رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 7 - 1 - الجمعة 3/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع
1
تم النشر الجمعة
3/1/2025
العلة.. وأصل الشفاء..
الرسلانية ١٩١٥..
جلست توحيد جوار فراش أنس الوجود تقطع بعض الفاكهة، تمد لها طبقا عامر بأنواع شتى لم تكن متاحة من الأساس بالرسلانية أو الصعيد بأسره، ابتاعها سعد خصيصا لأجل خاطرها.. ما جعل نازك تجلس بأحد الأركان حانقة لأن توحيد تتعدى على اختصاصها وأصبحت أقرب لأنس منها، كما أن معاملة أنس لتوحيد.. معاملة صديقة لصديقتها التي تعرفها منذ سنوات طوال.. ما أثار حفيظة نازك التي لامت أنس على هذا التساهل، وعدم حفظ المسافات والمقامات، لكن أنس بطبيعة الحال تستمع للجميع كأنها مقتنعة طائعة، لكنها لا تنفذ إلا ما تراه صحيحا..
هتفت توحيد وهي تصر على أنس لتناول المزيد من التفاح: تعدميني لو مخدتي دي من يدي..
هتفت أنس باسمة: توحيد! أنا جالسة في حجرتي منذ ثلاث أيام لا أفعل إلا الأكل.. أشعر بالتخمة..
أكدت توحيد ولم تحد عن عرضها: طب دي آخر حتة، وشوية ونچيبوا الغدا..
قهقهت أنس الوجود: معقول! مفيش فايدة.. أنا هرجع من الرسلانية أشبه الدب..
أكدت توحيد في ثقة: ايوه وماله! وهي الست مننا يبجى لها مجام كده وزهوة إلا بكونها عفية كده مربربة وتملا العين..
ارتفعت ضحكات أنس من جديد على أقوال توحيد، التي حملت طبق الفاكهة جانبا، قبل أن تسأل في فضول: ما جولتليش بجى يا برنسيسة ايه الحكاية!
هتفت أنس متعجبة: حكاية إيه توحيد!
أكدت توحيد بفضول متزايد: إنتي كنتي فين لما خرچتي! وليه مخدتيش حد معاكي!
تنهدت أنس وصمتت لبرهة قبل أن تهمس مفسرة: هتصدقي توحيد إني معرفش أنا عملت كده ليه! زي هاتف جالي قالي ده آخر يوم لك أنس في الرسلانية، قومي روحي مقام الشيخ ال.. اللي كنا عنده مقامه توحيد..
هتفت توحيد في نبرة وجلة: شالله يا شيخ يا سماحي! الشيخ دعاكي والزيارة وچبت يا هانم..
هزت أنس رأسها في إيجاب واستطردت: الظاهر كده توحيد، أنا لقيت نفسي بخرج لعند المقام وحدي من غير ما أبلغ حد، وده خطأ كبير لكن كان غير مقصود، وأنا وصلت المقام فعلا دون مشاكل، فهو قريب.. وأنا حفظت الطريق من المرة السابقة، ووقفت قرأت الفاتحة ودعيت كتير توحيد، لكن ظهر مچذوب افزعني.. ابتعدت لكنه ظل يلاحقني، حتى وقعت من التعب مكان ما وجدني سعد بيه.. كنت سأعود بلا مشكلة لولا هذا المچذوب.. حتى أني جرحت قدمي ولم أشعر من شدة الفزع..
ربتت توحيد على كفها في حنو: المهم إنك بخير الحمد لله، وبجيتي وسطنا من تاني.. ده سعد بيه أخوي كان ماسك السما بيديه أول ما جلت له مش لاجيين الهانم، يا مرررري.. النچع انجلب فساعتها، والغفر والعبيد كانوا فكل شبر، والحمد لله مرچعش إلا بچنابك سالمة من غير شر.. ورچلك دي بجى عشان تجعدي معانا الشوية دول لحد ما تطيبي..
ابتسمت أنس في مودة: أنت جميلة جدا توحيد..
ابتسمت توحيد في حسرة: فين الچمال ده يا هانم! ربنا يچبر بخاطرك..
