-->

الفصل السابع - مرآة مزدوجة





 الفصل السابع



عندما رحلت هاجر، جلست ليلى تمشط شعر نعناع بملامح ممتعضة، بينما حدقت بها ليليان دون أن تجد ما تقوله، فقد قالت رأيها بصدق رغم أنها تعلم أنه لم يعجب ليلى ولم يرضي فضولها الذي سيودي بها في إحدى المرات، فكل ما هي به الآن ليس إلا صراع بين الفضول والمنطق، والذي ينتصر به فضولها دائمًا وهذا ليس جيدًا، نادت والدتها عليها فنهضت وتركت ليلى تمشط شعر القط دون أن تتفوه بشيء.


- نعم يا ماما.


قالت ليليان وهي تقف أمام والدتها التي قالت بهدوء ودون مقدمات:


- جايلك عريس يا ليليان.


توترت ليليان وقالت بتعجب:


- عريس؟.. مين يعني؟


- أحمد ابن طنطك نعمات.


شعرت ليليان كأن دلو من الماء المثلج يسقط فوق رأسها، فهي لطالما كرهت تلك السيدة التي تدعى نعمات وكرهت كل ما يتعلق بها مثلما فعلت شقيقتها، ولكنها فضلت أن تخفي هذه الكراهية وتتصرف بأدب معها عكس ليلى التي أظهرت كرهها بأكثر الطرق صراحة عندما تشاجرت معها وطردتها خارج المنزل سابقًا. 


- ليليان


انتبهت ليليان أخيرًا بعد أن شردت فقالت:


- أيوه يا ماما.


تنهدت والدتها وقالت:


- المهم، هيجوا كلهم يوم الخميس بعد العشاء جهزي نفسك ماشي؟


- ماشي.. ماشي


قالت ليليان بتلعثم وهي تنسحب نحو غرفتها التي ما إن دلفتها، حتى أغلقت الباب وهرولت نحو ليلى متناسية نعناع الذي بيدها وقالت مترجية:


- ليلى الحقيني، أحمد ابن فتكات جاي يطلب ايدي بكرة.


انتفضت ليلى متجاهلة ما كانت تفكر به وصاحت :


- مستحيل أنا مش موافقة!


قضمت ليليان أظافرها وقالت بقلة حيلة:


- أعمل ايه في المصيبة دي؟


تابعت ليلى صياحها المتعجب دون أن تجيب عليها:


- أنا أناسب ابن فتكات؟! أنا؟!


- يا ليلى بقا ردي.


ضيقت ليلى عينيها بتفكير وعادت تسند ظهرها إلى الوسادة خلفها وقالت بعد بضعة لحظات:


- هما جايين امتى؟


نظرت لها ليليان بترقب وأجابت:


- الخميس بعد العشاء.


- حلو، جهزي نفسك وأنا هتصرف.


قالت ليليان بتوجس:


- هتتصرفي فعلًا ولا هتبعيني يا ليلى؟


- عيب عليكِ


عادت ليليان لقضم أظافرها وهي تقول بخوف:


- ربنا يستر


ونهضت تسير بالغرفة ذهابًا وإيابًا وقد شعرت أنها لن تنام اليوم من الخوف والتوتر، بينما همست ليلى بشر:


- حلو فعلًا، كل عصبيتي من الثور المتحضر هتطلع عليكِ يا فتكات.


❈-❈-❈


كانت ليلى تسير في الحرم الجامعي مع هاجر وقد شعرتا بالملل، ولكنهما لم تجدا شيئا يفعلانه سوى الذهاب للمقهى، كانت تجلسان تثرثران حتى أتى سليم وجلس معهما دون أن يستأذن حتى ثم قال مبتسمًا:


- دورت عليكوا كتير على فكرة.


كان يحاول أن يبدأ حديثًا لطيفًا، ولكنه شعر أنه لا يبدو سوى أحمق لا يعلم ماذا يقوله، وقد وضح هذا من ردة فعل كلتاهما.


نظرت له هاجر باحتقار ولكن سليم لم يهتم، فهاجر لم تستلطفه أبدًا، وبالنهاية هي ليست هدفه اليوم، ليلى هي هدفه، يريد اثارة حنقها ورغم أنه لم يجد خطة بعد ولكنه سيفعل، هذه هي الطريقة المثالية في نظره لإنهاء فترة الصمت التي وضعتها ليلى.


