رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 19 - 5 - الثلاثاء 18/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع عشر
5
تم النشر الثلاثاء
18/2/2025
دفع الجنود بنوري للخارج في قسوة، وحاول على قدر استطاعته اخفاء ألمه المتزايد من دفع الجنود اليونان له في عنف، لكنه تأوه أخيرا حين فاض حد الالم اللامعقول، ما دفع أحد الجنود لنزع سترته عن صدره ممزقا، لتظهر بقعة دماء كانت مستورة تحت غطاء طبي محكم، ليتأكد للجنود أن ذاك هو من كانوا يبحثون عنه منذ شهور وها قد سقط ذاك الوغد الذي قام بعدة عمليات ضد معسكراتهم ومواقعهم.. تحامل نوري على ألمه صارخا ما أن رآهم وقد أمسكوا بأنس وولدها، مؤكدا في ذعر: اتركوها وولدها، هي لا ذنب لها، هي فقط تصنع لي الطعام وتغسل ملابسي مقابل بعض المال، لا شأن لها بما أنا فيه..
لم يقتنع ذاك الضابط الذي كان منتشيا لنجاح المداهمة التي اسفرت اخيرا عن سقوط نوري الذي كان القبض عليه أمل لكل ضابط، ولم يقتنع بكلام نوري عن أنس الوجود، أمرا في قسوة: لن أترك مخلوق له علاقة بك، إلا وكان محط استجوابنا، لذا فهي معنا، حتى اشعار آخر..
هم الجنود بدفع أنس الوجود لداخل عربة بها الكثير من العساكر، وهي تضم طفلها المذعور الذي علا بكائه، حاولت على قدر استطاعتها مقاومتهم مؤكدة أن لا دخل لها فيما يجري، مع صرخات نوري المؤكدة على ذلك، والذي لم يخرس إلا حين ضربه أحد الجنود بعقب بندقيته، مصيبا رأسه بجرح نازف جعله يسقط في قلب العربة متألما..
وقفت تلك العربة الميري للقوات اليونانية بالقرب، وما أن ترجل منها ذاك الرجل، الذي سار نحو ما يحدث في خطوات واثقة، حتى هتف حين أصبح بقلب الحدث، وبصوت عميق يحمل تساؤلا عن هذا الشغب: ما الذي يجري هنا بحق السماء!..
توقف جميع الجند في احترام، ورفع الجميع اكفهم في تحية عسكرية صارمة، ولم ينطق أحدهم بحرف واحد.. ردا على سؤاله المنطقي..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
انتهى الصخب الدائر حول كأس المرماح الذي كان من نصيب الرسلانية على يد حبيب، وكل ما كان يشغله هل ما رآه كان طيفها الذي لاح له من خلف شجرة الكافور الضخمة، أم أنها هنا بحق!..
ترك حبيب محمود مع شبل، وأعطاه الكأس ليضعه بالمكتبة في غرفة الإستراحة، وجذب لجام أليف حتى الاسطبل، تاركا إياه في موضعه المعتاد، واضعا له التبن ومكافئا بقطع من السكر التي تقبلها الفرس في صهيل فرح، وقد بدأ يخلع عنه سرجه الفضي، حتى يحتفظ به في مأمن، بعيدا عن أيدي الطامعين، فذاك السرج الثمين لا تنحصر قيمته في قيمة مادية فقط، بل في قيمته الأثرية.. إنه سرج جده سعد رسلان الذي كان يُوضع على ظهر فرسه العربية الأصيلة التي جاء من نسلها فرسه أليف، والتي تعد في حد ذاتها ثروة ثمينة آخرى..
هم بالخروج من الاسطبل حاملا السرج، إلا أن صوتا مألوفا له، بل صار محببا هتف به في فرحة: مبروك..
انتفض متجها بكليته صوب صاحبة الصوت، متسائلا وكأنه لا يصدق وجودها: الأستاذة!.. يا مرحب..
ظهرت من خلف ذاك الحاجز الذي كانت ترتكن عليه متطلعة نحوه حين دخل الاسطبل وتشاغل بفرسه وسرجه، أصبحت التفاصيل الصغيرة التي تخص ذاك الرجل ممتعة للمتابعة فجأة.. على الرغم من كونها تفاصيل بسيطة قد لا تلفت انتباه أحد إلا أنها لفتت انتباهها وأصبحت تمثل متعة خاصة بها..
