-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 21 - 3 - الجمعة 28/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الواحد والعشرون

3

تم النشر الجمعة

28/2/2025

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

كانت تقف كعادتها بنافذة حجرتها تتطلع للرسلانية وقد غطاها ستار الليل وباتت أعمدة الإنارة القليلة العدد بطول الطريق الخارجي، وكأنها أشباح تحمل مشاعل في زمن غابر بعيد، قادمة نحو النجع منتفضة من قبل الجبل، كان الجو بارد بحق مع ذلك الهواء القادم من النيل الذي صار كبساط معتم، جعل ذاك الدخان البسيط القادم بتلك الرائحة الطيبة من قلب التعريشة، يصلها فيشعرها بالجوع.. وتنبهت لنداء حبيب لنبيهة أمرا: هاتي معاكي فوطة مطبخ نضيفة!.. 

ماذا يجري بالأسفل!.. فاض فضولها لكنها قاومته حتى لا تترك نفسها لرغبتها، فتجد حالها جواره تستطلع ما يحدث.. لكن ما عادت قادرة على مقاومة الرائحة الشهية وزمجرت معدتها وقرقرت جوعا.. فألقت تحفظها جانبا واندفعت تهبط الدرج مسرعة نحو الخارج، وما أن وصلت لعتبة باب المضيفة حتى تمهلت في خطواتها وقد جمعت أطراف الشال الجديد المبهج الألوان الذي صنعته لها صفية رسلان، تضمه إلى كتفيها حين هبت نسمة باردة وهي تغادر المضيفة نحو التعريشة.. 

تنبه حبيب لحضورها الذي يعلن عن نفسه دون صخب إلا صخب قلبه الذي يرتبك بين حنايا صدره، فرفع نظراته وهو بموضعه يجلس القرفصاء، فطلت من خلف الأدخنة كجنية قادمة من خلف حجب الغيب، ما دفعه ليغض الطرف عن محياها حتى وصلت لموضعه، متسائلة في فضول: ايه الروايح الحلوة دي! أنت جبتني من فوق على ملا وشي عشان أشوف ايه اللي بيحصل هنا!.. 

ابتسم حبيب مشيرا نحو الكانون، الذي يستعر تحته النار على قدر من فخار، مفسرا: اجعدي يا أستاذة، هتدوحي أحلى أكلة فول كلتيها.. 

هتفت أنس في تعجب: فول! الريحة الجامدة دي كلها من الفول، معقولة!.. 

ابتسم حبيب مقترحا: اجعدي ودوجي، واحكمي بنفسك.. 

تركته يضع بعض المكونات على ذاك الفول الذي يخرج منه ذاك البخار المشبع بتلك الرائحة الشهية، يقلبه في مهارة، لتسأله في فضول مندهش: مش كنت سبته لنبيهة تعمله، ليه بتعمله بنفسك!.. 

تطلع حبيب نحوها موضحا: لاه، في حاچات كده، ساعة ما أكون زهجان، ولا مضايج، أعملها لحالي، أهي بتبسطني شوية وتخرچني من حالة الزعل ولو لوقت جصير، واهي بتعدي.. 

همست أنس في تساؤل: أفهم من كده إنك مضايق!.. يا ترى إيه اللي مضايفك!.. 

اتسعت ابتسامة حبيب وهو يحمل القدر الفخاري بعيدا عن نار الكانون، واضعا إياه على مسند خشبي، فوق الطاولة القريبة من موضع جلوسها، هاتفا بنبرة مازحة: جصدك ايه اللي مش مضايجني!.. 

همست أنس، وهو يحضر لها الخبز يضعه قبالتها، متطلعة نحوه: طب أنت لسه مضايق! لو حابب ا.. 

كانت تعتقد أن وجودها قد يكون مثقلا عليه، وأنه يفضل المكوث وحيدا، إلا أنه هتف بآخر رد متوقع منه، حتى ولو في أكثر أحلامها عبثا: كنت مضايج، لكن دلوجت لاه..

رفعت ناظريها نحوه، فوجدت ابتسامة واسعة مرتسمة على قسماته، وهو يتشاغل بوضع بعض الأشياء هنا وهناك، فقررت تجاهل الأمر وكأنه لم يكن، مادة كفها صوب أحد أرغفة الخبر الشمسي، ليهتف بها مستوقفا: استني، هجطعولك شرايح زي التوست كده.. عشان تعرفي تاكليه.. 

انفجرت ضاحكة رغما عنها، هاتفة في نبرة مرحة: هو آه أنا بحب التوست وباكله، بس مش لدرجة إني مش هعرف أكل العيش الشمسي من غير تقطيع!.. 

