-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 19 - جـ 1 - الأربعاء 3/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل التاسع عشر 

الحزء الأول

تم النشر الأربعاء  

3/9/2025


كانت السرايا غارقة في صمت ثقيل، صمت لا يشبه هدوءها المعتاد، بل صمت محموم بالوجع والقهر المكتوم

في الطابق العلوي، كان الحاج وهدان، كبير العائلة، طريح الفراش، فلم يعد باستطاعته التظاهر بالقوة أكثر من ذلك بعد أن انتهى الزفاف وظهر أمام الجميع على نفس وقاره الذي اعتادوه عليه.

سقط جسده الذي طالما كان صخرة تستند عليها العائلة، قد وهن فجأة

وكأن إهانة حفيدته كانت القشة التي قصمت ظهر قوته.


أما سالم، فكان شبحاً يسير في أرجاء المنزل صامتاً وعيناه تحملان عجزاً يقتله في كل لحظة 

الخوف من الفضيحة، ومن بطش التهاميه كبّل يديه ولسانه. 

لقد أُسدل الستار على "الفرح"، وبقيت الحقيقة المرة حبيسة جدران السرايا، سراً يؤرق نوم الجميع.


في غرفته، كان مالك يتحرك بهدف واضح. 

على سريره، كانت حقيبة سفر صغيرة مفتوحة، وبجانبها ملف سميك يضم أوراقاً ومستندات جمعها بعناية فائقة خلال الأيام الماضية. 

كانت بينها صورة ضوئية لوثيقة الزواج، تلك القسيمة التي خاطر الكثير للحصول عليها، حيث تمكن من إقناع "فرح"، الخادمة الشابة في بيت التهامي، بتصويرها له خلسة مقابل مبلغ كبير من المال ووعد بحمايتها. كانت هذه الورقة هي السلاح الأول في معركته القادمة.


انفتح باب الغرفة بهدوء ودخلت والدته. 

كانت ملامحها شاحبة، وعيناها تحملان حزناً عميقاً وقلقاً لا ينتهي. 

توقفت على عتبة الباب حين رأته بملابس الخروج والحقيبة المفتوحة.


_مالك؟ أنت لابس ورايح فين في وجت زي ده؟


_ رد مالك دون أن يلتفت، وهو يضع الملف في حقيبته

_مسافر القاهرة يا أمي.


تقدمت منه بضع خطوات إلى الداخل، ونبرتها ارتفعت قليلاً بالقلق

_القاهرة؟ ليه يا ولدي؟ شغلك مش دلوجت، وجدك تعبان ومحتاچنا كلنا حواليه.


أغلق مالك حقيبته واستدار ليواجهها. كانت عيناه تحملان تصميماً صلباً لم تره فيه من قبل.

_عشان جدي تعبان، وعشان أبويا وعمي مش عارفين يعملوا حاچة، أنا لازم أتحرك، مسافر لأكمل.


تجمدت ملامح ورد عند سماع اسم "أكمل". 

فهمت على الفور أن الأمر يتعلق بنغم، وأن ابنها ينوي فتح أبواب الجحيم.


بصوت مرتعش

_أكمل؟ عايز تعمل إيه يا مالك؟ اني مش عايزاك تقف قصاد صخر يا ولدي، صخر جلبه ميت ومش بيهمه حد واصل.

وبعدين انت إكدة بتفضحها.


تحدث مالك بحدة لم يعتد أن يكلمها بها

_الفضيحة إننا نسيبها في إيد الراچل ده يا أمي! الفضيحة إننا نجف نتفرچ عليها وهي بتتعذب واحنا ساكتين خوف! 

سمعة إيه اللي بتتكلمي عنيها؟ سمعة البنت بتتداس كل يوم وهي عايشة في بيت عدونا!


اقتربت منه وأمسكت ذراعه برجاء

_يا ابني افهمني... صخر ده مش أي حد، ده اخوي... وانا اكتر واحدة خبراه  جاسي وميعرفش ربنا، ومبيعملش حساب لأي حاچة. 

لو حاولت تجرب منه انت بالذات، هيولع فينا كليتنا


نفض مالك يدها عنه برفق ولكن بحزم

_وهو ده اللي مخليهم دايسين علينا عشان عارفين إننا بنخاف بس أنا مبجتش أخاف يا أمي. 

من يوم ما شفت نظرة الانكسار في عين نغم وهي بتتاخد من وسطنا، والخوف مات جوايا مبجاش فيه غير الغضب.


