-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 23 - الثلاثاء 8/4/2025

 


قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الثالث والعشرون


تم النشر الثلاثاء

8/4/2025


٢٣- لكنها الحياة..

الرسلانية ١٩٢٢.. 

تسلل وهدان لداخل داره في حرص تام، صاعدا الدرج نحو حجرته بالطابق العلوي للدار، والتي اتخذها ملجأ له بعيدا عن شفاعات وأفعالها، تلك الحجرة التي كانت يوما مستقره وتوحيد، والتي شهدت أروع أيام حياته ولحظاته مع حبيبته الغالية، والتي كان وما زال لا يجد فيها إلا الراحة والسكينة التي افتقدهما ما أن أقصى توحيد بعيدا عن عالمه، خشية عليها من أفعال شفاعات ومكائدها، وحماية لولده الوحيد مختار.. 

دخل وهدان الغرفة وهو يحمل ذاك الطشت النحاسي الواسع، وضعه جانبا في هدوء وحذر حتى لا يصدر صوتا يكون دافعا لقدوم شفاعات لاستطلاع ما يفعل، طل برأسه لخارج الحجرة يتأكد أن ما من أحد قد فطن لما يفعل، فأطمأن أن الأمور هادئة ولا أحد من خدم شفاعات قد أدرك قدومه من الأساس، ما حثه ليدخل مغلقا عليه باب الحجرة في حذر شديد.. واضعا الطشت النحاسي في منتصفها تقريبا، خالعا عنه ملابسه بالكامل، مندفعا صوب مكان مستتر بأحد أركان الغرفة، حيث أخرج ضالته، متناولا تلك الزجاجة التي كان الشيخ رضا المحمدي قد دفعها لكفه حين مر عليه بالمقام، أمرا إياه بافراغها على سائر بدنه في مكان طاهر بعيدا عن بيت الخلاء، والقاء الماء الناجم عن غسله بعدها.. داخل غيط مزروع أو أرض براح.. وها هو يفعل.. منفذا تعليماته بالحرف الواحد.. جذب بأسنانه عن فوهة الزجاجة غطائها من الفيلين، ملقيا به جانبا، ووقف في منتصف الطشت النحاسي بقلب واجف، وقد شرع رويدا رويدا في إفراغ محتويات الزجاجة على قمة رأسه لينساب سائلها على سائر بدنه على مهل كما نصحه الشيخ رضا. 

كانت شفاعات في تلك اللحظة تتقلب على فراشها في غفلة عما يدور تحت سقف دارها، كانت غارقة في سبات عميق ولا تدرك ما يجري بعد أن فقدت الرغبة والأمل وتملكها اليأس من إعادة وهدان لسابق عهده، ذاك الزوج المحب، على الرغم من أن كل ما فعلت لم يكن إلا لهذا الدافع من الأساس.. حتى أنها وبعد العديد من المحاولات المستميتة، التي باءت جميعها بالفشل، ما عادت تحاول.. فقد اكتفت بأن وهدان حتى وهو على هيئته تلك، هو لها وحدها دون شريك ينغص عليها حياتها، وينل منه ما لم يكن يوما لها، لكن ذاك المجهول زارها في منامها زاعقا بها أن تنهض، فما يحدث اللحظة بقادر على تخريب كل ما سعا إليه لسنوات.. 

انتفضت شفاعات تبحث عن ذاك الصوت الذي هزها بهذا الشكل المرعب فلم تجد مخلوقا بالغرفة، إلا أنها قررت النهوض لتفقد ذاك الرجل الذي احتار فيه أمرها.. 

صعدت الدرج في هوادة، وما أن بدأت تقترب من باب حجرة زوجها، إلا وبدأت الرجفة تنتابها، توقفت لبرهة لا تدرك ماذا دهاها، ولم هذه الرجفة التي تشمل سائر جسدها!.. اقتربت من جديد لباب الحجرة لتتوالى الرجفات بشكل متتابع أشبه بصاعقة تملكت أطرافها ما حثها على الوصول مهرولة للحجرة دافعة بابها في شدة وعزم، لتجد زوجها يقف في وسط الغرفة كما ولدته أمه داخل طست نحاسي، يسكب على بدنه محتويات الزجاجة التي يرفعها فوق رأسه والتي لا تعرف على ماذا تحتوي.. ولم يهتز له ساكن أو يطرف له جفن، متجاهلا دخولها العاصف ذاك، وقد زادت ارتجافات جسدها قوة وانتفاضا وهي تزعق في صوت ثعباني لم يكن يوما لها: ايه اللي بتعمله ده يا حزين!.. هات الجَزازة اللي ف يدك دي!.. 

فتح وهدان عينيه متطلعا نحو شفاعات في لامبالاة، هامسا في هوادة، أمرا في حزم: اخرچي، وخدي الباب في يدك وغوري، وملكيش صالح باللي بعمله.. 

جزت شفاعات على أسنانها، وقد بدأت تشب على أطراف أصابعها برعونة في محاولة للوصول للزجاجة التي يرفعها وهدان فوق رأسه عاليا، حتى لا تصل لها، وحتى لا تعطي له الفرصة ليكمل ما بدأه بإفراغ سائلها على جسده في هوادة، ما جعله ينفعل دافعا عنه شفاعات في قوة، أمرا من جديد وبصرامة: غوري، وبعدي يدك عني، مش هنولهالك يا شفاعات.. مش هنولك الجزازة ولو فيها موتي.. 

صرخت شفاعات وقد أصبح وضعها خارج عن السيطرة تماما وهي تأمر وهدان في نبرة أشبه بالفحيح: جلت لك ناولني اللي فيدك ده، عاطيهولي و... 

