-->

الفصل الأول - عشق ناضج وعشق مجنون


الفصل الأول

"يادي النحس" زفرت زفيراً ارتجت على اثره شفتيها وهي تخلل شعرها بأصابعها واستندت بمرفقيها على مكتبها الصغير الذي تضعه بأحدى أركان غرفة نومها ودفنت جبهتها بيديها وهي لا تدري متي سينتهي هذا الشهر البائس العصيب الذي تواجهه كل سنة.. وكل سنة تضع نفسها بنفس المأزق ولا تُنهي التقارير إلا ليلة سفرها!!

"حلو اوي!! كده لازم أروح الشركة بكرة قبل معاد الطيارة" نفخت مجدداً لتتطاير احدى خصلات شعرها بعد أن وضعت كفها لتسند عليه وجنها وهي تشعر بالإحباط لتنهض ذاهبة فلقد تأخر الوقت وهي بالكاد تطمئن على ابنتها من وقت لآخر.. 

مشت في رواق المنزل الموزع به الغرف حيث أن غرفتيهما تقعا بنفس الرواق على مسافة اثنان متر على الأكثر بينما شعرت بالرهبة من صوت ابنتها الباكي لتهرول ثم فتحت باب غرفة ابنتها بملامح مضطربة متأثرة لصوتها

"لينا أنتي كويسة؟!" صاحت سائلة وهي تتجه نحو ابنتها التي تُمسك الهاتف وتبكي بمرارة 

"الكلب الحيوان.. بهدلها يا جيجي"همست بحرقة بين بكائها

"كلب مين؟! وبهدل مين؟! هي رولا جرالها حاجة؟!" سألت بملامح فازعة وسألت عن صديقتها فلينا لا تعرف سواها 

"بدر.. بهدل نورسين.. الرواية دي وحشة اوي!!" هدأت جيهان وهي ترمق ابنتها في غيظ 

"تاني..عياط علشان روايات تاني؟! هو انتي يا بنتي مبتبطليش! اعقلي بقا" صاحت بها في عصبية 

"معندكيش فكرة عمل فيها ايه، وأصلاً هو مش عارف الحقيقة.. ده بطل قذر أوي وأستحالة أتعاطف معاه!" همست في آسى وقد كفت عن البكاء لتزفر جيهان في قلة حيلة 

"أنا بس لو أطول هاخليهم يقفلوا الواتباد ده" تنفست لينا وهي تحاول استنشاق أنفاسها في صعوبة 

"حرام عليكي يا جيجي.. ده أنا محلتيش غيره اليومين دول.. هاعمل ايه يعني في الأجازة"

"تنزلي.. تروحي النادي.. تشوفي كتب السنة الجاية.. تعملي أي حاجة مُفيدة بدل قاعدتك دي" 

"لا ماليش مزاج والجو حر اليومين دول" أخبرتها في سأم 

"الصبر من عندك يارب!!" همست في إرهاق "كفاية كده بقا وقومي نامي علشان الوقت أتأخر" أخبرتها لتنهض وهي تبحث عن حذائها المنزلي ولكنها لم تجده فقررت أن تبقا حافية القدمين 

"ما تنامي أنتي يا جيجي.. أنتي مش مسافرة بكرة؟!" 

"متزفتة" همست في تآفف وملامحها لا تدل على الحماس أبداً 

"طيب خلاص ايه اللي مصحيكي لغاية دلوقتي؟!" 

"كنت بخلص آخر report (تقرير) وفجأة اللاب جاب آخره خلاص" أخبرتها في احباط 

"معلش.. مش كده كده أنتي بتعملي save (حفظ) أول بأول على الـ cloud؟" استفسرت في إهتمام

"أيوة.." اجابتها بإقتضاب ثم جلست في يأس على سرير ابنتها 

"طيب خلاص ايه المشكلة متضايقة ليه؟" 

"ده معناه إني هاصحى بدري وأروح الشركة واجيب اللاب اللي هناك وأشوف لو ناقص حاجة وكل ده لازم يخلص قبل الساعة حداشر عشان أكون في المطار"

"معلش يا جيجي يوم وهيعدي إن شاء الله"

"يوم!! ده شكله كده أسبوع منيل ومش هيعدي على خير" تمتمت لتنظر لها ابنتها وكأنما تقول لها وهل هذا جديد؟!