بدموع بدأت تتجمع في عينيها _وغضبك ده هيضيعها مش هينقذها! هيجولوا عليها إيه، جاسر مش هيسكت، هيلوث سمعتها عشان يكسرها ويكسرنا معاها لو عملت إكدة.


تنهد مالك بمرارة 

_عشان إكده رايح لأكمل مش هعمل حاچة متهورة هنفكر، هندرس كل خطوة لازم نلاجي ثغرة في القانون، مخرج يحفظلها كرامتها وحجها من غير ما ندي فرصة لحد يتكلم عليها نص كلمة. 

أكمل بيفهم في الحاچات دي أكتر مني، وهيعرف يلاجي حل من غير فضايح.


تحدثت ورد بصوت يائس

_مفيش حل يا مالك. 

خالك صخر جفل كل البيبان من يوم ما اتچوزت ابوك


نظر مالك في عينيها مباشرة، وفي صوته وعد قاطع

_الباب الوحيد جدامنا دلوجت سلاح القانون، ولو القانون معرفش يجيب حقها، يبقى ساعتها لكل حادث حديث. بس لازم أحاول الأول، لازم أعمل أي حاجة... أي حاجة عشان أقدر أبص في وشى في المراية تاني.


حمل حقيبته وتوجه نحو الباب، ثم توقف للحظة وأدار رأسه نحوها.


_ادعيلي يا أمي... وادعي لنغم.


خرج من الغرفة تاركاً والدته واقفة في المنتصف، تبكي بصمت

كانت تبكي على نغم التي ضاعت، وعلى ابنها الذي يسير بقدميه نحو مواجهة ستلتهم الأخضر واليابس. كانت تعرف شقيقها صخر، وتعرف ابن أخيها جاسر الذي ورث منه القسوة والبرود، وأدركت أن ابنها قد أشعل للتو فتيل حربٍ لا يعلم أحد كيف ستنتهي.


❈-❈-❈


أوراق قضائية مبعثرة على المكتب، وأكواب القهوة الفارغة تشي بوقت طويل يجلس مالك أمام المكتب، يفرك عينيه بإرهاق واضح. 

أمامه يجلس أكمل وكيل النيابة، بملامح جادة وهو يقلب في بعض الأوراق التي أحضرها مالك. 

الصمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت تقليب الورق.


وضع أكمل الأوراق على المكتب ويزفر ببطء

_مالك، أنا بقالي ساعة بقلّب في كل كلمة وكل ورقة الوضع معقد أكتر مما كنت متخيل.


رفع مالك رأسه، وفي عينيه يأس مكبوت

_معجد كيف يا أكمل؟ بنت عمي مخطوفة باسم الچواز، جاسر التهامي أچبرها تتچوزه تحت تهديد وبيهددنا كلنا دي مش قضية، دي چريمة واضحة.


مال أكمل بجسده إلى الأمام، ويشبك أصابعه

_قانوناً، هي مش واضحة للأسف خلينا نفكر بعقل وكيل نيابة مش بعواطفك

إيه الدليل المادي اللي في إيدك؟


_الدليل هو شهادتنا كلنا! أنا وأبويا وعمي، كلنا شفنا اللي حوصل، غير كمان كاميرات المستشفى وهو نازل من العربية بيها وهي مغمى عليها.


_شهادتكم ليها وزنها طبعاً، بس الدفاع هيلعب عليها بسهولة. 

هيقول دي شهادة أهل، يعني شهادة مجروحة بدافع الخصومة والعداوة القديمة بين العيلتين. 

هيقول إنكم بتحاولوا تفرقوا بين زوجين وتدمروا سمعة جاسر التهامي وهنا هيقلب الترابيزة في ثانية.

دي حاجة

الحاجة التانية معنى انه شايلها وهي مغمى عليها ليها ألف سبب المحامي يقدر يمشيها على هواه. 


ضرب مالك بقبضته على المكتب في غضب مكتوم

_يعني إيه؟ يعني نسيبها في إيده؟ الراچل ده شيطان يا أكمل، أنا عارفه زين، نغم في خطر حقيقي معاه.


_أنا مصدقك، بس المحكمة مش بتتعامل بالنوايا، بتتعامل بالأدلة اسمعني كويس، لو عملنا بلاغ دلوقتي بالصورة دي، هيحصل سيناريو من اتنين، والاتنين أسوأ من بعض.


