-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 19 - 2 - الثلاثاء 18/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل التاسع عشر

2

تم النشر الثلاثاء

18/2/2025



أزمير ١٩١٩.. كوخ يلديز.. 

طرق نوري شباك الكوخ لمرتين قبل أن يدفع به قليلا للتسلل داخلا، ما أن وعى لهمس صوتها يعطيه الإذن بالدخول، فقد كان ذاك مطلبها، أن لا يتسلل لداخل الكوخ إلا بإذن منها، وقد فعل والتزم بالمطلوب حرفيا.. أصبح بقلب الكوخ، نافضا عنه نتف الثلج الذي بدأ يتساقط، تاركا ما طلبته على طاولة المطبخ، وهو يدفع عنه وشاحه الذي كان يتستر خلفه مغطيا ملامح وجهه، حتى يتسنى له النزول للسوق وجلب ما يحتاجه الكوخ من متطلبات، بآخر نقود كان يحملها.. 

تطلع نحو أنس الوجود وهو يراها تحاول دعك ملابس طفلها التي اتسخت، ما دفع ضحكاته عاليا، وهو يراها تجاهد على قدر استطاعتها بلا فائدة، ما دفعه ليطلب في تأدب: دعيه لي.. 

تركت الملابس ومفركها وتنحت جانبا، ليبدأ في تحريك الملابس بعد دعكها بقطعة الصابون الصغيرة التي تبقت، على ذاك اللوح الخشبي لفركها وتخليصها من اوساخها، هاتفا وهو يتطلع نحوها باسما: أوتعلمين! إن الحب أعمى بحق.. 

تطلعت نحوه لا تدرك ما يعني، ليستطرد موضحا وابتسامة على شفتيه: منذ سنوات طويلة خلت كان لقاؤنا، كنا نظن أن الحب أو ما ظنناه يوما حب وحده يكفي، وأننا قادرون على تغيير وجه العالم وتحدي الجميع، وافترقنا وكنت أظن أو اعتقد كلانا ظن أننا سنموت قهرا وشوقا، وأن الدنيا ستنتهي بهجتها يوم أن فرقونا قسرا، ومرت السنوات وها نحن هنا، أراك لا تحسنين بعض الأعمال البسيطة التي تستطيع أي امرأة عادية أن تقوم بها، فأدرك أي غباء كان يستولي على عقلي أيامها!.. فقد انقذك القدر من الوقوع معي حقا، فظلم كبير لأمثالك من النساء المرفهات، أن تصبح حياتهن معلقة برجل شقي مثلي.. ظلم عظيم لكِ، وأنانية كبيرة مني.. 

همست أنس الوجود مؤكدة: ما عاد هناك من فارق، ما مضى قد مضى، وعوضني الله عن أي ظلم تجرعته بحياتي.. 

أكد نوري وهو يلوي قطعة الملابس التي بين كفيه لعصرها، دافعا بها بالقرب من المدفأة التي قد جمع لها من باحة الكوخ الخلفية بعض الحطب، واشعلها من أجل التدفئة، مؤكدا في همس يحمل نبرة شوق: نعم، عوض الله كان حاضرا بحياتي أيضا.. 

همست أنس الوجود متسائلة في فضول: حقا!.. هل التقيت بامرأة حياتك!.. 

هز نوري رأسه مؤكدا: نعم، امرأة كانت كفيلة بقلب موازين حياتي بأسرها.. كانت أنا في روح امرأة.. تشاركنا نفس الجنون والأفكار.. دفعتني لمزيد من الصخب في التعبير عن رأيي، وامنت أني أستطيع بحق تغيير وجه العالم، عالمنا.. حتى.. 

ساد الصمت لبرهة قبل أن تهمس أنس الوجود متسائلة في فضول حذر: حتى ماذا!.. 

تنهد نوري ساردا: حتى غيرت عالمي بالفعل، ورحلت.. 

