-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 26 - الثلاثاء 22/4/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السادس والعشرون


تم النشر الثلاثاء

22/4/2025

صفحة من كتاب التاريخ.. 


الرسلانية ١٩٢٥.. 

تكللت الرسلانية بالأفراح.. لعودة أنس الوجود، ولعودة توحيد لوهدان، ولخبر حمل زوجة الشيخ رضا المحمدي.. وظلت على هدوء حالها، وليال أفراحها.. وهي تستقبل في غضون سنة كاملة، ثلاثة أرواح جدد، أضيفت أسماءهم لسجل النفوس والمواليد.. الأول كان معتوق بن الشيخ رضا المحمدي..  والذي كانت الفرحة به لا توصف، وخاصة أنه ذاك الغالي الذي عز طلبه، وجاء بعد طول انتظار وشوق، ثم هل سميح بن وهدان وتوحيد.. والذي كلل فرحة الزوجين، وعوضهما عن طفلهما الذي لم تبصره عين توحيد حتى، والذي حتى هذه اللحظة، لم تدرك أنه ولد طفلا مشوها أشبه بالمسخ، وكان ذاك من رحمة ربها أنها كانت غائبة عن الوعي، حين لفظه رحمها.. 

ومن قبلهما، جاء الخبر من المحروسة، من قصر رستم باشا، أن ألفت هانم وضعت فتاة جميلة، اسموها إلهام.. 

وأخيرا وفي مطلع العام ..جاءت لحظة وضع أنس الوجود.. والتي كان سعد يحضر لها ويضع لها ألف حساب وحساب.. 

أصبح كل من بالسراي على قدم وساق، كانت أناتها تفعل بسعد الافاعيل.. هل عليه تحمل كل هذا العذاب كل مرة!.. كان يدرك أن الولادة هذه المرة مختلفة عن يوم ولادة فضل الله، التي كانت ميسرة لحد كبير، لكن كل هذا الهرج والمرج، ودخول الممرضات وخروجهن كل لحظة من داخل غرفة أنس الوجود، جعله يدرك أن الأمر ليس هينا.. 

استوقف سعد إحداهن متسائلا: ايه في! هي بخير!

هتفت الممرضة التي كان يبدو أنها ليست من أصول عربية، في لغة عربية مضحضحة: ادعي لها.. 

همس سعد في تضرع: يا رب.. يا رب.. 

وأخيرا.. وبعد ساعات مطولة من القلق والاضطراب.. تعالت صرخات طفل بين جنبات حجرة أنس الوجود، ما دفع سعد لينتفض مندفعا صوب الغرفة يقف على أعتابها، لعل أحد من الداخل يخرج ليطمئنه أن الأمور مستقرة وأن أنس بخير حال.. 

هتف سعد متلهفا ما أن خرج الطبيب من الغرفة: طمني يا باشحكيم، البرنسيسة بخير! طولتو جوي! 

أكد الطبيب متنهدا: حقيقي يا سعد بيه الولادة كانت متعسرة شوية، بس الهانم بخير، وست البنات زي القمر.. 

هتف سعد في سعادة: الحمد لله، كل اللي ياچي خير، اللي يهمني البرنسيسة.. 

أكد الباشحكيم: هي بخير الحمد لله، دقيقتين وتقدر تدخل لها تطمن بنفسك.. مبارك يا سعد بيه.. 

خرجت الممرضات وتبعن الطبيب بصحبة مصباح، ليندفع سعد لداخل الغرفة، مهرولا صوب فراش أنس الوجود، متطلعا لها في لهفة، ليتيقن أنها حقا بخير.. لثم جبينها وهو يتطلع لعمق عينيها، هامسا في حنو وهو يطيل النظر لوجهها الشاحب: حمدا لله بالسلامة، والله جلبي اتخلع عليكي.. 

همست أنس باسمة في وهن: الحمد لله سعد بيه، انظر .. كم هي جميلة ابنتنا صفية..

كان سعد يتطلع بناظريه على الطفلة التي حملت من أمها الكثير من الملامح الجميلة، ليتنبه محيدا ناظره صوب أنس الوجود، بعد أن نطقت اسم الطفلة، متسائلا في دهشة: صفية! كيف عرفتي إنها لو بت كان نفسي اسميها صفية على اسم المرحومة أمي!.. 

ابتسمت أنس مؤكدة: لم أكن أعرف برغبتك، لكن سألت توحيد عن اسم الوالدة.. وقلت إذا ربنا أكرمنا بفتاة.. تكون صفية بإذن الله.. 

اتسعت ابتسامة سعد، وحمل الطفلة بين ذراعيه في فرحة، هامسا باسمها في حبور، فهي الفتاة الأولى التي رزقه الله بها، من بعد أربع ذكور... فكان لمولدها وقعا خاصا على نفسه.. احنى هامته، ملثما جبين الطفلة في حنو، هامسا في سعادة: صفية.. يا اسم غالي.. ربنا يحلي دنيتك.. ويسعد جلبك.. 

امنت أنس الوجود خلفه في تضرع، تململت الرضيعة بين كفي والدها، ما حثه على وضعها بين ذراعي أمها، التي احتضنتها في محبة طاغية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٣٠.. 

توقفت العربة التي كانت تقل كل من مختار وفضل الله من مدرستهم الابتدائية، أمام بوابة سراي وناسة، ليؤكد فضل لابن عمته مختار: هستناك النهاردة، أوعى تتأخر.. ولا مش هتيچي!.. لو مش چاي جول.. 

أكد مختار باسما: يا سيدي چاي.. بطل دوشة بجى..

ثم مد مختار كفه في جوف خرجه المدرسي، متحسسا شيئا ما بالداخل، قبل أن يهتف مقترحا: ولا اجولك.. أني نازل معاك.. 

هتف فضل الله يسأل: مش هتروح تچيب سميح أخوك!.. 

أكد مختار وهو يترجل من العربة متجها لداخل السراي مع ابن خاله: لاه، هي ناجصة دوشة عيال صغيرة.. 

ابتسم فضل الله هاتفا: طب ياللاه تعال، هسمعك اسطوانة چديدة چابها بابا من المحروسة للبرنسيسة.. إنما ايه!.. هايلة.. 

هتف مختار في سعادة: والنبي صحيح.. طب ياللاه.. 