هز رأسه متفهما ولم يعلق، مشيرا للطعام أمامها: طب ياللاه بسم الله، بس خلي بالك على حالك، حاكم ده نار مولعة، الأكل فالطاچن بيجعد حبة حلوين على ما يبرد.. 

شرعت في التذوق، وما أن أنهت لقيمتها الأولى، حتى هتفت في استحسان: ايه ده! ده حلو أوي فعلا.. طعمه مختلف عن أي فول مدمس دقته قبل كده.. تسلم أيدك.. 

ابتسم في أريحية مجيبا: بالهنا والشفا.. 

مد كفه نحو صينية من الصاج، كان بها منشفة تخفي شيئا ما داخلها، كشف أطرافها فإذا به المزيد من الخبز، عرض عليها في تردد: تحبي تچربي!.. 

همست تسأل، واللقيمة الثانية في سبيلها للحاق بأختها: ايه ده! مش ده عيش برضو! 

أكد حبيب: ايوه، عيش، بس ده غير اللي معاكي.. بصي اللي معاكي طري، لسه مخبوز النهاردة، لكن ده جرجوش مبلول.. 

سألت أنس في فضول: لاه أنا مش فاهمة، يعني ايه! مش كله عيش في الآخر.. 

أكد حبيب بابتسامة: أيوه كله عيش، بس ده جرجوش يعني هواه عيش شمسي أو زي ما بنجول رغفان، بس إحنا نشفناه فالفرن عشان يجعد أكتر ميبوظش، ولما نحبوا ناكلوه، نبلوه بهبابة ميا سخنة، ونلفه ففوطة نضيفة دجيجتين، وناكلوه مع الحاچات الملهلبة، زي الفول ده، دوجي كده وجوليلي رأيك! 

مدت كفها وتناولت قطعة وبدأت في غمسها بالفول، وتذوقتها في هوادة، على الرغم من أن الفول قد هدأت سخونته بعض الشيء بفعل طراوة العيش المندى بالماء، لتهتف أنس في سعادة: ايه الجمال ده! لا بجد ده حلو أوي.. 

ابتسم حبيب هاتفا: كويس إنه عچبك، مش كل اللي بيدوجه بيحبه.. 

أكدت أنس في أريحية، وهي ترفع لقيمة آخرى لفمها: الظاهر الجينات الصعيدي بتعلن عن نفسها وبقوة في الأوقات اللي زي دي.. 

هم بالرد، إلا أن فتاة صغيرة تبدو في الخامسة من عمرها هرولت نحو حبيب ملقية نفسها بين ذراعيه، اللذين شرعهما من أجلها حين تنبه لقدومها، هاتفا في مودة: يا مرحب ب سعادة، يا مرحب، كيفك النهاردة! 

ردت الفتاة الصغيرة في سلاسة: زينة.. 

طل شبل مهرولا من خلف فروع العنباية المتسلقة، هاتفا في نبرة معتذرة لاقتحام ابنته مجلس سيده: معلش يا حبيب بيه، سهتني وطلعت تچري على هنا.. 

ابتسم حبيب أمرا: سيبها يا شبل، هي الحچة وديدة عند الحچة صفية چوه!.. 

أكد شبل: ايوه، أمي چت تاخد بحس الحچة صفية، بجالها زمن مچاتش، البت كيف ما أنت واعي يا بيه، مخلية عينيها فوسط راسها.. 

هتف حبيب مشاكسا سعادة ابنة شبل: جال يا سعادة ممبطلاش شجاوة ومغلبة ستك!. 

أكدت الطفلة في أريحية: لاه، أني زينة.. بتاكلوا ايه! 

هتف شبل في حرج: آه يا ملكومة، وإنتي مالك.. تعالي.. 

هم حبيب بمنعه، إلا أن أنس كانت سابقة، لتأمره: سبها متاخدهاش، هتاكل معانا.. 

أكد حبيب على طلب أنس، أمرا شبل بالانصراف تاركا طفلته، لتشير الطفلة نحو أنس متسائلة في فضول: مين دي يا حبيب بيه! مرتك!.. حلوة جوى.. 

تنحنح حبيب في حرج ولم يعقب، بينما قررت أنس تجاوز سؤال الفتاة واجابتها المباغتة، مشيرة لها لتقترب، لتطيع الفتاة في آلية، اجلستها أنس جوارها، مؤكدة عليها في لهجة متباسطة: هدوقي فول ايه بقى طعمه حلو أوي.. خدي دي من أيدي.. 

تناولت الطفلة اللقيمة في طاعة، وبدأت في مضغها بهوادة، وأخيرا استحسنت الطعم، مؤكدة: ايوه حلو أوي.. 

هتفت أنس مازحة: خلاص خدت رأي سعادة بحالها، اعتقد مفيش شهادة بعد كده!..

الصفحة التالية