تابعت هاجر نظرتها المحتقرة ثم نهضت وقالت:


- عن اذنكوا، هقوم أجيب ملازم وحاجات كدا.


ثم أمالت على أذن ليلى وهمست:


- يا ريت تبعديه نهائيًا بقا.


أومأت ليلى موافقة، فرحلت هاجر وتركتهما بمفردهما، فكرت ليلى بحل لإبعاده ولكنها حقًا لا تعلم كيف، فهي لم تفكر بشيء بهذا الشأن بالأمس كل ما فكرت به هو كيف يمكنه أن يكون زير نساء برئ، مهلًا وهل يليق بهذا الشخص أن يلقب بزير نساء؟ لا تعلم أهي تظلمه أم تعطيه أكثر من حقه بهذا اللقب، عندما وجدته صامت لا يتحدث ابتسمت  ابتسامة صفراء وقالت:


- أهلا بالأستاذ، ايه اللي جابك عندي تاني مش كان اتفاقنا خلص خلاص ودلوقت ليك الحرية في إنك ترجع لحياتك العادية؟ اتفضل.


كان سليم ما زال يفكر في كيفية اثارة غضبها، شبك يديه فوق الطاولة وقال ببرود ليثير حنقها:


- استظرفت قعدتكوا.


قالت بوقاحة:


- لا معلش بطلناها سيرة، اتفضل شوف لك حد تاني بقا.


- يا ستي ما كنتش نهال يعني هي اللي تبوظ الدنيا بينا.


امتقع وجه ليلى وقالت:


- أنت ليه محقر من شأن البنت كأنها مش بشر زيك!


أجاب سليم بلا مبالاة:


- علشان هي اللي حقرت من شأنها لما قبلت على نفسها إنها تنخرط في النوع ده العلاقات.


صاحت به ليلى بانفعال:


- على أساس إن ده مبيحقرش من شأن جلالتك أنت كمان!


لا تصدق أنه حقًا يفكر بتلك الطريقة العقيمة والتي هاجمتها دومًا بأكثر الطرق عنفًا، بدا كمن يتحدث بثقة وإيمان رهيب بتلك المعتقدات الغبية التي تسود بين المجتمع الجاهل هذا، لا تصدق حقًا أن شخص يبدو عليه التحضر يفكر بالمرأة بتلك الطريقة! يضعها داخل اطار علاقة سامة جامدة بشروطه، والآن يرى أن من تنخرط في هذا النوع من العلاقات تحقر من شأن نفسها ويقع اللوم كاملًا عليها وكأنه ليس طرفًا مشاركًا بتلك العلاقة ويقع عليه اللوم بدوره، احمر وجه ليلى حتى شعرت أن رأسها على وشك الانفجار، بينما اقترب سليم قليلًا منها وقال بهدوء لم يعد يعجبها لأنها أصبحت تعلم أن تلك النبرة تتبعها شجار جديد بينهما، والتي حاول بها أن يقنعها أن ما يفعله ليس خاطئًا دون أن يخبرها بطبيعة علاقاته التي إن علمتها ستهدأ قليلًا، إلا أنه يفضل الطريق الصعب:


- عارف أني بردو بحقر من شأني لما بدخل في العلاقات دي، بس خلي بالك احنا في مجتمع ذكوري بحت وأنا وأنتِ عارفين ده كويس، فـ دايمًا اللوم بيقع على الست ومش أنا اللي قولت كدا ولا أنا اللي بحط اللوم عليها إنما مجتمعنا العقيم، وأكيد هي عارفه كدا كويس زيي وزيك، وطالما هي داخلة العلاقة وهي عارفه إن مجتمعنا بيحتقرها وبيحط اللوم عليها ورغم ده مكملة عادي وكأن مفيش حاجه حصلت، وطالما هي واحدة عارفه إن المجتمع محتقرها ومش هاممها ومكملة بردو يبقا تستاهل فعلًا إني أحتقرها.


