-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 19 - 3 - الثلاثاء 18/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل التاسع عشر

3

تم النشر الثلاثاء

18/2/2025



الرسلانية ١٩١٩.. دار مكحلة.. 

اندفعت شفاعات كما العادة صوب دار مكحلة إذا ما رغبت في مقابلة ذاك المجهول الذي ظهر لها فجأة من خلف أستار الغيب، وجعل كل أحلامها حقيقة، ونفذ انتقامها من توحيد وأولادها.. لولا تدخل سعد رسلان لكان ولدي وهدان قد رحلا وارتاحت.. 

وجدته ينتظرها، فدخلت وسألت في دلال: باينك كنت مستنظرني!.. 

قهقه المجهول مؤكدا: لاه، إنتي اللي جيباني، أنا هكون دايما هنا، أول ما يجي فبالك إنك عايزاني.. 

ابتسمت شفاعات في سعادة، واقتربت نحوه في خطوات كلها اغواء، وهي تهمس في نبرة تنضح فتنة: وأني أجدر استغنى، أني مهما عملت لك، مش هوفيك حجك أبدا، ده أنت بردت ناري من توحيد باللي چرا للواد التاني اللي كان چاي فالسكة.. وكنت هطير م الفرح لو كان الواد البكري راح وارتحنا.. اهو نجطع أي سلسال لنا معاها العيلة الفجربة دي.. 

هز المجهول رأسه متفهما، وهي تستطرد في نبرة كلها غل: بس هو سعد ده اللي لولاه، لكنا خلصنا.. 

مفيش تصريفة له ده راخر، عشان نخلصوا من كله!.. 

قهقه المجهول ساخرا: لا، مش كل اللي انتي عايزاه هتنوليه، واللي أقدر عليه بعمله، لكن في أمور لا ب أيدي ولا ب أيد حد.. وفي ناس مليش عليهم سلطان، وفي ناس تانية، هي اللي بتجيلي لحد عندي وتطلب مساعدتي كمان، ودول بقى عنايا لهم.. بس برضو كله بالمعقول.. 

هتفت شفاعات وهي تدنو من صدره في تمهل مغوي، هامسة تطلب في هوادة: طب بجولك! بكفاية كده على توحيد ووهدان، هو جالي إنه هيطلجها وهيرچع لي يبجى تحت رچلي.. أني هعوز ايه تاني!.. كفاية إنه يبجى معاي وهي عارفة، ومرمية فبيت أخوها وتموت من حسرتها.. أني مش عايزاها تموت، اللي بيموت بيستريح، أني عايزاها تتجهر الأول، وبعدين لو ماتت من جهرها، يبجى مليش صالح.. وجدام وهدان، أني عملت اللي عليا.. بس تبعد عنِه متجدرش تجرب، تفضل جاعدة كده مذلولة، لا هي جريبة وطيلاه، ولا هي بعيدة ومرتاحة.. 

همس المجهول بصوت كالفحيح، يخرج لاهثا من بين أنفاسه المتتابعة رغبة في تلك التي تمارس عليه كل أنواع الاغواء، مؤكدا في حروف متقطعة: ينفع يا شفاعات، واللي مينفعش نخليه ينفع عشان خاطر عيونك.. 

همست وهي تغمض عينيها في حركات مدروسة رغبة في التأثير عليه بسحر فتنتها: يخليك ليا، وميحرمنيش منك أبدا.. 

جذبها ذاك المجهول لأحضانه في تطلب شهواني، فقد مارست شفاعات عليه كل ألاعيب الاغواء التي لم يستطع مقاومتها، ليحصل على مكافأته التي ينتظرها لتنفيذه رغباتها.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٠.. 

مر ما يزيد عن الشهر، وقاربت توحيد على إنهاء فترة النفاس، لم تتقبل بسهولة موت وليدها، ولم تغفر لسعد أنه سلمه لأبيه لدفنه دون وداعها إياه، ولم تغفر لوهدان أنه فعل ولم يفكر في جعلها تلق النظرة الأخيرة على طفلها الراحل.. تضمه لصدرها للمرة الأولى والأخيرة، تتذكر ملامحه وتحفظها عن ظهر قلب قبل أن يودع قبره للأبد.. 