لكن شفاعات توقفت وبدأت في الصراخ في ألم، وقد مستها نقطة من سائل الزجاجة الذي كان ينسدل على بدن وهدان على الرغم من محاولتها إيقافه، مبعدة يدها عن وهدان قسرا، متطلعة في غل واضح يبرق من نظراتها المخيفة نحو موضع الوجع بكفها.. والذي صار أشبه بأثر حريق مادة كاوية يأكل جلد كفها.. 

تطلعت شفاعات صارخة من جديد نحو وهدان، تسأله في ثورة عارمة: مين اللي عطاك الجَزازة دي! جول!.. انطج!.. مين اللي شار عليك بها!.. انطج.. 

تطلع وهدان نحوها في لامبالاة.. غير عابء بثورتها.. وهي تعيد سؤاله لعلها تعلم من أين له الحصول على مثل ذاك السائل الكاوي الذي لم يصبه هو بأذى وهو يغمره كليا، بينما ترك أثر حرق بشع على سطح جلد كفها بهذا الشكل، لكن وهدان لم يجب، بل ظل يتمتم ببعض الكلمات التي أعادها عليه الشيخ رضا حين أعطاه الزجاجة.. حتى حفظها جيدا.. مؤكدا عليه أن يكررها ما أن يوشك سائل الزجاجة على النفاذ، ما دفع شفاعات للدوران حول نفسها كالتائهة منزعجة من وصول همسه ذاك لمسامعها، حتى انتهى بها الأمر لسد آذانها بباطن كفيها صارخة وهي تندفع مغادرة الحجرة في عجالة، تاركة وهدان خلفها وهو يتمتم أدعيته عاملا بنصيحة الشيخ رضا بحذافيرها، حتى انتهى أخيرا.. جالسا في قلب الطشت، وقد شعر أنه وبعد سنوات طوال، بدأ ولو قليلا.. يستعيد وهدان على صورته الأولى.. 

❈-❈-❈

أزمير ١٩٢٢.. 

طرقت باب حجرة مكتب القائد نيكوس، لم يرد معطيا لها الإذن بالدخول، ما دفعها للطرق من جديد، لكن ظل الأمر على ما هو عليه، بلا استجابة من داخل الغرفة ما دفعها لتفتح الباب في هوادة، وهي تحمل صينية القهوة، طلت برأسها في حذر، لتجده يجلس على مقعده المفضل، منحن الجسد للأمام، واضعا رأسه بين كفيه في قلة حيلة، دخلت وهي لا تعلم هل عليها التقدم للداخل من الأساس، أم أن عليها الرحيل بقهوته دون تقديمها!.. غلب على اختيارها الخيار الأول، لتتقدم نحو الداخل واضعة صينية القهوة على الطاولة المعتادة جوار مقعده، هامسة في نبرة خفيضة: القهوة جاهزة كما أمرت سيدي.. 

تنهد نيكوس رافعا رأسا مكدودا، ليطالعها وجهه الذي علت صفحته الجروح، منذ آخر مرة قدم إليهم من ميدان المعركة، بدأت بعض الجروح في التماثل للشفاء، لكن البعض الآخر خاصة ذاك الذي يعلو حاجبه الأيسر، لم يبرأ بعد، وربما ترك له ندبة تحمل ذكرى هذه الأيام.. متطلعا نحوها في نظرة مطولة هامسا: لا رغبة لي في تناول قهوة المساء، لكني أرغب في السير بالحديقة قليلا، فهل يمكنكِ مرافقتي!.. 

لم تنطق أنس الوجود حرفا، هي تدرك أنه تبدل كليا في معاملتها وطفلها، لكنها ما زالت تراه العدو الذي لا يؤمن جانبه، وكان الحرص دوما هو الأسلم في معاملتها له، قررت الاعتذار بدبلوماسية، لكن تلك النظرة التي تحمل رجاء العالم والتي رفعها نحوها متوسلا، وهو يهمس: رجاءً، الليلة لو تُركت للوحدة فريسة سائغة لقتلتني، فكوني بالقرب.. 

ساد الصمت لبرهة، وأخيرا هزت أنس رأسها في طاعة، لينهض من موضعه في سبيله للحديقة وهي خلفه تتبعه في اضطراب.. 

سارا خطوات بلا كلمة قد تجرح ذاك السكون الذي يعم الأرجاء إلا من صوت هسيس بعض هوام الأرض وطرائق الليل الساكنة بين الحشائش والقابعة بين أغصان الأشجار في تلك الغابات التي تحيط بالمكان.. لينطق نيكوس أخيرا: قلبي يحدثني أنها النهاية!.. 

همست تسأل في قلق: أي نهاية تقصد!.. 

أكد في هدوء: نهاية بقاءنا هنا في الأراضي العثمانية، جيش كمال أتاتورك ينزل بنا الهزائم واحدة تلو الآخرى.. وهي مجرد مسألة وقت لا أكثر، حتى نعلن رحيلنا عن أراضيكم.. 

على الرغم من حالة الفرح التي اجتاحت دواخلها، لم تعلن أنس الوجود عن ذلك ولو بحرف، حتى أنها حافظت على ملامحها محايدة تماما في حضرته، حتى تأمن على نفسها، ليستطرد هو حين لم يجد منها تفاعلا على كلماته: ربما علي الإعتراف أن هذه الحرب قد غيرت داخلي الكثير.. وأني ربما أترك عند عودتي لليونان.. حياة العسكرية، واتجه لإحتراف عمل آخر.. 

همست أنس في نبرة هادئة: لا أراك إلا رجلا عسكريا من الطراز الأول، ولا أتخيلك غير ذلك.. 

