إخراج بضاعتها قطعة وراء الآخرى، وقد وضعت طفلها جانبا، فبدأ يزحف في المكان، لتسأل شفاعات: هو أني وعيت لك جيل سابج!
أكدت المرأة: معلوم يا ست، ما أني بلف فالنجع والنجوع اللي جاره..
هزت شفاعات رأسها دون أن تنطق كلمة، وأخيرا تساءلت: ده ولدك!
أكدت المرأة: لاه، ده بت يا ست، أستير، دي آخر العنقود.. معايا سارة وسمعان وشمعون..
واستطردت المرأة مفسرة: لهو انتي معرفتنيش يا ست شفاعات! أنا رحيل مرات الخواجه نعيم..
هزت شفاعات رأسها متفهمة: ايوه، مرت الخواچه، سبب البلوة اللي أني فيها دي.. طب جومي غوري من جدامي.. و..
هتفت رحيل مقاطعة: بس استني بس يا ست،حلمك عليا، واللي كسر حاچة عليه يصلحها..
تطلعت شفاعات نحوها في ريبة: يعني ايه!
هتفت رحيل مستغلة الموقف: طب مش هتشتري حاجة من الحاجات دي، وهقولك أنا جاية ليه م الأساس..
أمسكت شفاعات بالبؤجة ملقية إياها جانبا، مؤكدة في حنق: وادي الحاچة، هاخدها كلها يا حزينة، خدي اهااا.. بس انطجي، ايه في!
وضعت رحيل ما تحصلت عليه من يد شفاعات في موضع آمن بصدرها، ثم مالت صوب شفاعات، هامسة بقربها في هوادة: لو عاوزة حل لكل اللي إنتي فيه يا ست، روحي بكرة مع دخول المغرب لبيت الخالة مكحلة الله يرحمها، هناك هتلاقي جواب سؤالك..
نهضت رحيل مسرعة تحمل طفلتها، مستغلة تيه شفاعات، التي ما أن تنبهت، حتى كانت رحيل قد هرولت لخارج الدار حاملة طفلتها، وغابت عن ناظريها في لمح البصر، وكأنها ما كانت قبالتها، إلا أن بؤجة البضاعة التي كانت تجاورها، أكدت لها أن ما حدث كان حقيقي، وأن عليها الانتظار للغد حتى تعرف كيف لها أن تجد حلا لكل هذا القهر الذي تعيشه، منذ أن دخلت هذه المرأة حياتها، وقلبت حياة زوجها وحاله!.. على أي حال، إن غد لناظره لقريب..