"كل سنة بسمع الكلمتين دول.. متقلقيش هيعدي والله"

"يارب" همست ثم زفرت في يأس ثم صدح هاتف لينا المُلقى على السرير لتجيبه جيهان 

"آلو"

"ايوة يا طنط" تحدثت رولا  صديقة لينا في بكاء شديد

"ايه يا حبيبتي مالك؟" سألتها في دهشة ونبرة قلقة 

"الرواية يا طنط .. وحشة أوي.. البطل بهدلها"

"خدي ياختي" القت بالهاتف للينا "شوية بنات تافهة.. أنا غلطانة إني لسة بتعامل معاكم أصلاً لغاية دلوقتي!!" أخبرتها في غيظ لتضحك لينا بينما غادرت والدتها الغرفة لتتحدث لصديقتها ليتناولا أحداث الرواية سوياً بالتفصيل..

--

"صباح الخير يا صُهيب" أخبره والده بنعاس وهو يفرك وجهه ثم خلل شعره وهو يحاول الإستفاقة 

"صباح الفل يا بشمهندس.. ايه.. السندوتشات زي كل يوم ولا تحب تغير؟!" سأله بعد أن ألقى تحية الصباح عليه وهو منهمك في إعداد الشطائر مثلما يفعل كل يوم وقد أرتدى ملابسه بأكملها ولم ينقصه سوى سترة بزته الرسمية

"ده أنت يا بخت اللي هتتجوزك والله.. ست بيت مية مية" أخبره ليبتسم صهيب وقد بدأ النعاس في ترك نبرته 

"وأنا كمان يوم ما أتجوز عايزني أعملها ساندوتشات.. لا يا بشمهندس أنا عايز أدلع.. روح روح استحمى وصلي وبلاش عكننة على الصبح" 

"ما أنا كل ما أجيبلك عروسة تقولي لأ.. ومفيش واحدة داخلة دماغك.. كل شوية الشغل الطياري ده أنت وأكرم وتخرجوا الخروجة من هنا وبعدين تيجي تقولي فكست.. مستني دلع ازاي"

"ما صباح الخير بقا يا بشمهندس.. أنا لسه عندي أربعة وعشرين سنة على الهم ده"

"ما أنا كنت أصغر منك ومخلفك.. وسنك مناسب" 

"ياختاااي!! يا بابا يا حبيبي أنت أتجوزت بنت عمك في ظروف غامضة وجدي عرض عليك الموضوع قبلت.. أديك أهو عايش من غيرها.. ظروفي غير ظروفك يا حبيبي"

"ومالها يعني مامتك؟ كانت وحشة؟!"

"لا كانت قمر وده اللي بيخلي البنات تتهبل عليا.. بس ده مش موضوعنا.. تقدر تقولي ماما لما ماتت متجوزتش ليه؟" نظر له أمجد والده ثم تنهد في قلة حيلة "شوفت.. صباح الخير بقا وبلاش عكننة على الصبح.. ولا أروح أنا أجيبلك عروسة تاني؟" نظر له رافعاً حاجباه 

"مش هخلص من لسانك أبداً" تمتم ثم زفر في قلة حيلة "عندك سهر النهاردة في البنك ولا هنتغدا سوا؟"

"لسه مش عارف" هز كتفيه ليومأ له أمجد "خلينا مع بعض على الموبيل بقا"

"ماشي تمام.. لما تخلص السندوتشات سيبهالي على السفرة" أخبره ثم توجه ليبدأ بروتينه الصباحي 

"أمرك يا سيدي" صاح بمزاح ليبتسم أمجد في طريقه لغرفته حتى يستعد للذهاب لعمله..

--

"يالهوي!! بقت تمانية" صاحت جيهان في فزع بعد أن رمقت الساعة وأدركت أنها ستتأخر لتنهض في لهوجة وسرعة وهي تلملم باقي حاجيتها وترتدي ملابسها بأقصى سرعة ثم ذهبت للحمام لتدرك مدى غبائها ثم توضأت وفرشت أسنانها على عجالة ولم تكترث لنقاط المياة التي أقنعت نفسها أنها ستجف بمجرد وجودها بالسيارة في هذا الجو الحارق ثم وقفت لأداء الصلاة وهي لا تستطيع التركيز في أي حرف مما تقول لتستغفر كثيراً بعد انتهائها ومن بعد خلعت ملابس الصلاة وتناولت حقيبتها وحقيبة يدها وهرعت مسرعة للخارج ولكنها توقفت لتمر على ابنتها التي يبدو وأنها لم تنم منذ البارحة..

"يخربيتك انتي لسه صاحية!" 

"مش ممكن يا جيجي بدر ده اتعذب اوي" همست لها في بُكاء

"الصبر من عندك يارب!!" تمتمت في انفعال "يا بنتي.. يا بنتي حرام عليكي بطلي الروايات النكد دي" زفرت في حنق "بصي علشان متأخرش.. أنا سيبتلك الفلوس في درج التسريحة.. والأكل عندك في التلاجة.. متكسليش وتطلبي ديليفري.. هو أسبوع خليه يعدي على خير.. ولو خرجتي ابعتيلي مسج في أي وقت وتعرفيني.. وخفي نسكافيه وسهر شوية اللي بتعمليه ده مينفعش!!" أخبرتها بلهجة سريعة "وآه.. طلعتلك supplementary card (بطاقة إضافية) عشان لو احتاجتي فلوس زيادة"

"حاضر يا جيجي.. تروحي وتيجي بالسلامة" نهضت لتعانقها 

"هتوحشيني يا جزمة.. خدي بالك من نفسك ولو احتاجتي حاجة قوليلي" 

"حاضر يا ماما.. أنتي كمان خدي بالك من نفسك وأول ما توصلي دبي طمنيني.."

"حاضر يا حبيبتي.. عايزة حاجة أجيبهالك من هناك غير البرفيوم والهدوم اللي اختارتيها"

"آه.. بدل ما تغيريلي الموبيل السنادي هاتي لابتوب بدل اللي باظ.. علشان الشغل"

"مالكيش دعوة أنا هتصرف.."

"بس يا ماما مـ.."

"خلاص بقا يا لينا.. يالا علشان متأخرش.. هنبقا نتكلم في الموضوع ده بعدين.. سلام" 

ودعت ابنتها بينما أخذت حقيبة سفرها تجرها خلفها وأنتظرت المصعد وهي تتنهد في إرهاق من تلك الدوامة التي لا تنتهي أبداً.. لقد مر ذلك العام سريعاً.. فهي تتذكر مثل ذلك اليوم منذ عام مضى وكأنه البارحة.. ها هي تدور في نفس الدائرة المُغلقة لعامٍ كامل.. ها هي تعد التقارير اللازمة لعرضها على الشركة الأم التي أفتتحت فرعاً لها في مصر.. ولمدة أعوام هي تفعلها وتمر الأعوام ولا شيء يتغير أبداً..

فاقت من شرودها على صوت باب المصعد الذي أعلن عن وصوله للطابق الأرضي وهي لم تلاحظ متى دلفته أصلاً لترمق الساعة بيدها "يارب ألحق" تمتمت بعد أن قاربت الساعة على الثامنة وعشرون دقيقة وأخذت تضع حقائبها في سيارتها المتواضعة وتوجهت بسرعة لكرسي السائق حتى تستطيع الذهاب للشركة دون أن تتأخر على الطائرة..

--

"ايه يا بشمهندس نزلت ولا لسه؟" تحدث صهيب لوالده بالهاتف

"آه أهو في الطريق" حدثه مجيباً وهو يقود سيارته 

"طيب لما توصل ابقا كلمني" 

"ايه فيه حاجة ولا ايه؟" تعجب أمجد 

"لا مفيش.. كلموني من قسم الخدمات في الكومباوند وبيقولولي لو عايز تغسل عربيتك معاهم.. أنا عن نفسي هاغسلها معاهم.. أنت ايه نظامك؟" 

"مش فارقة.. تلاقيهم أسوأ من اللي قبلهم.. أغسلها وخلاص"

"ماشي.. اديني رقم الـ slot اللي بتركن فيها"

"والله ما فاكر.. استنى أشوفلك الـ Access بتاع الجراج فين" أخبره ثم توجه ليبحث عن بطاقة المرور للمرأب ولم يجدها في محفظته

"استنى خليك معايا.." أخبره ثم انحنى للأسفل ظناً منه أنه ربما وضع البطاقة بذلك الصندوق الذي يتوسط مقدمة السيارة ولم يلاحظ أنه أطلق المكابح بقدمه فجأة ليُفزع من ذلك الإرتطام الذي هز جسده داخل السيارة.. "طب صهيب أقفل أجيبه وأكلمك" لم يرد أن يُخيف صهيب فهو يعرف جيداً كم يشعر بالقلق عليه ثم رفع المكابح اليدوية ليترجل من السيارة ليرى ما حدث..

"يا نهار أسود!! هاعمل ايه أنا دلوقتي" صاحت في يأس لتترجل من سيارتها لتنظر على سيارتها وقد أُصابت بالهلع تماماً "ده أنا كده مش هالحق الطيارة" حدثت نفسها في صدمة 

"مش تاخدي بالك أنتي بتسوقي ازاي؟!" تحدث أمجد في إنزعاج وهو الذي لم تُصيب سيارته سوى خدوش بسيطة ولا يزال يتفقد سيارته وما حدث لها

"يعني غلطتك ونازل تتريق على سواقتي وهو أصلاً طريقي!!" صاحت في غير تصديق وهي تنظر له لتجد نفسها تبتلع لعابها في غير راحة 

"ادي آخرة سواقة الستات! مبتبصوش قدامكم أبداً" 

"لا بقولك ايه لو سمحت" رفعت سبابتها أمام أنفها وشفتيها وقد ارتفعت نبرتها لينظر لها وكأنما توقف الوقت بالدنيا ولم يستمع لحرف مما قالته بعد ذلك..

".. لما تتكلم تتكلم بإحترام.. حضرتك أنت اللي غلطان، أنت وقفت فجأة في نص الشارع وأنا واخدة سرعتي.. لكن تنزل وتعيب على سواقتي ده اسمه قلة أدب" صرخت به وقد تحدثت بكلمات أخرى لم يستمع لها فلقد كان ينظر لشيء آخر تماماً 

"خلاص يا أستاذة" صاح أحدى المتجمعين حولهما وقد توقفت العديد من السيارات في صف طويل خلفهما وقد تسببا بأزمة مرورية 

"أنتي بتعلي صوتك ليه!!" صاح بحزم بعد أن أفاقه صوت ذلك الرجل 

"بعلي صوتي علشان أنت غلطان، وبتتكلم بعدم إحترام، وقال ايه مضايق أوي وأنت مجراش في عربيتك حاجة وأنا النص القدماني كله لعربيتي أتدمر وأنت ولا كأنها مسئوليتك" ارتفع صوتها أكثر "ولا هو يعني علشان معاك فلوس شوية يبقا تدوس على خلق الله" رمقته هو وبزته الرسمية وكذلك سيارته ذات الطراز الحديث ثم رمقته في غضب لتكمل "وواقف كمان معطل الشارع ورانا ومعطلني وكل اللي فارق معاك سواقة الستات"

"لا وطي صوتك واتكلمي عِدل بدل ما.."

"أنت هتهددني ولا إيه؟! طب لعلمك بقا أنت الغلطان والناس دي كلها شاهدة معايا" رمقت وجوه ذلك الجمع المتجمهر ليومأ بعضهم ليتحدث رجل عبر الستون بقليل 

"يا ابني أنت اللي غلطان.. أنا كنت شايف كل حاجة.. حق ربنا تعوضها وتتحمل التكاليف" سحق أسنانه في غضب

"بصراحة الأستاذة معاها حق.. أنا كمان كنت قاعد في الكشك وشوفتك وأنت بتوقف فجأة وده يعني داخلة تقاطع وده حقها" صاح أحدهم

"أنا مش هاتحرك من هنا لحظة واحدة غير لما تطلع بطاقتك وأصورها وتجيب حد ينقل العربية وكمان توصلني على شغلي اللي أتأخرت عليه بسبب واحد مستهتر زيك يا إما هسيب كل اللي ورايا ونطلع بقا على القسم وأنا معايا كل الشهود دي!!" تحدثت في إصرار ليرفع هو احدى حاجباه 