مالك بحيرة 

_إيه هما؟


_السيناريو الأول: النيابة هتستدعي نغم لسماع أقوالها جاسر مش غبي، هيجيبها وهي متحضرة كويس جداً هيضغط عليها هيهددها، وهيخليها تقول قدام وكيل النيابة إنها اتجوزته بكامل إرادتها وإن أهلها معترضين عشان مشاكل التار القديمة. 

ساعتها، القضية كلها هتتحفظ، وموقف جاسر هيبقى أقوى ألف مرة. 

هيبقى معاه شهادة رسمية من مراتُه نفسها.


صمت مالك، فكلمات أكمل كانت كالصفعة المنطقية التي أيقظته من غضبه.


أردف أكمل

_السيناريو التاني، وهو الأخطر. 

لو نغم خلفت كلامه وقالت الحقيقة، جاسر هيعتبر ده إعلان حرب مباشر ممكن يأذيها أو يأذي حد منكم بشكل لا يمكن تداركه قبل ما نقدر حتى نوفر لها حماية

إحنا بنتعامل مع واحد القانون عنده مجرد أداة مش رادع.


مسح مالك على وجهه بقلة حيلة _والحل؟ لازم يكون فيه حل لازم يكون فيه ثغرة 

ابن المركوب ديتى هيفضل يتلاعب بينا إكده.


التقط أكمل قلماً وتلاعب به بين اصابعه

_الحل مش في الهجوم المباشر، الحل في تفكيك الموقف نفسه الثغرة مش عند جاسر، الثغرة عند نغم.

قطب مالك جبينه بحيرة 

_جصدك إيه؟


_نغم هي مفتاح كل حاجة، هي الطرف الوحيد اللي يقدر يثبت الإكراه. 

بس عشان تعمل ده، لازم تكون في مكان آمن وبعيد عن سيطرته هدفنا الأول دلوقتي مش تقديم بلاغ، هدفنا هو إخراج نغم من بيته.


_إزاي؟ وهو حابسها هناك.


_لازم نوصل لها، لازم تعرف إننا بنتحرك عشانها وإن فيه خطة لازم هي اللي تطلب المساعدة لما تكون الفرصة سانحة.

رد مالك باحباط

_حاولت وبعت لها تليفون عشان اكلمها منه بس هي رفضت وقالت للبنت تخبرنا انها ماتت.

وبعدين حتى لو وصلنا لها وقدرنا نهربها أكيد هيجيبها قانونا في نفس اليوم


اشار أكمل بالقلم نحو مالك

_وهنا يجي دوري في اللحظة اللي نغم تخرج فيها من تحت سيطرته وتوصل لمكان آمن هنا في القاهرة، زي شقتك دي مثلاً، أول حاجة تعملها إنها تتصل بيا شخصياً

أنا بصفتي وكيل نيابة، هقدر أمنّلها حماية فورية هجيب قوة من القسم ونحط حراسة على المكان، وهفتح محضر رسمي بأقوالها وهي في حمايتنا. 

ساعتها جاسر نفسه مش هيقدر يقرب منها.

بدأ الأمل يلمع في عينيه

_وبعدها؟


_بعدها هنقلب اللعبة بدل ما إحنا اللي بنحاول نثبت، هيبقى هو اللي في موقف دفاع هنقدم طلب طلاق للضرر والخلع، وهنستخدم واقعة الإكراه كدليل أساسي. 

شهادتها وهي في حماية النيابة، مع شهادتكم كشهود مساندين، مع أي دليل تاني نقدر نجمعه... ساعتها الموقف القانوني هيبقى في صالحنا.

_زي إيه أدلة تانية؟


_أي حاجة رسالة بتبعتها لحد بتشتكي فيها، مكالمة متسجلة شهادة خادم في البيت لو قدرنا نوصل لحد شريف فيهم. 

الأهم دلوقتي يا مالك، هو التواصل مع نغم. 

لازم تلاقي طريقة تكلمها بيها، طريقة سرية وآمنة

من غير تهور فكر... مين ممكن يدخل البيت ده من غير ما يثير شكوك جاسر؟


أخذ مالك يفكر بعمق، يستعرض كل الوجوه والأسماء لم يعد غاضباً، بل تحول إلى محامٍ يفكر في كل خطوة قادمة.

لقد أعطاه أكمل الخيط، خيطاً رفيعاً من الأمل، لكنه كان منطقياً وقوياً الآن، مهمته هي أن ينسج من هذا الخيط طريقاً لخلاص نغم.