استمعت له ليلى وقد بدأت تهدأ تدريجيًا، لديه وجهة نظر، لا مهلًا! هل بدأت تقتنع بما يقوله؟ كلا! لن تفعل ولن تقتنع بما يقوله، اقتربت منه بدورها وقالت بخفوت:


- بقولك ايه، الهبل اللي أنت عمال تقوله ده بله وأشرب ميته، ملناش دعوة بالمجتمع، لينا دعوة بمعتقدك اللي مترسخ في راسك، واللي للأسف زفت في زفت، بس أنت بتتحجج بالمجتمع ومعتقداته الخاطئة علشان تقول أنا مليش دعوة ده هو المجتمع اللي عايشين في هو اللي كدا، وده غلط المفروض يبقا ليك شخصية مستقلة عن المجتمع يا سليم، ولو قولنا إن ليك فعلًا فـ هنقول أنها زفت بردو لأنها مشابهه لأفكار المجتمع العقيمة على حد قولك، وبكدا إحنا بنجري في نفس الدايرة علشان أنت مش عايز تقتنع إن تفكيرك في موضوع الارتباط بالذات خاطئة.


صمتت ليلى وابتعدت عنه لتتبين ردة فعله، صمت سليم للحظات وتراجع بدوره يفكر للحظة في كلماتها مما جعل ليلى تبتسم وقد شعرت أن كلماتها قد بدأت تؤثر عليه، ولكنه لم يكن يفكر في كلماتها - والتي يعلم أنها صحيحة ويقتنع بها- ولكنه كان يريد أن يثير حنقها؛ لأنها لا تفهم مقصده الذي لم يقوله من الأصل، اختفت الابتسامة من على وجه ليلى عندما قال سليم بعد أن فكر جيدًا في كلماتها:


- معاكِ حق في كل اللي قولتيه، بس أنا بردو مش شايف أني  بقول أو بعمل حاجه غلط.


احتقن وجه ليلى ورفعت حقيبتها مهددة وهي تصيح به:


- ما دمت عايز تبقا ثور متحضر ومصر على كدا غور من وشي بدل ما أكمل على وشك اللي حد عامل لك عليه خرايط ده.


كانت ليلى قد لاحظت منذ أن جلس الكدمات على وجهه، ولكنها حاولت ألا تسأل عنها ولكن عقلها الباطن ظل يفكر بها وفضولها كاد يقتلها إن لم تذكر هذا الأمر، وضع سليم يداه أمام وجهه خوفًا منها ولكنه قال بعناد:


- طب مش ماشي مش عاجبك أنتِ امشي أنا مش هتحرك من على الترابيزة دي.


أخفضت ليلى حقيبتها وصاحت به بعناد مماثل وقالت:


- طب أنا مش متحركة من مكاني أنا اللي جيت هنا الأول.


قال سليم ببرود ليثير غيظها:


- مش بالحجز هو، وأنا لو عليا عادي معنديش مشكلة، أنتِ اللي مش طايقاني.


كانت هاجر تراقب شجارهما على مسافة قريبة، ليتقدم زين الذي حضر لتوه ووقف بجانبها وقال:


- هو ايه اللي بيحصل هنا؟


جفلت هاجر التي لم تلاحظ وجوده ونظرت له بفزع لتقابلها عينيه السوداء النقية، هادئة وجميلة، أخذت نفسًا عميقًا وعادت تنظر للطاولة مجيبة:


- بيتخانقوا، ليلى عايزة تخلص منه، حاجه شبه التطفيش كدا.


كان هذا بمثابة تحذير لزين، فإن قطع سليم علاقته بليلى هذا يهدد علاقته لهاجر والتي لم تبدأ من الأصل، راقب شجارهما وقال:


- ليه؟


أجابت هاجر بحدة:


- علشان مينفعش يبقا فيه علاقة بين بنت وشاب.


شعر زين أنها لا تتحدث عن صديقتها أكثر من كونها تتحدث عن نفسها، ربما تلك رسالة خفية منها لتفهمه أنه غير مرغوب به، ابتسم ونظر لها وقال:


- ده معناه إنك مش متقبلاني؟


زفرت هاجر بامتعاض وأجابت:


- أنا مقولتش كدا، بس اللي على راسه بطحة.


ضحك زين بخفوت وهز رأسه وهو يضع كفه فوقها يتحسسها وقال:


- ماشي يا هاجر، أديني بحسس عليها أهو.


نظرت له هاجر مدعية البراءة وقالت:


- مين قال إني قصدتك؟


نظر لها زين مضيقًا عينيه وأجاب:


- محدش قال.


