-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 8 - 2 - الجمعة 10/1/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثامن 

2

تم النشر الجمعة

10/1/2025



أصبح الذهاب لمقام الشيخ السماحي بالنسبة لتوحيد ليس طقس تقوم به كل شهر كما اعتادت، بل أضحت عادة يومية تكاد تصل حد الهوس، بات حصى الطريق يحفظ وقع خطواتها في كل ذهاب وإياب لمستقر المقام، من كثرة ترددها عليه، لا رغبة في دعاء يستجاب ببقعة مباركة أو حتى اخراج ما تجود به لمريدي الشيخ أو فقراء النجع الملتجئين لبابه، بل كان الأمر فقط لمعرفة هوية ذاك المجهول الذي صادفته مرة منذ شهور يدعو عند المقام أن تكون من نصيبه ويكتب لهما الله الاجتماع في حلاله.. 

تراه أين ذهب! لمَ ظهر فجأة ولمرة وحيدة، ثم اختفى!.. كان الفضول في البداية يتآكلها لمعرفة هوية ذاك المتيم الداعي، لكن مع طول المدة وفشلها في اكتشاف حقيقة شخصه، بات الأمر تعلقا وصل لحد البكاء ليلا داعية الله أن يرزقها فرصة لرؤيته ومعرفة حقيقته، لعله يكون ذاك الرجل الذي انتظرته طويلا.. 

وعلى ما يبدو، استجاب الله دعواتها وتضرعها اليومي في كل صلاة، وها هي تبصر ظله يقف حيث رأته بالمرة الأولى يمسك بقضبان النافذة الضيقة للمقام، هامسا في وجل: يا رب، اچعلها من نصيبي يا كريم، ولا تكون لمخلوج غيري، أني مش رايد غيرها يا رب.. أني.. 

قررت توحيد ألا تصبر حتى ينهي ابتهالاته، بل اندفعت من مخبئها بالقرب من أحد أركان المقام التي لا يصلها ناظره، لتظهر أمام عينيه معلنة له وجودها، معتمدة على عامل المفاجأة حتي يكون لديها الفرصة الكافية لتكتشف من يكون.. انتفض الرجل موضعه، وتقهقر خطوة للخلف وكاد أن يتعثر بحصى الأرض وحجارتها، لينزاح ذاك اللثام الذي كان حريص على ستر ملامح وجهه به، معلنا عن حقيقته، لتشهق توحيد بدورها ما أن وعت من يكون ذاك الرجل الذي حمل الفكر أيام طويلة من المعاناة، وحمل القلب ثقل الاعتراف بتعلقه به، طل كل منهما بوجه الآخر لبرهة، قبل أن تندفع هي على قدر استطاعتها، تكبل الصدمة قدميها عن التحرك لتغادر المقام فتكاد تتعثر خطاها وهي تدفع نفسها دفعا للهرولة مبتعدة، بينما غشت عينيها الدموع حتى أنها ما عادت تبصر ملامح الدرب نحو دار الرسلانية، تاركة ذاك المجهول يضع لثامه من جديد، مغادرا المقام بدوره.. 

❈-❈-❈

مر شهران منذ كان بالمحروسة وزار قصر رستم باشا، وطلب يدها للزواج، ومنذ ذاك الوقت لم تطأ قدماه القاهرة ولو لمرة واحدة، ينتظر أن تأتيه البشارة بقبول والدها نسبه، لكن ذاك الانتظار الطويل يأكل كل يوم وليلة من مخزون صبره، والباقية الباقية من تصبره، وأقصى ما كان يكدر صفوه وراحة باله أن يقابل عرضه بالرفض، ذاك ما كان يضج مضجه كل ليلة، ويشعره أن فراشه تحول لفراش من شوك، فما عاد له قبل على تحمل حياته دون أمل يعيش لأجله، أمل واحد فقط هي أن تكون أنس الوجود شريكة ما تبقى له برحلة الحياة، يتعجب من ذاك الشعور الطاغي الذي ملك عليه مجامع روحه تجاه هذه المخلوقة التي ما رآها رؤى العين إلا عدد مرات لا يتخط عددها صوابع اليد الواحدة، وفي كل مرة تنتزع انتزاعا جزء غير بسيط من راحة باله حتى بات متيما بطلتها وكأن هناء حياته معلق بها، وسعادة قلبه مرهونة بصحبتها، فأي شعور ذاك الطاغي الذي احتل كيانه كله في غفلة منه، جعله ذاك المتيم الذي بات يعد الأيام والليالي حتى ينال الرضا والقبول!.. 