❈-❈-❈


كان الليل قد أسدل ستائره على القاهرة، لكن أكمل لم يكن يشعر بالهدوء كان يقف في شرفة شقته، والهواء البارد يلفح وجهه دون أن يطفئ النار المشتعلة في صدره

كانت أفكاره تدور حول ليلى، حول غدائهما الأخير الذي كشف كل الأقنعة. لقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها لا تحب 

أكمل

بل تحب "أكمل بيه وكيل النيابة". كانت تحب المنصب، الهيبة، الصورة الاجتماعية أما هو، بروحه وجذوره وقلقه على جده، فكان مجرد تفاصيل مزعجة في هذه الصورة البراقة. 

شعر بمرارة الخيبة، وبغربة عميقة وهو في قلب مدينته.


في خضم هذه الأفكار، رن هاتفه 

كان رقمًا من البلد

شعر قلبه ينقبض على الفور.

_ألو؟


_أكمل يا ولدي...

جاءه صوت عم صالح، جار جده.

انقبض قلب أكمل بقلق، فهذه أول مرة يحدثه باله‍اتف

_أهلا يا عم صالح، ازي حضرتك.

_بخير يا ولدي.

مهزوزًا ومختنقًا. 

_البقاء لله يا ابني... جدك... سابنا وراح للي خلقه.


تجمد أكمل في مكانه للحظات، لم يستوعب. 

بدا وكأن الكلمات قيلت بلغة أجنبية لا يفهمها. 

توقف الزمن، وتوقف الهواء في رئتيه. جده... مات؟ الكلمتان بدتا مستحيلتين، سخيفتين. 

_انت....بتقول... ايه؟

_أمر الله يا ابني، امانته وخدها.

محال

كيف يمكن للشخص الذي يمثل الثبات والجذور في حياته أن يختفي ببساطة؟


هنا، انهار كل شيء لم يصرخ لم يبكي. لكنه شعر بفراغ هائل يتشكل في صدره، فراغ بارد ومؤلم يهدد بابتلاعه. استند على سور الشرفة بكل قوته، يشعر وكأن قدميه لن تحملاه. 

وفي وسط هذا الفراغ، طفت على السطح ذكرى كلمات جده الأخيرة، حادة كشفرة سكين

"بخاف أموت لوحدي يا أكمل."


لقد تحقق الكابوس.


كانت رحلة إلى الصعيد ضبابية، قاد فيها جسده بآلية بينما كانت روحه تحوم في مكان آخر، عالقة بين الصدمة والندم. 

عندما وصل إلى البلدة، وجد سرادق العزاء قد نُصب بالفعل، والرجال بملابسهم الداكنة يتوافدون على منزل جده.

شعر نفسه غير بدونه

وكأن الجميع أصبحوا بدونه غرباء حتى والديه.

لم يجد سوى حضن مالك الذي شعر به وشعر بما حاجته إليه 

تقدم منه واحتضنه بقوة، دون أن يقول كلمة. 

كان حضنًا صامتًا، لكنه كان يحمل كل المواساة التي يحتاجها أكمل في تلك اللحظة. 

لم يبكِ أكمل، لكن جسده كان يرتجف بعنف بين ذراعي صديقه.


_عايز أشوفه.

كانت أول كلمات نطق بها أكمل بصوتٍ أجوف.


قاده مالك إلى الداخل، إلى الغرفة التي طالما جلس فيها مع جده. 

كان الجسد مسجى على سرير بسيط، مغطى بملاءة بيضاء نظيفة، ورجال صالحون يتلون حوله القرآن استعدادًا للغسل.


تقدم أكمل بخطوات ثقيلة، وكأن كل خطوة تزن طنًا. 

رفع أحدهم الملاءة عن وجه جده.


كان هادئًا، ساكنًا، وعلى شفتيه شبه ابتسامة خفيفة، كأنه نائم يحلم حلمًا جميلاً. 

لكنه كان باردًا، بلا حياة. 

هذا الوجه الذي طالما ابتسم له، هذه اليد التي طالما ربتت على كتفه، لم تعد هنا. 

لقد رحل إلى الأبد.


مد أكمل يده المرتجفة، ولمس جبين جده البارد. 

وفي تلك اللحظة، انكسر انهمرت دموعه أخيرًا، دموع حارقة وصامتة، دموع الندم والحب والفقد.

انحنى على جسد جده، ودفن وجهه في صدره، يبكي كالطفل الذي فقد ملاذه الوحيد ظل مالك بجانبه، يضع يده على ظهره، يمنحه القوة بصمته، ويتركه يفرغ كل الألم الذي كان يحبسه.