"لا بجد.. وأنا شغال عندك.. قال أوصلك قال.. يا تركبي تاكسي يا نطلع على القسم!" صاح في تحفز

"ولا شغال عندي ولا زفت.. بس مش تستهر بالناس وتعطلهم وتسيبهم كده وأنت متعرفش ظروفهم.. حقي وهاخده وأنا مغلطتش في حرف.. ولا أنا غلطانة يا جماعة"

"تعالى يا ابني" ابتعد به الرجل خطوتان وهو يُمسك بذراعه بعد أن دفعه بخفة 

"ايه ده أنت رايح فين وسايبني" صاحت ليصيح آخر 

"متقلقيش يا أستاذة مش هنسيبه يتحرك من هنا"

"يا ابني أنت شكلك مقتدر، وهو يعني تصليح عربيتها كله على بعضه هياخد منك كام.. أعتبره لوجه الله.. ومعلش أكسب ثواب فيها ووصلها شغلها الله أعلم بظروفها.. وأنا بنفسي كلمت ونش يجي ينقل العربية مكان ما تحب وأنا كده كده فاضي ممكن أروح معاه.. معلش أعتبرها أختك علشان ربنا يوقفلك ولاد الحلال.. وأسمع كلامي أنا زي أبوك بردو" حدثه الرجل في هدوء ليتنهد ثم أومأ للرجل على مضض "روح يا ابني ربنا يباركلك ويزيدك" 

"أتفضلي" توجه وهو يُخبرها على مضض وسيطر الإنزعاج على ملامحه 

"ايه اللي اتفضلي دي.. هات بطاقتك أصورها الأول.. ولا أركب كده مع واحد معرفهوش!" تحدثت عاقدة حاجبيها في غضب

"اللهم طولك يا روح!!" تمتم في غضب 

"متقلقيش يا بنتي.. أنا أسمي أحمد حسين عبد البر وساكن في عمارة عشرة اللي هناك دي في شقة تلاتة وهتلاقيني دايماً موجود في أي وقت ومعايا أرقام لوح عربياتكو" أشار لها الرجل المُسن "وهو خلاص هيتكفل بمصارف العربية وهيوصلك ومتقلقيش.. أتكلي على الله يا بنتي علشان تشوفي شغلك والحمد لله إنها جت سليمة ومحدش فيكو " حدثها الرجل لتنظر له بإمتنان 

"متشكرة يا بابا" أخبرته في امتنان بينما توجهت لسيارتها لتأخذ خقيبة يدها وحقيبة سفرها معها 

"يالا يا جماعة ايديكوا نزق العربية دي على جنب علشان الناس تعدي" صاح البائع بالكشك بينما همّ الرجال ليساعدوه ليزفر أمجد في ضيق "والنبي يا استاذ اطلع بعربيتك عجلتين علشان نحرك العربية على ما الونش يجي" أخبره احدى الرجال ليتوجه للسيارة على مضض وهو لا يدري ما كل هذا الذي يحدث حوله فهو لأول مرة يفعل شيئاً بهذا الغباء وأول مرة يتعرض لإصطدام في حياته 

دلفت السيارة بزهو وغضب ثم سلطت نظرها على الطريق أمامها وهي تتنفس أنفاس متعالية ثم رمقت ساعتها لتجدها قاربت على التاسعة والربع "يالا.. أطلع على المعادي بسرعة" نظرت له في فزع 

"نعم!!" صاح في غير تصديق "لا ده مش طريقي!"

"ايه!! يعني أنت السبب في كل اللي أنا فيه وتقولي مش طريقي.. أرجوك مش وقته.. أتحرك بسرعة أنا لازم أروح الشركة وبعدين لازم أكون بعدها في المطار الساعة حداشر" صاحت في إنزعاج وتوسل لينظر لها في حيرة ثم زفر زفرة مطولة حانقاً

"فين في المعادي!!"

--

"أنا بالظبط عشر دقايق هاجيب حاجة من فوق ونازلة" أخبرته وهو يوقف سيارته ليلتفت اليها ناظراً لها في صدمة

"أنا مش فاهم.. أنا مش سواق يا مدام!! أنا غلطت وهاتحمل غلطتي وهاصلح العربية وخلصنا.. وكمان من ذوقي وصلتك.. إنما ايه اللي عشر دقايق ده!! أنا مش قادر أفهم حضرتك.. هو شايفاني سواق ولا ايه؟!" تحدث في هدوء بعدما أستطاع السيطرة على أعصابه مرة ثانية بعد ذلك الموقف

"لا بص بقا علشان أنا جبت أخري منك.. أنت عطلتني وبوظتلي العربية اللي يا عالم هترجع زي الأول ولا لأ.. وأخرتني.. وهنا مفيش تاكسي أخده.. وده معناه إني مش هالحق معاد الطيارة.. ولا هالحق أخلص الشغل اللي كنت عايزة أخلصه قبل ما أسافر.. وكل ده بسببك.. أقل واجب تخلي عندك ذوق وتستناني لغاية ما أخلص وأنزل!" صرخت به بعصبية شديدة بينما ارتبكت أكثر وهي ترمق الساعة للمرة المائة مجدداً ليشعر بذلك المأزق الذي وضعت به هذه المرأة الحسناء وقبل أن يتحدث لها صدح هاتفه بالرنين "هما عشر دقايق لو سمحت مش هتأخر" أخبرته ثم فرت مسرعة ليلعن حظه 

"أيوة يا محمد.. لا حصلي حادثة بسيطة كده.. لا لا أنا تمام ده عربية واحدة ست هي اللي باظت.. أنا بس معاها بنخلص الإجراءات وبنشوف تكاليف التصليح.. ماشي خليه عارضة بقا.. تمام.. لا أنا بخير والله.. متشكر.. سلام!!" زفر بعمق بعد أن أنتهى من مكالمته ثم أخذ يربت بأصابعه على مقود السيارة في انتظام وهو ينتظرها ثم سلط نظره على مرآة السيارة الداخلية في سأم..

نظر حوله ليرى تلك المباني الإدارية ثم تنهد وأخذ يُفكر بالمنطق، لقد كانت غلطته بالفعل، ولكن كيف حدث ذلك وهو الذي لم يخدش أي من سياراته في حياته ولو لمرة واحدة!! منذ أن حصل على رخصة القيادة وهو يقود بإحتراف.. ولكن لماذا حدث ذلك اليوم؟ أهناك شيئاً ما به؟ 

"يالا نصيب!!" تمتم ثم نظر بساعته وهو يحصي تلك الدقائق التي تمر ثم أعاد نظره للمرآة في سأم ولكنه أتسم بالهدوء ثم دقق النظر لنفسه وتلك الشُعيرات البيضاء التي خالطت لون شعره ليزم شفتاه في إنزعاج طفيف وتنهد مجدداً وظل ناظراً في المرآة ينتظر عودتها..

جسد ممشوق، ملامح خلابة، شفتان وعسليتان لم يرى مثلهما بحياته، شعرها الرائع الذي يتطاير في هذا الهواء الساخن كالجحيم، طريقتها في أخذ الخطوات بتلك الأنوثة التي تبتعد كل البُعد عن العهر وتتسم بأنوثة إمرأة فاتنة في الثلاثينات من عمرها، ملابسها التي لا تنم سوى على ذوق رفيع غير مبالغ ولا مبتذل لتأتي في النهاية لترتسم على جسدها في إباع تركه مشدوهاً بتلك المرأة التي ألقى بها القدر في طريقه..

"لو سمحت أتحرك بقا.. أنا يادوب قدامي ساعة" أخرجته من شروده بصوتها المتوسل ثم بسرعة أشعلت حاسوبها المحمول ليدير محرك السيارة مرة أخرى وأخفض المكابح اليدوية ثم أنطلق ليوصلها للمطار..

في طريقهما حاول سرق بعض النظرات إليها وهي بين الحين والآخر ترفع تلك الخصلات التي شتت مرمى بصرها عن ما تفعله بحاسوبها وفي نفس الوقت شتته هو الآخر وبالكاد يستطيع التركيز في الطريق أمامه..

"أيوة يا لي لي" أجابت هاتفها الذي صعد رنينه

"شوفتي يا مامي.. بدر اتعالج.. ده طلع طيب أوي.. لازم لما تيجي أحكيلك عن الرواية" تحدثت لوالدتها في حماس

"لي لي يا حبيبتي الله يخليكي أنا متأخرة وشكلي مش هالحق الطيارة وفيه حتة في التقرير بعيدها تاني.. فيه حاجة مهمة؟" تحدثت في ارتباك 

"لا أنا بس بطمن عليكي علشان خلاص بقا مش قادرة وهادخل أنام"

"طيب يا حبيبتي أقفلي الباب بالمفتاح والترباس كويس ولما تصحي هاكون أنا وصلت دبي إن شاء الله.."

"ماشي يا حبيبتي.. تصبحي على خير"

"وأنتي من أهله"

أنهت المكالمة لتضع هاتفها بجانبها على المقعد وعادت لتكمل التقرير الذي سيُسلم غداً وسلطت كامل تركيزها عليه ولم تستمع لعقل هذا الرجل الذي أنفجرت التخمينات والتساؤلات داخل عقله!

"ديه عندها بنت.. بس سايباها لوحدها.. طب فين جوزها بقا؟! ولا مطلقة؟! بس هي اهي لابسة دبلة.. تبقا مش مطلقة ولا حاجة.. طب وأنا مالي بيها أصلاً؟!" سأل نفسه ليقلب شفتاه ويهز كتفيه محاولاً إقناع نفسه بعد الإكتراث 

"اتفضلي" أخبرها في هدوء لتنظر حولها ولم تدرك حتى أنهما قد وصلا للمطار 

"لا مش هنا.. صالة اتنين لو سمحت" حدثته في تهذيب ثم أعادت نظرها للحاسوب ليزفر زفرة مطولة سمعتها هي بينما أكمل الطريق لتوصد هى حاسوبها وهي تثنيه في غضب 

"هو فيه ايه؟ ليه حضرتك مش قادر تفهم إن كل اللي مضايق منه ده بسببك؟!"

"أرجوكي.. أنا موجهتلكيش كلام وهوصلك بقا وخلصنا" رفعت حاجبيها بعد أن شعرت بالإستفزاز من نبرته المحتدة

"طب بص حضرتك.. يكون في علمك أنا مغلطتش.. ومكنتش هتكون مضايق أوي لو موقفتش فجأة في نص الشارع.. وحضرتك اللي هتيجي تاخدني من هنا يوم الخميس الجاي الساعة خمسة صالة اتنين.. وهو أسبوع واحد أرجع الاقي عربيتي خلصت لأني مبستغناش عنها.. والمرة الجاية ابقا ركز في طريقك وأنت متتعرضش لموقف زي ده!!" تحدثت في غضب شديد

"نعم!! اجي اخدك!! وانتي شايفاني سو.."

"متقولش سواق!!" قاطعته بلهجة غاضبة "أنا مش بقلل من حضرتك.. بس دي مسئولية غلطك.. أنا كنت هاركن عربيتي هنا ولما أرجع من السفر كنت هاخدها وأرجع بيها.. أنا لا بركب مواصلات ولا بتاعة Uber و Careem .. بعد اذنك مش عايزة نقاش في الموضوع ده تاني.. اتفضل متشكرة جداً ليك وياريت العربية اجي الاقيها اتصلحت.. وهات رقمك وعنوانك لو سمحت" أخبرته في ضيق ثم بحثت عن هاتفها ولم تجده فظنت أنه قد وضع بمكان ما بحقيبة يدها لتلمح مُفكرتها لتخرجها "مليني لو سمحت يا إما تديني بطاقتك" أخبرته دون أن تنظر له وهي ممسكة بالقلم  ليتحدث بين أسنانه مملياً عليها ما تريد وهو يحاول التحلي بالهدوء، فبالرغم من أنه قد أخطأ ولكن طريقتها ولسانها الذي يتحدث هذا يدفعه للجنون!! 

"متشكرة جداً.. سلام" أخبرته بإقتضاب ثم توجهت لخارج السيارة لتأخذ من المقعد الخلفي حقيبة سفرها ليتابعها هو بعينيه العسليتين إلي أن غابت عن عينيه ليُخفض بصره ليجدها قد تركت هاتفها على مقعد سيارته ليزفر بسأم للمرة الآلف اليوم ثم أمسك به ليتوجه مسرعاً خلفها ..

 

يُتبع..