لم يكن سعد ليخبرها أن طفلها الذي اشتاقت رؤيته كان مشوها وما كان لها من قدرة على رؤية وجهه من الأساس، وأنه فارق الحياة برحمها قبل أن يولد وكاد أن يودي بحياتها.. لولا أن الله سلم.. 

لكن كان عزاء توحيد الوحيد في ولدها مختار، الذي كان عوضا لها عن أخيه الراحل، وكذلك عن زوجها الذي ما جاء ليطل مرة على امرأته التي كادت أن تفقد حياتها وهي تحاول أن تهب الحياة لولده، لكنها أيقنت أن حال وهدان لا يمكن أن يلام عليها، وأنه ما احترف البعاد إلا خوفا عليها وحماية لها من بطش شفاعات وجبروتها.. لكم اشتاقته!.. 

بكت توحيد في حسرة على حالها وحال قلبها في غياب وهدان، ذاك الذي كان العوض عن أيام الصبر الطويلة بلا زواج، والذي جاء كما تمنت، زوجا طيب المعشر، عاشق لا يرتضي عنها بديلا.. ذاقت معه وعلى يديه الشهد المصفى في أيام وليالي قربهما، وها هي تتجرع الحنظل في أيام بعادهما.. 

رآها سعد على هذه الحال عدة مرات، فكان يعزي ذلك لما جرى، فما وقع في الأسابيع الماضية لم يكن بهين، لكن عليه الآن أن يطلعها على ما عزم عليه أمره.. فاقترب ملقيا التحية، هامسا في هوادة، متسائلا: بجولك يا توحيد! 

لم تنتبه له كما كانت عادتها، بل كانت شاردة في ملكوت آخر، ما دفعه ليربت على كفها لتنتبه لوجوده، ما دفعه ليهمس من جديد: إحنا لازما نبعد عن هنا شوية يا توحيد.. 

همست في نبرة تقطر شجنا: ليه يا سعد!.. هنروحوا فين!.. 

أكد سعد: المحروسة.. ع البيت اللي اشتريته، هنجعد هناك، أني وإنتي ومختار.. وكل فترة هبجى أنزل على هنا أشوف الأخبار.. 

همست توحيد في نبرة منكسرة: اللي تشوفه يا سعد، اللي فيه الخير اعمله، وأني وياك.. يعني هو بجيلنا ايه فيها!.. 

كان مختار يجري هنا وهناك وقد بدأ المشي والجري بكل مكان، وأصبح التركيز معه ضروريا، فما عاد هناك من أمان لتركه وحيدا بعد ما حدث من أبيه، ما دفع سعد ليؤكد: ده لچل مصلحتك يا توحيد، ولچل ما نبجوا مطمنين على مختار.. اديكي واعياله، عايز غفير مخصوص يبجى وراه.. ومصباح اهااا جاعد على راسه كيف الددبان، بس برضك الأمر ما يسلمش.. 

هزت توحيد رأسها متفهمة، وعيناها تتطلع للبراح البعيد بلا روح، ما دفع سعد ليربت على كتفها مواسيا، فهو مدرك تمام لكسرة روحها وفقدانها لطفلها، وبعاد وهدان عنها، فقد عانى ويعان نفس الوجيعة، وغياب أنس الوجود التي ما أدرك عنها حتى الآن خبرا، يجعله يكاد أن يهيم كالمجدوب باحثا عنها، حتى أنه فكر في لحظة جنون، أن يحاول السفر إليها، لكن كيف وبأي وسيلة!.. كل الطرق إليها مسدودة، وكل الوسائل غير متاحة، ولا شيء يدعوه للتصبر إلا حسن ظن في الله، أنه استودعها وولدها إياه، وهو لن يضيعهما.. لكن الشوق فاق الحد، والصبر بدأت حباله في الاهتراء.. وما عاد بالصدر إلا قلبا يحترق رغبة في الوصل المستحيل.. 

نهض سعد يهم بالمغادرة، وهو يطالبها في لطف: طاب چهزي حالك إنتي ومختار لچل ما ننزل المحروسة كمان يومين.. 

