-->

الفصل الخمسون - شهاب قاتم

 - الفصل الخمسون - 

     

~ بعض الأحداث والحوادث التي نمر فيها تعيد تشكيل حيواتنا من جديد .. نشعر بعدها وكأننا ولدنا اشخاصا اخرين .. اشخاصا لم يعودوا يشبهون انفسهم..


( أثير عبدالله النشمي - في ديسمبر تنتهي كل الأحلام) 

     

لمح بسرعة تلك اللوحة على السيارة اتي ارتطمت بها ثم نظر إليها في صدمة شديدة وهو يرى ملامح وجهها غائبة وسط الدماء التي انهمرت بكثرة حتى بات لا يتعرف عليها.. لقد فقدها أليس كذلك؟ فقدها لأن ببساطة القدر يعاقبه.. عدالة السماء ووجود الله وكل ما كذب به يومًا ما يعاقبوه بأخذها منه خاصة بعد أن اعترفت لها بحبه وهذا كل ما يريده.. هل ماتت حقًا؟ لماذا عقابه بهذه القسوة الشنيعة؟ لماذا عليه أن يفقدها بعد أن استمع لما يُريد؟

يُقسم بكل ما كذب به يومًا ما لو بقيت حية لن يكذب مجددًا ولن يدعي ولن يفعل إلا كل ما تريده هي.. أيًا كان وبأي طريقة ترغبها.. سيتعالج وسيصبح أفضل لو فقط لاقت النجاة.. لا يستحق أن يفقدها ويفقد الجميع من حوله.. لماذا دائمًا ينتهي به الأمر وحيدًا؟! 

توجه بإرتجافة في فزع نحوها ليتفقد ما إن كانت على قيد الحياة أم لا وحاول منع نفسه عن ذرف الدموع ولكنه لم يستطع ليبكي في رعب ويده المرتجفة تمتد إلي عنقها بحثًا عن النبض ليجده فابتلع في راحة وتنفس الصعداء وكأنه تم تبرئته من حكم الإعدام الذي كان محتومًا وعليه مواجهته منذ ثوانٍ..

بدأ في الشعور بتجمهر الناس حوله ولاحظ بعض الأيادي تمتد نحوها ليجد نفسه وسط جلبة شديدة ليصيح بحرقة وغضب شديد:

- محدش يلمسها!! 

حملها بسرعة ثم اتجه للمشفى مرة أخرى ليقابل "كلوديا" في طريقه التي استطاعت قراءة ملامحه بسهولة.. نفس تلك الملامح رآتها عندما فشل في التفاوض مع احدى عائلات المافيا المكسكية، ولكن الآن يبدو متألمًا.. ابتسمت في داخلها ثم تمتمت:

- يبدو وأن الخرقاء ستموت بسبب الغبي!! 

هزت رأسها في إنكار وتوجهت نحوه لتساعده وهو يبدو كالمشتت البائس بينما طلب منها أغرب طلب على الإطلاق بينما نقلها المسعفون إلي غرفة العمليات فورًا لوقف ذلك النزيف:

- اعطيني هاتفكِ كلوديا.. هيا.. 

رمقته بإستغراب ولكنها ناولته إياه من جيبها الخلفي وتابعته بعينيها لتجده يسجل الدخول إلي احدى الحسابات بنافذة تصفح مخفي ثم آتى بأحدى الأرقام ليُجري مكالمة بالعربية بالكاد استطاعت فهمها لتلعن بداخلها على عدم فهم تلك اللغة ولكنه كان فقط يُحضر من تسبب لمعشوقته الخرقاء بتلك الحادثة.. 

ناولها الهاتف ثم حدثها بلهجة آمرة بالرغم من تلك الحالة المُريعة التي يبدو عليها:

- سيأتوا بعد قليل بذلك الحثالة الذي تسبب لها بالحادثة.. تصرفي وابقي معه حتى تستيقظ لنرى ما الذي سنفعله معه!! 

زفرت في تأفف ثم حدثته بتزمر:

- ليو بربك نحن بالمشفى وحب حياتك أيها المختل قد تلفظ أنفاسها الأخيرة.. هل هذا كل مـ..

أمسك بذراعيها ليرتطم جسدها بالجدار خلفها بقوة وقاطعها بنظرة صرخت خلالها داكنتيه بالخوف:

- لن تموت ولن تتركني.. واياكِ وقولها.. هل هذا مفهوم؟

ضيقت ما بين حاجبيها في تعجب ثم همست:

- مفهوم.. أهدأ ليو.. ستكون بخير أنا اعدك.. 

آتت "هبة" وهي تصيح في لهفة ليترك "كلوديا" ثم نظر إليها ليرى ملامح الفزع على وجهها:

- ايه اللي حصلها؟ فيروز جرالها إيه؟ قولي إيه اللي حصل؟

عقد حاجباه وهو ينظر لها وهو لا يُصدق أن عليه التعامل مع هذه الفتاة متصلبة المراس ليزفر هامسًا:

- خبطتها عربية و..

لم تدع له الفرصة للحديث وبمجرد استماعها لتلك الكلمتان صرخت به:

- طبعًا.. أكيد انت السبب.. جريت وراها مش كده؟! أنت إيه يا أخي بقى.. جاي علشان تدمر حياتنا كلنا! 

منع يده بصعوبة ألا يصفع وجهها حتى يُدميه كي تتوقف عن صراخها به وحاول التحلي بالهدوء الذي لا يعلم من أين له به ثم قال:

- هبة أنا قولتلها تستنى وهي مسمعتليش و..

نظرت له بإندهاش وقاطعته وقد بلغ غضبها عنان السماء:

- يعني غلطان وبجح!! انت السبب وكمان بتبرر.. أنا مشوفتش بجاحة كده يا أخي والله 

هنا تدخلت "آمال" لتُمسك بذراعي ابنتها:

- اهدي يا هبة يا بنتي.. إن شاء الله هتقوم بالسلامة.. مينفعش تزعقي كده وسط الناس.. 

رمقها "شهاب" بقليل من الصدمة وهو يتعجب أنها هي من تحاول إبعادها عنه ونهيها عن مجادلته لتُصيح من جديد:

- البني آدم ده من ساعة ما دخل حياتنا وهو بيخربها كلها.. أنت.. أعوذ بالله منك ومن شرك!! 

رمقته بإحتقار وغيظ ثم ابتعدت عنه لتهمس له "كلويا" في استغراب:

- لماذا أنت محاط بالخرقاوات؟

رمقها في إنزعاج متأففًا وتوسلها:

- أرجوكِ ليس الآن.. 

