رواية جديدة طُياب الحبايب لرضوى جاويش الفصل 17 - 1 - الثلاثاء 11/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع عشر
1
تم النشر الثلاثاء
11/2/2025
سلطة الغياب..
الرسلانية ١٩١٩..
لا يعلم كيف استطاع المجيء من المحروسة لنجع رسلان! ولا يعلم كم يوما مروا على معرفته باحتمالية رجوعها الضعيفة من أزمير!.. أصبح الكون حالكا في غيابها وولده الوحيد، ما عاد للحياة من معنى، ولا عاد للأيام من هدف.. جثة تمشي على قدمين بلا روح، كان كذلك.. حتى أن الجميع أشفق على حاله التي بات عليها.. وكأنه أضحى أحد المجاذيب، يسير في طرقات النجع ساهما بلا هدى، حتى أنه يغفل عن إلقاء التحايا على العابرين بقربه كعادته الأصيلة، أو حتى لا يرد تحية المارين بمحياه كأنه لم يسمعها أو سمعها وتجاهلها، كان في ملكوت آخر.. يمر كل مرة في درب سيره بتلك البقعة من أرض البركة حيث وجدها هناك، وحيدة وقد فقدت وعيها خوفا من ذاك المجذوب الذي كان يطاردها، حملها يومها بين ذراعيه على دروب النجع حتى داره، كانت أقرب ما يكون لخافقه، وعلى الرغم من أن ناظريه كانا مسلطان على الطريق قبالته، إلا أن عينى بصيرته انبأته أن ذراعيه سيكونا ملاذ هذه المرأة.. وصدره سكن لها.. للأبد..
لم يكن يعلم لم سميت أرض البركة بهذا الاسم!.. لكنه منذ تلك الحادثة الميمونة، أدرك أي بركة تحمل حتى تكون موضع للقائهما القدري على ربوتها..
جاءته توحيد مهرولة في ذعر حين أدركت مسامعها أخبار أنس الوجود وفضل، لا تصدق أن ذاك يحدث لأخيها للمرة الثالثة، مصابه دوما في زوجاته وأولاده.. كيف يمكن لها أن تواسيه، وقد أدركت كيف يكون تعلق القلب بعد أن تعلق قلبها بوهدان، وكيف تكون معزة الضنا بعد أن رزقها الله منه ولدهما مختار!.. إن ما يعانيه أخيها اللحظة لا يقدر على حمله جبل من صلب..
دخلت توحيد الدار باحثة عن سعد أخيها، وما أن وجدته يجلس وحيدا بالحديقة سارحا في الأفق، حتى همست بالقرب منه وهي تربت على كتفه مواسية: هيرچعوا يا سعد، والله ليرچعوا بخير وسلامة من غير شر..
هز سعد رأسه في هوادة، لا ينطق حرفا وكأنه أدرك أن الحديث ما عاد له طائل، لتهمس توحيد من جديد، واضعة مختار ولدها الذي كانت تحمل، بين ذراعيه في محاولة لالهاء سعد عن أفكاره السوداوية: بص مختار يا سعد! بيجول لك يا خال فين سلامي المخصوص اللي مفتهوش ولا مرة!..
ملس سعد على رأس الصبي في حنو، ومال مقبلا ظاهر كفه في محبة صادقة، متطلعا له في نظرة شاردة، قبل أن يهمس بصوت متحشرج: فضل كد مختار باليوم، وشوفته بتهون عليا بعاد فضل، خير ما عملتي يا توحيد بمچايبه وياكي..
همست توحيد دامعة، تحاول أن تتماسك حتى لا يبدو تأثرها لحال أخيها الذي ما عاد أبدا سعد الذي تعرفه: واه، ما هو ولدك برضك يا سعد.. وغلاوة الواد من غلاوة أمه، ولا ايه!..
أكد سعد ساهما: ايوه، معلوم يا توحيد، هو في حد فغلاوتك عِندي..
ربتت توحيد على كتف سعد ولم تستطع أن تمسك دموعها من أن تنساب بلا قيود، وما أن همت بسحب مختار من بين ذراعي خاله حتى ترحل، إلا ومنعها سعد مؤكدا: لاه، سيبيه يا توحيد، كن الطلة ف وشه شفا، بتهون عليا فراج الحبايب..
ربتت توحيد من جديد على كتف سعد، تاركة ولدها ينعم بالدفء والحنان بين ذراعي خاله، الذي ظل يتطلع لمختار في تيه.. كأنه يبحث بين قسمات وجه الصغير، عن ملامح ابنه الغائب.. لكن هي، أنس الوجود، لمن يتطلع حتى يشفي غليل شوقه لمحياها! فما لها من شبيه، هي أنس واحدة..