دخلا للسراي ملقين التحية، واتجه فضل الله نحو الفونغراف الذي كان موضوعا بأحد الأركان في إحدى غرف الطابق السفلي التي كان لا يدخلها إلا البرنسيسة وسعد بيه في بعض السهرات الخاصة.. بستمعا للمزيد من الاسطوانات التي بدأ سعد في شراءها وتجميعها لأنس الوجود.. لتكون سلوى لها.. 

دارت الاسطوانة داخل الجرامفون في بطء، وبدأ صوت سبد درويش يخرج منها في سلاسة أبهرت مختار، الذي اقترب من الجرامفون متطلعا له كعمل ساحر من صنيعة الجن، مشدوها نحو كلمات الأغنية.. وصوت سيد درويش الرخيم، وهو يشدو في وجع: أنا هويت.. وانتهيت.. وليه بقى لوم العزول.. 

هتف مختار في سعادة: حلو جوي يا فضل.. 

دخلت صفية ابنة الخامسة.. تركض لداخل الغرفة، عندما سمعت صوتهما من الداخل، فقد نسي مختار غلق الباب خلفه، ما دفع فضل لحملها في محاولة لإخراجها لنبدأ في الصراخ معترضة.. 

هتف مختار معترضا على فعلة فضل، مطالبا في حنو: سيبها يا فضل.. دي عيلة صغيرة.. 

تركها فضل متطلعا نحو مختار متعجبا: مش أنت اللي مرضتش تچيب سميح عشان دوشة العيال، وهي صفية دي مش عيال!. 

هتف مختار مؤكدا: عيال يا سيدي، بس سبها خلاص، هي مش هتعمل لا دوشة ولا بوليكة.. مش كده يا صفية!.. 

هزت صفية رأسها في طاعة لمختار، مندفعة تتمسك بكفه، ليجلسها جواره في حنو، مخرجا بعض الحلوى من حقيبته القماش التي يضع فيها كتبه المدرسيه: خدي يا صفية، چبت لك أرواح وفنضام.. بس تجعدي هادية.. لفضل يطردنا أني وإنتي.. 

مدت صفية كفها الصغيرة البضة متناولة الحلوى في سعادة، مبتسمة لكلمات مختار الأخيرة.. وضع مختار سبابته على شفتيه حتى لا ترفع صوت ضحكاتها.. فاتسعت ابتسامتها وهي تضع كفيها على فمها.. تحاول أن تمنع صوتها من الارتفاع حتى لا يغضب فضل الله، فيحملها لخارج الغرفة بعيدا عن مختار.. مهما اعترضت..

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٣٦.. 

تعالت زغاريد توحيد المتعاقبة والتي لم تتوقف عن تكرارها حتى انقطعت أنفاسها في فرحة غامرة، وهي تحتضن ولدها مختار، وابن أخيها فضل الله، في قلب بهو السراي، بعد أن ظهرت نتيجة البكالوريا.. هاتفة في فخر: الله أكبر عليكم، عيني عليكم باردة، حصوة فعين اللي نضركم ومصلاش ع النبي.. 

هتف سعد ووهدان في هوادة، وتبعتهما أنس الوجود: اللهم صل وسلم وبارك عليه.. 

لتستطرد توحيد في عزة وهي تشير للشابين تميل نحو أنس قائلة: بقوا شباب يفرح العين يا برنسيسة، ربنا يحفظهم.. 

أكدت أنس في نبرة معتزة، وهي تتطلع للشابين في محبة: الله يبارك فيهم ويحفظ يا توحيد.. 

ليهتف سعد متسائلا: هااا يا أفندية، ناووين على مدرسة ايه!.. 

هتف فضل الله في لهفة: الحجوج.. طبعا الحجوج..

هتف سعد في فخر: هو ده الكلام، دي بيتخرچ منها الوزرا والقضاة.. وأنت يا مختار!.. 

أكد مختار في هدوء: لا، أنا ناوي ع الحربية.. 

هتفت توحيد في صرخة فرحة: هتبجى ظابط يا مختار، واعلج لك النياشين على صدرك بيدي!.. 

هتف مختار باسما: بس يجبلونا يا أمي.. دي مدرسة مش أي حد يدخلها.. 

هتف وهدان مبتسما: ربنا يخليلنا جناب سعد باشا نايب ديرتنا فالبرلمان، وكل الوفديبن دلوجت كلمتهم مسموعة ولها شنة ورنة، وخصوصي بعد ما مصطفى باشا النحاس ما مضى الاتفاجية بتاع ٣٦ دي، وأسهم الوفد عليت جوي، ولا ايه يا سعد باشا!.. 

هتف فضل محتدا، ما أن جاء وهدان على ذكر اتفاقية ٣٦، معترضا: وهي دي اتفاقية ترضي حد!.. ده استقلال اسمي لمصر، ومفيش تنفيذ.. الإنجليز بيضحكوا علينا بكلمتين مكتوبين نفرح بهم، وهم جاعدين على جلبنا بچبشهم، مبرطعين ف القنال، هو ده استقلال!..  

ابتسم سعد مازحا: ادينا بدأناها، وصوت حضرة الافوكاتو اتسمع.. ومش هنخلصوا.. 

ثم توجه بالحديث لوهدان ردا على تدخله في الوساطة لابن أخته ليقبل بمدرسة الحربية: وإحنا نطولوا يبجى معانا ظابط فالحربية.. وكمان حضرة الافوكاتو!.. ده إحنا الحكومة كلها كده معانا.. 

رفعت توحيد من زغاريدها من جديد.. ليهتف فضل مقترحا: ما تاخد أنت كمان البهوية يا عمي وهدان!.. 

هتفت توحيد في لهفة: ايوه وليه لاه!.. وهم هيلاجوا احسن منك مين يدوه البهوية!.. 

قهقه وهدان: ايوه، مين يشهد للعروسة عاد!.. 

هتف سعد باسما: أها، فضل چاب الكلام التمام، ودماغه بجت بتطلع أفكار عال، تصدج والله فكرة زينة يا وهدان، ليه لاه!.. شوف كده وأني معاك.. واهي برضك أبو حضرة الظابط يبجى بيه رسمي كد الدنيا.. فارجة برضك.. 

ابتسم وهدان مهادنا: على جولك، ليه لاه!. نشوفوا الحكاية دي.. وبعدين هو إحنا عندينا كام حضرة ظابط!.. ما دام فالمصلحة نسعوا لها..