أكدت أنس الوجود: أنت قلبك جميل وروحك حلوة توحيد.. أنت حقيقي جميلة..
دمعت عينا توحيد في سعادة، وهتفت في فضول لا يفارقها: مجلتليش يا هانم، ايه الحكاية اللي جلتيلي هحكيهالك لما كنا عند المجام!..
همست أنس في نبرة علاها الشجن: دي حكاية حزينة توحيد.. حزينة چدااا..
هبت نازك من موضعها، في محاولة منها لإيقاف استرسال أنس في حكايتها، فمن وجهة نظرها، لا يليق بالهانم إطلاع هؤلاء القوم على أمر خاص.. فمن يكونوا حتى يصبحوا محل ثقة الهانم ومكمن أسرارها!.. لتهتف في نبرة حادة: الهانم اعتقد محتاجة راحة..
نطقتها نازك ببعض الأحرف المضعضة لعدم إتقانها العربية بعد، فلم تفهم منها توحيد حرفا، ولم تعبء باعتراضها أنس من الأساس، والتي بدأت تحكي: كنت صغيرة توحيد لا أعرف ما هو الحب حتى قابلته، نوري أفندي شريف، تعلق قلبي به، لكنه لم يلق استحسان والدنا كاظم باشا أوغلو، قال لي بالحرف "هذا صعلوك لا يليق بنسبنا الشريف" كان نوري أفندي ثوري، يناضل ضد الظلم واضهاد الشعب توحيد، فكان ذلك سبب أقوى لرفض والدي الذي كان من المقربين من بلاط الحكم.. حتى أنه كان سبب في القبض على نوري أفندي واعتقاله..
شهقت توحيد معلقة: راح الچدع فشربة ميا.. يا عيني عليه..
هزت أنس رأسها مؤكدة: راح فعلا، حتى إني لا اعرف إن كان حيا أم انتقل لرحمة الله..
صمتت أنس تستجمع طاقتها، لتستحثها توحيد على الاسترسال: هاااا.. وبعدين!
استطردت أنس الوجود: قرر والدي كاظم باشا أن أتزوج من طوسون باشا، كان رجل يكبرني بأربعين سنة..
شهقت توحيد ضاربة على صدرها بباطن كفها في صدمة: أربعين سنة! ده كد أبوكي الباشا..
أكدت أنس في حسرة: كان أكبر سنا من والدنا توحيد، وما كان فارق السن هو المشكلة، كان هو نفسه أساس المشكلة.. كان مريض بالشك والغيرة والظن السيء، عشت معه سنوات في سجن.. قصره كان مقر اعتقالي.. ما كان يسمح لي برؤية مخلوق، وكان شديد لا يعرف كيف يتفاهم دون استخدام الكرباج توحيد..
شهقت توحيد زاعقة في صدمة: كرباچ! ليه.. هو بنات الناس تتعامل كده.. كسر يده.. معلش يا هانم على سوء الأدب.. بس ده مايستاهلش إلا يتجال عليه كده..
هزت أنس رأسها متفهمة: خلاص كله راح لحاله توحيد، في مرة كنت هموت بين ايديه عشان اتهمني بالخيانة، وصل الأمر لوالدي وقرر تخليصي من ارتباطي به.. وتطلقنا توحيد.. وقع وثيقة طلاق وهو يبكي بالدموع على فراقي.. لكن أنا كنت في قمة سعادتي لخلاصي من سجنه وتعذيبه..
هتفت توحيد في فرحة: والله بركة.. هو ده راچل يتعاشر، ده أنتي تستاهلي سيد الناس اللي يعرف جيمتك، ويجدرك صح.. و..
نحنحة رجولية على باب الغرفة، أكدت لهن أن سعد على أعتابها، ما دفع توحيد للنهوض مسرعة تفتح الباب، ليهتف سعد بصوت عال يصل لمسامع أنس: الهانم عاملة إيه النهاردة!
هتفت توحيد: عال العال يا خوي!
أكد سعد: طب خير، واللي تعوزه الهانم يكون عندها فساعتها، متسيبهاش لحظة يا توحيد..
همت توحيد بالرد، لكن أنس الوجود كانت الأسرع، هاتفة في نبرة ممتنة: توحيد تقوم بالواجب وأكثر، تشكرات لكرمكم وعنايتكم سعد بيه..
هتف سعد وهو ما يزل واقفا على أعتاب الحجرة في تأدب: العفو يا هانم.. أنتي مشرفانا ومنورة الرسلانية كلها بوچودك..
هتفت أنس في مودة: منورة بأهلها، بتقولوا كده فالمحروسة، صحيح! ..
اتسعت ابتسامة سعد مؤكدا: صح يا هانم.. ربنا يطمنا عليكي.. وتطيبي على خير..
هتفت أنس معاتبة: عايزني أرجع المحروسة بسرعة سعد بيه!
هم سعد بالإجابة معترضا، لكن توحيد كانت الأسبق، هاتفة في نبرة معترضة: مين اللي جال! والله الود ودنا نحطك على روسنا العمر كله.. ده انتي صحبتك بلسم، وجعدتك ما يتشبعش منها يا برنسيسة..
هتف سعد من موضعه على أعتاب الغرفة: أهي توحيد جالت مخلتش يا هانم.. ربنا يديم المعروف..
همست أنس في مودة: أمين سعد بيه.. أمين..
استأذن سعد مغادرا، فما عاد من حاجة لوقوفه على أعتاب الحجرة بلا طائل، وما كان من اللائق دخوله للحجرة من الأساس، يكفيه منها أنه سمع صوتها، واطمأن على صحتها، يعزي نفسه أن غابت عن عينيه طلتها البهية، ببعض كلمات منها ستظل عالقة بباله، حتى يأذن الله بلقاء جديد..
❈-❈-❈
اندفعت توحيد تضع حبرتها ونقابها للخروج، وما أن أصبحت بالقرب من البوابة حتى تنبهت لوجود أنس الوجود ونازلي، فاندفعت في سعادة صوبهما مهللة: الله أكبر، ربنا يحفظك يا برنسيسة، جومنا وخرچنا م الاوضة أهو كيف ما جلتلك، ربنا ما يرجد لك چتة جادر يا كريم..
ابتسمت أنس شاكرة، وما أن رأت توحيد ترتدي ملابسها الرسمية للخروج من الدار، حتى سألت في فضول: أنتي خارجة توحيد!
أكدت توحيد: آه، رايحة مجام الشيخ السماحي اخرچ حاچة لله بركة جومتك لينا بالسلامة..
هزت أنس رأسها في امتنان، تاركة توحيد تقوم بزيارتها.. والتي خرجت من الدار وخلفها مصباح كما ظلها..
لحظات مرت وهلّ سعد من داخل الدار، وما أن رأي أنس حتى توجه نحوها في هوادة، وصل لموضعها هاتفا في نبرة ودودة منكس الرأس: صباحك شريف يا هانم، لاه النهاردة بجيتا عال الحمد لله..
ابتسمت أنس مؤكدة: الحمد لله، بفضل رعايتكم الكريمة.. حتى توحيد خرجت توزع صدقات لله لتمام شفاءي.. ده عطف ومحبة غالية سعد بيه..
أكد سعد باسما: دي حاچة بسيطة، چنابك تستاهلي كل خير الدنيا..
أكدت أنس بنبرة شجية: ودعنا الدنيا وما عاد لنا فيها حاجة سعد بيه..
تذكر سعد كل الحقائق التي سردتها عليه توحيد في فرحة، مؤكدة أنها بلا زوج، وأن الوصال أصبح متاح، وتذكر ما قاسته هذه المسكينة من ذاك الزوج الأحمق الذي لم يقدر مدى روعة هذه الجوهرة الثمينة التي منحها له الله ولم يصنها.. واذاقها العذاب ألوان.. ما جعل الدماء تغلي في عروقه رغبة في الثأر لها من ذاك الحقير.. هاتفا في نبرة حانية: الدنيا كلها لسه جدامك يا هانم.. ويا هَناه اللي ربنا يجدر له وينول الوصال..
اندفعت أنس تسأل في فضول: جربت العشق سعد بيه!
اضطرب سعد لسؤالها، وهمس متعجبا: عشج!..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يجيب في تعقل: لو الهانم تجصد، اللي بنسمع عنِه فالغناوي، ف لاه.. اتچوزت مرتين آه، لكن عندينا هنا فالصعيد الچواز غير، يجولوا لك دي بت ناس ومن عيلة تشرف، تجول على بركة الله، وأنت وحظك بجى، لكن حكايات العشج والغرام دي، لا أعرفها.. ولا أعرف ايه العشج اللي بيجولوا عنِه ده!..
همست أنس في نبرة عجائبية، حركت شيء ما داخله: العشق نور ونار، نور يسمو بالروح، ونار تحرق خبث النفس، العشق سعد بيه، هو العلة.. وهو أصل الشفاء..
كيف لكلمات أن تصف حال، دون أن يشكو صاحبه علة!.. كان ذاك هو حاله في قربها، نظراته تنازعه ليرفع الطرف نحو محياها، يستزيد بعض من أنس يسكن له روحه، وقد خسر نزاعه وفازت عيناه وحازت منها نظرات أشبه بأول شربة ماء لتائه في صحراء شاسعة وقد نجا بعد أن ظن أنه هالك لا محالة.. نازع نفسه من جديد، جاذبا ناظره ليحيد عن محياها الذي بات يؤرقه بصحوه كما منامه.. منتصرا هذه المرة في نزع نفسه من براثن حضورها الطاغي.. ليستأذن في عجالة..
سار مندفعا نحو فرسه، اعتلاه في رشاقة بقفزة واحدة، ليصهل الفرس في شموخ مرحبا بصاحبه، الذي أرخى له لجامه تاركا له العنان ليسابق الريح، وعينيها سبب العلة، تلاحقه .. ونظراتها تتبع محياه حيث غاب..
❈-❈-❈
اقتربت توحيد من مقام الشيخ السماحي، تدفع بعطاياها ليد كل راغب من فقراء النجع ومريدي الشيخ المصطفين دوما على ذاك الدرب الذي يفضي لموضع المقام، حتى إذا ما فرغت من توزيع هباتها تركوها بأمر من مصباح الذي كان يدفعهم عنها في لطف لتدنو من المقام وحيدة، تناجي بما يجول بخاطرها وما يستره القلب، استندت على جدران المقام الغربية بكف، تقترب من موضع النافذة الضيقة وهي ترفع ذيل ملسها بالكف الآخر، فإذا بها تبصر ظل رجل ما وعت ملامحه، فقد كان يتلفح بلاسته الصوفية، وقد وصلها همسه وهو يبتهل في تضرع، فتسمرت موضعها تاركة له المجال حتى ينهي دعاوته الخاشعة تلك.. كادت أن تصدر عنها شهقة قوية، كتمتها في أعجوبة حين تناهى لمسامعها اسمها، فاقتربت على قدر استطاعتها حتى لا يكتشف ذاك المبتهدل وجودها، تحاول أن ترهف السمع لدعواته، التي عاد لتكرارها من جديد بصوت متحشرج: هي يا سيدي السماحي، أني ياما دعيت تكون ليا، ومحدش ينضرها غيري، والحمد لله لساتها في بيت أبوها، مخفية عن عين الخُطاب، وأني برضك مهما كنت على كد حالي، وهي كيف ما أنت واعي بت الحسب والنسب، وأني لو بجيت لغيري هروح فيها، اكتبها من نصيبي يا رب، توحيد بت عبدالمچيد رسلان.. هي ومعيزش حاچة تاني م الدنيا يا رب..
تضاعفت ضربات قلب توحيد، وتساءلت من يكون هذا!.. وهل من الممكن أن تكون دعوات هذا الرجل، هي سبب بقاءها بقيد العنوسة حتى هذا العمر!..
طاقت لمعرفة هوية ذاك المبتهل، لكنه ملس على قضبان المقام، ثم مسح صدر جلبابه، قبل أن يرحل تاركا توحيد في حالة من التيه المخلوط بالصدمة..