ابتسم نيكوس هامسا في نبرة تحمل الكثير من الحسرة: نيكوس لم يكن يوما ذاك الذي يقف أمامك، لكن كم من أدوار تدفعنا الحياة لأدائها، وهي لا تناسبنا، ولم نكن أبدا لها.. لكنها الحياة.. 

تنبهت أنس الوجود أن نيكوس على حق، فها هي.. والتي كانت يوما سيدة هذا القصر، جاء عليها الدور لتصعد على خشبة مسرح الحياة لتقوم بدور الخادمة محاولة إتقانه على قدر استطاعتها أملا في الحفاظ على سلامتها وطفلها لحين العودة يوما ما إلى زوجها الحبيب الذي تشتاقه حد اللامعقول.. 

وكأن نيكوس قرأ أفكارها، فسأل بغتة: كيف هو زوجك!.. 

انتفضت داخليا في محاولة لضبط أنفعالها وإظهار اللامبالاة، لكنها لم تستطع التحكم في نبرة صوتها التي اهتزت عند همسها اسمه في شوق فاضح: سعد بيه!.. 

تطلع نيكوس لها بنظرة جانبية مدركا تماما أن هذه المرأة عاشقة حتى النخاع، ليسأل في فضول: ما معنى اسمه! سعد!.. اعتقد أنه شيء طيب المعنى!.. 

هزت أنس رأسها في إيجاب، مجيبة: نعم أنت محق، معنى اسمه.. الحظ السعيد.. 

ابتسم نيكوس مؤكدا: ما كنت اعتقد في مقولة أن لكل منا نصيب من اسمه، حتى أدركت صدقها اللحظة، فياله من رجل محظوظ بعشق امرأة مثلك!..

استشعرت أنس الحرج، فتطلعت حولها في اضطراب، هامسة في نبرة مهذبة: اعتقد أن علي الدخول، فقد يستيقظ فضل ولا يجدني جواره.. هل من خدمة آخرى قبل مغادرتي!.. 

هز نيكوس رأسه رافضا، أمرا في رزانة: لا، شكرا.. يمكنكِ الانصراف.. 

أومأت أنس رأسها في طاعة، وغادرت في هدوء تتبعها نظرات نيكوس التي كانت تحمل الكثير من التقدير، وسر دفين لا يمكنه هتك ستره، حتى لنفسه.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٢.. 

واصل المهندس الايطالي العمل بموقع البناء بكل عزيمة مواصلا الليل بالنهار حتى يتم السراي التي وعد سعد بأكمالها في أقرب وقت.. وعلى أكمل وجه.. 

لم يكن سعد يستطيع الحركة في الشهور الأولى من بعد حادثة سقوطه، لكن الآن.. استطاع المسير بعض الشيء وصار قادرا على متابعة أعماله والإشراف على سير العمل في البناء الذي أوشك على الاكتمال.. حتى تلك الكرمة التي وضع أول شتلاتها بأحضان أرض البركة، قد أينعت وتشعبت أذرعها، ودنا أوان طرحها.. ما أحيا الأمل بقلبه في تحقق رؤياه، متأملا أن تكون عودة الأحباب قد آن أوانها.. 

سار سعد في اتجاه دار الشيخ رضا المحمدي لاصطحابه لصلاة الظهر، ومر بطريقه على مقام الشيخ السماحي، كان يعلم أن وهدان قابع هناك كما هو حاله منذ زمن طويل، رفع رأسه نحوه مستطلعا فلم يجده ما جعل قلبه يرجف فزعا، تراه أين يكون! فهو لا يبرح موضعه ذاك منذ زمن.. هل جاءت نصائح الشيخ رضا المحمدي له بأثر عكسي!.. أم تلك الحية القاطنة داره قد أدركت ما يفعل فحاولت إصابته بالمزيد من الضرر!.. 

هرول سعد مندفعا صوب دار الشيخ رضا، فردت أمرته على طرقات الباب وندائه مؤكدة أنه سبق سعد صوب المسجد منذ بعض الوقت.. اسرع سعد الخطى نحو المسجد حتى يلحق بالشيخ رضا ليبلغه ما كان من أمر وهدان.. حتى إذا ما دخل إلى صحن المسجد إلا ووجد وهدان يجلس في هدوء جوار الشيخ رضا يلقنه بعض الأدعية ووهدان ينطق خلفه في تلعثم واضح وكأن شخصا ما يربط لسانه عن النطق الصحيح.. كان أشبه بطفل يتعلم الكلام من البداية.. لكن سعد ما أن وقعت عيناه عليه حتى زفر في راحة.. متطلعا نحو وهدان في نظرة مشفقة على حاله، كان يعلم أنه يحاول قدر استطاعته التخلص مما هو فيه حتى يستطيع القرب من توحيد مجددا.. هي نفسها منذ عادت من المحروسة لمباشرة علاج سعد بعد حادثة سقوطه، لم يبدو على ملامحها إلا الكدر والشقاء، كانت غير مرتاحة في المحروسة هو يعلم ذلك، فذاك لم يكن دارها ولم تكن المحروسة يوما موضع عيشها ومعاشها، لكن على الرغم من ذلك كانت هناك أحسن حالا مما هي عليه منذ عاودت للرسلانية، كان القرب من وهدان والبقاء تحت نفس السماء التي تقله دون أن يكون لها القدرة على القرب أو حتى إلقاء نظرة نحوه، كفيلا بمضاعفة اوجاعها وثقل معاناتها.. وكم لمحها يوم بعد يوم تتطلع من النافذة على طريق المقام رغبة في الزيارة لكنها كانت على يقين أن وهدان هناك، فما تجرأت على التفكير.. مجرد التفكير في الذهاب إلى المقام لملاقاته، فقد تكون العواقب بعدها وخيمة.. 