كانت هاجر في تلك اللحظة تستخدم طريقتها العنيفة المعتادة؛ لهذا استمرت في استخدام نبرتها الحادة عندما قالت:


- خلاص هتقولني ليه كلام مقولتهوش؟


تنهد زين بتعب، هذه الفتاة لن تتوقف عن طريقتها الهجومية، يبدو أنه عليه أن يربكها حتى يستطيع أن يتحدث معها، فكلما كانت مرتبكة كلما تناست عنفها وتحدثت بهدوء؛ لهذا حاول أن يمرر لها كلماتها العنيفة رغم كونه شخصية عصبية لا يحتمل أن يتحدث معه بنفس لهجتها تلك دون أن يكسر رأسه بالمعنى الحرفي،  وقال مبتسمًا:


- حادة كالعادة يا هاجر.


ثم تركها ورحل لتنظر له بتعجب، لماذا يريد أن يثير ارتباكها؟ ألا يفهم أنها لا تستطيع التعامل مع الشبان؟ أنها تخجل وترتبك فلا تجد ما تقوله؟ ألم يستطع فهم أن هذا هو سبب الذي يجعلها تتصرف بتلك الحدة؟ لا، لا يعلم ولن يعلم يومًا؛ لأن لا أحد يستطيع فهمها.

تنهدت بثقل بينما حدقت بليلى وسليم بشرود وقد بدا وكأنهما توقفا عن الشجار، كان عقلها مشغول بأمر ذلك الذي لا تفهم موقفه في حياتها أو ماذا يريد بالضبط؛ لهذا لم تركز في ما يحدث أمامها.


كزت ليلى على أسنانها بغيظ وحاولت ألا تظهر حنقها حتى لا تجعله ينتصر، جلسا يراقبان بعضهما بصمت، نظرات ليلى المشتعلة التي تكاد تحرقه حيًا مقابل نظراته الباردة التي تشكل الوقود ليزيد النيران التي بعيني ليلى اشتعالًا، حاولت ليلى أن تقاوم فضولها وألا تسأله عن الجروح التي على وجهه، ولكنها لم تتمكن من منع نفسها من سؤاله فقالت بامتعاض وكأنها مجبرة على سؤاله:


- مين اللي خلى وشك شوارع كدا؟


أجاب سليم بخفوت وقد نزع نظارته الطبية ليعطيها فرصة لتأمل عينيه بشكل أعمق وقد بدت كحبتي قهوة في كوب من الحليب:


- أخويا


تساءلت ليلى بامتعاض مزيف حتى لا يستشعر فضولها:


- هو أنت ليك أخوات؟


أومأ سليم وأجاب:


- أه، أخ واحد.


أومات ليلى بدورها وقالت:


- وأنا عندي أخت واحدة بردو، توأم.


كانت تشعر أنها يجب أن تخبره عن نفسها مثلما يفعل؛ لهذا قالت ما قالته رغم كونها لا تريد أن تتحدث معه، وجدته ينظر لها بطريقة غريبة أقرب لحماس قد اعتادته كلما أخبرت أحدهم أن لها توأم، لا تعلم لماذا يجعلون الأمر يبدو وكأنه معجزة إلهية أو أمر نادر حدوثه ولكنه يحدث كثيرًا ولا بأس بهذا، قالت لتبعد تفكيره عن هذا الأمر:


- بس شكله عنيف أوي أخوك ده.


ابتسم سليم وقال بفخر:


- والله مش لوحده ما هو راح المستشفى النهاردة وهو وشه شوارع كدا.


تساءلت ليلى بفضول يحترق للمزيد:


- هو بيشتغل دكتور بردو؟


ابتسم سليم بسخرية وأجاب:


- يووه، ده هو وبابا وماما، وأنا لما أتخرج.


ضحكت ليلى بخفوت وقالت بتعجب:


- وه! عائلة الأطباء؟


أومأ سليم مبتسمًا وهو يمرر أنامله بين خصلات شعره بينما قالت ليلى لتطبق القانون المعتاد الذي تطبقه عندما تتعرف على شخص للمرة الأولى وهو معلومة مقابل معلومة:


- لا أنا بابا الله يرحمه كان مهندس، ماما خريجة تجارة بس مشتغلتش، واختي في كلية آداب ناقص لها سنة وتخلص المحظوظة.


همس سليم شاردًا:


- عائلة منوعة.


وعم الصمت للحظات وقد شعر كلاهما بالهدوء والسلام بداخلهما وكأن هذا الحديث القصير الذي حدث بينهما قد أزال الغضب بداخلهما.