توجه مبتعدًا لتتابعه بعينيها في عدم تصديق وهو يتجه نحو غرفة العمليات، هل يعشقها حقًا لدرجة أنه يتحمل كل ذلك من أجلها؟ أين ذهب الرجل الذي عرفته يومًا ما؟ هذه سابقة من نوعها.. ويبدو أن اقامتها وهي تشهد تلك العلاقة بينهما ستكون ممتعة أكثر مما تصورت هي يومًا ما!!  

اقتربت "آمال" منه بعد أن هدأت ابنتها وتركتها لتحاول اخبار عائلتها لتتلمس ذراعه بينما انتفض في مفاجأة من تلمسها اياه لترمقه بلوم بينما حمحم ليتدارك فعلته ولكنها سألته بإهتمام:

- فيه إيه يا ابني؟ هو انت وفيروز فيه ما بينكم حاجة غير الشغل؟

نظر لها في حيرة وتشتت وهو لا يدري هل يتحدث لها، هل يخبرها عما به.. ابتلع لأكثر من مرة وهو لا يجد الكلمات التي يود قولها ولأول مرة يشعر بمدى خيبته أمامها.. تلك النظرات منها ولمستها له تُذكره بالكثير مما تمنى يومًا ولكن الأمر صعب.. هو لا يستطيع بسهولة أن يُحدثها.. هو أستطاع تلك المرات التي تحدث لها بها أن يحافظ على عدم انهياره بأعجوبة ولكن الآن.. هو لا يدري كيف عليه التصرف ولا ما الذي عليه قوله..

تلمست لحيته في حنان ليجد نفسه تلقائيًا يفر من هذه اللمسة ولكنها سألته من جديد:

- قولي يا حبيبي فيه إيه؟ أنا امك وعمري ما هارضى أشوفك متضايق واسكت.. اهلها كمان هيجوا دلوقتي.. متنساش انهم برضو أهل خطيبة اخوك.. أرجوك قولي علشان اقدر اتكلم وافهمهم اللي حصل.. هبة بتتكلم صح فعلًا؟

رمقها بغير تصديق وتأثرت ملامحه وشعر بأنه على مشارف البُكاء مما استمع إليه.. أهل خطيبة اخيه، يا له من محظوظ بتملك من تعشقه إلي جانبه ووالدة تكترث له.. 

ابتعد عنها مُسرعًا دون أن يتفوه بحرف.. هو يود الهروب منها بأي طريقة.. يود الهروب من خبر مفجع قد يتلقاه من خلف تلك الجدران التي يقبع بها جسدها خائر القوى دون حول ولا قوة.. لا يُصدق كل ما يحدث حوله!! 

لقد واجه الكثير من سكرات موتى ضحياه، لقد عذب نساء كثيرات.. ولكن ما لا يستطيع فهم هو لماذا الأمر مختلف هذه المرة؟ لماذا كل شيء يبدو صعبًا للغاية؟

حاول نقل بعض الهواء إلي رئيتيه وهو يحاول وقف نفسه عن البُكاء بأعجوبة وأغلق عينيه يعتصرها ثم فتحها ليرى "كلوديا" أمامه لتسأله بإهتمام:

- ما الذي يحدث لك ليو؟ أين ذلك الرجل القاسي الذي اعتدت أن اعرفه يومًا ما؟ بربك ليو اجبني!! 

نظر لها بشتات ثم هز رأسه بقلة حيلة ووهن شديد ليهمس بصوت مبحوح تغلبت عليه غصة البكاء الذي يحاول محاربتها:

- لا أعلم كلوديا.. أنا لا أعلم ما الذي يحدث.. صدقيني لا أعرف..

زفرت في تعاطف وتأثر بمظهره ثم حدثته بقليل من المرح في محاولة لتحسين مزاجه قليلًا:

- أعلم أنك لا تُحب العناق ولم تعانقني أبدًا طوال عشر سنوات ولكن أنا موجودة لأجلك عزيزي .. كما أنني لدي أروع نهدان لا تملكهما إمرأة سواي! ستستمتع بهذا العناق أكثر من أي شيء آخر!!

التوت شفتاه بمرارة ولكن بدا مُحطمًا أكثر منه مبتسمًا وهو ينظر لها فغمزت له مازحة ليهمس هو:

- لن تتغيري أبدًا كلوديا!! 

رفعت حاجبيها في ثقة وابتسمت بخبث وهي تضيق عينيها نحوه: 

- ربما اليوم سأكون الصديقة الوفية لأجلك أنت فقط أيها الوغد.. هيا أخبرني لماذا لم تتحدث لي طوال عامان؟ قد تصورت حتى أنك ستفعل عندما مات والدك.. ولكنك فاجئتني حقًا عندما انتظرت عامان بأكملهما.. لماذا ليو؟! وحتى عندما حدثتني طلبت مني معروف تلو الآخر.. لماذا لم تُفكر بأن تُحدثني حتى لدقيقتان؟ 

حاولت انتشاله بحديث آخر علها تستطيع التحسين من تلك الملامح بينما تناول هو نفسًا مطولًا ثم زفره وهو ينظر لها بتردد ثم اجابها:

- أنتِ تعلمين أنني لم اختر تلك الحياة وانني أُجبرت عليها.. عشر سنوات كانت كافية لي كلوديا.. كان على أن أُنهيها بأي طريقة! 

شعرت بقليل من التأثر وأومأت في تفهم وطأطأت برأسها لتلاحظ ضمادة يده تمتلئ بالدماء لتصيح به زاجرة وهي تُمسك بيده:

- أترى ايها الوغد الغبي.. هذا يحدث لك عندما تتبع الخرقاء.. دعنا نبحث عن طبيب أو اي لعين هنا حتى نرى ما الذي حدث لك!! 

     

تصنعت الإستناد على ذلك العكاز ثم شردت مُضيقة عينيها بنظرة خبيثة وهي تنظر من شرفة غرفتها في تفكير عميق، لو أن ما تستمع له عن جنون وعصبية "سليم" في العمل وذلك النزاع الذي اشتد للغاية بينه وبين تلك الصغيرة المُزعجة مثل ما اخبرها "عاصم"، إذن لقد كسبت هي هذه الجولة.. 

يتبقى القليل حتى يدوم ذلك النزاع للأبد.. أو ربما ستكون بدايات طلاق.. من يعلم!! لابد وأن تلك الفتاة الساذجة ستنفجر حتمًا يومًا ما.. لن تستطيع تصنع أنها باتت فتاة حكيمة متريثة تستطيع التفكير ومساعدة الجميع.. هذا الدور بأكمله في ثمثيليتها السخيفة لابد وأن يكون له نهاية عن قريب..