وكم من الأيام ولت وهو وحيد بلا أنس، نعم بلا أنسها.. واقعا واسما وتفصيلا وإجمالا.. روحا وجسدا.. من لك يا سعد بعد أن غابت أنس الحياة عن حياتك!..
تطلعت توحيد لأخيها في اشفاق، وتضرعت في سرها أن تكون أنس الوجود وفضل بخير، فهي تدرك أن أمل سعد في بقائهما أحياء وعودتهما مهما طال الغياب، هو ما يبقيه حيا..
تنهدت.. وقلبها مثقل بالهم، وروحها عليلة بالكتمان، فقد كانت ترغب في اطلاع سعد على الكثير مما يدور حولها والذي بات شاقا على عقلها استيعابه، ولا قدرة لها على تفسيره، لكن كيف لها أن تثقل كاهلي أخيها بما يؤرق بالها، وهو على هذا الحال من الحزن والغم!..
الوضع بالدار، دار الحرانية، ما عاد مطمئنا، هواجسها تزداد تأكيدا في كل ليلة أن زوجها لا يبيت مع شفاعات كما كانت توهمها تلك الخبيثة، إذن أين يبيت وهدان ليلته!
ظلت تراقبه ليلة بعد ليلة، تدعي الخلود للنوم، وما أن ينهض من جوارها مغادرا الغرفة، حتى تنهض مهرولة في حذر خلفه، لكن ولا مرة استطاعت أن تلحق به، وفي ذات الوقت، لا تلمح له طيفا مغادرا الدار، إذن هو هناك بالدور الأسفل بصحبة شفاعات، كانت تثور وتثور غيرة وقهرا، لكن سرعان ما أن يعاودها تعقلها مدركة أن هذا حقها، وإن لمحبتها الحقة لوهدان، تجعلها تتغاضى عن شعور الغيرة الذي يتآكلها في مقابل أن يقيم العدل ولا يحمل وزر عدم تطبيقه، لكن ما اكتشفته فيما بعد أن وهدان لا يمر على غرفة شفاعات من الأساس.. أين تراه يذهب! تكاد أن تجن وهي لا تجد تفسيرا لغيابه اليومي، وعودته منهك القوى، يغطي رأسه الغبار، ويعلق بكفيه الثرى.. وكأنه.. وكأنه ماذا يا توحيد!.. سألت نفسها.. لترد في اضطراب.. وكأنه قادما من جوف قبر..
انتفضت توحيد من خواطرها على بكاء مختار مؤكدا على رغبته في تناول طعامه، ما دفع سعد ليؤكد عليها في إصرار: جومي ياللاه، شوفي ولدك.. شكله چاع، وخلي بالك على حالك يا توحيد، تعب الحبل باين عليكي.. وهدان كنه شايل يده، وسايبك لحالك!
أكدت توحيد في عجالة: لاه، وهدان! كيف ده! والله ما بيحمل علي الهوا الطاير.. ربنا يبارك لي فيه..
ابتسم سعد في شجن: طب زين جوي، ربنا يهني وهدان بتوحيد.. وتجوميلنا بالسلامة..
همست توحيد: يا رب يا سعد، حاكم الحبل المرة دي غير، ويرچع لنا البرنسيسة وفضل بخير يا رب..
همس سعد في قلب وجل: يا رب..
نهضت توحيد راحلة وولدها، بعد إصرار من سعد على مغادرتها حتى لا تتأخر عن زوجها ولا ترهق حالها بصحبته.. مؤكدا عليها أنه قادر على تجاوز الأمر.. فهل هو قادر حقا على تجاوز سلطة الغياب!..
صعد سعد لحجرته، يتلمس بالزوايا بقايا من بقاياها، عطورها المخبأة في ثنايا الأغطية والوسائد، وروحها التي تهيم بالمكان.. وضحكاتها الرقيقة التي يسمع صداها يتردد في براح روحه، فتبعث في الفؤاد ألف أمل يحيا على أمل تحقيق أيهم..
أخرج خطابها من جيب جلبابه الذي ما عاد يفارقه، فذاك أثرها الأخير الذي يملك، ليفضه ربما للمرة الألف على أقل تقدير.. لعل كلماتها تسكن ذاك الوجع الهادر بين جوانحه، وتطمئن ذاك الطفل الباكي بدواخله، أن ثمة لقاء بينهما عما قريب..