ظل سليم يتأمل ملامحها التي تحولت للهدوء بصمت وهو لا يعلم لماذا يجذبه وجهها عندما تكون هادئة فيجلس ويتأمله بهدوء يقتبسه منها، نظر سليم لساعته وقال:


- يلا نقوم ندور على هاجر قبل المحاضرة.


قطبت ليلى جبينها بتعجب وقالت:


- محاضرة ايه؟ أنت هتحضر؟


أومأ سليم مبتسمًا وهمس:


- شكلي هنخ وأخلي الدكتور شريف يرضى عني.


ولكنها لم تسمع ما قاله بل نهضت وبحثت بعينيها عن هاجر فتبعها سليم وبحث عن هاجر التي لا تطيق سماع اسمه.


❈-❈-❈



مر الأسبوع بهدوء حتى أتى يوم الخميس، كانت ليليان بالها مشغول طوال اليوم ولم تستطع الانتباه في معظم محاضراتها، فقد شغل بالها بما ستفعله ليلى وتخاف أن تتهور ليلى وتستخدم العنف مع نعمات تلك مثلما فعلت بالمرة السابقة، وبنسبة كبيرة هذا ما سيحدث؛ لهذا لم تستطيع التحكم بخوفها اليوم، كانت تسير وهي لا ترى الطريق حتى، ولولا أنها تحفظ الطريق عن ظهر قلب لما استطاعت السير ولربما ضلت طريقها، انتبهت ليليان إلى صوت أحدهم يصيح بها فنظرت خلفها لتجد أنها قد دفعت إحدى الكتب التي يفرشها بائع جائل على الأرض فقالت برقة بنبرة تكاد لا تسمع:


- أسفة


أمسكت الكتاب لتعيده مكانه لتلتقط عينيها اسم الكاتب « عمر  سعيد » فرفعت الكتاب بفضول لتقرأ عنوانه « مذكرات إيلا » جذبها اسم الرواية وغلافها وقد آثار حديث ليلى عن هذا الكاتب الوقح -الذي لن تنسى جملته لها يومًا- فضولها؛ لهذا سألت الرجل الذي أخذ ينظر لها بترقب:


- بكام الرواية دي؟


❈-❈-❈


جلست ليلى في الحافلة بجانب النافذة مثلما تحب، راقبت الطريق بشرود ولا تعلم لماذا تشكلت صورة سليم أمامها، سليم ذلك الثور المتحضر، مليئ بالخصال الحميدة ولكنه يفتقر إلى التفكير السليم، تفكيره ملوث بمعتقدات المجتمع السامة والأدهى أنه يظن أنه يختلف عن المجتمع وأنه أكثر تحضرًا ولكنه لا يختلف عنهم، وبهذا الظن يصبح التفكير في تغيير معتقداته مهمة شبه مستحيلة، ولكنها ما زالت تسأل نفسها السؤال الذي لن تستطيع إيجاد إجابة له: لماذا تريد أن تغيره من الأصل؟ هل باتت تتأثر بذلك النوع من القصص حيث تكون البطلة سبب في تغير البطل؟ ولكنها لا تريد أن تبدو هكذا، هي فقط تريد أن تساعده ليكون أفضل، ربما، لا تعلم ما زالت محيرة بهذا الشأن، راقبت ليلى الطريق لتنظر لانعكاس صورتها في المرآة وبدأت بسؤال نفسها:


- وأنتِ بتحاولي ليه من الأصل؟


شعرت بالتردد وحاولت أن تجد إجابة منطقية:


- ربما، يمكن، علشان لما يغير تفكيره هيبطل يإذي بنات الناس، أيوه، هو علشان كدا.


ولكنها شعرت أن هناك شيئًا آخر بداخلها يجعلها تريد أن تغير معتقداته، شيء غامض يجعلها تتغاضى عن خطأه الذي لا يغتفر بنظرها، يجعلها لا تعترض كلما شعرت أنه يتخطى حدوده معها ويجعل علاقتهما تتحول من مجرد زمالة إلى صداقة، هذا خاطئ وهي تعلم هذا وتعلم أن عليها أن تكون أكثر صرامة وأن تبعده عنها، ولكنه يربكها فعندما تشاجرا وكانا على وشك ضرب بعضهما البعض في اللحظة التي تلتها تناسى الأمر وتصرف وكأنهما أصدقاء، كطفل يغضب من أمه للحظة ولكنه يعود ليتدلل عليها منتاسيًا ما حدث في اللحظة التي تليها، ابتسمت ليلى وتمتمت: 