حتى توحيد التي كان يجد منها كل الدعم والمواساة، ويلق بكل هموم نفسه بين راحتيها، أضحت فجأة بعيدة عنه بلا سبب مفهوم، وكأنها تبدلت بين يوم وليلة، يشعر أن شيء ما يشغل بالها وهو ما بدل حالها بهذا الشكل، واعتقد أنه ربما حزنها على حالها وتأخر زواجها قد دفعها لتلك العزلة، خاصة وقد علمت أنه تقدم لطلب الزواج من أنس الوجود، وعلى الرغم من محبتها لها وتشجيعه على الاقدام على طلب الزواج منها، إلا أنها بالتأكيد كامرأة تشعر بداخلها ببعض الغيرة أو ربما الغبطة، فهي بالتأكيد تحلم بذاك اليوم الذي تصبح مرغوبة فيه من رجل ما، يتقدم لخطبتها رجل يجعلها سيدة داره، حالما أن تكون أم عياله، ورفيقة دربه، هو لا يلومها، ومَن مِن القتيات لم تحلم بهذا الحلم!  

هو فقط يشفق عليها، كان يتمنى على الله لو استطاع تزويجها قبل أن يفكر هو في الزواج، وأن يطمئن أنها أصبحت بعصمة رجل يصونها ويكون سندا لها، لكن قدر الله وتقاسيمه لا يد لنا فيها، ولا اعتراض على مجرياتها.. 

أخرجه صوت مصباح الزاعق من شروده، وانتشله من الغرق أكثر في خضم أفكاره المهلكة، ليتنبه على شجار دائر بالقرب من بوابة الدار، ما دفعه ليهتف متستائلا في ضيق: ايه في يا مصباح! 

أكد مصباح في نبرة مستكينة، مخالفة تماما لنبرة زعيقه: مفيش يا سعد بيه، متشغلش بالك، ده واد صدغ وهيروح لحاله.. 

اندفع ذاك الشخص المشاكس متخطيا البوابة، مستغلا انشغال مصباح بالرد على سيده، هاتفا في نبرة صارخة مستغيثا: غيتني يا سعد بيه، احلفك بالغاليين عندك تلحجني! 

هم مصباح بجذب الرجل ليلق به لخارج الدار محتجا على جرأته في اقتحام مجلس السيد بهذا الشكل السافر دون أخذ الإذن، لكن سعد أمر مصباح بترك الرجل حين أبدى كل هذه الرغبة في لقائه، فعلى ما يبدو أن الأمر جلل، ما دفع سعد ليهتف بالرجل الذي أضحى بين يديه، يطلب العون والغوث مجددا، بنبرة شبه باكية: كيفك يا عبدالستار، ايه في! 

هتف عبدالستار مجيبا: تسلم من كل ردي يا بيه، احلفك بالغاليين اللي راحوا، تلحجني أنا وعيالي من الخواچه نعيم.. 

تعجب سعد: الخواچه نعيم! وأنت ايه اللي يوصلك لسكة الخواجه!.. ده أنت راچل تملي على باب الله، بتنزل تفلح في أرض كل واحد شوية وتاخد يوميتك.. 