ما يُشعرها بالملل حقًا هو استمرارها في الذهاب لتلك التمارين التي يظن الجميع أنها ستساعدها على السير من جديد وهي تستجيب لها.. جيد.. المزيد من الوقت وستتحرر من تلك المواعيد والأطباء والعكاز السخيف والكرسي الغبي والتمارين المُجهدة.. تبقى القليل بعد ووقتها ستستطيع فعل كل ما أرادته!! 

"زينة" و "سليم" كفراشتان غبيتان يقتربان من نيران انتقامها.. هذا كان متوقع للغاية، ولكن ماذا عن "شهاب"؟ كيف ستتصرف معه؟ لو كانت تلك المرأة زوجة والده لا تزال على قيد الحياة كانت لربما استفادت منها كثيرًا.. صبرًا إذن!! ستنتقم منه أشد انتقام!! 

رجل الأعمال الذي يفعل الخير الآن ببناءه لمشفى خيري، هل يمزح؟ من اقنعه حتى بتلك الحيلة السخيفة؟ ولكن ذلك الوغد الذكي عليه أن تكون اذكى منه هذه المرة! لن تهدده بمكالمته إلي "وليد" بل لن تتحدث معه في الأساس.. هي فقط ستباغته لتأخذه المفاجأة الشديدة حينها..

زفرت نفسًا مطولًا وهي تتذكر تلك اللحظات التي اعتدى بها عليها.. تولد بداخلها ذلك الشعور بتلك النيران التي تتآكل قلبها.. لن تتركه ليهنأ أبدًا بأي شيء وستدمر حياته مثل ما دمر حياتها.. 

لقد كانت على شفا حفرة من تملكها كل ما تمنت يومًا ما.. وفي غضون ليلة واحدة قد دمر هو ذلك.. لن تتركه أبدًا دون انتقام غائر كي تهنأ هي وتشعر ببعض الراحة.. 

لاحظت "آسر" يتوجه ليُجالس "زياد" بحديقة المنزل ثم صدح بضحكته لتلتوي شفتاها في سخرية، لطالما كان هذا الفتى لا يكترث هو واخيهما "عاصم".. حتى بعد كل ما حدث وظهور والدها الذي يقولوا أنه كان خائنًا واغتصب زوجة خالها لا يزالا يتبعا خطة الهروب التي اتخذاها طريقة في الحياة.. 

تصرف "إياد" متوقع للغاية وأمّا عن "زينة" بتلك الطريقة التي تحاول أن تُفكر بها وتصنعها أنها إمرأة حكيمة ذكية متزوجة لن تدوم وستنهار آجلًا أم عاجلًا.. 

فكرت في خطواتها القادمة بينما استمعت لصوت باب غرفتها ينغلق فالتفتت حتى رآت "هديل" والدتها فابتسمت لها في وهن لتبادلها الإبتسامة بإقتضاب ففهمت "أروى" أن تلك الإبتسامة وراءها أمرًا آخر ولم تصعب عليها الأمر كثيرًا عندما جالستها ثم حدثتها في حنان متسائلة:

- عاملة إيه دلوقتي يا حبيبتي؟ حاسة إنك بتتحسني يا أروى؟

تصنعت الضعف والبراءة وأومأت بالموافقة ثم اجابتها:

- احسن يا مامي.. 

تنهدت ثم أشارت نحو ساقيها وقالت:

- منة طمنتني إن الحمد لله خلاص قريب اوي مش هنحتاج عكاز.. ربنا يقومك بالسلامة يا حبيبتي..

توسعت ابتسامتها المزيفة وهمست لها:

- إن شاء الله!

عقدت "هديل" ذراعيها وهي تتفحص وجه ابنتها لوهلة ثم سألتها:

- وأخبار الأخصائي النفسي اللي بتتابعي معاه إيه؟

هزت كتفيها في عفوية بمزيد من الإدعاء الكاذب واجابتها بإقتضاب:

- تمام.. مفيش جديد..

همهمت وهي تومأ لأكثر من مرة بالموافقة وعادت لتضيف المزيد من التساؤلات:

- أنا شايفة إنه مش جايب معاكي نتيجة، يعني مفتكرتيش حاجة من اللي حصل، مبحسش إن مودك نفسه بيتغير.. تحبي نغيره أو تتابعي مع حد تاني؟

ضيقت ما بين حاجبيها في ابتسامة متكلفة وادعت عدم الفهم بينما بداخلها شعرت بالإستغراب وعلمت أن والدتها ستصل لأمر ما في نهاية هذا الحديث ولكنها حمحمت واجابتها:

- لا يا مامي أنا تمام.. اصل هو بيقول اللي حصل ده صدمة العقل مقدرش يواجهها، فأنا مش قادرة افتكر.. بس الدكتور كويس مش محتاجة اغيره..

همهمت في تفهم وابتسمت ابتسامة جانبية في سخرية وتألم من أجل ابنتها، ولكن الميزة انها لا تعلم بعد أنها تحدثت للأخصائي بعد إلحاح من "زينة" و "سليم" بأنها تعاني بشكل اكبر يحتاج اكثر من تدخل اخصائي فحسب على شكل جلسات اسبوعية..

زفرت في وجع حاولت تجنبه وسألتها من جديد فقط في انتظار لأي إجابة منها قد تُثنيها عن قرارها الذي اتخذته بشأنها:

- ليه يا أروى مجتيش حكتيلي أنا عن موضوع كريم؟ انتي كنتي اقرب اولادي ليا، ليه يا بنتي فجأة كده من ساعة ما فوقتي من الغيبوبة وانتي بتصديني كل ما اجي اقرب منك؟ إيه الي حصل يا أروى خلانا كده؟!

هزت كتفيها بتلقائية مصطنعة ثم اجابتها بإقتضاب وبداخلها بدأ صبرها في النفاذ:

- عادي يعني يا مامي.. مرضتش اضايقك علشان موضوع تيتا..

ابتسمت الأخرى في عدم تصديق وخيبة أمل:

- وليه قولتي لزينة؟ ليه مقولتيش لعاصم وهو المفروض اقرب اخواتك ليكي ومن يوم ما قومتي بالسلامة مبقاش يسيبك لا هو ولا خطيبته وحتى زياد من ساعة ما رجع من امريكا وهو معاكي.. ليه محكتيش لحد فيهم؟! 

قلبت شفتاها متصنعة التعجب ثم اجابت بصوت مهزوز:

- عادي يا مامي.. زينة أنا عارفة إنها بتحب بابي كريم من زمان.. آسر وخالو زياد طول عمرهم مش معانا.. وعاصم حتى بعد ما عرف مفرقش معاه وكالعادة إياد اتعصب.. زينة هي الوحيدة اللي قدرت تفهمني..

زفرت وهي تهز رأسها في آسى وسألتها بقليل من الحدة:

- وانتي؟

ابتسمت في تعجب وبداخلها تحاول منع صراختها التي ودت أن تقابل بهها والدتها من كثرة الإنزعاج من هذا الحديث ثم اجابتها سائلة:

- وأنا مالي يعني يا مامي؟ أنا كويسة اهو..

توسعت ابتسامة والدتها ثم سألتها بحدة:

- انتي استفدتي من كل ده إيه؟ عمري مثلًا من ساعة ما الموضوع ما حصل سمعتك بتقولي إنك عايزة تشوفيه أو تطمني عليه أو حتى تحاولي تساعدي بأي طريقة إن نجيبه من بيت عمك ويعيش معانا زي إياد مثلًا ما راح شافه وزي ما سليم رفع قضية وماشي في الإجراءات..

حمحمت بطيف توتر ولكنها تغلبت عليه سريًعا لتردف مسرعة بملامح زائفة تصنعت بها البراءة والحزن:

- أصل يا مامي يوم ما حصلت الخناقة دي بين سليم وإياد ولما جالي هنا وزعقلي سمعت حضرتك بتقولي إنك يعني  قولتي لخالو زمان يتدخل في الموضوع ويبعده عننا فمرضتش اتكلم!! 

لم تقتنع ولو بحرف واحد مما استمعت له ثم استطردت متمتمة:

- مرضتيش تتكلمي.. لكن حاجات تانية بتتكلمي..

رمقتها "أروى" في تعجب وبداخلا تضمر غضب لاذع بينما سيطر على إنفعالها لتسألها "هديل" من جديد:

- انتي ليه كدبتي عليا زمان في إن زينة غلطت مع واحد زميلها؟ وليه مقولتليش إنك سمعتيها إياد وسليم لما كانوا بيتكلموا في المكتب؟ 

لم تستطع تحمل تراهتها أكثر من ذلك لتصرخ بوالدتها:

- مامي أنا مش فاهمة فيه إيه.. أنا اللي كنت بعرفه كنت بقولك عليه بصراحة.. وبعدين غريبة يعني هو مش انتي اللي كنتي عايزة تشوفيني في يوم أنا وسليم متجوزين وكنتي بتساعديني في كل ده! مش انتي اللي كنتي مقوياني وعايزة كل حاجة تمشي زي ما بتقولي؟

سيطر الحزن على ملامح والدتها ثم همست:

- صح.. كلامك صح.. بس عرفت قد ايه إني كنت غلطانة.. بحاول اصلح كل الغلط اللي عملته ليل نهار.. بقرب من الكل ومبقتش زي زمان سواء معاكي انتي واخواتك ولا مع اخواتي انا!! اللي فعلًا حاسة إن عمره ما هيتصلح هو انتي يا أروى!

زفرت في حنق وتعالى غضبها لتصيح من جديد:

- أنا زهقت بقى ومش فاهمة انتي عايزة توصلي لإيه بالظبط من كلامك ده! أنا حاولت اصلح انا كمان وافتكرت إن بابي كان حد كويس ولما اكتشفت إنه كان إنسان وحش سكت ومتكلمتش! 

أدركت هنا أنها هي غلطتها منذ البداية وعليها تحمل كل اخطاءها حتى النهاية لتهمس متألمة:

- أروى أنا كلمت الدكتور بتاعك.. انتي ليه مش عايزة تتجاوبي معاه؟ فيه إيه مخبياه عننا؟ احنا ممكن كلنا نساعدك.. قوليلي يا حبيبتي وأنا عمري ما هتأخر عنك! كلنا عايزين نشوفك كويسين أنا واخواتك واخواتي كمان!

تأففت ثم رمقتها بغضب:

- مامي أنا مش مخبية حاجة.. ويمكن غلطت لما قولت لزينة.. خلاص بعد كده مش هابقى اتكلم!! 

أومأت في تفهم بآسى شديد ولكن نبرتها الحادة المتحكمة عادت لتتحدث لإبنتها في زجر واضح:

- بس أنا مش هاسيبك كده تفضلي عايزة تكملي في انعزالك ووحدتك وخططك.. فاكراني مش واخدة بالي من اللي بيحصل.. طريقتك في معاملتك لخالك وابنه، طريقتك مع زينة اللي وقعت مرة في الأوضة عندك صدفة والصدفة التانية كان إنك تقوليلها على موضوع كريم!! اتأكدي إن أي قرار هاخده معاكي انتي الذات هيبقى علشان مصلحتك وعلشان تكوني احسن.. مش هاستحمل أشوف حاجة بتجرالكوا ولا بتجرالك تاني.. الأذى اللي عايزة تأذيه ده لأختك وجوزها علشان حكايتكوا منفعتش أنا مش هاسيبك تستمري في اللي انتي بتعمليه..

صدقيني يا أروى نفسي أكون غلطانة في كلامي وتكوني انتي الصح.. بس لما اطمن عليكي بجد.. لأن كل اللي شايفاه منك بطريقتك إنك يوم عايزة تقربي من الكل وشهر قصاده عايزة تبعدي واللي الدكتور بتاعك قالهولي وكل الأحداث اللي بتحصل من ساعة ما فوقتي مش طبيعية أبدًا.. 

نهضت ثم تركتها خلفها لتتعجب الأخرى وأخذت تُفكر بم تقصد والدتها وبداخلها غضب شديد من كل ما استمعت له ولكنها لم تكترث وعادت لتُفكر في انتقامها من ذلك الحقير الذي اغتصبها يومًا ما ولكن كان عليها حقًا الإكتراث تلك المرة، لم تدرك ببساطة أن "هديل" ستقوم بنقلها إلي مصحة خاصة!!

     

بعد مرور اسبوع.. فجر الأحد، الثامن والعشرون من ديسمبر 2019..

التمعت عينيه بنفس تلك الدموع الحبيسة التي لم تغادر داكنتيه.. ملامحها نفس الملامح.. نفس الشحوب بنفس تلك الأجهزة الغبية حولها.. لا شيء يتغير سوى تلك الآلام التي يشعر بها، تزداد كل لحظة أكثر مما قبلها.. وكأنها في سباق لا نهائي مع الوقت..