- زير نساء برئ


أرجعت ظهرها للخلف براحة ولكنها تذكرت أمر ليليان، مهلًا هي لم تفكر فيما ستفعله بعد، قررت أنها ستبحث عن أكبر قدر كافي من المعلومات عن أحمد لتعلم كيف تهاجمه؛ لهذا فتحت هاتفها وفتحت إحدى مواقع وسائل التواصل، دخلت على حساب والدتها وبحثت عن حساب تلك العجوز الكريهة لتجده ولدهشتها، فهي قد ظنت أنها لن تهتم بتلك الأشياء، ولكنها تفعل وهذا سهل عليها المهمة، وجدت في حساب تلك السيدة منشورات كثيرة دعائية لزوجها وابنها وأن يحفظ لها عائلتها والكثير من تلك الأشياء، فقلبت ليلى شفتيها بتقزز ولكنها وجدت أخيرًا حساب أحمد بفضل والدته التي أشارت إليه في إحدى المنشورات الدعائية تلك، دخلت ليلى حسابه وبدأت بالبحث به عن معلومات تخصه حتى وقعت عيناها على بعض الأشياء التي ستساعدها في تنفيذ مهمتها، ابتسمت بشيطانية وخرجت من البرنامج بأكمله، ثم اتصلت بهاجر لتساعدها في خطتها.


❈-❈-❈


كانت ليليان تجلس أمام طاولة الزينة لتضع بعض مساحيق التجميل على وجهها حتى تتجهز لمقابلة القادمين بعد قليل، كانت تراقب ليلى التي تجلس فوق الفراش تمشط شعرها بهدوء وثقة بينما هي تكاد تموت من توترها، فقالت:


- ليلى متأكدة إنك عندك خطة؟


أومأت ليلى وهي تعقد شعرها وترتدي وشاح بسيط يليق بفستانها الرمادي، ثم نهضت ووقفت أمام ليليان وأخذت قلم الكحل من بين يديها وبدأت بوضعها لها لأنها تعلم أن ليليان لا تجيد وضعه رغم بساطة المهمة إلا أنها دائمًا ما كسرت القلم داخل عينيها؛ لهذا تولت ليلى تلك المهمة بينما قالت:


- متقلقيش، أهم حاجه تبقي على سنجة عشرة علشان ميبقاش عندهم حجة وأنا هطفشه لك.


تنهدت ليليان بخوف وأومأت بصمت.


بعد لحظات سمعا صوت الجرس يتبعه دخول عدد لا بأس به مع ترحيب والدتهما وخالهما للذين حضروا، فأمسكت ليليان بكم فستانها وهي تدعو بداخلها أن تنجح خطة ليلى، فهي لن تستطيع أن تتحمل تلك السيدة أو هذا الرجل الذي يتقدم لطلب يدها، ولكنها لسبب غامض خافت من الرفض، كانت تخاف من ردة فعل والدتها رغم أنها تعلم أن والدتها ستتقبل الأمر ولكنها ما زالت تشعر بالخوف غير المبرر.


بعد دقائق من الحديث الذي لم تهتم به أيًا من الفتاتان، نادت والدتها عليهما حتى تخرجان لاستقبال الضيوف.


جهزت نفسها ليلى للتنفيذ وأدعت اللا مبالاة، بينما سارت بجانب ليليان وما إن خرجا لغرفة الجلوس ووقعت عينا ليلى على أحمد حتى صاحت بصدمة:


- أنت! أنت ايه اللي جابت هنا؟!


نظرت لها ليليان بتعجب وقالت بهمس:


- هو أنتِ تعرفيه؟


صاحت ليلى بانفعال:


- أيوه، ده الخاين الواطي اللي ضحك على هاجر.


شحب وجه أحمد وعجز عن التفوه بشيء فظل يراقب ليلى وهي تقول بنبرة باكية:


- قعد سنتين معاها حب وغراميات وعشمها بالجواز وفي الأخر قالها أصلي مش هتجوز واحدة كنت مرتبط بيها.


نظر خالهما له وقال بامتعاض:


- هو بنات الناس لعبة يا أستاذ؟


بينما صاحت نعمات مستنكرة:


- محصلش، ده أنا ابني زي النسمة ولا عمره عرف بنات.