جلس سعد يتابع تعليمات الشيخ رضا لوهدان، وكيفية تلقينه الأدعية والأوردة الدافعة للضر الذي يسكن جسده ويكبل روحه، انتهى الشيخ رضا من مهمته مع وهدان ونهض صاعدا المأذنة صادحا بصوت عذب مكبرا للصلاة.. وما أن انتهى ونزل يأوم المصلين، حتى وجد وهدان يرتجف وهو يقف في الصف للصلاة حتى كاد أن يندفع مهرولا لخارج المسجد، لكن رضا أمر سعد بالبقاء جواره محاولا تشجيعه على إتمام صلاته قدر استطاعته، فنفذ سعد والتزم وهدان بإرادة من حديد.. ولم يبرح موضعه حتى انتهاء الركعات الأربع التي ما أن فرغ المصلون من أدائها حتى سقط منهكا جوار سعد وكأنه كان يركض منذ دهور بلا توقف.. 

صرف الشيخ رضا المتجمهرين حول وهدان، ومسح وجهه ببعض الماء الطاهر، وبدأ في قراءة القرآن وبعض الأدعية المأثورة في مثل هذا الحالات، حتى بدأ جسد وهدان في الاسترخاء والركون للسكينة بعد أن كان متخشبا، وزال عنه ارتجافه وعاد اللون لوجهه بعد أن كساه الشحوب، ليؤكد الشيخ رضا لوهدان وابتسامة تعلو ثغره: لله درك يا وهدان، مثقل في ميزانك إن شاء الله.. كرر الاغتسال بالماء الطاهر اللي عطتهولك النوبة اللي فاتت، مع الأدعية وواظب على الأذكار والتحصين اللي علمتهولك، وبإذن الله ولا حد يقدر يضرك أبدا بعدها.. 

هم وهدان بالنهوض من موضعه ملثما كف الشيخ رضا في امتنان، لكن الشيخ رضا نزع كفه مسرعا مستغفرا، رابتا على كتف وهدان في محبة وحنو.. ليمد سعد كفه نحو موضع وهدان عارضا مساعدته في النهوض.. ليسير ثلاثتهم خارج المسجد في صحبة.. لم تنفصم عراها.. 

❈-❈-❈

أزمير نهاية ١٩٢٢.. 

كانت أصوات المدافع التي تتهاوى داناتها بالقرب من قصر والدها.. مقر القيادة اليونانية يثير الرعب في قلوب قاطنيه، والذين اقتصروا عليها وطفلها والعجوز عون، وثلاث من جنود الحراسة، فقد كانت المعارك على أطراف أزمير على أشدها.. ويبدو أن جلاء اليونانيين على وشك الحدوث كما أخبرها القائد نيكوس في آخر مقابلة بينهما منذ مدة قصيرة.. اهتزت جدران القصر حين سقطت إحدى القذائف بالقرب من أسوار القصر، وتعالت صرخاتها وطفلها بينما تمتم العجوز عون ببعض الأدعية همسا في محاولة لتهدئة نفسه القلقة جراء ما يحدث، محاولا التفاؤل في توقع ما قد تسفر عنه الأحداث في الساعات القادمة.. 

همت أنس الوجود بالحديث لعون العجوز، تطالبه بالتحرك بعيدا عن القصر والخروج لأي مكان بعيد، إلا أن العجوز رفض مؤكدا: لا، لن نغادر القصر، صدقيني لم يعد هناك مكان آمن من الأساس، المدينة كلها تحت القصف، والمعارك حامية على أطرافها، وهي مسألة وقت حتى يبين المنتصر من الخاسر.. وتتضح الرؤية للجميع.. 

همت أنس الوجود بالاعتراض، إلا أن صوت الفوضى والصخب القادم من الخارج، انبأها أن هناك خطب ما حثها للاندفاع مستطلعة لتتفاجىء بدخول الجنود متجمهرين حاملين شخص مصاب على إحدى النقلات الطبية، يتحدثون في سرعة وبغضب، مشيرين نحو القبو الذي هربت منه ومربيتها يوم أن دخل هؤلاء الأوغاد أزمير، واحتلوا القصر وأطلقوا النار على والدها.. 

هرول الجنود نحو القبو وتبعتهم هي وطفلها والعجوز عون، ليتضح لها أن ذاك المصاب لم يكن إلا القائد نيكوس، شهقت في صدمة وهي ترى حاله في صورة رثة، وجرح ما ينزف بأعلى صدره، وجرح نازف آخر بساقه.. 

هم أحد الجنود بمنعها من اللحاق بهم لداخل القبو، ليهتف نيكوس في صوت واهن النبرة: اتركوها، ما عاد هناك من داعِ للاختباء من الأساس، كلنا نعلم أن الأمر قد قضي، وجنود كمال أتاتورك تحاصر المدينة ودخولهم إليها بات وشيكا... 

وضع الجنود النقالة التي تحمل جسد نيكوس على عدة اجولة موضعة بالقبو هي آخر ما بقى من اجولة للحبوب المخزنة، فقد أصبح القبو فارغا تقريبا بعد أن كان مكدسا بكل ما لذ وطاب.. 

هتف نيكوس أمرا الجنود بصوت حاول أن تكسو نبرته الصرامة.. على الرغم من اصاباته المتعددة: هيا، اذهبوا وانضموا لاخوانكم على خط المقاومة، واتركوني .. فوجودكم هناك ضروري.. هيا.. 

هتف أحد الجنود معترضا في تردد: لن نترك وحيدا سيدي.. 