شهقت أنس في صدمة، ليستطرد هو.. وهو يفتح ذاك الكيس الذي يحوى ما ابتاع من السوق، وقد بدأ في إعداد بعض الحساء، متشاغلا: نعم، رحلت للأبد..فاضت روحها بين ذراعيّ وقد عانت داء الرئوي، وأنا بعيدا عنها بالسجن، لا أعلم عن حالها خبر، وما أن استطعت الهرب، وعدت إليها، حتى وجدتها تحتضر في شجاعة.. حاولت أن استبقيها.. لكن .. كان قد حان وقت رحيلها.. ولم تتمهل.. 

تنهدت أنس في شجن، ولم تعقب بحرف، ليهمس نوري وهو يضع القدر على النار: كانت كالضي الذي بزغ في العتمة، مبهر ومبشر، كما المعجزات التي تجيء بالعمر مرة، لكن نورها خبا بعدما انتهت من تعليمي دروس كثيرة، وما عاد لنوري إلا الأمل في اللقاء.. 

سالت دموع أنس الوجود هامسة: صدقت، ما عاد إلا الأمل في اللقاء.. 

بكى فضل من داخل الغرفة الوحيدة بالكوخ، ما دفع أنس الوجود لتنهض مسرعة صوب طفلها، أغلقت باب الحجرة في إحكام، وضمت طفلها لصدرها تطعمه، وقد زاد دمعها انهمارا شوقا لأبيه.. 

❈-❈-❈

الرسلانية.. ١٩١٩.. بيت الحرانية..

دخل وهدان حاملا جثمان طفله الوليد، متجها صوب مجلس شفاعات التي كانت تجلس في راحة، في انتظار ما تسفر عنه الأحداث حين وصلها أن توحيد تضع، والولادة متعسرة.. كان يعلو وجهها البشر والسعادة لكل هذه المجريات التي ما كانت تخطر على بالها، وأن يتم تنفيذ كل رغباتها بهكذا سرعة، وما أن وعت لوهدان قادم صوبها حاملا تلك اللفافة المكفنة، حتى تنبهت متطلعة نحوه في تعجب، وهو قادم نحوها في حال يرثى لها، وما أن أصبح قبالتها، حتى هتف في نبرة منكسرة: أهاااا، ولدي چه للدنيا يا شفاعات بس ميت، ارتاحي بجى، وريحيني وريحي الغلبانة اللي معملتش حاچة فدنيتها إلا إنها كانت ريداني.. 

انتفضت شفاعات في جبروت صارخة: وأني كنت ريداك، أني اللي عملت اللي ما ينعمل عشان ابجى معاك، وتبجي چوزي وأبو عيالي.. 

هتف وهدان في نبرة مهادنة: وخدتي اللي كنتي ريداه، واتچوزتك وبجيت أبو بناتك، ايه في!.. لا ليا ولا لها ذنب في أمر ربنا، هو مسير الجلوب.. بكفياكي يا شفاعات.. 

هتفت شفاعات زاعقة في نبرة شديدة: لاه، مش هرتاح إلا لما تكون لي وحدي، طلجها.. وأني اريحك واريحها.. 

همس وهدان في قلة حيلة: اطلجها!.. لاه يا شفاعات، خليها بعيد عند اخوها، بس بلاها طلاج.. لو ليا معزة عندك بلاها طلاج.. 

هتفت شفاعات في حنق: يا هطلجها، يا هتشوفوا مني انتوا الاتنين وچع عمر ما حد شافه، واديك دايج منه اهاا، وأنت شايل چتت ولدك على يدك.. 

همس وهدان في نبرة ذليلة: طاب حاضر، هطلجها يا شفاعات، بس وحياة الغاليين عندك، ما تضريها.. خلاص هتروح لحالها.. 

صرخت شفاعات في حنق، وهي تراه على الرغم من كل ما هو فيه من هم، لا يفكر إلا في توحيد وراحتها وعدم الاضرار بها.. ما دفعها لتترك المكان في هرولة، تاركة وهدان متحسرا أمام جثمان ولده.. وقد انفجر باكيا.. نفسه وولده وتوحيد.. 


الصفحة التالية