وما أن توجه صوب الدرج حتى توقف في قلق، فقد كان وهدان هناك على أعتاب الدار يقف حائرا، كمن دفعه أحدهم دفعا للقدوم ولا قدرة له على أن يخطي لداخل الدار، عيناه لا تحيد عن مرأى توحيد التي لم تفطن لوجوده بعد، يتملى من محياها، ويسقى الروح بماء طلتها، كان سعد يشفق على حاله، ويدرك أن وهدان مغلوب على أمره، فقد كان يدرك بفطنة العاشق، أن وهدان يهيم عشقا بتوحيد، وأن تلك النظرات الخاطفة التي يصبر القلب بها، نظرات لا تحمل في طياتها إلا الهوى الصافي.. 

هتف سعد راغبا في إدراك توحيد لوجود وهدان، لعلها تهنأ ولو لبرهة بنظرة تبرهن لها أنها ما تخلى: اتفضل يا وهدان، واجف ليه ع العتب!.. أدخل يا راچل.. دي دارك برضك.. 

تنبهت توحيد، بل تنبهت كل خلية من خلاياها لصوت وهدان، الذي جعل الروح تدب من جديد في حشاها، وقد هتف في نبرة متأرجحة الأحرف، لا يستقيم لها معنى: تسلم يا سعد بيه، بس أني چاي لچل ما.. أصلك يعني.. 

نزل سعد الدرج، وما أن أصبح قبالة وهدان حتى حاول أن يجذبه لداخل الدار، لكن وهدان تشبث بموضعه وكأنه صار وتدا بالأرض، هاتفا لسعد بعد أن استجمع شتات أحرفه المبعثرة: لاه، مدخلش يا سعد بيه، مبجاش ينفع، لو رچلي خطت داركم، هيكون ده آخر اللي بينا.. 

هتف سعد، وقد تعجب لكلمته: وأنت مريدش يكون اللي ما بينا له آخر يا وهدان!.. 

هتف وهدان وقد بدأ صوته يتحشرج تأثرا: لاه، والله لو كانت روحي هي المطلوبة ما تغلى، لكن.. مش أني المجصود يا سعد بيه.. ولچل ما احميها واحمي ولدي، أني چاي .. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يلتقط وهدان أنفاسه بصعوبة، هاتفا في عجالة، قبل أن يفقد شجاعته التي استجمع أطرافها بشق الأنفس: چاي لچل ما أجول، أختك عندك يا سعد بيه، خلي بالك عليها، وحط مختار تحت چناحك، يا توحيد.. 

نهضت توحيد من موضعها تسير في هوادة، ضربات قلبها أشبه بطبول حرب شعواء، في انتظار ما يرغب في قوله، والذي نبأها حدسها أنه لن يكون على هواها، وتوقفت حين طلت عليه من موضعها بشرفة الدار المطلة على بابه الرئيسي حيث كانت تجلس، ليستطرد وهدان وهو يزدرد ريقه بصعوبة، وقد طال تطلعه لموضعها، حتى ظن سعد أن الرجل قد نسى ما كان في سبيل النطق به، مستشعرا القهر الذي يتسرب من أحرفه، وخاصة حين نطق أخيرا: إنتي.. طاالج.. 

ساد الصمت للحظة، وهم وهدان بالاندفاع راحلا، إلا إن توحيد نادت عليه في نبرة تحمل شوق الدنيا كلها: وهدان!.. 

تسمر وهدان موضعه، واستدار نصف استدارة متطلعا نحو موضعها مستفهما، فما كان له أن يتوجه إليها بكليته، حتى لا تضعف مقاومته، فيندفع صوبها ضاما ومطوقا، وهي تهمس بهذه النبرة التي تشقيه وتعذبه شوقا ورغبة: خلي بالك على حالك يا غالي.. 

لم ينطق وهدان حرفا، فقد تعطلت لغة الكلام، طال تطلعه صوبها بلا حراك، حتى اندفع أخيرا مبتعدا في هرولة كادت أن تكبه على وجهه، وما سُمع إلا صوته زاعقا في وجع: يا رب.. 

بينما اندفع سعد صوب موضع توحيد، التي ما أن فتح لها ذراعيه مستقبلا، حتى اندفعت صوب صدره، تحتمي باكية في قهر مما كتبته عليها المقادير.. تبكي فراق بلا رغبة، وابتعاد بلا شفقة، وانفصال بلا جريرة.. فاطبق سعد عليها ذراعيه، لا يعلم ما عليه فعله، إلا مشاركتها البكاء سرا.. فما أقسى مر البعاد، والقلوب ما تزال على قيد الشوق!.. 

الصفحة التالية