رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 19 - 4 - الثلاثاء 18/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع عشر
4
تم النشر الثلاثاء
18/2/2025
أزمير ١٩٢٠..
شهور مرت وهي لا تخرج من كوخ يلديز، يقوم نوري عند الحاجة بشراء بعض الحاجيات الضرورية لها ولطفلها، فما كان يرغب في اعتياد باعة السوق على مرآه، تعلمت في خلال هذه الأشهر المنصرمة الكثير، فما عادت تلك المرفهة التي كانت الخادمات تتسابق على خدمتها، بل أضحت سيدة قادرة على العناية بنفسها وولدها، فقد قامت بصنع الحساء كما رأت نوري يعده عدة مرات، تعلمت الحياكة، وأصبحت ماهرة في غسيل ملابسها وملابس طفلها، وأضحت ماهرة في تشغيل المدفأة بعد أن فشلت مرات ومرات في إضرام النيران بالحطب، حين كان البرد يكاد يودي بها وفضل ولدها، حين انطفأت المدفأة وما كان هناك من حطب يساعد على بقاء الدفء داخل الكوخ، وهم على أطراف تلك الغابة التي يأتي من قلبها الهواء بارد كنصل حاد، ولم ينقذهما يومها إلا وصول نوري الغير مقدر من إحدى غيباته التي كانت تستغرق عدة أيام.. كان يخبرها أنه خارج وقد لا يعود إلا بعد أيام.. وقد لا يعود مطلقا..
كانت تعلم أنه وجد الوسيلة التي يتواصل به مع خليته الفدائية من المناضلين، وكان قادرا على عدم المجيء للكوخ مرة آخرى والبقاء بعيدا مع زملائه، لكنها شكرت له أنه يحمل مسؤولية بقاءهما بخير، وأنه يغيب ويعود ليضع على طاولة المطبخ بعض المال، مؤكدا: دعيه لعله ينفعك وولدك، إذا ما غبت بلا رجعة.. فقد يكون معينا لكِ حتى تقدري على التصرف.. وتوفير لقمة العيش لكلاكما..
كانت تهز رأسها شاكرة، بل ممتنة، فحتى هذه اللحظة، هي في أمان بفضل ذاك الرجل الذي يؤمن لها ما يستطيع حتى لا تلجأ للخروج والبحث عن عمل لا تجيده، إذا ما وجدت من يقبل بتوظيفها من الأساس.. هي تعترف أن الحال بلا ظهور نوري كان يمكن أن يصبح كارثيا.. وأن وجوده في هذه اللحظات الحرجة من حياتها كان رحمة من الله لها ولولدها.. وها هي تضع لها طبق من الحساء كما تعلمت صنعه، مع بعض الأصناف البسيطة الآخرى، لتتناول غذائها وطفلها، تتطلع لقسمات فضل المحببة، وعيناه التي تشبه عينى سعد والده، لتستقر في الحلق غصة منعتها من إتمام طعامها، فالشوق لسعد فاق حد القدرة على التحمل..
أما من وسيلة لطي الأرض، وجلب الأحباب لمعقل الروح حيث لا غياب يحول دون لقاء، ولا فراق يحجب العين عن طلة لوجه محبوب!..
همت بحمل أطباق الطعام بعيدا، لكن تلك الطرقات على نافذة الكوخ الخلفية، انبأتها أن ذاك نوري، وقد وصل بعد غياب دام لسبعة أيام كاملة..
لم تأذن له كما المعتاد، وانما نهضت بنفسها رافعة حاجز النافذة، تعرض عليه في ترحاب: تفضل نوري أفندي، هل أحضر لك بعض ال..
توقفت عن إتمام سؤالها، حين مر بصعوبة من النافذة للداخل، متحاملا على نفسه، فقد كان مصابا، كما بدا لها حين تأوه وهو يحاول الولوج بجانب جسده من طاقة النافذة الضيقة، وما أن أصبح قبالتها، حتى سألت تطمئن: هل أنت بخير نوري أفندي! تبدو متوجعا!..
أكد نوري وهو يشير لموضع ما بالقرب من كتفه: نعم، إصابة بسيطة لا مشكلة، اعتاد جسدي على مثل هذه المعضلات الصغيرة، المهم.. هل أنتما بخير!..
ربت نوري على رأس فضل في لطف، ليبتسم فضل له في ود، وقد اعتاد وجوده بعض الشيء، بعد أن كان يخشاه، لترد أنس الوجود في تأكيد: الفضل لك بعد الله، فلولا ما تؤمن به وجودنا قبل أن تختفي، ما كنت وولدي بأمان حتى اللحظة، أنا حقا ممتنة لكرم أخلاقك!..
ابتسم نوري مقرا: لا أي كرم أو فضل في الأمر، هذا واجب.. وأنت هنا..علينا تأمينك حتى العودة لزوجك بصحبة طفلكما في سلام..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يستطرد نوري مؤكدا: ما كان علي القدوم إلى موضعكما، لكن قلقي أن تكون الأمور قد ساءت في غيابي، وما استطعتي تأمين معيشتك وفضل، جعلني اخاطر قليلا وأت إلى هنا..
هتفت أنس بعرضها من جديد: عليك أن تتذوق الحساء الذي أعددته، أرجو أن يكون على قدر كاف من اللذة، مماثل للحساء خاصتك..
ابتسم نوري وهو يجلس للطاولة في هوادة مراعيا جرحه، منتظرا الحساء الذي وضعت طبق منه قبالته على المائدة، منتظرة رأيه في لهفة، تناول رشفة صغيرة فكان صوت همهمة قوية هو رده، مؤكدا في استحسان: إنها رائعة، بل هي أروع مما اصنعها..
ابتسمت أنس الوجود في حياء: أنت تبالغ، وتحاول اطراء محاولاتي لا أكثر..
فهتف نوري مؤكدا: صدقا، هي أكثر روعة ولذة مما أصنع وبلا أدنى مجاملة، هكذا هن بعض النساء، تصنع من المر شراب حلو، يتجرعه الرجال في استحسان مطالبين بالمزيد، وتنسجن من المستحيل بعض الممكن.. ليصير الرجال عظماء كأبطال الحكايات..
أدركت أنس الوجود أنه يشير بكلماته العذبة تلك لزوجته الراحلة التي على ما يبدو كان يعشقها بحق، حتى أنه شرد لبرهة في الفراغ القائم قبالته، قبل أن يحني رأسه دافعا بملعقة آخرى من الحساء الساخن بجوفه.. وما أن هم بثالثة، حتى استشعر بحسه الثاقب أن ثمة حركة غريبة بالخارج، ما جعله يشير إليها أن تحمل الصغير للداخل في هدوء، انتفضت أنس في حذر حاملة فضل تسير في خطوات حذرة نحو الغرفة، مغلقة بابها عليها وهي تضم طفلها لصدرها تبتهل أن يكون الأمر الذي شك فيه غير صحيح، وان ذاك الصوت بالخارج لحيوان خرج بحثا عن طعام في هذه الأوقات الباردة.. فاقترب حين اشتم رائحة الحساء واستشعر الدفء المنبعث من الكوخ.. لكن للأسف كل آمالها تبخرت ما أن دُفع باب الكوخ الخارجي في قوة، لينفرج معلنا عن جنود اليونان بذيهم العسكري المميز ذي اللون الأزرق المائل الرمادي، وقد استطاعوا حصار الكوخ وإيقاع نوري في الفخ، ليجيء الدور على غرفتها التي دفعوا بابها بالمثل وجذبوها وفضل ولدها المذعور الذي تشبث بها في خوف باكيا..