أمر نيكوس في حدة: لست وحيدا، هم برفقتي، فهيا.. اذهبوا فورا.. 

ألقى الجنود التحية العسكرية وغادروا على الفور، ليرفع نيكوس ناظريه نحو موضع أنس الوجود التي تتطلع إليه اللحظة في اضطراب لا تعلم ما عليها فعله، اتتركه يتعفن موضعه فقد يموت متأثرا بجراحه، أم تحاول تقديم يد العون له!.. 

ظلت على حالها المحتارة، حتى أشار لها نيكوس فاقتربت في حذر، ليشير صوب أحد الارفف أمرا في لطف: أعرف أن ذاك منافِ لمبادئك ومخالفا لأوامر دينك، لكن اعتبريه نوع من الدواء الذي قد يخفف عني بعض ما أعان اللحظة.. 

تطلعت أنس الوجود نحو ذاك الرف حيث أشار، فوجدت زجاجة خمر تقبع هناك.. ترددت في تنفيذ مطلبه، لكنه همس في تضرع: رجاء، الوجع يمزقني، أريد بعض منه ليسكن آلامي لو قليلا.. 

تنهدت أنس الوجود في قلة حيلة، متجهة صوب الزجاجة خضراء اللون، نازعة عنها غطائها في قوة، قبل أن تناوله إياها، تقدم العجوز عون، محاولا المساعدة برفع جزع نيكوس قليلا، ارتشف بضع رشفات من الزجاجة، دافعا بعض من سائلها فوق جرح قدمه المكشوف، وكذا جرح صدره لتطهيرهما، ليصرخ متألما، مغلقا عينيه الزرقاوين في وجع فاضح، تاركا الزجاجة ليلتقطها عون قبل أن تسقط أرضا فما عاد نيكوس بقادر على حملها والقبض عليها من شدة معاناته.. فتح نيكوس عينيه في بطء واهن، باحثا عن محيا أنس الوجود، فما وجدها بمجال رؤيته، فنهض قليلا متحاملا على نفسه رافعا جذعه، باحثا عنها.. فوجدها تحاول إعداد مكان آمن لطفلها.. تطلع لها بنظرة مطولة وما أن هم بالعودة لوضع الاستلقاء حتى سقطت عيناه على محياها مجسدا بلوحة بديعة مركونة بذاك الرف قبالته، إنها هي.. تذكر اللحظة أين رأى محياها، فحين دخلوا القصر أول مرة نزل إلى هذا القبو ذات مرة، ورأي تلك اللوحة التي تعكس الكثير من ملامح أنس الوجود وكأنها صورة طبق الأصل منها، لكن .. السؤال الأهم هنا، لم تكن صورة أنس الوجود محفوظة في قبو ذاك القصر من الأساس!.. هل هي.. اوووه.. همس في صدمة مغمضا عينيه، حين تجلت أمامه الحقيقة كاملة.. 

ساد الصمت لبرهة، وهو ما يزل يحاول استيعاب الحقيقة، لتهمس أنس متسائلة ما أن رأته ساكنا مغمض العينين: هل أنت بخير!.. 

همس نيكوس وهو يفتح عينيه في وهن: لا، لست بخير أنس الوجود، أم علي أن اناديكِ سيدتي!..

همس أنس متعجبة في اضطراب: يبدو أنك بدأت تهزي! 

ابتسم نيكوس في حسرة: كنا ضيوف على قصرك، وكانت سيدة القصر تلعب دور الخادمة.. خشية اكتشاف حقيقتها، وتعريض حياتها وولدها للخطر.. أي امرأة أنتِ!.. 

تجاهلت أنس الحقائق التي كان يتليها، هاتفة في نبرة قلقة وهي ترى نزف جروحه يزداد غزارة: علينا ايقاف نزف جروحك، أما من أدوات طبية ها هنا!.. 

هتف العجوز عون مقترحا أن يصعد للأعلى باحثا لعله يجد بعضها، ولم ينتظر الإذن منهما، بل نفذ على الفور، صاعدا من فوهة القبو نحو قلب القصر.. 

همس نيكوس باسما: لن يجد، كلها هناك.. حملوها لساحة المعركة، لا عليكِ، فما عادت تجدي نفعا، تعالي سيدتي.. دعيني أحمل صورتك لآخر مرة بأحداقي، فقد تكون هذه هي المرة الأخيرة.. 

همست أنس وقد زاد اضطرابها وهي تعتقد أنه بدأ يهزي، تقلب في الأغراض بالقبو في عجالة، لعلها تجد ما قد يصلح، لكنها لم تجد، فتطلعت نحوه لتجده يتابع تحركاتها في اصرار، ما زاد من توترها.. 

تعالت من جديد أصوات القنابل وطلقات الرصاص، فأدركت أن المعركة اندلعت من جديد، مالت نحو بطانة ردائها الداخلية ومزعت منها بعضا من أنسجة طولية، لتكون ضمادات توقف لحد ما استمرار نزف الجروح، فقد بدأ الشحوب يرتسم على ملامح نيكوس، ويظهر التعب جليا على قسمات وجهه.. اقتربت لتضع الضمادات موضع جروحه، دوى صوت قذيفة قوي، سقطت بالقرب من أسوار القصر، بل تكاد أن تجزم أنها سقطت بالحديقة الأمامية للقصر، ما دفعها لتفقد توازنها قليلا، لتميل صوب جسد نيكوس، محاولة أن لا تفقد اتزانها في عزم، لتجده لا يعبأ لكل هذا، فقط كان همه الأكبر وشغله الشاغل هو التطلع نحوها، معلقا ناظريه المغرمين بطلتها.. حين سقطت نظراتها عليه لتطمئن أنه على ما يرام، تلاقت النظرات للحظة خاطفة، لتحيد هي نظراتها عن محياه، ليهمس هو في نبرة وجلة: لحظة واحدة، قد تساوي عمرا، سمعت هذه الجملة ولم أصدقها يوما، لكن ها أنا أقسم أنها أصدق ما سمعت.. 