مرت أيام العزاء الثلاثة كأنها دهر لم يترك مالك أكمل لحظة واحدة وبعد أن رحل آخر المعزين، جلس أكمل على كرسي جده في نفس المكان الذي وجدوه فيه. 

أمسك بسبحة جده التي كانت لا تزال على الطاولة بجانبه، وأغمض عينيه.


بدأت الذكريات تتدفق.

تذكر كيف كان جده ينتظره في كل إجازة عند مدخل البلدة، ويفرد ذراعيه ليحتضنه.

تذكر رائحة الأرض المروية وخبز الفرن التي كانت تملأ البيت.

تذكر جلساتهما الطويلة في الحديقة، وجده يقص عليه حكايات الأجداد، ويعلمه أسماء النجوم.

تذكر كيف كان جده يصر على أن يأكل من يده، قائلاً

"لقمة من يد جدك ترد الروح."

تذكر ضحكته الصافية، وحكمته البسيطة، وحبه الذي لم يطلب مقابلاً.


تقدم والده منه يربت على كتفه 

_مش كفاية كدة وخلينا نرجع القاهرة؟


التفت أكمل إلى والده، وقال  بصوتٍ هادئ وحاسم.

_مش هرجع.

_مش هترجع فين؟


_القاهرة.

قال أكمل وهو ينظر حوله، وكأنه يرى البيت لأول مرة. 

مقدرش مقدرش أسيب ريحته هنا لوحدها مقدرش أقفل الباب ده وأمشي.


نظر إلى سبحة جده في يده. 

_أنا خذلته مرة سبته يموت لوحده زي ما كان خايف مش هسيبه تاني وهو ميت.


سأله والده بامتعاض

_وشغلك؟ مستقبلك؟.


قال أكمل بثقة لم يشعر بها من قبل.

_هاخد أجازة طويلة ولو رفضوا، هقدم  استقالتي.

مستقبلي الحقيقي كان هنا وأنا مش واخد بالي منصبي الحقيقي كان حفيد الراجل ده، مش وكيل نيابة.


حاول والده ان يكون هادئاً كي لا يعاند ابنه

__يا ابني الحزن في القلب، مش كل واحد هيفارق حد عزيز عليه هيعمل زيك انت.

تحدث أكمل بلهجة لا تقبل نقاش

_بابا لو سمحت سيبني براحتي.


جاءت والدته على صوتهم

_في ايه؟ ماله أكمل.

رد والده بضيق

_الاستاذ مش عايز يرجع معانا عايز يفضل هنا.

سألته والدته

_صحيح الكلام ده يا أكمل؟

رد اكمل بنفاذ صبر

_ايوة صحيح ومش عايز كلام كتير في الموضوع لأن كلمة زيادة وهسيب الشغل خالص.

تراجعت والدته لعلمها بتعند ابنها لذا سحبت يد زوجها وقالت بقلة حيلة

_لازم تسيبه لاننا لو ضغطنا عليه ممكن يعند ويسيب الشغل فعلاً 

خليه ياخد أجازة لحد ما يزهق ويرجع من نفسه

اضطر للموافقة ورحل مع زوجته تاركين أكمل يعاني من ذلك الفراق القاسي.


اتخذ قراره

سيبقى هنا، في هذا البيت، بين هذه الجدران التي تحمل صوت وضحكات وروح جده سيبقى ليحرس ذكراه، وليبحث عن نفسه من جديد، بعيدًا عن برود القاهرة وزيفها، وقريبًا من دفء الأرض والحب الحقيقي الذي كاد أن يفقده إلى الأبد.


❈-❈-❈


كانت بقايا العشاء لا تزال على الطاولة، والجميع قد انصرف إلى غرفه. 

لم يبقى في غرفة المعيشة سوى مالك وسند، يجلسان في صمت ثقيل كل منهما غارق في أفكاره.


كان مالك يراقب سند من طرف عينه. يراقبه وهو يحتسي قهوته بهدوء، يراقب ملامحه التي تبدو هادئة بشكل مقلق. 

كان مستغرباً بل مصدوماً، كيف استطاع سند أن ينسى نغم بهذه السهولة الظاهرية؟ 

كيف يتعامل مع وعد بشكل طبيعي، يتحدث معها يبتسم لها وكأنها كانت اختياره الأول والأخير؟ كيف يمكن لرجل أن يطوي صفحة حبه وعمره بهذه السرعة، وكأن شيئاً لم يكن؟


لم يعد مالك قادراً على تحمل هذا الصمت المريب. 