هتف عبدالستار في نبرة منكسرة: خدت منه بالفايظ يا سعد بيه، ولدي كان بيموت فالاسبتاليه، ومكنش حلتي مليم أحمر، خدت منِه عشرين جرش، وبصمني على ورجة إنها حجه اللي كان عايزه خمسين بدل عشرين، جلت وماله، تاريه بصمني على عجد بيع داري بكل اللي فيه، ودلوجت چاي يرميني أني والمرا والعيال بره الأربع حيطان اللي لامم چواهم لحمي، اروح فين يا بيه، واسوي كيف! .. 

هتف سعد فيه معاتبا: ومچتنيش ليه لما ولدك تعب تاخد اللي يكفيك، ولا تاخد بالفايظ من الضلالي ده! 

لم يرد عبدالستار بكلمة، ليعيد سعد السؤال بنبرة صارمة: انطج! مچتليش ليه! 

رد الرجل في نبرة مهزوزة خوفا: أصلك يا بيه! سي وهدان حرچ علينا إن.. 

قاطعه سعد يهز رأسه مدركا دون أن يكمل الرجل اعترافه، هاتفا بنبرة ساخرة: سي وهدان! كبير الحرانية، حرچ على ناسه محدش ياچي لسعد رسلان يطلب حاچة، وتروحوا تخبطوا على بابه! طب وماله!.. بس لما هو عِمل فيها كبيركم، كان فين وأنت مش لاچي تلحج ولدك!.. مرحتلوش ليه يلحجك! 

هتف عبدالستار الحراني مؤكدا: رحت له يا بيه، نوبة مش موچود بالدار، ونوبة نايم، وخفت اچيلك يكدرني، ملجتش حد يلحجني إلا الخواچه يا بيه، يعني كنت هسيب ولدي يروح فيها! 

هز سعد رأسه متفهما، متعاطفا مع حالة العجز التي نبأ عنها محيا عبدالستار المتذلل، ونبرة صوته الباكية، مدركا غلاوة الضنا، وحسرة القلب والقهرة على فقده، ما دفعه ليهتف مطمئنا: ميكنش عندك فكر يا عبدالستار، هدفع أني الخمسين جرش للخواچه، وهتدخل دارك معزز مكرم، وتلم عيالك م الطريج.. 

اندفع عبدالستار باكيا، يجذب كف سعد كي يقبلها في امتنان، لكن سعد لم يمكنه من ذلك، جاذبا كفه بعيدا، هاتفا في اعتراض: استغفر الله، جوم يا راچل على حيلك، وخد.. 

أخرج سعد من جيب صديريته، محفظته الجلدية الفخمة الضخمة، جاذبا منها جنيه بطول كفه، يسلمه عبدالستار مؤكدا: مد يدك وخد يا عبدالستار، ده چنيه! 

هتف عبدالستار مبهوتا: چنيه نوبة واحدة يا سعد بيه! 

أكد سعد مفسرا: إيوه، أرمي لنعيم الكلب فلوسه، والباجي حلاوة شفا ولدك، ورچوعه لحضنك بالسلامة.. 

تطلع عبدالستار نحو سعد بنظرات دامعة ممتنة، مادا كفا مرتعشة يأخذ الجنيه، الذي لم يمس مثيله من قبل لينهار باكيا بالفعل، هتف به سعد معاتبا في نبرة لينة: واه، يا راچل عيبة فحجك تبكي كده، وشنبك يوجف عليه الصجر! 

هتف عبدالستار وهو يمسح دموعه بكم جلبابه، هاتفا في نبرة تفيض امتنانا: ربنا ما يدوجك طعم الحوچة، ولا كسرة الراچل جدام أهل بيته يا بيه.. ويخلف عليك ببت الحلال اللي تعمر بها يا رب.. 

وقعت دعوة الرجل بقلب سعد، فهتف بكل أمل يرتع بحشا روحه، مستحضرا صورتها قبالة ناظريه: أمين.. يا رب.. 


الصفحة التالية