تعالت الأصوات بقوة قادمة من الخارج، أصوات تحمل الكثير من البشر، ما جعلها تحاول أن تدرك ما جرى، ليهمس نيكوس مفسرا: أبناء جلدتك انتصروا، الأصوات بالخارج فرحة من أجل النصر، الآن فقط استطيع أن أقول لك وداعا.. عليكِ أن تذهبي، فلم يعد من الأفضل لكِ البقاء هنا بصحبة أحد قادة الأعداء..

همست أنس الوجود: لن أرحل لأي مكان، فأنا لا أعلم لي موضع إلا هنا، أم أنك نسيت أني سيدة هذا القصر!.. 

هتف نيكوس في صرامة: اذهبي أنس، فسقوط القذائف قد توقف، وأصبحت الأجواء بالخارج أمنة لحد ما، صدقيني لا أحد يدرك كيف سيعاملك جنود أتاتورك.. فأنت بالنسبة لهم ابنة أحد رجال السلطة البائدة، اذهبي.. 

لم تأخذ أنس الوجود حقها في التفكير فيما قاله نيكوس للتو، لكن ما أن تصاعدت الأصوات القادمة من الخارج، وارتفعت أصوات ضربات الأحذية الميري على سطح القبو.. مؤكدة على اقترابها من اكتشاف موضعهم.. حتى وصل جنود الدولة العثمانية في اللحظة التالية.. ليجدوا نيكوس ممددا جريحا.. ووحيدا.. ظل يليهم في الحديث، والإجابة عن اسئلتهم حتى تأكد له، أن أنس الوجود وولدها الآن في أمان.. مرا عبر ذاك النفق الطويل المفضي لخارج القصر، وأصبحا وحيدين مجددا بشوارع أزمير.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

هاجمها الأرق في ساعات نعاسها الشحيحة عدة مرات، حتى أعلنت استسلامها التام له ونهضت من فراشها لا تدرك ما عليها فعله، فموضوع نجية الذي ظهر بالأفق قلب كل موازين الراحة والسكينة، وظلت كل تفاصيله وتبعاته التي أدركتها متأخرة حين سمعت تفسيرات حبيب وذعر مدثر، ذاك المحب العاشق لنجية، والذي يكتم هواه في صدره ولم يبح به لمخلوق سوى حبيب، ..حبيب، كيف لهذا الرجل أن يكون مكمن الاسرار لكل من تربطه به صلة، وحصن الأمان الذي يلتجيء إليه الغريب قبل القريب، طلبا للمواساة والطمأنينة، التي يملك منهما الكثير، يغمر به كل ذاهب وآيب!.. 

تنهدت وهي تتطلع إلى النهار الذي بدأ يشق الأفق البعيد معلنا عن ميلاد يوم جديد، تمنت بقرارة نفسها لو يكون يوما يحمل بعض من أخبار سارة، تعيد الطمأنينة المفتقدة.. تطلعت للأسفل حيث التعريشة لعل صاحبها ما زال قابعا هناك، جافاه النعاس كما جافاها، لكن ذاك الهدوء الساكن المحيط بالحديقة.. بل بالنجع كله.. جعلها تدرك أن الجميع ما زال في سبات عميق، ووحدها هي التي خاصمها النوم.. وربما صفية رسلان أيضا.. والتي ما خاب يوما مؤشر سلطنتها عن إدراك ما يجول بخاطر أنس الوجود، فتكون الأغنية الصادحة من الجرامفون الخاص بها، والتي تسري نغماتها واضحة جلية في هذا السكون، تطابق تماما حالتها.. فها هي أم كلثوم تشتكي في وجود:

نسيت النوم وأحلامه.. نسيت لياليه وأيامه.. 

ابتسمت على الرغم من ذاك الشجن الذي يغلف دواخلها، وعلى الرغم من رائحة الخبز الشهية التي يسيل لها اللعاب، والتي انتشرت بالاحواء مع دخان الفرن ما أن بدأت نبيهة بالاسفل في الخبيز، إلا أن معدتها لم تكن متقبلة لتناول أي طعام.. زفرت أنس الوجود في قلة حيلة، وقررت النزول لتجلس بالاسفل حتى إشعار آخر.. ربما يأتيها خبر ما يخرجها من حالة الضيق التي تسيطر عليها منذ البارحة.. 

وضعت شالها كالمعتاد على الرغم من لطافة النسمة التي تهب اللحظة من نافذة حجرتها، لكنها بحكم الاعتياد وضعه ونزلت الدرج سائرة نحو التعريشة، التي ما أن وصلتها حتى تسمرت موضعها، فما أن أصبحت على اعتابها حتى أدركت أن حبيب ناعس هناك على اريكته المفضلة.. يبدو أنها ليست الوحيدة التي زارها الأرق وأقلق مضجعها، فما دفعه للنوم موضعه إلا الكثير من الأفكار التي حرمته النوم مثلها.. شعرت بالخجل وهي تقف متطلعة إلى جسده المسجى قبالتها، يتلحف بعباءته، رافعا إحدى ذراعيه مغطيا بها ملامح وجهه.. فقررت المغادرة والعودة لحجرتها.. لكن تململه على الأريكة جعلها تشهق في اضطراب فقد يستيقظ بأي لحظة فيجدها تقف كالبلهاء غير مراعية لحرمة منامه.. وها قد حدث ما كانت تخشاه.. فما أن استدارت تحاول الهرولة مبتعدة إلا وسمعت صوته المتحشرج من أثر نعاسه، يسأل في تعجب: خير يا أستاذة!.. في چديد! 