وضع فنجانه وسأله بحيرة ربما يخبره بما يثلج صدره

_كيف؟


نظر إليه سند باستفهام.

_كيف إيه؟


قال مالك بصوتٍ مشحون باللوم والاستغراب

_كيف جدرت تنسى نغم بالسهولة دي؟ كيف بتتعايش مع حياتك الجديدة وكأن مفيش حاچة حصلت؟ وكأنها مكنتش خطيبتك وفرحكم كان بعد يومين؟


ساد الصمت لعدة لحظات لم يرد سند على الفور أخذ نفساً عميقاً، وأشاح بنظره نحو النافذة، كأنه ينظر إلى جمر قلبه الذي حاول إخماده. 

ثم تحدث أخيراً بصوتٍ هادئ، لكنه يحمل ثقلاً وألماً أكبر بكثير من صراخ مالك.

_عشان متعودتش أكون خاين.


نظر إليه مالك بعدم فهم.

أكمل سند، وعيناه لا تزالان مثبتتين على الفراغ

_وعد ملهاش ذنب في كل اللي حوصل ده، حرام... حرام إنها تضيع أجمل أيام حياتها مع راچل عايش في الماضي، راچل قلبه مع واحدة تانية.


تنهد تنهيدة طويلة تحمل وجع سنين.

_يوم فرحنا... أني كنت حرفياً مقهور وضايع، كنت حاسس إن روحي بتتسحب مني ومش خابر هتعامل كيف مع وعد، بس أول ما بصيت في عينيها وهي بالفستان الأبيض... وشوفت الحزن اللي كانت بتحاول تداريه بابتسامة باهتة... حسيت إنها متستاهلش كل ده. 

حسيت إن الظلم اللي بيوحصلها أكبر من الظلم اللي حوصل ليا. 

هي تستاهل تتعامل إنها عروسة مرغوبة... مش مرغمة.


نظر إلى مالك لأول مرة، وفي عينيه بريق من الحقيقة المرة.

_خلاص يا مالك اللي حوصل حوصل وانتهى ونغم... اختارت غيري.


هنا، لم يستطع مالك السكوت.

_اختارت غصب عنها! أنت عارف ومتأكد إن جاسر هددها!


قاطعه سند بحركة حاسمة من يده، وبنبرة لم يتوقعها مالك أبداً.

_لأ نغم حبت جاسر.


انكر مالك بصدمة وجاء ليعارضه.

_مستحيل! أنت بتجول إيه؟


وقف سند، وبدأ يمشي في الغرفة، كأنه يحاول الهروب من ذكرياته.

_أيوه يا مالك نغم حبت جاسر من وجت اللي حوصل وهو أنقذها، ونغم بجيت واحدة تانية. 

ديماً سرحانة... ديماً شاردة حتى لما كنت أعاتبها على اللي حوصل، كنت ألاقيها بتدافع عنه من غير ما تحس.


توقف ونظر إلى مالك، وفي صوته كان هناك انكسار يحاول جاهداً إخفاءه.

_أني يوم ما روحناله... فاكر نظراتها زين. 

فاكر الحيرة اللي كانت في عينيها. 

مكنتش نظرة واحدة مخطوفة وخايفة وبس كانت نظرة واحدة بتختار بين عالمين. 

وللسبب ده أني بعدت بعدت عشان محبتش أكون الطرف الخسران في معركة محسومة.


عاد وجلس مرة أخرى، وقد بدا عليه الإرهاق فجأة.

_بعدت واتمنيت ليها إنها تجدر تغير جاسر. 

لأن اللي عرفته عنه واللي وصلني، إنه إنسان ميعرفش الحب ولا خبط على بابهم من الأساس وجولت يمكن لو نغم ادته الحب ده... يمكن... يمكن يكون إنسان تاني.


صمت سند، وحدق في يديه لم يكن يحاول إقناع مالك، بل كان يحاول إقناع نفسه. 

كان يردد هذه القصة مراراً وتكراراً في عقله، ليس لأنها الحقيقة المطلقة، بل لأنها الحقيقة الوحيدة التي تسمح له بالعيش. 

الحقيقة الوحيدة التي تبرر له تخليه، وتسمح له بأن يكون الزوج الذي تستحقه وعد. 

لقد اختار أن يصدق أن يصدق الحقيقة وأن نغم أحبت غيره، لأن تصديق أنها كانت ضحية تنتظر إنقاذه وهو لم يفعل شيئاً... كان ألماً لا يمكنه تحمله.


الصفحة التالية