لقد سأم تلصصه تلك اللحظات كل ليلة ليجلس بجانبها بعيدً عن اهلها.. استطاع أن يتحكم في الأمر برفض قوانين المشفى ببقاء أهل المريض بعد ساعات الزيارة.. لو حتى عليه أن يفقدهم وعيهم تمامًا حتى يبقى بجانبها سيفعلها.. لا يريد سوى أن تستيقظ وسيفعل كل ما تريده ويقسم أنه لن يعارضها في أي شيء ولن يجعلها تبكي.. لن يفعل أي تصرفات تؤلمها أو ترفضها.. كل ما يريده هو عودتها من جديد وسيكون كل شيء بحياته أفضل..

اقتربت شفتاه المرتجفتان من يدها لتقبلها وهو ينظر لها ولا يدري متى انهمرت دموعه ولم يكترث حتى أن يجففها ووجودها أمامه هكذا خائرة القوى دون استطاعة النطق بحرف كان بمثابة أسوأ عقاب له في الحياة.. 

يملك الأموال، النفوذ، قاتلة محترفة إلي جانبه، العائلة، الشهرة.. وكل ما سبق لا يساعد.. كل ما حققه وكل ما توصل له لا يساوي جُملة واحدة منها وهي حتى في أشد غضبها منه.. لتعود حتى كي يتجادلا سويًا كما حدث بينهما لمرات ومرات.. لتعود وتقول أي لعنة أو حتى ترفضه وسيعمل على اقناعها ليلًا نهارًا بكم تغير وكم أن الحياة بدونها تبدو كالموت تمامًا.. 

على الأقل الموت يأتي مرة واحدة، لماذا يتكرر الآن بكل لحظة تمر عليه؟! 

ابتلع تلك الدموع المريرة بطعمها اللاذع وهو يحاول التنفس بين بكاءه والشيء الوحيد الذي افاقه من كل هذا هو تلك الصفعة على رأسه وبالطبع أدرك أنها "كلوديا" التي باتت لا تفارقه في الأيام الماضية:

- ليو.. أنت تبالغ.. كف عن البكاء هذا من شيم النساء أيها الغبي.. لقد اخبرك الأطباء أنها بخير.. ليس هناك داع لكل هذه الدراما!! 

رفع رأسه وهو ينظر لها لتزفر وهي تتفقده في تعجب، هل حقًا حاله يسوء كل يوم أكثر بسببها؟ ما الذي حدث لهذا الرجل؟ تهكمت بداخلها وهي ترمقه في غير تصديق، هذا الحنون لن يستطيع قتل أحد من جديد.. هذه هي النهاية لرجل المافيا "ليوناردو بينسوليو" ولن يعود أبدًا:

- كلوديا.. لأول مرة اشعر هكذا.. أنا فقط.. أنا.. اريد الإستماع لصوتها من جديد ورؤيتها وهي تنظر لي بملامحها.. حتى ولو ستكون غاضبة أو.. أو

أطلقت زفرة مصحوبة بصوت ثم اقتربت منه لتقاطعه عندما رآته سيبكي من جديد علها تخرجه من تلك الحالة وعانقته رغمًا عنه بقوة شديدة ولأول مرة لم يبتعد عنها:

- ستكون بخير ليو.. بربك.. انظر لها!! هذا طبيعي بسبب ذلك الإرتجاج الذي حدث لها.. قد تستيقظ بأي وقت الآن!! والآن اخبرني.. هل نهداي لا يزالا يتمتعا بلمستهما الرائعة؟

دفعها بعيدًا بيداه ورمقها في زجر ثم عاد لينظر نحو "فيروز" وأمسك بيدها لتضحك الأخرى وجسلت بجانبها على نفس السرير وكاد هو أن يمنعها عما تفعله لتتحدث هي:

- لا تقلق لن اقتلها .. على الأقل اليوم!

نظر لها بغضب ثم همس متوعدًا بحرقة:

- أقسم إن اقدمتي على ايذائها بأي شكل سأحرقك مرارًا

انطلقت ضحكتها في مرح ثم عادت ملامحها للجدية:

- بربك ليو.. كنت امزح ليس إلا.. 

تنهدت واعترت الجدية كل حواسها لتجلس القرفصاء ثم حدثته:

- شكلك المزري من اجل إمرأة.. بكاءك.. حتى لم تمانع أن تقتل نفسك من اجلها وقد أوشكت أن تموت.. هذا كثير عليّ نوعًا ما.. حتى أنك تركتني اعانقك لأول مرة بحياتنا البائسة.. أنت تعشقها حقًا أليس كذلك؟ ليس مجرد افتتان أو إرادة بأن تضاجع إمرأة ولا هناك أي مكسب من خلفها.. لن تساعدك في شحنات ولا مع عائلة مافيا أخرى.. هل أنت متأكد من اختيارك، شهاب؟! 

حسنًا، هي لا تناديه بإسمه إلا نادرًا.. ربما بدأت في تصديق أن ذلك الرجل الذي عرفته لسنوات لم يعد متواجدًا أبدًا.. تفحصته بعناية شديدة وهي تنظر إلي ملامحه في ترقب ليومأ لها في هوان ثم همس لها:

- لم أكن متأكدًا من أي أمر في حياتي مثل ما أنا متأكد الآن.. أنا اريدها كلوديا.. أريدها إلي أن الفظ انفاسي الأخيرة! 

زفرت زفرة مُطولة وتريثت في تفكير ثم حمحمت لتجيبه بمزاحها المعهود لتقول:

- لقد قمت بالتعري امامك منذ أن اتيت ثلاث مرات.. لقد توسلتك أن نعذب هذا الحقير الذي صدمها سويًا.. لقد جلست أسفل قدماك الكثير من المرات.. عانقتك علك تنهرني أو تصفعني..فعلت كل ما تعودت أن تستجيب له ولم القى أي ردة فعل منك تُذكر.. لذا.. لا اصدق أنني سأقول ذلك ولكن إذا أنت متأكد من قرارك تجاهها.. وبالرغم من أن هذا يعني أنني لن أضاجعك مرة اخرى.. ولكن تزوجها أيها الوغد.. يبدو أن هذا هو الحل الوحيد!! 

ابتسم لها بإقتضاب ابتسامة جانبية لا تعبر سوى عن مرارة آلمه ثم همس:

- لقد اخبرتها بذلك في تلك الرسالة التي تركتها لها.. ولكنها لم تقرأها بعد.. 

قلبت شفتاها وهي تهمهم وكادت أن تتحدث بينما شعر بتحرك كف يدها أسفل خاصته ليصيح في دهشة:

- كلوديا.. أظن أنها تستيقظ.. أم اتوهم.. انظري.. الأطباء علينا أن نقوم بإبلاغهم.. أنا اتخيل أم ماذا؟!

ضحكت في مرح على ملامحه ثم نظرت إلي وجهها لترى ملامح الآلم بدأت في الظهور على وجهها وتيبس جسده لتصيح بالإيطالية:

- ولقد استجاب الرب لدعواتك أيها الغبي.. سأحضر الأطباء حتى نطمئن على الخرقاء خاصتك.. مخبولان..

تمتمت بكلمتها الأخيرة ثم توجهت بسرعة إلي الخارج وهي لا تصدق أنها سترى عن قريب زواج "ليوناردو بينسوليو" لتمتم مرة أخرى:

- وسنسميه زواج في المشفى!! يا له من حفل!! سيكون زواج العام!!

     


تنهد بعمق وهو يجلس على رأس المائدة ولم يعد يكترث بمن يجالس من ومن آتى للتو ومن لم يأتِ وبداخله حتى شعر بالإمتنان لمغادرة "نورسين" وبقاء "سليم" فحدثه بنبرة يتضح عليه الإنكسار سائلًا:

- مبسوط يا حيلتها؟

ابتسم له ابنه بإقتضاب وهو يتناول الطعام على استعجال ثم قال:

- صباح الخير يا بدر.. عمري ما هاكون مبسوط وانت مش كويس.. بس لو قصدك إني مبسوط علشان أنا وزينة بقينا كويسين فعايز اقولك إني كنت متأكد إنه مجرد وقت وكنا هنرجع كويسين! 

أومأ له في اقتضاب ومد يده ليتصنع محاولة بائسة في تناول الطعام ليسأله مرة أخرى:

- طول عمرك حنين.. بس قولي ولاد عمتك عاملين إيه دلوقتي؟

هز كتفاه بتلقائية وهو يتنهد ثم اجابه بقليل من التردد:

- عاصم مش فارق معاه حاجة.. آسر زيه هيسافر أصلًا النهاردة هيرجع تاني.. أروى من ساعة ما عمتى صممت انها تروح مصحة وهي ساكتة.. وزينة اهى معاك في بيت واحد..

توقف لبرهة ثم أشاح بنظره حتى لا يُقابل عيني "بدر الدين" وهمس بخزي في صعوبة:

- إياد هو اللي.. إياد مظنش إنه هيرجع زي الأول أبدًا.. وابقى حاول تكلم سيدرا يا بابا علشان متاخدة اوي من يومها.. كلنا كلمناها بس لسه مش قادرة تتعامل!!

نهض من على المائدة ثم نظر له ليودعه:

- يالا أنا يادوب الحق الشغل علشان أنا النهاردة لوحدي وفيه حاجات كتيرة اوي ورايا.. 

أومأ له وآثر الصمت ليحاول "سليم" ممازحته:

- محتاج تحلق يا بدور!! فوق كده.. يومين وهيعدوا.. يالا أنا ماشي.. سلام! 

رفع ثاقبتاه لينظر له ثم ابتسم بإقتضاب وهز رأسه في موافقة ليتركه ويذهب مسرعًا ولم يعلم أحد بماهية شعوره الذي يؤلمه في اليوم لآلف مرة وهو يرى نظرات الخذلان من أعين الجميع حوله واولهما ابنتاه "سيدرا" و "زينة"..

     

رمقه في عدم تصديق ثم هز رأسه ليهمس بمزاح:

- يعني لو ناوي على دي بعد كل المزز اللي قطعتهم يبقى اتكل على الله يا زوز.. منة منة وامرنا لله! 

صفعه على رأسه في مزاح ثم امسك بأذنه ليصيح "آسر" في توجع زائف:

- خلاص بقى.. ما قولتلك اتجوز وعيش في مصر وأنا مالي بيك.. دي مصلحة هستفرد ببيتك ومززك كمان! 

ترك أذنه ثم نظر له بقليل من الحسرة الحقيقية وحدثه في جدية:

- آسر حاول متضيعش عمرك كله برا.. اديك شايف اهو انا بين يوم وليلة لقيت اخواتي كلهم ولادهم اللي اتجوز واللي خاطب واللي حامل وحياتي كلها فاضية.. عيش واتبسط بس متطولش.. متبقاش حمار زي خالك..

ضحك على كلماته ثم وضع يده على صدره وحدثه بنبرة مرحه:

- بقى انت حمار.. ده انت معلم يا زوز!! ده أنا واخد الخبرة كلها منك! والله هتوحشني وأنا لواحدي كده.. اتجوز يا عم وهاتها وتعالى.. وأنا اوعدك إن كل قاذورتنا هتفضل في بير! وهربيلك العيال كمان..

قهقه "زياد" على كلماته ثم أشار له في تحذير:

- لا يا عم لو خلفت انت آخر واحد هاسيبك تقرب من ولادي!

غمز له ثم أردف بسؤال مازحًا:

- ليه بس، ده أنا تربيتك!

أومأ في تفهم مهمهمًا ليرد ويقول:

- ما هو علشان عارف إنها تربية وسخة عمري ما هاسيبك تقرب من ولادي.. 

أشاح بيده وهو يترجل من السيارة للخارج ففعل خاله المِثل وتوجها ليحضرا حقيبته من نهاية السيارة واتجها سويًا لداخل المطار ليقوم "زياد" بتوصيله وتوديعه ولقد قرر مُسبقًا أنه لن يُسافر معه هذه المرة!!

     

حمحمت "زينة" وهي تراقب "بدر الدين" من على مسافة وانتظرت حتى غادر "سليم" بفارغ الصبر فاقتربت منه لتجده شاردًا فهمست له:

- صباح الخير 

التفت إليها بعد أن نبهته بصوتها المتحدث فرد بإبتسامة مقتضبة وسرعان ما انقطعت نظرتهما:

- صباح النور يا حبيبتي

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته وهي تحاول أن تستجمع شجاعتها لتتحدث معه لتقول بصعوبة شديدة وعدم امكانية منها لترتيب تلك الكلمات التي فكرت بها مرارًا وتكرارًا وطأطأت برأسها للأسفل وفشلت تمامًا في أن تنظر له:

- خالو.. أنا.. انت بالنسبالي مش مجرد خالي ولا حمايا وبس.. حضرتك فاهم ده يمكن اكتر مني.. ياما وقفت جنبي وياما وقفت قدام ماما بسببي.. وبعد اللي شوفته وعرفته أنا فهمت حضرتك ساعتها اتصرفت كده ازاي وليه!! 

بس لما برجع افكر في اللي شوفته من اكتر من شهر.. بابا وهو مش عارف ينطق وقاعد على كرسي وكل ما المسه بيصرخ.. طيب اللي عمله مع طنط نور برضو كان حاجة بشعة.. بس ده إنسان في الآخر.. حرام انه يحصله كده..

أنا آسفة يا خالو!! متزعلش مني بس أنا بجد المرادي مش عارفة افكر خالص.. أرجوك متفضلش زعلان مني بس أنا.. أنا مش عارفة اتكلم مع حد في الموضوع ومش قادرة افكر.. أنا يمكن هحتاج وقت أكتر من كده.. أنا آسفة والله بس..

أشار بيده ليوقفها عندما رآها تبكي بين كلماتها وهي تتحدث بها واختنقت نبرته بدموع لم يسمح لها بأن تتفلت منه ليهمس لها:

- براحتك يا زينة.. خدي وقتك زي ما تحبي..

رفعت رأسها وهي تنظر له ثم هتفت بتلعثم عندما استمعت لنبرته التي قلما استمعت له وهو يبدو بذلك التألم:

- بس.. بس احنا مش هنمشي.. انا وسليم والبيبي هنفضل معاك يا خالو.. وهنعيش سوا و.. ومع طنط نور و..

تواترت دموعها من جديد ليشرد "بدر الدين" بعينيه التي ذرفتا بعض الدموع دون إرادة منه وأومأ في تفهم ولم يستطع أن ينظر إلي ملامحها خاصة وهي تبكي لتهمس هي في حُزن وهي تراه في تلك الحالة التي لم تتخيل أنها ستراه بها في يوم ما ونهضت بسرعة في تشتت شديد وهي تغادره:

- أنا آسفة..

     

انتهت من مساعدتها في ملابسها التي لا تدري لماذا صممت على تبديلها بالرغم من تلك الكسور التي أصابت عظامها، ولكن يبدو أن رسها لا يزال متصلبًا بنفس الطريقة ولم تُغير به تلك الحادثة شيئًا يُذكر.. 

ضحكت في خفوت عندما تذكرت صياحها بوجه "ليوناردو" ليذهب إلي الخارج حتى أنها قابلته في طريقها وهي تحضر ممرضتان لغرفتها ولكن بنفس الوقت تلمس قلبها القليل من الشفقة تجاهه لتتصنع أن يدها تحركت دون قصدًا وهي تساعدها لتتأوه "فيروز" ثم هتفت بها بإنجليزية مُتقنة:

- مهلا.. اتركيه حتى تأتِ اختي أو هبة..

اطلقت زفرة معترضة ممتزجة بصوت متهكم لتقول:

- لقد انتهيت..

وتمتمت مضيفة بالإيطالية كى لا تفهمهما:

- ايها العاهرة!! 

ساعدتها لتضع الوسائد خلف رأسها ثم تفقدت الساعة لتجد أنه لا يزال الوقت مبكرًا للغاية، لذا هناك فرصة امامهما أن يتحدثا قبل وصول عائلتها وقبل بداية ساعات الزيارة فدثرتها في ضيق بتلك الأغطية والأخرى ترمقها بعدم ترحيب ولا حتى امتنان لما تفعله وما إن تلاقت اعينهما حتى وقفت "كلوديا" وهي تنظر لها بتفحص شديد ونظرة ثاقبة وحدثتها بجدية:

- أعلم أنه أخبركِ عني.. وأعلم كذلك أنه يُحبك وانتي تحبيه خاصةً بعد تلك النظرة التي تنظري لي بها منذ أن قابلتك ولكن اسمعي!! 

زفرت بعمق ثم أردفت بنبرة تحمل التهديد الصريح:

- هذا الرجل القابع بالخارج كالمراهق الغبي لم أره هكذا أبدًا.. لا اكترث إلي ما تحول إليه ولا بتأثيرك عليه بأن يُصبح غبيًا للغاية هكذا ولكن كل ما اكترث له هو أنكِ عليكِ أن تُنهي ما بدأتيه.. 

هذا الغبي بالرغم من قسوته بحرق ضحاياه وخططه الذكية وعدم خوفه من أي شيء بالحياة آتيت إلي هُنا لأرى أنه اصبح شخصًا آخر لم اتعرف عليه بالسابق.. ما أود قوله هو أن لو كان هناك إمرأة تستعصى عليه صدقيني لكان قتلها منذ ثلاثة شهور.. 

أنا لا اوافق عليكِ معه، وليكن ما يكن ولكن هو لم يُسافر إلي ايطاليا بل هاتفني لمساعدته كي تسامحيه على ما فعل.. لم أره بهذا الإنكسار قبلًا.. وحتى أكون مُحقة أنتِ لا تستحقي كل ذلك ولكن هو يُريدك وأنتِ بدأتي كل ذلك معه بالتراهات عن المساعدة وأنكِ تقبلين رجل مافيا مثله.. لذا احذرك.. إذا سببتِ له المزيد من الآلام بأي طريقة عندما يدخل الآن لمحادثتك.. أقسم لكِ أنني سأستمتع كثيرًا وأنا أرسم بسكاكيني على جسدك الهزيل هذا!

أطلقت نفسًا مطولًا ثم اتجهت للخارج وهي تصيح بها:

- اياكِ.. لقد حذرتك.. لا تنسي هذا!

لم تُغلق حتى الباب ودخل "شهاب" في لمح البصر ليتوقف قبل أن يأخذ المزيد من الخطوات إليها، تلك الهيستيريا التي اصابها عند استيقاظها كانت أكثر مما يستطيع التعامل معه وهو ببساطة لا يود ازعاجها أكثر!! 

ابتلع في تردد وهو ينظر نحوها لتتقابل اعينهما في ملازمة ذلك الصمت الغريب حولهما ولم يتخلله سوى تلك الأنفاس التي تناولها كلاهما في محاولة لبدأ الحديث ولكن لم يعد أيًا منهما يملك الشجاعة الكافية ليتحدثا بالمزيد..

أطالت النظر له ولمظهره.. يبدو مريعًا أكثر من ذي قبل، لا بل أسوأ مرة على الإطلاق.. حتى عندما آتى لها بالمصحة بعد عودتهما من السفر لم يكن يبدو بمثل هذه الحالة المُزرية.. كما أنه يبدو فاقدًا لكثير من الوزن!! 

رمقها وارتسمت على شفتاه ابتسامة بسيطة في امتنان، هي الآن تنظر له، لن يفقدها مجددًا، لقد استيقظت من تلك اللعنة التي أخذتها منه لأسبوع بأكمله.. لا يدري إن كان الأطباء صدقوا بأنها قد تستمر غيبوبتها لأسابيع لكان انتحر حقًا هذه المرة..

بعد لحظات من التفقد، بعد المزيد نظرات حملت العديد من الأسئلة، المشاعر، وحتى اللوم والمُعاتبة على الكثير من الأشياء والأمور التي حدثت بالسابق تحدث كلاهما في نفس الوقت هاتفان:

- فيروز

- شهاب

رفع سبابته كي يُنهيها ثم أومأ بالإنكار رافضًا واقترب منها لتتابعه بعسليتيها في استغراب شديد ليجلس بالقرب منها وهو يتلمس يدها اليسرى التي هربت بأعجوبة من الجص، ولم يكترث أنه يُجبرها على تلك اللمسة ولكنه اكتفى فهمس:

- سيبيني المرادي اتكلم علشان.. علشان انتي كان معاكي حق في كل حاجة قولتيها وعملتيها..

تناول نفسًا مطولًا ليبتسم في سخرية ثم تحدث بطريقة غريبة مطأطأ لرأسه وكأنما يتحدث لنفسه اكثر مما يتحدث لها لتضيق ما بين حاجبيها في تعجب: 

- النفس الطويل ده أن بقلق منه بس.. بس مفيش حاجة خوفتني في الدنيا زي النهاردة..

من جديد تناول ذلك النفس الطويل ثم حبسه ليرفع رأسه ناظرًا لها ولا يدري كيف تحمل بالأيام السابقة ألا يرى تلك انالحدقتان التي لا يُميز لونهما أمامه ولكنه سيراهما أكثر بالأيام المقبلة وسيفعل كل ما بوسعه حتى تقبل ما يريده:

- فاكرة اول يوم اتقابلنا فيه، كلامك عن المشروع، الحدوتة اللي حكتيها للبنت الصُغيرة.. كلامك مع الراجل اللي مش بيشوف اللي عدينا عليه.. كلامك مع والدك، كلامك ليا في الجلسات.. ولغاية كلامك يوم عيد ميلادي بليل.. انتي صح يا فيروز وانا غلط.. انا فعلًا زي ما انتي ما قولتي .. انا عايزك تكوني جنبي تسمعيني وانا بكلمك بس مش علشان اكدب عليكي.. علشان أنا بحبك ومحتاجك !! 

لما شوفتك واقعة على الأرض ووشك متغطي بالدم انا مجاش في بالي غير إني ضيعتك من ايديا.. واني غبي وكنت بكدب وده كان جزاء كدبي إنك حصلك حادثة و..

انهمرت احدى دموعه دون إرادة منه وهو يبتسم بمرارة ولم يستطع أن ينطق بموتها وبما ظنه ثم همس لها:

- أنا مش عارف يعني إيه راجل يحب واحدة.. مع إني كنت فاكر إني بحب غادة بس.. بس كل حاجة معاكي مختلفة.. اكتر من اهلي واكتر من غادة وحتى كلوديا.. مفيش حد في الدنيا بحس معاه زي ما بحس وانتي جنبي.. تقريبًا.. انتي الوحيدة اللي حبيتك.. الوحيدة من بين كل الناس اللي قابلتهم او عرفتهم! 

زفر وهو يحاول التفكير لإنتقاء الكلمات ولم يعد يهتم بكيف يبدو امامها ولا حتى يكترث لذلك الضعف الذي يشعر به وتابع في خفوت:

- قتلت.. سرقت.. كفرت.. اغتصبت.. عملت كل المصايب اللي مفيش انسان يقبلها بس صدقيني انا مخترتش الطريق ده من الأول بمزاجي.. أنا عارف إني وحش ومستاهلش حد زيك.. وعارف إن مفيش حد طبيعي بيعمل اللي انا بعمله.. وكل كلامك معايا في الجلسات كان صح.. أنا مريض.. وهتعالج مش علشانك يا فيروز المرادي.. علشان نفسي.. علشان اكون كويس وانتي شايفاني.. وانتي معايا..

ابتلع وتناول بعض الهواء من جديد لرئيتيه ثم جفف دموعه التي سرعان ما هطلت من جديد واشتدت قبضته على يدها وهي تنظر له بإندهاش وتعجب ولم تستطع أن توقف دموعها هي الأخرى ولم تستطع كذلك إيقاف عقلها عن تحليل تحركاته التي ذكرتها بذلك الرجل المتوتر الذي لم تره منذ كثير من الوقت ولكنه انتظرت حتى يُنهي ما ود قوله ليستطرد في همس:

- أنا اتغيرت صدقيني.. لو مكنتش اتغيرت كان زماني عملت حاجات كتيرة اوي.. انا مكنتش عارف انا اتغيرت بجد ولا لأ غير لما بعدتي عني.. واوعدك إن عمري ما هازعلك تاني وهتشوفي فعلا إن المرة دي غير اي مرة!! 

انا اسف يا فيروز وعمر ما شهاب اللي عرفتيه هيرجع تاني وهتعالج عند اللي انتي تختاريه.. وهاعمل كل اللي انتي شايفاه صح.. وهثبتلك ده علشان انا مبقاش يفرق معايا اي حد غيرك.. ولا بقيت عايز في الدنيا غيرك ومستعد اعمل اي حاجة في الدنيا علشان تفضلي معايا وترضي تتجوزيني.. 

     

#يُتبع . . . 

تنويه هام..

بعد سؤال القراء ونظرًا لإنشغال الجميع بالإمتحانات هذه الفترة إلي نهاية شهر يناير سيتم نشر فصل واحد اسبوعيًا كل خميس في تمام التاسعة مساءًا بداية من يوم 31 ديسمبر 2020  وسيتم مراعاة عدد الكلمات فيه وسأحاول أن يكون الفصل طويل قدر المستطاع..

اعتذر للجميع ولكن أنا مرهقة جدًا الفترة دي ومحتاجة اجازة شوية 

افضل التمنيات بالتوفيق في امتحانات الجميع وسيتم العودة لنشر جزئين وثلاث اجزاء اسبوعيًا من اول فبراير القادم

دمتم بخير 

وعام سعيد للجميع..