صاحت ليلى ساخرة:


- والله؟ طب ما تبصي على ابنك بلم ازاي؟


ثم تابعت موجهه حديثها لأحمد:


- تقدر تنكر إنك كنت مرتبط بهاجر؟ تقدر تنكر؟


نظر لها أحمد بتوتر ثم عاد ينظر لوالدته التي انتظرت منه أن يكذب ليلى ولكنه خفض رأسه بصمت ونظر إلى الأرض بخزى، فقالت ليلى بانتصار:


- شوفتوا؟ مش عارف ينكر أهو، وعلشان تصدقوني لو لسه بردو مش مقتنعين أنا هكلم هاجر وهي تقولكوا بنفسها.


قامت ليلى بمهاتفة هاجر وفعلت مكبر الصوت وبعد لحظات أجابت هاجر بنبرة باكية، فقالت ليلى:


- مالك يا هاجر؟


أجابت هاجر وهي تحاول منع نفسها عن البكاء:


- من ساعة ما عرفت إن أحمد هيخطب وأنا مش عارفه أبطل عياط يا ليلى، رغم كل اللي عمله فيا والكذب والغش اللي مبطلهوش، إلا أن إني لسه بحبه ولسه باقية عليه.


زادت هاجر بكائها وعلى نواحها حتى تقتنع والدة ليلى وخالها، فقالت ليلى بشفقة:


- خلاص يا هاجر كفاية متتعبيش قلبك مع الخاين ده روحي هدي نفسك.


- حاضر


همست هاجر بضعف وأغلقت المكالمة، لتنظر ليلى له بتقزز ثم نظرت لوالدتها وخالها وقالت:


- بذمكتوا واحد يعمل كدا في بنت ميقدرش يعمل كدا في ليليان؟


تنهد خالها وقال موافقًا:


- معاكِ حق، شخص زي ده أنا مستأمنهوش على ليليان.


ثم نظر لأحمد وقال دون أن يترك فرصة للنقاش:


- معندناش بنات للجواز، يا ريت تتفضل أنت ووالدتك.


قالت ليلى وهي تتقدم لتأخذ علبة الحلوى التي أحضرها أحمد:


- لا مش هتاخد دي كمان.


زجرها خالها، فقالت:


- الله! يدفع حق خيانته الواطي.


نظر لها خالها بحدة ولكنها لم تترك العلبة بل استمرت في دفعهم للخارج بفظاظة، حتى أغلقت والدتها الباب خلفهم، نظرت لها والدتها بحدة فابتلعت ليلى لعابه بخوف، ولكنها وجدت والدتها تضحك بخفوت وتقول:


- مكنتش طايقاه بصراحة.


شاركتها ليلى الضحك، ثم ودعوا خالها الذي اضطر للرحيل لانشغاله الدائم بالعمل.


أخذت ليلى ليليان للغرفة، وما إن جلست على الفراش محتضنة علبة الحلوى بدأت بشرح ما فعلته لليليان التي بدت حائرة ولكن سعيدة أنها تخلصت من تلك الزيجة، فقالت ليلى:


- دخلت على أكونت ماما ومنه جيبت أكونت فتكات، فدخلته ومنه جيبت أكونت أحمد الكلح ده، قعدت أقلب في الصفحة لقيته كان مرتبط بواحدة اسمها هاجر بس دلوقت كاتب سنجل يبقا أكيد فركشوا، المهم لقيته عاملها منشن على بوستات قديمة، فدخلت على الأكونت بتاعها دورت شوية في البوستات بتاعتها وفهمت إنه هو السبب وإنه هو اللي خانها، فكلمت هاجر وقلت لها تظبط الحوار معايا وإني هكلمها بعد ما يجوا تقعد تعيط وشغل صعبانيات علشان نقنع ماما وخالو وبس كدا.


نظرت لها ليليان بدهشة وضحكت ثم قامت بالتصفيق لها، فابتسمت ليلى بغرور، ثم أمسكت بهاتفها وقالت:


- أما نكلم البت هاجر نقولها إن الخطة نجحت.


ما إن ضغطت ليلى على زر الاتصال حتى أجابت هاجر قائلة:


- سبع ولا ضبع؟


ضحكت ليلى وأجابت:


- لا نجحنا في المهمة وخدنا علبة الجاتوه متقلقيش.


صاحت هاجر بحماس:


- طب إياك تفتحوا العلبة قبل ما آجي، خمس دقايق وهبقا عندكوا.


ثم أنهت المكالمة لتضحك كلا من ليلى وليليان بضخب. 