واجهته محاولة أن تتجاهل كل تلك المشاعر المتضاربة داخلها حين وقعت عيناها على ملامحه الناعسة، وشعره المشعث قليلا، وصوته الأبح، مجيبة بكل قدرة لديها على الثبات: لا، مفيش جديد، ده أنا كنت جاية أشوف يمكن الجديد يكون عندك، وهيكون ايه التصرف في الوضع ده، نجية غلبانة ومتستاهلش اللي بيحصل ده!.. 

اعتدل حبيب جالسا، جاذبا عمامته التي بدأ في ربطها حول هامته بعشوائية، ونهض صوب إحدى طلمبات المياه دافعا يدها الوحيدة في حركة ميكانية اعتيادية حتى اندفعت المياه من فوهتها، فأخذ بكفه عدة حفنات متتالية مسلطة لوجهه، حتى يصبح كامل الاستفاقة.. مؤكدا وهو يجيب أنس: أيوه، ربنا يجدرنا ونلحجوا الموضوع.. تعالي اجعدي، واجفة ليه!.. 

ونادى في عزم: يا نبيهة، هاتي الفطور هنا.. 

وضعت نبيهة صينية واسعة تحمل العديد من الأطباق التي تحوي الكثير من الخيرات.. ليشير حبيب نحو الطعام مطالبا أنس في ود: ياللاه بسم الله.. 

تناول أحد الارغفة واضعا إياه أمامها، لتؤكد أنس في هوادة: مليش نفس حقيقي، منمتش كويس امبارح، ومعدتي مش هتستحمل.. 

أشار حبيب مؤكدا بابتسامة: لاه، التفكير على معدة فاضية مضر بالصحة يا أستاذة.. ياللاه.. لجمتين شج ريج.. وكل مشكلة ولها عند الكريم ألف حل.. 

هزت رأسها في طاعة، وبدأت في تناول طعامها، ليسود الصمت للحظات قبل أن تسأل أنس في قلق: هم ممكن يقتلوا نجية لو الموضوع أتعرف!.. 

تنهد حبيب مؤكدا: بإذن الله نلحج الموضوع جبل ما حد يوعاله، ونجفله من غير خساير.. 

هتفت أنس في لهفة: صحيح!.. إزاي!.. 

هم حبيب بالإجابة.. إلا أن ظهور سرور الذي هل مندفعا نحو التعريشة، مقاطعا في قلق: ايه في يا حبيب! .. أني چيت اها.. و.. 

توقف سرور عن الكلام ما أن أدرك وجود أنس الوجود، فتوقف عن التقدم لداخل التعريشة، هاتفا في تأدب: سلام عليكم، معلش.. كنت فاكرك لحالك يا حبيب.. كيفك يا أستاذة!.. 

ردت أنس في نبرة خفيضة: الحمد لله.. 

شعرت أنس أن وجودها ما عاد مستحبا، فعلى ما يبدو أن حبيب هو من استدعى سرور، وعليها أن تغادر حتى تعطي لهما مساحة كافية من الحرية، لعل وجود سرور يكون عاملا في إزاحة الظلم الواقع على كتفي نجية المسكينة.. 

نهضت أنس تستأذن في عجالة، وقد أدركت أن توقعها كان صحيحا، فما تمسك أحدهما بوجودها ولو ادعاء، ما يعني أن الحديث بينهما خاص جدا.. 

جلس سرور ما أن أشار إليه حبيب، هاتفا دفعة واحدة بالحقيقة دون مواربة: نچية حبلى!.. 

انتفض سرور واقفا، وما أن استجمع شتات نفسه، حتى هتف في حنق مكتوم: واه يا مدثر، مش جلنا نبعد عن سكة ال.. 

قاطعه حبيب مؤكدا: مش مدثر، كفاية اللي عملته فيه عشية، زودتها عليها وهو كان چاي يستنچد لجل ما نلحج الغلبانة دي جبل ما تتفضح..

جلس سرور متعجبا: اومال حامل من مين!.. ايه الفوازير دي!.. 

أكد حبيب: من چوزها، هي جالت للأستاذة إنه نزل يوم واحد ع النچع بيت في داره ليلة وع الفچر راح.. 

ضحك سرور في سخرية: وناس النچع هيصدجوا على كده! ده چوزها غايب له سنين، ولا كان بيرفع سماعة تليفون عليهم حتى! تاچي هي تجول بعد الغيبة دي كلها، چه ليلة وغار!.. ابو مين ما هيرميها بالباطل.. 

هتف حبيب متنهدا: ما هو ده اللي أني چايبك عشانه، كلنا عارفين نچية وعارفين إنها لا يمكن توجع في حاچة عفشة، وأني مصدجها، كلامها ميتصدجش، لكن أني مصدجها، وعشان نجفل الموضوع لازما العيل ينزل.. قبل ما حد يشم خبر، دي فيها موتها يا سرور.. 

هتف سرور في حنق: عيل مين اللي ينزل يا حبيب! هنداروا چريمة بچريمة تانية!.. وطبعا چايبني عشان أني اللي اجوم بالمهمة الچليلة دي!.. لاه.. حد الله.. 

هم سرور بالانصراف، لكن حبيب تمسك به أمرا: اجعد بس ميبجاش طلجك حامي كده.. اتصبر وخد كل اللي عندي.. أني وأنت هنروحوا للشيخ معتوج ونحكي له الحكاية كلها، ولو جال تمام.. هتنفذ.. ماشي!.. 

هتف سرور متسائلا: ولو مجلش تمام، هتعمل ايه بجى ساعتها!.. 

هتف حبيب في نبرة تحمل قلقا عارما: والله ما عارف يا سرور.. بس سبها على الله يحلها من عنده.. إحنا نيتنا الستر ع الغلبانة اللي ملهاش حد دي.. 

هز سرور رأسه متفهما، ولم ينطق حرفا.. 

فما عاد هناك من كلام يقال.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١.. 

خرج نصير من غرفة الاجتماعات يزفر في ضيق، تطلعت نحوه هاجر في تمعن، لم يكن نصير الرواي الذي تعرفه وحفظه كخطوط كفها، كان شخصا آخر.. عابث الوجه.. مقطب الجبين، فاقد للتركيز الذي كان يتمتع بأعلى درجاته خاصة أثناء عقد الصفقات الهامة كالتي كان مزمع عقد الاجتماع الخاص بها اليوم.. وعلى غير العادة.. خسر نصير الصفقة التي حضر جيدا للحصول عليها.. ووضع كل خبراته في محاولة إقناع الجهات المسؤولة بكفاءة شركاته في إدارة هذه الصفقة الكبري التي هي حلم كل شركة انشاءات وعقارات.. 

هي على ثقة أن نصير قام باللازم وقدم عرض ممتاز لا يمكن رفضه، لكنها تستشعر أن الأمر خارج عن إدارته وغير موكول بمهارة شركاته من عدمها.. كان الأمر كيديا إلى حد كبير.. وخسارة نصير هذه الصفقة التي كان يحلم بها بشكل غير مبرر من وجهة نظر محايدة.. فهي تقيس الأمر بعين امرأة لها خبرة كبيرة في مجال الأعمال.. مؤكدة لنفسها وهي تجلس جواره بالمقعد الخلفي لسيارته الفارهة أن أمر خسارة نصير.. فيه سر ما.. 

حاولت أن تخفف عنه قليلا، هامسة في نبرة رقيقة: خيرها في غيرها يا نصير بيه، الصفقات المميزة جاية كتير.. 

لم يرد نصير على محاولات مواساته، بل سأل في نبرة تدل على نفاذ صبر: هي أنس الوجود رجعت من بلدهم!.. 

تطلعت نحوه في تيه، متسائلة في نفسها بحنق.. مما قُد عقل ذاك الرجل!.. يسأل عن أنس الوجود في ظرف كهذا!.. هل غابت أيقونة حظه عن المشهد، وذاك هو سبب خسارته لصفقته الثمينة!.  

أعاد نصير السؤال في حنق: رجعت ولا ايه!.. 

أكدت هاجر في نبرة باردة: لا.. لسه هناك.. 

هز نصير رأسه متفهما، محيدا ناظريه عبر نافذة السيارة نحو الخارج متابعا حركة السير في لامبالاة، ولم ينطق حرفا.. تاركا هاجر تغلي حنقا ولا تستطيع أن تفصح عن سبب حنقها.. فأكتفت بأن تحذو حذوه متطلعة للخارج من نافذتها.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

خرجت أنس مغادرة سراي السراي في اتجاه دار نجية، لتكون جوارها حتى يأتي الرجال بحل لمعضلتها.. كانت غارقة في أفكارها لدرجة أنها لم تدرك بوجود شخص ما يسير جوارها.. متسائلا في نبرة سمجة: يعني هو إحنا مش لينا نصيب فيكِ يا بت عمي!.. 

تنبهت لوجود مظهر، فابتسمت في دبلوماسية: ازيك يا مظهر، وازي جدي بخير!..

هتف مظهر مدعيا الضيق: والله بينا وبين خطوتين، عديهم وتعالي اطمني على چدك بنفسك، ولا حبيب مانعك تزوري ناسك وعويلاتك!.. 

أكدت أنس في عجالة: لا، حبيب بيه ملوش دعوة بالحاجات دي، أنا بس اللي كنت مشغولة شوية، بس أنا هاجي .. هقعد شوية مع نجية.. وأعدي على جدي وأنا راجعة.. تمام كده!.. 

أكد مظهر في سماجة: تمام جوي يا أستاذة.. هتتغدي معانا، هنستنظرك.. ماشي!.. 

هزت أنس رأسها في إيجاب، في محاولة لإنهاء حوارها العقيم مع ذاك المظهر، والتخلص من ملاحقته لها، وخاصة أنها وصلت لأعتاب بيت نجية.. ما جعله يكمل طريقه، تاركا إياها تطرق باب دار نجية والتي استقبلتها بوجه شاحب.. وملامح باهتة.. 

سار حبيب بجوار سرور في عجالة نحو دار الشيخ معتوق لسؤاله عما يجب فعله في حال نجية.. فسؤال رجل دين عالم بأحكام شرع الله.. للبت في مثل هذه الأمور يكفيهم الذنب.. ويحل المشكلة من جذورها.. 

وصلا لبيت الشيخ معتوق.. وبدأ حبيب في شرح الأمر للشيخ الذي أنصت حتى انتهى.. لكن ما أن شرع الشيخ معتوق في توضيح الأمر من الجانب الشرعي وحكم الدين فيما كان من أمر نجية وحملها، إلا وظهر سالم ولدها.. دافعا باب دار الشيخ معتوق في عزم، يلتقط أنفاسه في تتابع محموم.. صارخا في حبيب مستغيثا: غيتنا يا حبيب بيه، غيت أمي والأستاذة.. هيموتوهم.. 

انتفض حبيب من موضعه.. مندفعا في ذعر نحو الخارج.. في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة