الفصل التاسع - أشواك وحرير
الفصل التاسع
شعرت بالصدمة من حديث الولد فكيف للمربية أن تقوم بضربه...ترددت قليلاً خوفاً من إحراجها بالتدخل في أمر لا يعنيها ولكنها حسمت أمرها في مساعدته لأنها لطالماً احتاجت لمن يقف بجانبها ولو حتي بكلمة واحدة :
_قولي إسمك وإسم باباك وأنا هساعدك.
سارع بالنفي قائلاً بخوف :
_لا لا
_لا ليه مش أنا وعدتك إن الأمن مش هياخدوك ومحدش خدك وعمو مشاهم؟!
هز رأسه بتأكيد وقبل أن يجيبها قاطعه صوت نداء والده من الخلف :
_كريم!
خفق قلبها بقوة ورفعت رأسها حينما تفاجئت بذلك الصوت الذي حفظته عن ظهر قلب في الآونة الأخيرة وتمتمت بذهول :
_مالك!!
حدج فيها مالك بذهول من وجودها هي ورفيقها اللزج يتبادلان أطراف الحديث مع طفله فسألها بإستغراب متجاهلاً وجود الأخر عن عمد مما اضطر مجد محرجاً أن يتنحي جانباً :
_أنتي تعرفي كريم؟!
تصنعت الإبتسام واومأت برأسها ثم أخبرته بمنتهي الصدق :
_أيوة اتعرفنا علي بعض النهارده...أنت باباه؟!
اومأ برأسه دون أن يتفوه بأي كلمة وقد توتر قليلاً من رؤيتها لطفله خوفاً من تقلص فرصته معها كما لاحظ آثار البكاء واضحة على وجه طفله فجثي علي ركبتيه وسأله بحنان أبوي :
_مالك يا حبيبي...حد زعلك؟!
ردت هي مسرعه :
_كان بيهزر مع صاحبه بس هزار غبي شوية...مش صح يا كيمو؟!
نظر لها الصغير بأعين متسعه ثم عاد بأنظاره المرتبكة نحو والده وهز رأسه بإيجاب مما جعل مالك ينفعل متسائلاً بضيق :
_وهو فيه هزار يخليك تعيط كده؟!...يلا قولي مين الولد ده.
ابتسمت إليه روان بإصفرار وأردفت بلامبالاة مصطنعه :
_ما قولتلك هزار متاخدش في بالك.
ضيقت عينيها عليه وطالعته ببعضٍ من التفحص ليتعجب هو من حالتها فسألها بهدوء :
_عاوزه تقولي حاجه؟
اومأت برأسها واتجهت نحو حقيبتها ثم أخرجت قالباً من الشيكولاتة التي ابتاعتها صباحاً أعطتها للصغير الذي أبي أخذها في البداية معللاً بأنه رجل والرجال لا تتناول الشيكولاتة!...تعجب ثلاثتهم من حديث الفتي ولكن شجعه والده علي أخذها فتناولها منها علي مضض...ربتت علي كف يده وطلبت منه الإنتظار مع مجد الذي استأذنت منه لبضع دقائق للتحدث مع مالك وقد ظهر عليه الضيق الذي لم تره علي وجهه منذ فترة طويلة فبررت ذلك بكونه يكره تأخير مواعيده مثلها تماماً أو ربما ينزعج من جلوسه مع الأطفال!...فحدجته بإستعطاف واتجهت للسير مع مالك ولم تلحظ تلك النظرات المتشاحنة التي حدج كلاً منهما بها الآخر!...ابتعدا قليلاً عن أنظار كلاً من مجد وكريم فتسأل مالك بقلق :
_أنتي قلقتيني لما طلبتي نتمشي بعيد خصوصاً إنها مش عادتك يعني..فقوليلي عاوزه تقولي إيه؟...كريم حصله حاجه؟!
سألته ببعض من التردد :
_هو أنت مش بتلاحظ حاجه غريبه علي كريم أو أخوه؟!
أصابه حديثها بالذهول واتسعت عينيه بإستغراب فسألها بعدم فهم :
_حاجه غريبه زي إيه مش فاهم؟
أخبرته مباشرة بهدوء :
_يعني خوف مثلاً!..إنطوائية..تصرفات غريبه علي سِنه.. كوابيس مثلاً!!
فكر قليلاً وأخبرها بهدوء متعجباً تماماً من حديثها :
_هو منطوي أيوه عن أخوه لكن الباقي لا...هيخاف من إيه؟!..وعلشان أكون صريح معاكي أنا مش قاعد معاهم طول الوقت وجدتهم متكفله بتربيتهم بالإضافة للمربية بس أنتي بتسألـ...
أصابها السأم من ثرثرته بالإضافة إلى شعور الضيق الذي اعتراها عقب إخبارها بأنه قليل التواجد مع أبنائه فسألته مباشرة مقاطعه إياه :
_هي المربية بتاعة زين وكريم كويسه؟
أصابه سؤالها بالدهشة فرمش بأهدابه عدة مرات وتسأل بإستغراب :
_كويسه اه بس اشمعنا؟!
ترددت قليلاً في كيفية إخباره خاصة وهو يجهل الحقيقة ولكنها حسمت أمرها بتقريعه بعدما تذكرت دموع الصغير وشعور الضيق الذي أصابها بعدما اكتشفت أنه أب غير مسؤول فأخبرته بتهكم :
_ما هو أصل حضرتك مش فاضي تعرف إن المربية بتضرب ابنك ومبهدلة نفسيته ده غير إن أصحابه بيعايروه إن مامته توفت، وأنا لحقته قبل ما يضرب زميله بالحجر والأمن اتجمع.
_أنتي بتقولي إيه؟!..ابني أنا بيحصله كل ده؟!
سيطرت عليه حالة من الصدمة الشديدة ولم يستوعب حديثها الذي انبصق من فمها بشراسة أشعرته بالدونية تجاه أبويته...شعرت قليلاً بالشفقة تجاهه وكادت أن تعنف نفسها علي إندفاعها في إخباره بمثل تلك الطريقة فعنفت نفسها بالفعل ولكن علي شفقتها تجاه فمَنْ يستحق الشفقة هم أولئك الأطفال الذين ليس لهم أي ذنب أن أبائهم غير مسؤولين فردت عليه ببرود :
_والله اللي سمعته.
طالعها بخزيٍ واضح واتجه مسرعاً من أمامها كالبرق في اتجاه طفله فلحقته مسرعه وأمسكت بساعده في حركة عفويه منها لتمنعه من التقدم خوفاً من تهوره....ألتفت إليها بملامح واجمه فتركت ساعده وسألته بترقب :
_أنت هتعمل إيه؟!
صرخ في وجهها بنبرة حادة ألتفت لأجلها الناس المحيطين :
_هكون هعمل إيه يعني!...هخلي يوم أبوها أسود.
أصابتها نبرته بالإنزعاج وكادت أن تزجره ولكنها فضلت الصمت فبتأكيد هو الآخر يشعر بالضيق بسبب ابتعاده عن أولاده وعدم معرفته بما يدور حولهم فأردفت بضيق مكتوم :
_طب متزعلش الولد!
استعاد بعضاً من هدوءه ورمقها بأسف بعدما رأي تخبطها إثر صياحه بها فلعن غباؤه بداخله...فبدلاً من أن يشكرها لأجل موقفها النبيل مع ابنه صاح في وجهها بكل وقاحه...نظر لعينيها مباشرة وهمس معتذراً :
_أنا آسف بس اتصدمت...المفروض كنت أشكرك على اللي عملتيه مع كريم .
تحاشت النظر إليه واومأت برأسها في تفهم وهمت بالذهاب من أمامه فوضع ذراعه في طريقها ليعوق حركتها...رفعت عينيها إليه بإستفهام فأصتدمت بسوداوتيه التي ترمقاها بتمعن وإهتمام فخفق قلبها وقد تعرق كفها من التوتر بسبب قربه الشديد منها، وتقهقرت خطوتين للخلف :
_أنتي ليه مردتيش عليا إمبارح ؟!
أجابته ببعض الإرتباك :
_كنت في كتب كتاب أخويا في البلد وانشغلت طول اليوم.
هز رأسه بتفهم ،فذهبت من أمامه مسرعه تضع إحدى كفيها علي قلبها الذي يطرق بعنف فقد أشعره قربه بالتخبط والإرتباك كما أنها لا تدري لمَ يجمعها القدر به هكذا عندما حاولت الهرب!...طالع أثرها بإعجاب شديد فقد زاده موقفها مع نجله الكثير من الإحترام والإجلال...زفر بمزيج من الضيق والقلق خوفاً من تعلقه الزائد بها واتجه عائداً خلفها.
❈-❈-❈
انتهي كلاً من روان ومجد من مراجعة كومه من الأوراق أمامهما بعد ذهاب مالك وابنه فتنهدت روان بإرهاق وحكت رقبتها بألم متمته بضيق :
_إحنا هنعيش ونموت في وسط الورق والمواقع!...مفيش أجازه خالص؟!
رفع إحدى حاجبيه محدثاً إياها بإستفزاز :
_ أنا مضربتكيش علي إيدك وقولتلك اشتغلي معايا!
ضحكت علي حديثه بسخريه ولوت شفتيها بإمتعاض وأردفت بتهكم :
_يا عم اتلهي ده أنت من غيري تغرق في شَربة مايه...بس يلا كله بثوابه.
طالعها بصمت وطرق بأظافره علي الطاولة الزجاجية أمامه وبدا عليه التفكير في أمراٍ ما...تعجبت هي من حالته المفاجأة فنادت عليه ولم يستجيب لها ففرقعت أصبعيها أمام وجهه فتحركت مقلتيه :
_إيه يا ابني أنت روحت فين؟!
خرج أخيراً من دوامة صمته وأردف بهدوء :
_أنا بحب واحده يا روان.
رمشت بأهدابها عدة مرات فلم تستوعب ما قاله رفيقه ولكن سرعان ما ابتسمت بسعادة أذهلته هو :
_أنت بتحب؟!..طب والله لو كنت أعرف ازغرط كنت عملتها.
رمقها بإمتعاض وأردف متسائلاً بضيق :
_ومحبش ليه يا روان هانم معنديش قلب أنا؟!
_إيه يا ابني مش قصدي...بس أنا أعرفك من سبع سنين يعني عمر ما ظهر عليك!
كاد أن يجيبها فقاطعته مسرعه سائله إياه بحماس :
_مش مهم مش مهم...المهم أنا اعرفها ؟!...بتشتغل معانا؟!...لا استني استني أوصفلي شكلها؟!
توسعت حدقتيه بتعجب من حالتها ونكس رأسه بإحباط من حماسها المبالغ به للأمر مما يعني أنها لا تحمل له أي مشاعر ولم تراه يوماً سوي أخٍ وصديق مقرب فقط!...وإلا كانت صمتت علي الأقل لتستشف من حديثه مَنْ المقصودة!...فحسم أمره بالإعتراف عما يحمله في قلبه لعدة سنوات وليكن ردها كيفما شاء فيكفيه أن يُزيح ذلك الثقل عن قلبه والذي حمله لعدة سنوات، أبتسم بإصطناع :
_ابلعي ريقك بس، وأنا هقولك كل حاجه.
هزت رأسها بتفهم وأنحنت في إتجاهه واضعه كفها أسفل ذقنها مثبته أنظارها بكل تركيزها عليه...فحدق بها مباشرة مستطرداً حديثه بهدوء :
_أنا بحبها من سنين...مش عارف هي ملاحظه ولا لا، ولا أعرف إذا كانت هي كمان بتحبني وبتستعبط ولا إيه....بس بصراحة اتخنقت من الإنتظار ومبقتش قادر أخبي أكتر من كده...قوليلي رأيك!
استعادت ملامحها الجدية وسألته بإهتمام حقيقي :
_ طب ليه قررت إنك تقولها دلوقتي؟!
زفر بتأفف وأجابها بسخريه لاذعه :
_ماشاء الله علي التركيز...أومال لو مكنتيش قاعده مسبلالي!...ما أنا قولتلك مش قادر أخبي أكتر من كده.
ضحكت علي سخريته وهزت رأسها بتفهم ثم أردفت بجدية :
_شوف يا مجد أنت متكلمتش معاها علشان تعرف هي بتبادلك نفس المشاعر ولا لا...أقصر طريق روح قولها الحقيقة وشوف رد فعلها إيه؟!...ممكن بتحبك هي كمان وأنت اللي مش ملاحظ!..وممكن بتستعبط ومستنياك تاخد خطوة الله أعلم!..فروح قولها ومتقلقش أنت شاب كويس ومليون واحده تتمناك .
_أنتي شايفه كده؟!
حركت كتفيها لأعلي ولأسفل قائلة بهدوء :
_مش شايفه غير كده...شوف معاد مناسب وكلمها فيه .
سألها من جديد بترقب :
_طب لو حرجتني؟!
_أنت قولت إنك بتحبها من زمان يعني عارف أخلاقها هي ممكن تعمل كده ولا لا؟.. بلس إنك كده هتكون خلصت ضميرك وارتاحت...ممكن هي فعلاً تكون مش ملاحظه بس بعد ما تعترف لها تبص لك نظرة تانيه وأنت وشطارتك بقي.
كان لوقع جملتها الأخيرة أثراً إيجابياً عليه بدد إحباطه وأشعره ببذرة الأمل التي نبتت بداخله من جديد بعدما أصابتها الذبول من حديثها الأول فأتضح ذلك جلياً علي تقاسيم وجهه، وابتسم بإرتياح مقرراً بينه وبين نفسه أن يصارحها بحقيقة مشاعره ولكن بعد مرور ذلك الحفل!
❈-❈-❈
دخل إلي منزله كالليث الغاضب يُفتش عن تلك المرأة وشعوراً بإرادة القتل يراوده من حين لآخر خاصة بعدما دار حديثاً بينه وبين نجله في طريقهما للعوده أخبره الأخير بحقيقة ما كانت تفعله معه بعد أن طمأنه والده بعدم تعرض أي شخص له بأذي فسرد عليه الصغير بأنها أحياناً ما كانت تنهال عليه بالضرب أو السباب حينما يتعسر في أداء واجباته بعدما تقوم بتكليف أخيه بأحد المهمات خارج الغرفة لتأخذ كامل وقتها معه وعندما أخبرها بأنه سيخبر جدته بما تفعله معه أخبرته بأنهم سيلقون باللوم عليه هو بالإضافة أنهم سيبغضوه لأنه الغبي المدلل مقارنة بتؤامه كما أنها لا غبار عليها تقوم بدور الام معه علي أكمل وجه كما كلفوها!...مما دفع الصبي لتكتم علي الأمر خوفاً من معرفة والده وجدته بكونه غبي متعسر دراسياً مُفتعلاً للمشاكل والسبب تافهاً للغاية وهو بكائه في أغلب الوقت بسبب وفاة والدته فالرجال لا يحق لهم البكاء!!...فتح مالك باب غرفة أبناءه بدون إستأذن بملامح غاضبه...تفاجئت السيدة أمل من وجوده في مثل هذا الوقت بل والأغرب إقتحامه للغرفة بملامح متجهمة كأحد الخريجين علي القانون...رسمت إبتسامة مصطنعه واتجهت نحوه مباشرة تمطره بعبارات الترحيب الزائفة :
_أهلاً... أهلاً يا.....
قاطع ترحيبها المبتذل ممسكاً بساعدها ضاغطاً عليه بقوة ألمتها وهمس بفحيح مرعب :
_أنتي إزاي تمدي إيدك القذرة دي علي ابني؟!
توسعت عينيها بذهول وأرتجفت بين ذراعه نافيه بهمس اتضح به الألم الذي انبصق من مقلتيها :
_محصلش يا أستاذ مالك.
زاد من ضغط أصابعه علي ذراعها، وصاح في وجهها بغيظ :
_وكمان بتكذبي؟!...تعالي يا كريم.
اقترب منهما الصغير بخوف وقد كست الدموع عينيه...فأنحني منه والده وكشف عن قميصه فظهرت بعض الكدمات علي ظهره...تطلعت إليهما برعب فأمسك بساعدها من جديد وصرخ في وجهها بإنفعال :
_أومال ده من إيه؟!
تساقطت بعض الدموع من عينيها وهتفت بتلعثم :
_ده من خناقاته مع زمايله...أنا مليش دعوه!
_وكمان عارفه إنه بيتخانق مع زمايله؟!...ثم أردف بسخريه "اللي أعرفه إن خناقات زمايله هيبقي أثر الضرب على وشه مش رجليه وضهره"
أندفعت هالة وبعض الخدم إلي الغرفة إثر صياح مالك الذي هز أركان البيت فتوسعت أعين الأولي وسألته بتعجب :
_إيه اللي بيحصل يا مالك؟!...وإزاي تمسكها كده؟!