❈-❈-❈



جلس سليم على فراش زين بجانبه بلال وفي مواجهته زين وآدم الذي قال بسخرية:


- يعني نقدر نقول إنها أهانتك وأنت علشان كتكوتها معرفتش ترد.


بينما قال بلال بتذمر وهو ينظر لزين بامتعاض:


- يا أخي ده أنا لما عملت فيه مقلب كان ناوي يموتني فيها، إنما السنيورة تمسح بكرامته الأرض عادي.


فقال سليم مؤيدًا:


- أه والله معاك حق، اللي هيجنني بقا إنه بقاله حوالي تلات سنين بيلمح، دي لولا إنها بتتعامل مع الكل بخشونة كان زمانها اتجوزت وخلفت وهو لسه بيلمح.


ضحك آدم بسخرية وقال وهو يشير نحو بلال:


- حضرتك اللي جنبك ده واحد بيلمح بقاله أربع سنين.


نظر سليم لبلال بدهشة وشارك آدم الضحك بينما حدق بهما بلال وزين بامتعاض، فقال زين:


- بس اتهد منك ليه.


ثم نظر لسليم وتابع:


- وأنت رايح تتخانق لي مع صاحبتها، يا أخي استنى على الأقل لحد ما اثبتها.


رفع سليم حاجبه باستهجان وقال:


- لا لحظة، هو أنت كنت عاملني كوبري علشان توصل لهاجر؟


صمت زين وابتلع لعابه محاولًا أن يجد إجابة على سؤاله، بينما قال آدم بخيبة مصطنعة:


- اخس على الصحاب.


وشاركه بلال السخرية بقوله:


- حرفيًا اتصدمت.


نظر لهما زين بحدة ليصمتا، ثم عاد ليواجه سليم وأجاب بارتباك:


- لا أكيد يعني يا صاحبي أنت الأساس، بس أنا بقول إنك لو بوظت الدنيا مع ليلى هتسوء صورتي قدام هاجر.


نظر له سليم بتشكك ولكنه ابتسم ببساطة وقال:


- خلاص سماح.


صمتوا للحظة، ليعود آدم يسأل:


- إلا أنت صحيح ليه كل شوية بتتخانق مع ليلى دي؟


ابتسم سليم وأجاب:


- أصل أنا أكتر حاجه شاطر فيها إني أعصب الناس، وبصراحة بحب أعصبها أوي.


ابتسم بلال بمكر وقال:


- أنت معجب ولا ايه؟


صاح سليم باستنكار مبالغ به:


- أنا؟! أنا أعجب بيها؟ لا يا جدع أنت بعدت جامد.


نظر له بلال بعدم تصديق ولكنها آثر الصمت، بينما قال آدم بملل:


- خلاص يا جماعة كفاية كلام عن البنات لإن حواراتهم كترت.


فقال زين ساخرًا:


- تلاقيك بس علشان مش لاقي كلبة تعبرك.


نظر له آدم بملل متجاهلًا ما قاله، فقال بلال الذي كان يعبث بهاتفه:


- ما تيجوا يا جماعة ننزل القهوة، فيه ماتش لليفر بول هيبدأ.


قال سليم معارضًا:


- محمد صلاح؟ لا مبحبهوش.


نظر له بلال بأعين نارية وقال بنبرة خافتة تبث الرعب في نفس من يسمعها:


- ازاي يعني؟


سارع زين بالوقوف أمام سليم بينما أمسك آدم ببلال وقال:


- اهدى بس، ده ملهوش في الكورة أصلًا.


حاول بلال التملص منه وقال بانفعال:


- سيبني بس هفهمه غلطه.


كان زين يمنع من وصول بلال لسليم الذي تمسك بظهر زين حتى لا يطاله بلال، قال زين عندما شعر بالتعب من محاولة حماية سليم:


- اهدى بس يا بلال ميبقاش قلبك أسود.


بينما قال سليم من خلف زين لينهي ذلك الشجار:


- أنا أسف والله أنا اللي مش عارف أقدر العظمة والرقي اللي بيقدمه.


هنا بدأ بلال يهدأ قليلًا، فتركه آدم وابتعد زين عن سليم الذي تنفس الصعداء.


عدل بلال من هندامه وقال:


- هعديها بمزاجي بس هتنزل تتفرج على الماتش معانا بردو.


أومأ سليم بتوجس وتوجه أربعتهما نحو الخارج.



يتبع