جال بناظره على الأسطر في هوادة، وكأنه يرتشف الحروف رشفة برشفة، وقد قرأ في صوت مسموع كلماتها، وكأنه يؤكد مع كل كلمة منطوقة، أن الوصل محتوم، واللقاء مؤكد..
الأحد الثامن من يونيه ١٩١٩..
زوجي الحبيب.. سعد بيه..
بعد الكثير من التحية لقلبك الحنون، والسلام لروحك الطيبة.. أود أخباركم أن الأمور سارت على أفضل مما توقعت، وقد عفا عنا والدنا كاظم باشا، وكذلك عن أخينا رستم، وفي انتظار تشريفكم جميعا لأزمير، لاستقبال والدنا لك سعد بيه كزوج لابنته، واستقبال حفيده الثاني، أو ربما حفيدته.. مع رستم أخينا وزوجه الجميل ألفت هانم..
بالمناسبة.. لم أكتب خطابي هذا دفعة واحدة، توقفت عن الكتابة ليوم كامل سعد بيه، فقد هاجت مشاعري وجلست لأبكي.. أعرف.. لعلك تتساءل الآن، لمَ الدموع يا أنس الوجود، وقد سارت الأمور بشكل طيب!.. وسيكون ردي، لأني اشتاق إليك سعد بيه، هل يجعلنا الشوق للأحباب نبكي كما الأطفال! تسيل دموعنا بلا قدرة على منعها، وتنهمر بلا قيود لمجرد ذكر اسمك على مسامعنا!..
توقف سعد عن القراءة.. وبدأ يعلو نحيبه.. لا يعرف كم من وقت ظل ينتحب حين قهره الحزن فبكى كطفل ضل عن درب أمانه وسكنه.. مسح دموعه كبرياءً.. وهمس وكأنه يخاطب طيف أنس الوجود، هامسا في وجل: ايوه يا أنس، والله وشوجي جاتلني..
استكمل القراءة في نبرة متحشرجة:..
أدركت الآن سعد بيه لم كان الشعراء يقولون دوما أن الشوق قاتل.. وأن الهوى مدلوله الشوق.. وأنا اهواك سعد بيه، واشتاق لكل ما يمت لشخصك بصلة.. آه.. إن أنس الوجود لمغرمة بك.. وتشتاق لقبلة الجبين الصباحية التي اعتادتها، ما أن تفتح عينيها صباحا على محياك البهي..
آه سعد بيه، أخذني البوح ونسيت أن أبلغكم أن ولدنا فضل في أحسن حال، عند بداية كتابة خطابي هذا، كان يمرح بالأسفل ممازحا جده، وتعلو ضحكاتهما حتى إني لأسمعهما الآن، وقد شرعا في وصلة لهوهما اليومي بالحديقة.. كم أنا سعيدة أن الأمور سارت على هذا النحو الجيد، وأن والدنا تقبل زواجي منك بشكل طيب، ويرغب في ملاقاتك عما قريب هنا، لنعود للمحروسة سويا..
فضل يبعث إليك قبلاته، ويحن إلى النعاس بين ذراعي والده، كما تحن والدته لتوسد صدرك، ملجأ أمانها من العالم بأسره..
آه سعد بيه، لو حاولت أن أخبرك لكم اشتقتك لن يكفي مئات الأوراق كخطاب أول أبدا.. لكن عليّ أن أنهي خطابي عند هذا الحد.. وسأحاول أن أكتب إليك ما استطعت إلى ذلك سبيلا..
تحياتي لتوحيد وولدها، ولا تنس سعد بيه، بلغ عني كل موضع في الرسلانية سلامي، فهناك على ربوة أرض البركة ضللت طريقي، وهناك اهتدينا كما اهتدى لعرفات كل من أدم وحواء وتقابلا بعد نزولهما من الجنة.. كما تقابلنا.. وصنعنا بأيدينا جنتنا على أرض الرسلانية، والتي أحن إليها حنينا ومحبة لسيدها الذي أعشق..
أنس الوجود..
ضم سعد الخطاب في حرص معيده لجيب جلبابه، متطلعا نحو الأفق البعيد صوب أرجاء الرسلانية، وكأنما يبعث لها بسلام حبيبته الغائبة، ورغما عنه انسابت مجددا دمعة على خده لم يقدر على مقاومتها.. مسحها في كبرياء رجل لم يكن الحزن ليكسره، هامسا في تضرع: يا رب..