ضحك بسخريه وأجابها ببعض التهكم :
_فيه إن حضرتك محافظتيش علي ولادي، جبتلهم بس مربيه ومكلفتيش خاطرك حتي تتابعي معاهم ولا تشوفي هي بتعمل معاهم إيه.
ردت على حديثه بإستنكار :
_إيه اللي أنت بتقوله...
قاطع حديثها بصياح أكبر :
_أنا أقول اللي أنا عاوزه...الهانم كانت بتضرب الولد ومبهدلاه وعارفه إنه بيتخانق وبيتضرب وساكته بس اللي عاوز أعرفه بقي إشمعنا هو مش هو وأخوه ؟!
توجهت هالة بأنظارها ناحية أمل وسألتها بصرامه :
_الكلام ده حقيقي يا أمل؟
أغتاظ أكثر من سؤال والدته فترك ذراع الأخري ونظر في عينيها مباشرة هاتفاً بتحذير شرس :
_قدامك حلين الأول إنك هتخرجي من هنا في البوكس لأني هبلغ عنك إنك سرقتي خاتم سوليتير والخدامة شافتك بتحطيه في شنطتك وخليهم يروقوا عليك في القسم، والحل التاني تقوليلي كنتي بتعملي كده ليه من غير لف ولا دوران وساعتها هتمشي معززه مكرمه علي بيتك بس ملكيش شغل هنا تاني...قولتي إيه؟!
أرتعشت بخوف وهزت رأسها بالموافقة ثم مسحت دموعها بظهر يدها وأردفت من بين دموعها :
_لما جيت هنا من شهرين كان زين هادي ومتعايش مع فكرة إن مامته ماتت أو كان أقل شويه من كريم اللي كان دايماً يعيط ومعترض إنها ماتت وإنه مش زي أصحابه ،وكان بيقول إن العيال في النادي بيسخروا منه بسبب عياطه وبيعايروه إنه من غير أم ولإنه شبه ابني اللي مات فقررت إني اربيه زي ما كنت بربي ابني الراجل ميعيطش ويعتمد على نفسه واللي ضربه يضربه.
سألتها هالة بإهتمام :
_طب وليه كنتي بتضربيه؟!
نكست الأخري رأسها وأجابتها بتردد :
_زي ما قولت لحضرتك عاملته زي ابني ومكنتش حابه إن زين يكون أشطر منه في الدراسة فبدأت أضربه من شهر بس مش قبلها علشان يذاكر زي أخوه!
توسعت أعين مالك من حديث المرأة فيبدو أنه استأمن مجنونة علي ولديه، فلعن بداخله كثرة الأشغال التي أبعدته عن ابنيه لجمع المال فقط ولم يكن أبداً ليدري أي مصائب تحل بهم...مسح علي وجهه بعنف وتحدث إليها بنبرة جاديه صارمه :
_أنتي لو مش واحده ست..كنت كسرتلك إيديكي دي اللي اتمدت عليه بس حظك إني مش بضرب ستات..خدي باقي حسابك ومشوفش وشك هنا تاني!
_اديها حسابها ومشيها يا ماما.
ألقي بحديثه إلي والدته واتجه صوب غرفته ممسكاً بيد إبنه بدون أن يلتفت للخلف لأنه لا يريد إفتعال المشاكل مع والدته خاصة بعد ليلة أمس!
❈-❈-❈
في مساء نفس اليوم
بدأ توافد الضيوف علي ڤيلا الدويري بالتجمع الخامس...خرجت روان من إحدى الغرف ترتدي فستان طويل باللون الأسود أكمامه من الدانتيل، يحتوي جزءه العلوي علي الكثير من الورود السوداء تحمل في منصفها لمعه خفيفه ذو فتحة صدر دائرية صغيرة وينسدل حتي كاحليها بإتساع وقد زينت ثغرها بطلاء شفايف أحمر قاني بالإضافة إلى بعض اللمسات التجميلية الأخري وتركت شعرها منسدل علي ظهرها بحريه...شعرت بقليل من الرهبة بسبب هيئتها الغريبة فهي طوال سنوات عمرها السبعة والعشرون لم تضع زينة وجه كاملة أبداً...لعنت مجد بداخلها، وهبطت الدرج الداخلي للبيت ففوجئت بمن أرتمت في أحاضنها...شابة طويلة القامة ذات جسد أنثوي ممشوق متناسق بشعر أسود يصل لرقبتها بشكل أنيق، وتمتمت ببعض الكلمات الفرنسية فضحكت روان بسعادة عندما علمت بهوية الفتاة :
_وحشتيني أوي يا مريم.
أجلت مريم ضحكتها بسعادة غامرة أظهرت صفاء أسنانها وضربت كفيها ببعضهما بعدم تصديق :
_إيه حكاية وحشتيني اللي ماشيين بتوزعوها دي؟!
بادلتها روان الضحك بعدما فهمت ما ترمي إليه ثم أبتسمت لها بود حقيقي :
_حمد الله علي سلامتك...بس إيه المفاجأة دي..ده مجد قال إنك مش هتعرفي تحضري!
قلبت الأخري عينيها بمكر وأردفت ببسمه :
_حبيت اعملهاله مفاجأة...أنا أصلاً جاية يومين وهرجع تاني علشان شغل محمد.
اومأت روان بتفهم وتأبطت ذراع الأخري متجهتان نحو حديقة المنزل لإستقبال الضيوف لحين إنتهاء مجد من إرتداء ملابسه.
❈-❈-❈
علي الجانب الآخر وصل مالك بسيارته بصحبة ميرا التي لم تكف عن الثرثرة طوال الطريق فتارة تسأله عن فستانها وهيئتها وتارة أخرى تثرثر عن كفاءة مجد في العمل وكيف استطاع إستكمال مسيرة والده المتقاعد فبالرغم أنها لم تتعدي اليومين كمتدربة في شركتة إلى أنه لم يكن من الصعب عليها معرفة بعض التفاصيل عن حياته المهنية...تطلعت ميرا لأحد الجوانب فوجدت روان تسير بصحبة شابة بشوشة يبدو أنها من الطبقة المخملية وللعجب روان تبادلها الضحك والإبتسام بعفوية شديدة...ألتفتت إلي مالك وسألته بفضول وتعجب :
_هي مين اللي ماشيه بتضحك مع زها حديد دي؟!
أدرك مالك ببداهه مَنْ المشار إليها بحديث رفيقته فضحك بمرح وتطلع نحو الجهة التي أشارت إليها فلاحظ روان تبادل أخري الحديث بإهتمام شديد ثم تارة أخرى تضحك بسعادة حقيقية فتفهم أن تلك الفتاة قريبة منها لدرجة شديدة وأبتسم تلقائياً شارداً في ضحكاتها وطلتها الساحرة المثيرة فلاحظته ميرا ولكزته في ذراعه بغيظ فألتفت إليها حانقاً :
_وأنا هعرف منين يا ميرا...تعالي نشوف مجد نسلم عليه .
اومأت برأسها علي مضض وتأبطت ذراعه وشعوراً بالضيق يعتريها!
❈-❈-❈
أوشك الحفل علي الإنتهاء ولم يستساغ مالك الأجواء كثيراً فطوال الحفل إما أن يراقص ميرا أو يجلس بجوارها ولم يتمكن حتي من المباركة لروان التي تم تكريمها علي رأس موظفي الشركة الأكفاء بالإضافة إلى عبارات الشكر والإمتنان من ذلك اللزج مجد الذي كانت ملاصقه لهو أغلب الحفل....لاحظ وقوفها بمفردها فأستأذن من صديقته بضع دقائق فأقترحت مرافقته ولكنه أبي ذلك بصرامة فتأففت وأمتثلت لأمره بضيق....اتجه صوب روان ولكن تجمدت قدميه للحظه حينما سمع ذلك الصوت المألوف له وقد زينت السعادة ملامح وجهه :
_كنت هقولها النهارده إني بحبها...خلاص يا مريم لازم أصارحها بكل حاجه...ست سنين خلاص مبقتش قادر أبعد ولا أمثل دور الصاحب ده أكتر من كده...بس هستني الوقت المناسب.
ربتت شقيقته بأحد كفيها علي وجنتيه بحنان أخوي وحدثته بعاطفة شديدة :
_ربنا يسعدك يا حبيبي...أنا واثقه إنها هتحبك زي ما أنت بتحبها...هي عمرها ما هتلاقي زيك في الدنيا دي!
أبتسم لها إبتسامتة الساحرة التي تسلب العقول، وقبل باطن كفها بحب ثم سحبها من كفها متجهاً ناحية الحفل مره أخري!
تجمدت الدماء في عروق مالك بعدما أستمع لحديثهما ولم يصعب عليه تحديد هوية الفتاة المقصودة فمعاملة مجد ونظراته لها طوال الفترة القليلة الماضية توحي بأنه عاشق لها...لكنه لا يدري إن كانت تبادله مشاعره أم لا؟!...شعر بقليلٍ من القلق خاصة بمعاملتها الفريدة والتي تخصه بها وحده فقط، ولكنه حسم أمره بأن يواجهها بحقيقة الأمر..فليكون أو لا يكون! لأنه لن يتحمل عواقب التعلق بإمرأة ثم تنصرف مره أخري!
اتجه صوب روان التي كانت تحاور شخص ما فأستأذن منها قليلاً للحديث فأعتذرت له بلطف حتي تنهي حديثها أولاً :
_خمس دقايق بس يا مالـ.....
قاطع حديثها وأعتذر هو للطرف الآخر وسحبها من ذراعها لإحدى جوانب الحفل الهادئة...كادت أن تتعثر عدة مرات حتي تواكب خطواته الواسعة خاصة مع طول فستانها وأرتفاع حذائها ذو الكعب العالي...فنفضت ذراعها من يده بعنف وصاحت في وجهه بشراسة :
_أنت إزاي تسمح لنفسك تجرجرني كده؟!...ولا إزاي أصلاً تحرجني كده مع كبير المهندسين في الشركة؟!
لم يكترث لصياحها في وجهه وسألها بجرأة أو ربما كما أسمتها هي وقاحة! :
_أنتي بينك وبين مجد حاجه ؟!
أصابها سؤاله بالدهشة "فكيف لهذا الوقح أن يتحدث معها بمثل تلك الطريقة؟!..بل وما أشعرها بالغضب أن يسألها عن حياتها الشخصية...ياله من مجنون "...فضلت عدم الصياح في وجهه تلك المرة وعاملته بنفس طريقته فسألته ببرود وإستفزاز :
_ما أنت طول الحفلة مبطلتش تترقص مع صاحبتك...كنت سألتك فيه بينك وبينها حاجه ؟!
أغتاظ أكثر من برودها ومعاملتها له بالمثل، ولم يعلق علي لفظها الساخر...ثم همس بفحيح من بين أسنانه وقد ظهر بهيئة شيطانية مختلفة تماماً عن ما عهدته منه :
_أنا سألت الأول سؤال ردي عليا.
أبتسمت إليه بإصفرار حتي تزيد من حنقه :
_وأنت مالك؟!
لم يستطع السيطرة على أعصابه فسألها بإنفعال حقيقي لم تعهده منه من قبل وعاد ليكمل حديثه فظنت أنه قد أصابه الجنون :
_أقولك أنا مالي؟!... لازم أعرف علشان مش بعد ما أحبك وأتعلق بيكي..الأقيكي بتحبي راجل تاني!
شعرت بالبرودة تجتاح سائر جسدها في عنف ما عدا وجنتيها التي أوشكا علي الإنصهار بسبب إندفاع الدماء الساخنة إليهما...تطلعت إليه بصدمه وأتسعت عينيها بذهول، وقد تدلي فكها لأسفل تشعر أنه يُهئ لها وليس حقيقي فهز رأسه بإيجاب وأردف بصوت هادئ نسبياً :
_أيوة متستغربيش أنا حبيتك من أول مرة شوفتك فيها..أُعجبت بشخصيتك القوية وولائك لصديقك وإجتهادك في الشغل وذكائك...متسألنيش إزاي ده حصل في الفترة القصيرة دي لأني نفسي مش عارف أصلاً إزاي قلبي رجع يدق تاني!
كان قلبها يقرع بعنف كالطبول مع كل حرف يتفوه به فوضعت يديها على قلبها تشعر أنه سيخرج من بين ضلوعها...بينما هو ألقي بقنبلته في وجهها وأختفي من أمامها في لحظات معدودة ولم يشعر بتلك التي تسمّعت علي حديثهما فشعرت بأثقال الدنيا بأكملها توضع على قلبها فأنسابت دموعها بتلقائية فلن تستطيع تحمل مرارة الرفض مره أخري من نفس الشخص!
❈-❈-❈
قاد مالك سيارته متجهاً ناحية أطراف القاهرة وقد فتح نصف أزرار قميصه حتي تلفح صدره برودة الهواء، وقد غمره شعوراً بالراحة فمهما كانت النتيجة فهي بالتأكيد أفضل ألف مره من التكتم عن مشاعره وفي النهاية تذهب لغيره وهو مُكبل اليدين....علي الجانب الآخر وصلت روان إلي شقتها بعدما أقنعت مجد بصعوبة بكونها ستذهب بمفردها معلله قرب المسافة...جرت قدميها لداخل غرفتها بإنهاك حقيقي كما أنها ما زالت لم تستوعب ما ألقاه في وجهها حقاً!...لقد بدأت هي بالشعور ناحيتة بشيئاً ما لكنها لم تستطع تفسيره بكونه حب..ربما مجرد إعجاب فقط لإهتمامه بها الفترة الماضية لكنه ليس حب!..."فهل من الممكن أن يحبها شخصاً ما كما في تلك الروايات الرومانسية؟!"...لاتنكر أن شعور كونها مرغوبة من الجنس الآخر قد أرضي غرورها وأشعرها بأنوثتها ولكنها ليست بالطفلة الصغيرة أو المراهقة حتي تُسلم لكلامه وترتمي في أحضانه بكل أريحية!...كما أنها لا تدري لمَ خص مجد بالسؤال هل بسبب علاقتهما الطيبة؟!..ولمَ السؤال إذن في ذلك الوقت بالتحديد؟!...يالك من مسكين مالك لا تدري بكم الأفضال التي أغرقها بها مجد كان أقلهم إنتشالها من الشارع!...فمن المؤكد أنه لم ولن ينظر إليها كحبيبة كما تعتقد مالك فالعلاقة لم تكن سوي علاقة صداقة طيبة مستمرة علي محاولة رد المعروف مِن قبلها تجاه ذلك الشاب الذي لم ولن يعوض!...تخبطت في أفكارها بشدة فأرادت التخفيف من صراعها قليلاً واتجهت نحو خزانة ملابسها وكشفت عن صندوق لإحدى الآلآت الموسيقية...وضعت مؤخرة الكمان علي إحدى كتفيها وأمسكت مقدمته بأصابعها، كما أمسكت باليد الأخرى تلك العصا المرتبطة به وأغمضت عينيها في إنسجام تام لتقوم بعزف إحدى المقطوعات الموسيقية الشهيرة التي أجادتها عن ظهر قلب!
❈-❈-❈
لم تدري حقاً كيف وصلت إلى منزلها تنساب دموعها بحرقه كما تلخطت وجنتيها بكحل عينيها...ها هو الزمن يُكرر نفسه من جديد بأوضاع مختلفة ولكن الوضع المكرر أنها في المرتين تجر أذيال الخيبة والحسرة...الآن تفهمت حقيقة أنه لم يحبها يوماً، أصبح يعتريها شعوراً بالنقص "فما الذي يُميزهما عنها ؟!...لطالماً كانت الأجمل والأرقي من بين الإناث التي تحيط به!"...لكنها الآن تشعر بالإحتقار نحو نفسها فمن المؤكد أنها سيئة للغاية...ففي النهاية بقيت وحيدة بمفردها لم يختارها أحد حتي والدتها قامت بالتخلي عنها والبقاء في حياتها فقط بمظهر صوري!...فهل سيفضلها الغريب؟!...اللعنة عليها لقد بائت منبوذة من الجميع حتي مازن الذي كان يدعي عشقها يوماً ما الآن كرهها هو الأخر بسبب غبائها وأنانيتها..."ليته كان موجوداً الآن ككل مره تشتكي له فيداوي جراحها! "...أتجهت للصعود لغرفتها فوجدت باب مكتب جدها موارباً بعض الشئ ويظهر من خلفه والدتها وجدها ويبدو أنهما يتجادلان في أمر ما بسبب أصواتهما العالية....وقفت خلف الباب بترقب لتجد والدتها تصيح في وجه جدها رفعت بغضب مكتوم :
_يعني إيه مش هتجوز تاني؟!...مش كفاية طول السنين دي متحمله وبربي في بنت مش بنتي!
تصلبت في موضعها وقد أصابها الدوار بشدة فتشوشت الرؤية أمامها وأستسلمت لظلام دامس ربما يكون أفضل لها بكثير من تلك الليلة المشؤومة!
#يتبع