اندفع سميح ابن الثانية عشر لداخل السراي، ناشرا الفوضى والضجيج كعادته.. وفي أعقابه دخلت صفية التي كانت في نفس سنه تقريبا، تتهادى في رقة نحو مجلس الكبار، تضم كفها بكف أختها الصغرى وداد، قادمتان من الحديقة، حيث الأرجوحة التي أمر سعد بصنعها لهن، بالقرب من تعريشة العنب، التي يقبع تحت أذرعها الخضراء الممتدة.. مجلسه المفضل مع أنس الوجود، حين يسمح الطقس بالجلوس بالخارج، وتبدأ الكرمة في طرح عناقيدها الشهية.. 

اندفعت وداد في محبة صوب حضن سعد والدها، ليتلقفها في حنو بالغ، مجلسا إياها بأحضانه.. بينما هتفت صفية، تسأل بفضول في رقة فطرية: أنا سامعة زغاريد، نجول مبروك.. 

هتفت توحيد مفسرة في فرحة: ايوه، فضل هيدخل مدرسة الحجوج، ومختار هيجدم ع الحربية.. 

ابتسمت صفية بابتسامة صافية.. ولم تعقب إلا بكلمة واحدة: مبروك.. 

بينما هتف وهدان مازحا: وأني هجدم ع البهوية.. ومحدش أحسن من حد.. 

لينفجر الجميع ضاحكين.. بينما هتف سعد متسائلا: حد عرف حاچة عن معتوج واد الشيخ رضا!.. رچعو من مصر ولا لسه!.. مشفتهمش في صلاة العصر.. 

هتفت صفية مفسرة: مديحة أخته كانت معاي من شوية، وروحت.. جالت إن الشيخ رضا لسه راچع مع معتوج، والدكاترة جالوا له مفيش فايدة.. عينيه خلاص نظرها بيروح.. ودي حاچة ملهاش علاچ.. 

هتف سعد في شجن: لا حول ولا قوة إلا بالله، ده بجاله سنين على كده!.. 

أكد وهدان بحزن: الواد الحيلة نضره راح، الله يصبر جلبه، ويبارك له ف بته.. لساتها صغار، دي أصغر من سميح ولدي، وأهي شيلاهم من بعد تعب أمها.. 

تنهد سعد في شجن، موجها حديثه لوهدان: نبجى نعدو عليهم جبل صلاة المغرب.. نطمنوا ونطيب بخاطرهم.. 

هز وهدان رأسه موافقا، ليستطرد سعد مشيرا نحو فضل ومختار: وانتوا يا شباب، اعملو حسابكم هتاچو معانا، مش معتوج ده صاحبكم برضك! هو صغير عنكم هبابة، بس الله أكبر عليه.. حافظ القرآن كله.. ودماغه توزن بلد..

أكد فضل في حماس: معلوم يا چناب باشا.. أكيد هنكون معاكم.. 

ساد الصمت قليلا، إلا من ضجيج سميح، ليهتف سعد مقترحا: بجولكم إيه! ما تاچو  ننزل على مصر، نجدم للعيال دي في مدارسهم، ونحضر حفلة الآنسة أم كلثوم، أهو الخميس الأول فالشهر مش بعيد، وتننا كلنا راچعين، بعد ما نطمن عليهم، ونظبط لهم الدنيا في بيت مصر الچديدة.. إيه رأيكم!.. 

هتفت أنس الوجود في سعادة: فكرة ممتازة سعد بيه.. 

بينما هتفت توحيد تستحث وهدان على الموافقة: ايه رأيك يا وهدان، نروحو!.. 

هتف وهدان في نبرة واهنة: ما نسمعوا الحفلة هنا ع الراديون يا توحيد!.. ده أني چايبه ليكي مخصوص عشان يسليكي.. تجولي نسافروا نسمعها!.. 

هتفت توحيد في دلال: عشان خاطري يا سي وهدان، بجالي زمن منزلتش مصر، ورايدة ابجى مع مختار لحد ما يدخل مدرسته واطمن عليه!.. جول آه.. 

هتف وهدان مهادنا: طب وماله، مجدرش أرفض لك طلب.. نروحو.. 

هلل سميح في صخب، لتهتف توحيد في حنق لتخرسه: اهو أنت بالخصوص هخدك لچل ما اسيبك فجفص الجرود فالچبلاية.. 

قهقه الجميع على أفعال سميح، وكذا على رد فعل توحيد التي ركضت خلفه لتخرسه.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٣٩.. 

همس فضل الله لمشاركيه تلك الغرفة المعتمة تقريبا إلا من بصيص بسيط من ضوء قادم من لمبة جاز نمرة عشرة، موضوعة على الطاولة المتهالكة التي يحاول أفراد المجموعة التي لم تتجاوز الخمسة أفراد ألا يتكىء عليها أحدهم فتنهار، والتي يشير فضل لبعض المواقع المحددة فوق تلك الورقة المفرودة على سطحها الخشن، أمرا في حزم: خلاص كده! كل واحد عرف دوره وايه اللي المفروض عليه.. وهيأكد على مجموعته!.. 

هز زملاؤه رؤوسهم في إيجاب، ليهمس فضل الله: على بركة الله.. 

جذب الورقة الموضوعة قبالتهم ممزقا إياها.. واضعا قصاصاتها في فوهة اللمبة محرقا.. قبل أن ينسحب كل فرد من المجموعة وحيدا، بفارق دقيقة عن صاحبه حتى لا يلفت خروجهم جماعة، النظر إلى مكان اجتماعهم.. 

كان فضل هو الأخير الذي غادر برفقة أمير أحد اصدقائه المقربين.. تاركا الحجرة الضيقة التي تقبع في بدروم إحدى البيوت العتيقة في حي الشرابية..  

تسترا بجدران البيوت، وتمهلا على نواصي الشوارع حتى يخلو الطريق من أي أثر لجندي بريطاني.. فالهدف كان أكبر من مجرد الخلاص من مجرد جندي أو أثنين.. كان الهدف هو التحرر من سلطة الاستعمار البريطاني كليا.. وخاصة بعد إقحام مصر في الحرب العالمية الثانية التي نشبت منذ أشهر قليلة مضت، وكالعادة ورطت بريطانيا مصر في دفع تكاليف تلك الحرب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل.. ولم تقبل بأن يكون الجلاء عن مصر ثمنا لمشاركتها في هذه الحرب.. فثارت جميع الطوائف المصرية لهذا التعنت.. وقرروا إذاقة بريطانيا العذاب حتى تزعن حكومتها لمطالب الجلاء التام عن أرض مصر.. 

تسلل فضل وأمير صوب ذاك الكامب الانجليزي الذي كان مقررا الهجوم عليه من قبل جماعتهم، وتفجير بعض مواضع الزخيرة وإلحاق الضرر بالمقر بالكامل.. 

كان ذاك الظلام الدامس إلا من ضوء ذاك الكشاف الذي يتحرك بشكل آلي لمراقبة الموضع حول الكامب، مساعدا كبيرا على تسترهم.. وساهم في تيسير تسللهم لقلب المعسكر.. حتى إذا ما انتهى كل فرد منهم من تنفيذ الجزء المنوط به في المهمة.. جاء دور الجزء الأخير.. والأخطر على الاطلاق.. لأنه ينطوي على مخاطرة جسيمة قد تكلف القائم به حياته.. وهذا كان دور أمير.. الذي أصر على القيام به منفردا تماما.. وهو الضغط على زر التفجير من منطقة قريبة نسبيا من أسوار الكامب المحاط بالأسلاك الشائكة.. عارضه فضل مرارا.. لكنه أبى إلا أن يقوم بها وحيدا.. 

جاءت اللحظة الحاسمة.. وأخذ أمير الإشارة من فضل الله، ليتأكد أن جميع زملائه قد ابتعدوا عن المعسكر مسافة آمنة.. وعليه أن يضع اللمسة الأخيرة.. 

أغلق أمير عينيه مطلقا زفرة قوية قبل أن يفتحهما متطلعا للكامب الانجليزي للمرة الأخيرة.. ضاغطا على الزر في قوة.. ليشق الانفجار قلب القاهرة.. وتدوى صافرات الإنذار.. وبدأ من بقى أو نجا من جنود الكامب في إطلاق الرصاص بشكل عشوائي جنوني على أي هدف متحرك على البعد.. كرد فعل هستيري على ما يجري.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٣٩.. 

وصلت العربة أمام سراي وناسة، ليترجل منها مختار قادما رأسا من مقر عمله إلى السراي، مر عبر البوابة ملقيا التحية على مصباح، الذي نهض يرد السلام في محبة، داعيا لمختار بالسعادة والهناء، صعد مختار الدرجات الأمامية للسراي، ومنها للداخل حيث رافقه أحد الخدم لداخل غرفة الاستقبال، هلّ سعد ملقيا التحية على ابن أخته في سعادة عارمة، وجده يقف أمامه بحلته العسكرية.. يلمع على أكتافه النجوم الذهبية، معلنة عن رتبته.. ملازم أول في الجيش المصري.. احتضن سعد مختار في فخر، هاتفا: وااه يا مختار، خلاص ظابط رسمي، والدبابير اهي بتضوي على كتافك! ربنا يحفظك يا ولدي.. 

هتف مختار في أدب جم: تسلم يا خالي، ربنا يعزك.. هو فين فضل!.. 

هتف سعد متعجبا: ده أني اللي لسه كنت هسألك ليه مچاش معاك! جلت شفته وأنت چاي لما عديت على بيت مصر الچديدة، 

نفي مختار: لا والله يا خالي، مكنش هناك وكنت فاكر إنه سبجني على هنا.. 

ساد الصمت لبرهة، ليسأل سعد مستفسرا: وزعوك على فين من غير شر!..

أجاب مختار: على التشكيلات في الإسماعيلية.. فيها أكبر تمركز للجيش البريطاني، وإحنا مجرد عناصر تأمين.. والله الواحد الود وده مش يحرسهم.. لاه.. يغرجهم فالقنال ويخلص.. 

ابتسم سعد هاتفا: كن فضل اللي بيتكلم جدامي.. ربنا يخلصنا منهم على خير يا رب.. 

هم مختار بالحديث، لكن صوتا رقيقا دخلت صاحبته مقاطعة حديثه، جاءت مسرعة من الخارج، لتعتذر في أحرف متقطعة خجلا: آسفة.. مكنتش أعرف إنك مش لوحدك يا بابا.. 

أكد سعد باسما: تعالي يا صفية، ده مختار واد عمتك، فيه الخير چاي يطل علينا.. 

تقدمت صفية خطوة للداخل، هاتفة في حياء فطري: كيفك يا مختار! 

هز مختار رأسه في تأدب: بخير الحمد لله، كنت چاي اسلم على فضل، مشفتوش بجالي ياما،. خالي بيجول له شوية منزلش اجازة عليكم.. 

همست صفية: فيك الخير.. عمتي توحيد عملت ايه لما شافتك بعد الغيبة دي!.. 

هتف سعد: دي تلاجيها فضلت تزغرظ بتاع ساعتين!.. 

ضحك مختار، وكذا صفية، ما جعل نظراته تسقط عليها بلا قدرة على ردعها، مجيبا وهو يحيد بناظريه عن محياها الآسر: اجولكم الحج!.. أني لسه مرحتش دارنا.. چيت على هنا الأول.. أصل لو أمي شافتني .. يمكن تفكر تعتقلني الإجازة كلها چنبها.. جلت ألحج ازوركم.. 

قهقه سعد هاتفا: والله لأجولها وشوف هتطلع م المغرز ده كيف!.. 

اتسعت ابتسامة مختار هاتفا في نبرة مستعطفة: اهون عليك يا خالي!.. طب بلاش أنا.. أمي مش هتمون عليك.. كفاية عليها سميح وعمايله عليها.. 

قهقه سعد مؤكدا: ايوه والله صدجت، جرد مسلسل، معچون بمية عفاريت.. أجول هيكبر ويعجل، محصلش.. اهو فالتوچيهية السنة دي.. يا رب يفلح ويفرح أمك به.. 

هم مختار بالرد، إلا أن أحد الخدم استدعاه لأمر عاجل.. فقد وصلته برقية هامة، وعليه قراءتها والرد عليها على وجه السرعة، ما دفع سعد للنهوض في عجالة، أمرا مختار: هتتغدا معانا النهاردة.. متروحش أني راچع لك.. 

نهض مختار معتذرا: لا، اعفيني يا خالي، هروح أنا.. أكيد أمي وصلها خبر مچيتي.. أروح انچد نفسي.. ولا أنت مضحي بيا!.. 

هتف سعد وهو يندفع لخارج الغرفة: طب سلم لي على أبوك وأمك.. ومتسافرش إلا أما أشوفك.. 

هتف مختار: أكيد يا خالي.. 

نهضت صفية في هوادة، لتلحق بوالدها، لكن مختار استوقفها وهو يلحق بها قبل أن تخطو خارج غرفة الاستقبال، مطالبا إياها بالتوقف: صفية!.. 

تسمرت موضعها، ليصل حيث كانت تقف وضربات قلبها تتضاعف في اضطراب، رافعة نحوه نظرات مستفهمة، قتلته بلا عمد، وجعلت الكلمات تتعثر على شفتيه، هامسا في وجل: هناك ع الطرابيزة.. أنا منستش.. 

حادت بناظرها نحو الطاولة الرخامية التي تتوسط المجلس، لتجد ثمة علبة صغيرة موضوعة هناك، اندفع مختار ما أن تأكد له أنها وعت موضع هديته، مغادرا الغرفة في عجالة، تاركا إياها تخطو في إتجاه الطاولة.. مدت يدها في اتجاه العلبة الصغيرة.. فتحتها لتجد داخلها نوع الحلوى التي تعشقها منذ الصغر.. والتي كان يحملها دوما بجيب قميصه أو بنطاله، ليهديها لها منذ كانت طفلة في الخامسة من عمرها.. كانت دائما ما تجد هداياه الصغيرة تلك.. في الأماكن المفضلة لها.. تنتظرها هناك لتؤكد لها أن مختار مر من هنا.. وهو يبعث لك السلام على هيئة قطعة حلوى.. يضعها حيث يعلم جيدا حد اليقين أن ما من أحد قد يمر على هذا المكان قبلها.. 

اتسعت ابتسامتها ودمعت عيناها.. واحتضنت العلبة الغالية في سعادة.. وهي تندفع صوب غرفتها، لتضمها لمجمل هداياه الحلوة.. التي تحتفظ ببعض منها في مكان خاص جدا بخزانتها.. والتي لها أثر خاص جدا بقلبها.. 

❈-❈-❈

القاهرة.. ١٩٣٩..

كان الانفجار في كامب الإنجليز مدويا، حتى أنه رج المنطقة والمناطق المجاورة.. مخرجا الإنجليز عن طورهم البارد.. ليبدأوا في البحث وتتبع الشباب القائمين على هذا التخريب على حد زعمهم.. وانطلقت العربات من خارج الكامب مع المزيد من الدوريات التي انتشرت في شوارع الأحياء المحيطة بحثا عن هاربين للقبض عليهم.. 

حمل فضل صديقه أمير.. الذي نجا بأعجوبة من أثر الانفجار.. لكن أحد الرصاصات التي أطلقها الإنجليز في عشوائية أصابت قدمه.. واعاقته عن الهرب ما دفع فضل لعدم تركه خلفه، حاملا إياه مسافة طويلة، يحاول أن يتجنب الدوريات المجنونة لقوات الإنجليز الباحثة عنهم، حتى علق في الفخ، وما كان له إلا التسلل من بوابة أحد القصور التي كان بابها مشرعا من أجل جلب بعض الأغراض.. في غفلة من حارسها الأسمر.. 

تسترا بالجدران وبعض الأشجار الوارفة، حتى وصلا للحديقة الخلفية للقصر.. وتوقفا ما أن لمحا طيفا يقترب من البعد.. 

كانت فتاة رقيقة لم تتخط السادسة عشر، تسير بلا هدى بدروب الحديقة المزهرة.. وصوت الجرامفون يشدو بالقرب بإحدى الأغاني الفرنسية الهادئة.. 

كان وصولها لموضع اختباءهما واكتشافها وجودهما قاب قوسين أو أدني.. إلا أنها تسمرت لبرهة، معدلة من مسارها.. إلا أن أمير همس لفضل مؤكدا: شافتنا يا فضل، لازم نتصرف.. 

همس فضل: لا مشفتناش، مخدتش بالها، واهي بعدت عن مكانا.. 

همس أمير في إصرار: شافتنا بقولك.. وهترقع بالصوت دلوقت حالا.. 

وقد كان ما توقعه أمير، لكن فضل استطاع أن ينقذ الموقف مندفعا نحو موضعها، مغطيا فمها بكامل كفه، هامسا بالقرب من مسامعها وهو يجذبها نحو موضع أمير: متخافيش صدقيني.. متخافيش.. أنا.. 

تركها فضل لتستدير في سرعة تتطلع نحو مكبلها ذاك.. ما أن تنبهت أنها تعرف صاحب ذلك الصوت، لتهتف في تعجب: فضل!.. ايه اللي بيجرا هنا!.. 

أكد فضل محرجا: أنا آسف يا إلهام، بس كان لازم امنعك عن الصراخ.. ووالدك يعرف إني دخلت بيته بالطريقة دي.. ويسأل كمان ليه!.. 

هتف أمير ساخرا: بما إنكم طلعتوا معرفة قديمة، فيعني لو مش هقطع عليكم فقرة التعارف الجميلة دي، أنا بموت هنا.. 

هتفت إلهام في دهشة: ده صاحبك يا فضل! معقول.. واطلقت كلمة بلغة فرنسية متقنة مستنكرة ما يحدث.. لكنها تفاجأت حين هتف أمير في فرنسية سليمة متهكما: نعم، هو كذلك.. فضل صديقي.. وأنا لست من الرعاع.. 

ثم وجه أمير حديثه لفضل، متسائلا: اوعى تقولي دي كانت حب قديم!.. اصل ايه العلاقة اللي.. 

هتف فضل مقاطعا: ممكن تسكت شوية، عشان دي بنت خالي.. واللي إحنا واقفين فيه ده قصر رستم باشا كاظم أوغلو.. خالي العزيز.. وعايزين نعرف هنخرج من هنا إزاي بأقصى سرعة.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهتف أمير في نبرة ساخرة موجها حديثه لإلهام، وبلغة فرنسية أيضا: آسف آنستي، كنتي على حق تماما، أنا من الرعاع.. 

همست إلهام في فضول: انتوا بتعملوا ايه هنا يا فضل!.. 

رد أمير هازئا: بنشم النسيم العليل، أصله مش موجود إلا في جنينة قصركم!.. 

هتف فضل معترضا: أمير!.. 

هتف أمير معترضا بدوره: أنت مش شايف!.. 

طب بصي كده.. يمكن دي تقنعك إن إحنا هنا هربانين.. 

رفع أمير قدمه المصابة المعصوبة بقطعة من قماش بدأت تتخضب بالدماء مؤكدة على استمرار نزف جرحه.. لكن ما فعله أتى بنتيجة عكسية، فقد كادت أن تفقد إلهام وعيها، حين طالعت منظر الدماء على ضماد قدم أمير.. لكن فضل أمرها بالثبات.. مبعدا إياها عن محيا أمير وجرحه.. هاتفا في نبرة معتذرة: أنا آسف يا إلهام، بس الدوريات الإنجليزية مالية الشوارع دلوقت ولازم نستخبى على الأقل ساعتين تلاتة قبل ما نخرج للشارع تاني ونبقى في أمان.. إلهام.. إنتي مش هتقولي لمخلوق إننا هنا.. صح!.. 

ترددت إلهام برهة قبل أن تهز رأسها مطمئنة إياه أن مجيئه سيظل سرا.. مشيرة له نحو غرفة جانبية هامسة: الاوضة دي فيها شوية كراكيب ومحدش تقريبا بيدخلها.. دي أكتر مكان أمان لكم في الوقت ده.. يا رب تكون مفتوحة.. 

سارت نحو الغرفة، ولحسن الحظ لم تكن مغلقة.. دفع فضل بابها، ليتأكد له أنها مناسبة تماما لاختبائهما لعدة ساعات حتى تهدأ الأوضاع بالخارج.. 

همست إلهام: هات صاحبك العجيب ده لجوه.. وأنا بقى مش عارفة هخبي إزاي وجودك.. أنا خايفة يا فضل.. 

أكد فضل مطمئنا: متخافيش، إحنا يا دوب ساعتين وهنمشي.. يعني محدش هيشعر بوجودنا ولا بأننا كنا هنا.. 

عاد فضل مسرعا نحو أمير، حاملا إياه نحو الغرفة المظلمة إلى حد كبير، ليصل لمسامعهم بعض الجلبة عند بوابة القصر.. 

اندفعت إلهام نحو البوابة تاركة الحديقة الخلفية لاستطلاع الأمر.. فإذا ببعض الجنود.. وضابطهم الانجليزي.. يقف على بوابة السراي وقد خرج رستم باشا لملاقاته مستفهما عن سبب تواجدهم على أعتاب قصره، ليؤكد الضابط الانجليزي أن عليهم تفتيش القصر لأنهم يبحثون عن جناة هاربين، كانوا سببا في التفجير الذي هز المنطقة منذ ساعة تقريبا.. فسقط قلب إلهام بين قدميها.. وهي تتخيل أن الجنود قد اكتشفوا موضع اختباء فضل الله.. وصاحبه العجيب.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

خرجا من المشفى العام بعد أن أقنعها بضرورة العودة معه للنجع للراحة قليلا وتغيير الملابس التي حملت من وعثاء الطريق واتربته الكثير، وخاصة بعد ما حدث أمام باب دار نجية.. وبعد أن أكد لهما الأطباء أن نجية ما تزل في غيبوبتها.. وأنها تناولت دواء مهدىء لحالتها يجعلها تخلد للراحة والمزيد من السبات.. ما جعل من العودة لنجع الرسلانية ضرورة ملحة في ذاك الوقت، والعودة مرة آخرى فلربما يجد جديد في حالتها فيكونوا بالقرب.. وما أقنعها أكثر لترك نجية والعودة للخلود للراحة، هو تأكيد حبيب على تواجد الدكتور سرور بالمشفى الليلة في مناوبته الليلية، وأن سرور لن يدخر جهدا في ىعايتها.. وإذا ما جد في أمر نجية جديد.. سيعمل على إبلاغهم فور حدوث ما يستدعي وجودهما.. 

سارا خطوات نحو موقف سيارات الأجرة واختار حبيب إحداى السيارات المتجهة نحو نجع رسلان وما يجاوره من نجوع.. جلس بالمقعد المجاور للسائق، وتركها تجلس بالمقعد الخلفي، أمرا السائق ألا يسمح بصعود أي من الركاب خلافهما، مؤكدا في نبرة قوية: اطلع، هناخدها مخصوص، وخد اللي أنت عاوزه.. 

ابتهج السائق وصعد العربة أمام مقود السيارة في سرعة، فذاك سيكفيه تعب الانتظار حتى تكتمل حمولة السيارة بما يلزم من عدد الركاب قبل أن يفكر في التحرك الأمر الذي يمكن أن يقضي فيه أكثر من ساعة ويزيد.. 

اتخذ السائق ذاك الطريق الأكثر بعدا لكنه الأوفر راحة، لأنه معبد خلاف ذاك الطريق الأقصر والذي يمتلأ بالكثير من المعوقات التي تجعل القيادة عليه عملية غير سهلة.. 

تطلعت للطريق عبر زجاج النافذة التي أسندت عليه رأسها المنهك بالأفكار.. تنبه حبيب لفعلة أنس الوجود، واشفق على حالها، فما خُلقت هي لمواجهة مثل هذه الأمور التي تواجهها هنا منذ وصولها، مثقلة إياها بالصدمات.. التي تبدو جلية على محياها الشاحب في هذه اللحظة، مدت يدها تعدل من وضع شاله الشاش الذي اتخذته كغطاء للرأس، جامعة به جدائل شعرها الذي تناثرت خصلاته على كتفيها بالمشفى.. موردة فؤاده مورد التهلكة.. ثم فتحت زجاج النافذة مستنشقة نسيم الصباح في عمق.. كانت نظراته لها بين حين وآخر نوع من الحماية والطمأنينة، والتي قابلتها هي حين تلاقت نظراتهما بلا ترتيب بابتسامة شجية ارتسمت على شفتيها بشكل عفوي.. لا تحمل أي رسالة خاصة أرادت إيصالها.. إلا الامتنان.. 

مد السائق كفه ضاغطا على زر تشغيل الراديو، على إذاعة البرنامج العام.. لتبدأ وصلة موسيقية طويلة، كانت مدخلا من الروعة، وعبدالحليم حافظ يقر في عذوبة: 

الرفاق حائرون.. يفكرون.. يتساءلون في جنون.. حبيبتي.. أنا.. من تكون حبيبتي!!.. 

لاحظ حبيب أن أنس الوجود تنقر بأصابعها الرقيقة على ركبتها متماشية مع ايقاع الأغنية.. ما جعله يبتسم في سعادة لسعادتها.. وتعجب من فعل المحبة بقلوب عباد الله.. وكيف يكون لها أن تجعل من سعادة المحبوب مصدرا خالصا صافيا لسعادتنا!.. إنها حقا لمعجزة المحبة ووئام الأرواح!.. 

تنبه أن أنس الوجود تسأله في صوت خفيض: ممكن ننزل بعيد عن السرايا، عايزة اتمشى شوية!..

لم يكذب حبيب خبرا، أمر السائق فورا: وجف على چنب يا اسطى.. 

نفذ الرجل، لينقده حبيب حقه وزيادة، ما أسعد السائق الذي نال ماله ورحل مسرعا.. تطلع صوبها حبيب، وهو يشعر ببعض الرضا داخليا، فقد تخلت بعض الشيء عن استقلاليتها المفرطة في حضرته، حين طلبت منه النزول للتمشية، أنس الوجود التي جاءت لنجع الرسلانية منذ أشهر قليلة لأول مرة ما كانت لتفعل ذلك، كانت لتوجه أمرها مباشرة للسائق دون العودة إليه.. ذاك التغير في شخصيتها جعل للمسير بصحبتها متعة أكبر من طبيعتها.. ومذاقا خاصا.. 

شرعا في المسير نحو السراي من ذاك الطريق الغير مختصر الذي يجعل المسافة لها طويلة إلى حد ما.. كان الصمت يغلفهما.. لم يكن لينطق حرفا وهو المدرك لحاجتها إلى بعض السكينة حتى تهنأ روحها بعيدا عن صخب الأحداث الذي شوش على مقدار وضوح الأمور قبالة ناظريها.. تنهدت فرفع ناظره صوبها مستشعرا أن تلك التنهيدة الحارة تنفيس عن صراعات داخلية طاحنة.. 

كانت نظراتها تمتد للأفق البعيد رغبة في الشعور بالراحة المفتقدة.. حاول صرف فكرها عن الانغماس في كل الأحداث السابقة.. مشيرا نحو بعض الأطفال الذين كانوا يلعبون على مقربة.. يسألها في محاولة لجذب انتباهها وإثارة فضولها: مخدتيش بالك م الكحل اللي العيال كلها متكحلة به!.. 

ابتسمت في شجن مجيبة: خدت بالي، وكنت لسه هسألك.. هو في مرض رمدي منتشر ولا ايه!.. اصل كلهم متكحلين شبه الكهنة في المسلسلات اللي بتتكلم عن مصر القديمة.. 

انفجر ضاحكا، فقد كان تشبيهها على قدر موافق تماما لحقيقة الأمر، هاتفا في نبرة وافرة المتعة: إنتي تجريبا چاوبتي.. هي فعلا عادة من أيام المصريين القدماء، كانوا بيعملوها مع دخول فصل الربيع.. وأعياده.. اللي هو شم النسيم.. اللي كانوا بياكلوا فيه البيض والسمك المملح.. وبعد دخول المسيحية مصر.. ارتبط الطقس ده، بسبت النور عند المسيحيين.. وبعد دخول الإسلام.. فضلت الطقوس هي هي.. متغيرتش.. الستات مع دخلة شم النسيم يحطوا بصلة على باب الدار من بره، عشان تبعد المرض والعين الوحشة.. والأرواح الشريرة.. والجدة بقى تقوم جايبة المرود.. وده زمان كان بيتعمل من ريشة أي طائر قبل اختراع المرود الخشب والنحاس والفضة.. وتغرسه في جلب بصلة ومن بعدها تغمسه في الكحل.. وتكحل به العيلة كلها.. فتشوفي المنظر اللي انتي شيفاه ده.. 

اتسعت ابتسامتها حتى أنها ارتفعت ضحكاتها، وهو يستطرد مشيرا للأطفال: نسخ متغيرتش من أيام الفراعنة.. نفس الصور اللي كنا بنشوفها في كتب التاريخ.. 

هتفت أنس الوجود باسمة: بس لابسين هدوم، غير كتب التاريخ خالص.. 

ما أن نطقت كلمتها، حتى ظهر طفلا عاريا أمام ناظريهما، يركض هاربا من أمه التي كانت تصر على تحميمه وهو يأبى في إصرار.. ما جعل الصدمة ترتسم على وجه أنس الوجود للحظة، قبل أن تنفجر ضاحكة على حال الصغير الذي ظل يركض مبتعدا وباقي الأطفال يلحقون به، ليعيدوه لكفي أمه، لتصطفل فيه.. ليشاركها حبيب الضحكات المنتشية، هاتفا من بين ضحكاته: اهااا، كتاب التاريخ طلع لك بذات ذاته.. ده يمكن نفس الصفحة اللي جلتي عليها.. يا رب تكوني مبسوطة دلوجت!.. 

ضحكت حتى دمعت عيناها.. ليسود الصمت وتتهادى أنغام الموسيقى قادمة من على مقربة، جوار ترعة متآكلة الضفتين، يركن على ضفتها الأبعد عن مسارهما.. قهوة هي أقرب ما تكون لعشة من الخوص والبوص، تحاوطها الآرائك الخشبية، وتتناثر بأركانها الطاولات القصيرة عليها تقبع أكواب الشاي بإهمال.. والذي يعد المشروب الرسمي لهذه البلاد البعيدة عن خارطة واقعها.. رفع حبيب كفه ملقيا تحية صامتة للجالسين، ليرد الجميع التحية بنفس الطريقة وكأنها إشارة متعارف عليها في عرفهم.. في وجود أحد النساء بصحبة أحدهم.. فلا يقف ولا يتبادل الحديث حتى المقتضب، وفي صحبته امرأة من أهل بيته.. غريب هو أمر هذه البلاد!.. على قدر احترام بعض عاداتهم للمرأة حد التقديس، على نفس القدر تجد بعض العادات الأخرى التي تعكس مدى احتقارهم لها وانكارهم لحقوقها، الذي قد يصل إلى حد الخلاص منها كمصدر لتهديد الهيبة.. وشموخ الرأس في عزة لا تنكيسها عارا بحضرة الجميع.. أي تناقض هذا!.. 

جاء صوت عبدالحليم حافظ متهاديا عبر أنسام رقيقة متغنيا، وعلى ما يبدو راديو القهوة يعتدل مؤشره على نفس تردد راديو السيارة التي غادروها منذ قليل، لأنه يذيع نفس الأغنية.. لكن المقطع مختلف.. وكأنه يتتابع ليكمل روعة الصورة وحليم يكرر:

لا تحذري، نظراتهم إليكِ.. لا تفزعك، همساتهم عليكِ..

فأنت في أعماق ذاتي سر أسرار حياتي..

فدعيهم يا حياتي، فدعيهم يا حياتي..

ولا تبالي إنني، إنني يا حبيبتي..

أخفي هواك عن العيون، فكيف مني يعرفون

حبيبتي، حبيبتي أنا.. من تكون حبيبتي!.. 

تباعدت تساءلات عبدالحليم، حتى تلاشت تماما مع ابتعادهما عن المقهى، واقترابهما من سور السراي الذي لاح قبالة ناظريهما شامخا على الرغم من بعض ما اعتراه من تداعيات بسيطة أثرت على مظهره العام بعض الشيء، إلا إنه يظل شاهدا على تاريخ طويل مضى.. بكل أفراحه وأتراحه.. 

وصلا أخيرا لبوابة السراي، لينهض شبل منتفضا ملقيا التحية، ردها حبيب وكذا أنس خلفه، ليفترقا عندما تركته مستأذنة تهرول نحو الدرج المفضي لاستراحتها.. ليتجه هو صوب التعريشة.. ملاذه الآمن.. لعل بعض من أسقام روحه العليلة.. تسكن ولو لبعض الوقت.. يسترد فيه أنفاسه، ليقدر على المواصلة.. في دحر كل تلك التحديات المستنفزة لطاقة روحه الطواقة للسلام.. تلك الصراعات التي لم تفضِ لنهاية.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١..

لم يعد الأمر سرا، ولا خافيا عليها، فتلك الحال التي بات نصير فيها، لم يمر بها من قبل، هي الوحيدة التي تدرك كل خلجات نفسه، وتدرك أيضا بل يكاد إدراكها يصل لدرجة اليقين، أن تلك الحالة من السهاد والمزاج المعتل، التي أصبحت هي سمة محياه، لم تكن إلا تعبيرا عن افتقاده لوجود أنس الوجود، ورغبته في عودتها من ذاك النجع البعيد، حيث سافرت هربا ربما أو رغبة في خلوة تتخذ فيها قرارا بلا مؤثرات.. 

ساءها ذاك الإكتشاف حد الشعور أن طعنة نجلاء قد نفذت لسويداء قلبها من نصل حاد حتى استقر النصل حتى الغمد.. لا جرح ينزف، لكن جرح قاتل بلا نقطة دماء واحدة أو حتى قطرة دمع مسكوبة.. فهي كالتي تسير على حد سيف يقطع باطن قدميها وهي عاجزة تماما عن التوقف الذي فيه حدفها.. ولا المسير الدامي الذي فيه يستمر نزفها.. 

وصلا للفيلا، فترجلت ملقية التحية مبتعدة نحو استراحتها، ليفعل هو بالمثل، ويسير نحو مدخل الفيلا.. 

حاولت هاجر طرد كل تلك المشاعر الموجعة من داخلها.. توجهت صوب الحمام لتأخذ حماما باردا لعله يخلصها من هذه الأحاسيس المهلكة.. والمستنزفة لهدوء بالها وراحة نفسها.. لا تعرف كم مضت بالداخل.. لكنها لم تخرج إلا حين أحست ببعض الراحة.. وقفت في بهو الاستراحة تتدثر بمئزرها المنزلي، وتجمع شعرها تحت منشفة الحمام حتى يجف قليلا.. تقف خلف طاولة المطبخ تصنع لها بعض العصير.. في محاولة لدفع شهيتها لتقبل بعض الطعام، الذي أصبح زيارته لمعدتها شحيحا.. في الآونة الأخيرة.. 

تنبهت أن صوت موتور سيارة يأتيها من الخارج، تركت موضعها خلف طاولة المطبخ، واتجهت للنافذة المطلة على مدخل الفيلا، لتتفاجأ أنه نصير وقد اندفع بالسيارة للخارج من جديد.. لم تكن هذه من عاداته! أن يخرج بعد عودته من يوم عمل طويل ومرهق كاليوم!.. 

إلى أين يتجه يا ترى!.. هل يجافيه النعاس لبعاد أنس الوجود!.. أم يوجعه رفضها لشخصه، الذي حتى لم تفصح عنه بالكلمات، بل بالفعل الصريح الواضح، حين قررت الهرب من الميدان، والاحتماء بتلك البلاد البعيدة.. الخارجة عن نطاق نفوذه، وقدرته ع السيطرة.. 

تنهدت في قلة حيلة، فما الذي تملكه هي، حتى تعيد الأمور لنصابها، ويعود الحال لما كان عليه قبل ظهور أنس الوجود في حياة نصير!.. لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. 

جلست ترتشف مشروبها في محاولة لتهدئة نفسها، حتى تستطيع الخلود للنوم، فما عاد لها الرغبة في تناول الطعام.. 

همت بالدخول لفراشها، تدعو أن تقدر على النعاس بسرعة بلا ساعات من التقلب على جمر الفكر مسهدة.. 

اعمضت عينيها، لكن صوت رنين الهاتف الذي ارتفع في إصرار، جعلها تنهض زافرة في ضيق لترد، بعد أن كانت قد قررت تجاهله.. رفعت السماعة في عجالة قبل أن ينقطع الرنين.. لتهتف بعد برهة من الصمت، في ذعر: ايه!.. نصير بيه!.. في مستشفى ايه!.. طيب حالا.. أنا جاية حالا.. 

وضعت سماعة الهاتف في عجالة، راكضة نحو باب استراحتها، فقد كادت أن تغادر على هيئتها، حتى تنبهت في خضم ذعرها مبدلة الاتجاه صوب حجرتها في اضطراب شديد، حتى تنهي ارتداء ملابسها في عشوائية لم تكن من طبعها، مندفعة للخارج في اتجاه المشفى حيث يرقد نصير، متشبثا ما بين الحياة والموت..  


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة