رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 8 - 1 - الجمعة 10/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن
1
تم النشر الجمعة
10/1/2025
ذاك الحزن الراقي..
الرسلانية ١٩١٥..
وقفت أُنس الوجود تتطلع للرسلانية من نافذة حجرتها، لا رغبة لديها في الإبتعاد عن ذاك السحر الذي أسر روحها روعته، وتعلق قلبها بكل تفاصيله الرقيقة حد البساطة، والعميقة حد التعقيد.. لكنها تعلم أن عليها العودة إلى المحروسة إن عاجلا أم آجلا.. تاركة راحة بالها وهناء نفسها، اللذين افتقدتهما منذ أمد بعيد وراء ظهرها بعد أن وجدتهما بين جنبات هذا النجع، وفي أركان هذه الدار..
تنهدت في قلة حيلة، تحيد بناظريها نحو توحيد التي كانت تشاركها التطلع نحو الأفق في صمت لم يكن من عاداتها، لتسألها أنس في تعجب: ما بك توحيد! شاردة بشكل كبير، أنت مضايق من شيء!؟..
هتفت توحيد ما أن وعت أن أُنس تحدثها، جاذبة نفسها عنوة من ذاك التيه الذي أصبح ثمة غالبة على محياها منذ زيارتها الأخيرة للمقام، وسألت أُنس بغتة: تعملي ايه يا برنسيسة لو عرفتي إن في حد بيحبك ورايدك، بس مهواش كد المجام!..
تطلعت أنس متعجبة نحو توحيد، مأخوذة من مفاجأة السؤال، تسأل في وجل: يحبني! ويريد الزواج بي! لو شخص محترم توحيد حتى ولو أقل مكانة، وسأكون سعيدة معه، أكيد أقبل الزواج به..
هزت توحيد رأسها متفهمة، ولم تعقب بحرف، وما أن همت أنس بالحديث، إلا وعلا صوت أنثوي حاد قادم من خلف أسوار الدار المنخفضة نسبيا: أبين زين، وأوشوش الودع..
سألت أنس في فضول: مين دي توحيد!
فسرت توحيد: دي الخالة مكحلة البلانة.. بتلف ع البيوت تبيع جماش وشوية حلجان وغوايش.. ووجت اللزوم داية تولد الحريم وتچهز العرايس، وفوج ده كله بتجرا البخت..
هتفت أنس في عدم تصديق: معقول! ممكن تنادي عليها توحيد!
ترددت توحيد لبرهة، قبل أن تنادي مصباح ليأتي بمكحلة لداخل الدار، بينما هبطت أنس الوجود بصحبة توحيد للحديقة لملاقاة المرأة الغجرية، التي ما أن تقدمت لمجلسهما بأمر من مصباح، إلا ومالت في رغبة لتقبيل كف أُنس الوجود، لكن توحيد منعتها بإشارة من كفها، خوفا على الهانم من ألاعيب هذه المرأة الداهية واسعة الحيلة والتي تسرق الكحل من العين..
جلست مكحلة أرضا، وفرشت منديلها المربع وساوت الرمل، وامسكت بالودع تقربه من فمها تهمس له بكلمات مبهمة، قبل أن تدفع لأنس بإحدى الأصداف مطالبة في هوادة: وشوشي الودع يا برنسيسة..
لم تعي أنس ما المقصود، فتطلعت لتوحيد لتفسر لها المطلوب، فأكدت عليها توحيد: خدي الصدف يا هانم، وقوليله اللي فنيتك وبالك..
فعلت أنس كما ارشدتها توحيد، وهمست بالقليل من الكلمات ثم أعطت الغجرية التي كانت تتطلع إليها بأعين ثاقبة ونظرة عميقة أثارت في نفس أنس الرهبة قليلا، فقد كان مظهرها غرائبيا بذاك الوشم الأخضر على أحد جانبي جبهتها، وكذا مثيله ذي الخطوط الثلاث الطولية الذي يزين ذقنها المتغضن، مع حلقة فضية معلقة بإحدى فتحتي أنفها الأفطس، والتي تمتد بسلسال معلق بذاك المنديل المزركش الذي تشده حول هامتها، ومن فوقه ينسدل ملسها الأجرب الذي تحول للرمادي من غبار الطريق، تناولت الصدفة من كف أنس وخلطتها بباقي الودع الذي كان قابع بكفها الضخمة، الأشبه بكفوف الرجال، دافعة بالودع تلقيه فوق وجه الرمل، ساد الصمت، وهي تعبث بإصبعها الأشبه بغصن جاف قصير نُزع من شجرة عجفاء، قبل أن تقر بصوت عميق النبرة: واااه م العشج، العشج سكته واعرة، ودربه صعيب، بس اللي غاوي يتحمل، والچدع يثبت ويكمل..
لم تفهم أنس ما تعنيه العجوز، ولم تستطع تفسير كلماتها المبهمة، لكن للعجب، استشعرت ما كانت ترمي إليه حين ذكرت العشق، لذا ما طلبت تفسير، ليحين دور توحيد التي ما كانت ترغب في التجربة التي كانت تعتبرها نوع من التسلية ما لها به حاجة، لكن تحت ضغط الهانم استجابت، لتقرأ المرأة الغجرية ودعات توحيد، بعد بعض الصمت، مقرة في نبرة مترددة: البال الحيران مسيره يهدا، والجلب اللي بيشابي ع الفرح مسيره يطول، بس كل سكة ولها آخر، وكل سفر وله وصول..
على الرغم من سعادة توحيد بكلام الغجرية، التي تنبأت لها براحة البال وقرب الفرح، لكن قلبها ظل يحمل غصة من خوف، لم تعرف لها تفسيرا.. ما جعلتها تشير لمكحلة بالرحيل، فنهضت المرأة على عجل ليصطحبها مصباح للخارج وقد اوصته توحيد بأن يجزل لها العطاء، ما دفع العجوز لترفع عقيرتها بالدعاء للهانم وأصحاب الدار في فرحة غامرة، فقد طالت بعض العطايا التي لم تنل مثيلتها منذ شهور طويلة، بل ربما سنوات..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩١٥..
عادت أنس الوجود للمحروسة بعد أن تماثلت قدها للشفاء التام، ودعتها توحيد بالدموع، مؤكدة عليها أنها ستحاول القدوم مع سعد أخيها لزيارتها بالقاهرة متى ما كان هذا ممكنا، لتعود أنس بصحبة سعد إلى قصر أخيها ويغيب سعد لأيام منجزا عمله بالاسكندرية، قبل أن يعود للمحروسة من جديد، مقررا الذهاب لقصر رستم باشا لاطلاعه على مستجدات العمل، الذي استقبله في امتنان، وهو يجلس بصحبة سعد في الحديقة: ممنون جدا يا سعد بيه على الرعاية الطيبة اللي شملتم بها أختنا الغالية..
هتف سعد: العفو يا باشا، معملناش إلا الواچب والأصول..
أقر رستم: أنس الوجود راجعة من الرسلانية في كامل سعادتها، أنا مشفتهاش بالحال ده من زمن طويل، واضح إن جو الرسلانية فيه سحر سعد بيه!..
ابتسم سعد في حبور ولم يعقب، ليستطرد رستم في نبرة شجية: حال أُنس الوجود كان يقلقني، وخصوصي بعد اللي تعرضت له خلال السنوات اللي طال فيها زواجها من المتوحش طوسون.. اتعذبت كتير، وهي لا تستحق إلا السعادة..
تردد سعد قليلا، قبل أن يتجرأ مطالبا في نبرة قوية: على ذكر أنس الوجود هانم، ليا طلب عندك يا رستم باشا، ورچاءي إنك متردنيش خايب!
تنبه رستم متسائلا: خير سعد بيه!
اعتدل سعد في جلسته، هاتفا بلا مواربة: أني طالب يد أختكم الكريمة على سنة الله ورسوله، جلت إيه يا باشا!
هتف رستم مبهوتا: زواج سعد بيه!
أكد سعد وقد قام بالخطوة الأصعب، وعليه أن يستمر في كفاحه حتى ينالها، فهو يدرك تماما أن الأمر عسير، وأن عليه أن يجاهد حتى ينال القبول من جانب أهلها: أيوه يا باشا، چواز، وهحطها ف عيوني، واللى تطلبه كله مچاب..
هتف رستم بعد أن هدأت صدمته: مفهوم سعد بيه، لكن أنت تعلم أن والدنا كاظم باشا أوغلو هو من له الكلمة العليا في كل ما يخص حياة أُنس أختنا، وأنا مليش رأي دون مشورته، فاهمني أكيد!
هز سعد رأسه مؤكدا: معلوم طبعا يا باشا، الوالد هو الخير والبركة، لكن أني عشمان في توصية من چنابك، أكيد يعني كلمتك عنده لها وزنها، ولا ايه يا رستم باشا!..
أكد رستم في صدق: والله يا سعد بيه، أنت تعرف معزتك عندي، ولو الكلمة بيدي لكانت الموافقة من نصيبك، بعد سؤال أُنس الوجود عن رأيها طبعا.. لكن رأي الوالد هو الأساس، رأيي لا قيمة له أمام قبوله أو رفضه، أنت متعرفش كاظم باشا!..
أكد سعد: طبعا يا باشا اومال ايه! معلوم.. رأيها واچب، وحضرتك لما تجول رأيك للوالد، برضك أخوها.. وأكيد عايز الصالح لها.. ولا ايه!..
سأله سعد متلهفا، ليؤكد رستم هازا رأسه في محاولة لإنهاء الحوار: ربنا يعمل اللي فيه الخير سعد بيه، أنا هرسل لوالدنا كاظم باشا طلبكم مع توصية مني، ونشوف..
هز سعد رأسه بالمقابل، هاتفا وهو ينهض ليستأذن مغادرا: إن شاء الله كل خير يا باشا.. أنا متعشم في النسب الكريم..
طرقت نازك باب حجرة أنس، ودخلت ما أن أذنت لها، لتهرول نحو أنس التي كانت تجلس تصلح من هندامها أمام مرآتها، قبل النزول لمائدة العشاء، هاتفة في استنكار: اللي بيحصل ده كتير يا هانم! معقول! ده جنون..
تطلعت أنس نحو نازك في تعجب متسائلة: ايه اللي حصل لكل الضيق ده نازك!
هتفت نازك بنفس نبرة الاستنكار: سعد بيه كان هنا مع الباشا!
انتفضت أنس في فرحة: سعد بيه! هو لسه مسافرش الرسلانية!
أكدت نازك: واضح إنه كان قادم للسلام قبل سفره، ما زال بالأسفل، وأنا سمعت ما قاله، وقدمت لأقول لك على الجرأة التي طلب بها من الباشا يدك للزواج..
انتفضت أنس في صدمة مخلوطة بسعادة حاولت مداراتها: بتقولي زواج نازك! سعد بيه طلبني للزواج!
هتفت نازك متعجبة: نعم، طلب يدك للزواج بكل صفاقة، لا أعلم كيف تجرأ وطلب أمر كهذا يا هانم!
لم تعبء أنس باعتراض نازك، بل سألت في فضول: وما كان رد الباشا يا نازك!
أكدت نازك: العجيب أن الباشا لم يعترض، كيف ذلك! أنا لا أصدق!
لم تعي أنس إلا قبول أخيها لنسب سعد، وتذكرت كلام توحيد معها بالرسلانية، هل كانت تقصد به سعد، وكانت تجس نبضها لتعلم موقفها من الأمر إذا ما عُرض عليها، ما دفعها لتسأل في تهور: هل ما زال سعد بيه بالأسفل!
هزت نازك رأسها مؤكدة، ما دفع أنس لتنهض مندفعة في عجالة نحو شرفة حجرتها، تطل على الحديقة حيث كان يجلس رستم بصحبة سعد، الذي رأته اللحظة، ينهض مودعا أخيها الذي دخل للقصر لتوه، تاركا سعد يسير في هوادة تشمله هيبة لا يمكن إغفالها، وما أن هم بدخول السيارة، حتى لاحت منه نظرة صوب شرفتها، ليجدها هناك، تطل كشمس وضاءة لا يمكن أن يغفل بشر عن وهجها، ليتسمر موضعه.. نظراته معلقة بطلتها، لا يقدر أن يحيد ناظريه عنها مهما جاهد، لحظات مرت وهو على هذا التيه، حتى استطاع أخيرا أن يدفع نفسه دفعا لداخل السيارة أمرا سائقها بالرحيل على عجل، فقد أدرك اللحظة أنه أصبح عالقا وللأبد بهذه الطلة، التي خطفت القلب، وأسرت الروح..
رحل سعد وجلس رستم يفكر لتدخل عليه زوجته تسأل في رقة: الباشا مشغول بأمر محيره!
هز رستم باشا رأسه مؤكدا: أمر مكنش ع الخاطر ألفت هانم، سعد بيه طلب يد أُنس الوجود للزواج..
شهقت ألفت في رقة: زواج!
سألتها في استنكار لبرهة، قبل أن تهمس في نبرة مغايرة: طب وليه لأ يا باشا!
تطلع نحوها رستم مستفسرا، لتستطرد وهي تجلس على المقعد قبالته: أنس أختكم اتعرضت لأذى كبير في جوازها السابق، على ما سمعت منها، وأنت أكدت لي ده، وأنت دايما تشكر في سعد بيه وأخلاقه وأصله، حتى إنك شاركته لأمانته في بعض الأشغال، صحيح!
هز رستم رأسه مؤكدا، لتسرسل في حديثها هاتفة: وأنت زرت بلده ورجعت مبسوط جدا، وسبت أنس أختك هناك في حمايته وتحت ولايته، يعني متأكد إنه راجل يؤتمن يا باشا!.. بجانب إن أنس نفسها راجعة من هناك في قمة سعادتها، ودي حالة أنا مشفتش أنس عليها من سنين..
همس رستم: نفس الأمر أنا لاحظته حقيقي يا هانم، أتبدلت أنس من يوم ما راحت الرسلانية، ورجعت أنس اللي أعرفها، لكن أنا خايف من رد فعل كاظم باشا يا هانم!.. رد فعله هيكون قاسي ويمكن يطلب عودة أنس الوجود لإسطنبول ويظن إني غير أمين عليها..
هزت ألفت رأسها مؤكدة على صدق توقع رستم، هامسة: الحق عندك يا باشا، لكن أنس الوجود بعد اللي شافته من حقها فرصة تفرح، وتعمل أسرة وتستقر، واعتقد سعد بيه اختيار موفق، وفيه ميل من ناحيتها تجاهه..
هتف رستم متسائلا: هي قالت لك حاجة!
نفت ألفت: لا، أنت عارف سرها كله مع نازك وصيفتها، لكن ده إحساسي يا باشا، من ساعة ما وصلت من الرسلانية، وهي بتجيب سيرة سعد وأخته في كل كلمة بتنطقها، ده مش مجرد اعجاب بكرم ضيافتهم، دي حاجة إحنا الستات بس اللي نحسها يا باشا..
ابتسم رستم هامسا في محبة: واحساسك بيقولك ايه يا هانم!
أكدت ألفت في دلال، وهي تميل على صدره: بيقولي إن في قصة كبيرة هتكون بين أنس وسعد بيه، زي اللي كانت ما بينا، فاكر يا باشا!
ضمها رستم إليه أكثر، مطوقها بين ذراعيه، هامسا في عشق: وأنا اقدر أنسى أبدا..
دمعت عينى ألفت في عشق، وهي تضع رأسها على كتف رستم، وقد غابا في عناق طويل..