هتفت بابتسامة: مبروك ع الكاس، مع إني معرفش ده بتاع ايه! بس مبروك على كل حال..
تردد مضطربا وهو يجيب، يحاول أن يسقط ناظريه على كل المواضع إلا وجهها ذو القسمات المباركة والتي تذهب بثباته، وتسافر به في رحلة بعيدة نحو المجهول الذي لم يخبره من قبل: الله يبارك فيكِ يا أستاذة، ده كاس المرماح.. معرفش تعرفي يعني ايه ولا لاه..
ابتسمت مؤكدة: لا معرفش، بس واضح كده من اسمه إنه حاجة فيها جري أو سباق يعني.. أظن كده.. وخاصة لأن أليف كان حاضر فالصورة..
قالت كلماتها الأخيرة وهي تربت على عنق الفرس في أريحية، ما جعل الفرس يحمحم في سعادة، وهو يمسح وجهه برأسها، ما جعلها تضحك، ليسقط مع علو كل ضحكة رنانة.. كل ثبات ادعاه في خبر كان، فاندفع يتشاغل عنها بالبحث عن قطع سكر باقية بجيب جلبابه، أخرج مكعبين اسقطهما بباطن كفها حتى تقدمهم لأليف عربون محبة، وصداقة تولد بهذه اللحظة..
همس حبيب بأول سؤال طرق باب عقله المشوش الأفكار لحضورها الطاغِ: رچعتي بسرعة مطولتيش الغيبة، مع إنك وإنتي مروحة جلتي إن عندك حاچات كتير فمصر ولازما تخلصيها!..
اضطربت لسؤاله العفوي، وساد الصمت لبرهة، قبل أن تهمس بصدق وهي تهم بالخروج من الاسطبل، وهو بعقبها: خلصت بعضها فعلا.. وفي حاجات حسيت إن لازم الواحد يفكر فيها وهو هنا..
هتف حبيب في أريحية: حسيت إنك رايحة تفكري هناك فمصر، بعيد عن هنا فاللي شاغلك.. مش العكس!..
تطلعت نحوه في تعجب، وهما سائران جنبا لجنب، وتساءلت بنفسها في تعجب، هل دواخلها واضحة له بهذه الصورة، حتى أنه قرأ ما بنيتها دون حتى أن تفصح!.. أن ما يخبرها به اللحظة هو مجرد كلام للدردشة العادية ولا يجب أن تحمله من التأويلات أكثر مما يحتمل!..
تنبه حبيب لنظرتها الجانبية الخاطفة، فابتسم في سماحة، ابتسامة أدركتها وتنبهت لها وهي تشرق على قسمات وجهه الرجولية، فخفق شيء ما بصدرها، جعلها تنكس الرأس وعينيها تتابع خطواتهما المتوافقة حتى بوابة السراي.. ليدفع حبيب بالسرج لشبل ليضعه بالاستراحة جوار الكأس حتى يأتي ويحفظهما في مكان يليق بقيمتهما، وهم بدخول السراي إلا أن أنس همست في رجاء: ممكن نتمشى شوية!..
همس حبيب مؤكدا: ايوه وماله، بس أني جلت إنتي لسه راچعة من سفر طويل وعايزة ترتاحي!..
أكدت أنس: لا، عايزة اتمشى شوية..
هز حبيب رأسه موافقا، مشيرا للطريق الضيق قبالتهما، وشرعا فالمسير.. وقد ساد صمت صاخب بينهما، لم ينطق أحدهما بحرف خلال عشر دقائق كاملة، كان يدرك ربما بحدس قوي، أن روحها تحتاج للسكينة، وأن الصمت هو أكبر هدية يمكن أن يقدمها لها في هذه اللحظات، وقد قرأ على قسمات وجهها ذاك التيه والتخبط، كما لم يره على وجهها من قبل..
زعق صوت جهوري من خلفهما، ما جعلها تنتفض وكادت أن تسقط، لولا أنه كان حاضر بقوة، وتشبثت بذراعه في استماتة، هاتفا في لهفة: يا ساتر، إنتي تمام!..