-->

الفصل السابع عشر - مرآة مزدوجة

 الفصل السابع عشر 

 

مر أسبوع آخر هادئ بلا أحداث تذكر، كان اليوم هو يوم الجمعة والذي أخذه عمر إجازة لأول مرة منذ وقت طويل، فقد اعتاد أن يعمل طوال الأسبوع دون راحة، رغم أنه أراح جسده قليلًا من العمل إلا أنه يشعر بالملل، لم يعد يحب فترات الراحة تلك؛ لأنه ببساطة لا يعلم ماذا يفعل بها، فحتى فترة راحته في العمل قد أشغل نفسه بها بالحديث لليليان، لقد كان متشككًا تجاه شعورها بحديثه معها، فهو يكره أن يكون ثقيلًا على أحدهم، ولكنها برهنت له أكثر من مرة بنبرتها الخافتة المتوترة أنها لا تجده ثقيلًا عليها، بل هي تستمتع بالتحدث معه ومناقشته لأنها تكره أن تكون وحيدة، مثله، تنهد عمر وهو يعبث في مكتبته الصغيرة في غرفته، يخرج الكتب ويقوم بنفض الغبار عنها، فقد أهمل القراءة لوقت طويل بسبب انشغاله بالكتابة والعمل، يريد أن يعود للقراءة مجددًا، ربما قد يذهب لشراء بعض الكتب والروايات، ولكنه يريد أن يلزم نفسه أن يجلس بالمنزل، على الأقل حتى يراه والديه قليلًا، فمعظم الوقت يعود من العمل مرهق ولا يرى سوى فراشه الذي يلقي بكامل ثقله عليه ليغط في النوم؛ لهذا عندما انتهى من تنظيف المكتبة، خرج من غرفته ليجد والدته تجلس وتقوم بقطيع الخضروات بينما يجلس والده يشاهد إحدى الأفلام القديمة، فذهب له ودعاه للعب معه بالأوراق ليشغل وقته قليلًا، فقد كان يفضلها والده أكثر من الشطرنج؛ لهذا قرر أن يمضي عمر معه القليل من الوقت باللعب بدل أن يجلس بجانبها بصمت.

 

--

 

كانت ليلى تجلس بملل دون أن تجد شيئًا لتفعله، فاليوم يوم إجازة ليليان التي تفضل أن تتولى طهي الطعام به، بينما نعناع يفضل التجول بلا وجهة في الشقة، أو للاختفاء بخزانة ليلى للعبس بملابسها كما المعتاد، جذب انتباهها صوت طرق على باب الشقة، فنهضت بكسل لتفتح الباب، لتجد هاجر في مواجهتها، تبدو مختلفة عن المعتاد، هناك شيء خاطئ، كانت ليلى تعلم أن بها خطب ما منذ الأسبوع الماضي، لأنها كانت ترفض جميع مكالماتها ولا ترد على رسائلها، ومن ملامحها المكتئبة تأكدت ليلى من شكوكها.

 

سمحت ليلى لها بالدخول، فدخلت مباشرة نحو غرفة ليلى وليليان وجلست فوق فراشهما عاقدة ذراعيها أمام صدرها بغيظ، وقفت ليلى أمامها بصمت احترامًا لما تمر به رغم أنها لا تعلم ما هو حقًا، هل ما زال هناك مشكلة بينها وبين زين؟

 

قالت هاجر بعد لحظات بغيظ:

 

- الزفت مكلمنيش من يوم الخطوبة، مخطوب لخرسة علشان ميكلمنيش؟

 

فهمت ليلى الآن ما هو الأمر الذي يشغل هاجر، تنهدت وأجابت مقترحة:

 

- ما يمكن لسه زعلان من اللي حصل، بصراحة كان باين عليه غيران أوي.

 

قالت هاجر بانفعال:

 

- أنا عملت ايه يعني علشان يتقمص كدا؟

 

أجابت ليلى بتلقائية:

 

- ده أنتِ كنتِ فرحانة بكلامك مع عمر أكتر من فرحتك لما جه يتقدم لك!

 

تأفأفت هاجر وأشاحت بوجهها بعيدًا، فحاولت ليلى أن تتحدث معها بهدوء، فقالت:

 

- الموضوع كان أوفر فعلًا يا هاجر، يعني فعلك كان اوفر، وبصراحة ردة فعله كانت أوفر بردو، بصي هي علاقة كلها على بعضها أوفر أصلًا.

 

عادت هاجر تنظر لها وقد بدأت تقتنع أنها ربما أخطأت فيما فعلت، ولكنها عادت تقول بقلة حيلة:

 

- طب أعمل ايه طيب؟

 

ابتسمت ليلى عندما وجدتها بدأت تقتنع وقالت:

 

- ممكن تكلميه، تتناقشوا في الموضوع وتتصالحوا.

 

ابتسمت هاجر معجبة بتلك الفكرة، فأخرجت هاتفها من حقيبتها وقالت:

 

- ماشي هكلمه دلوقت علشان بردو تساعديني لو عطلت.

 

أومأت ليلى مبتسمة، بينما هاتفته هاجر ووضعت الهاتف على أذنها تنتظر، تحولت ملامحها من الابتسام للخيبة، أغلقت المكالمة وقالت:

 

- موبايله مقفول.

 

- ممكن يكون فصل وهو راكنه ومش عارف.

 

أومأت هاجر مرجحة هذا الأمر بينما بدت عليها الخيبة الشديدة، فجذبتها ليلى لتنهض وقالت لتنسيها أمره قليلًا:

 

- تعالي نغلس علي ليليان في المطبخ.

 

ابتسمت هاجر بشر وقالت:

 

- أيوه صحيح، عايزة أسألها عملت ايه مع سي عمر ده.

 

نظرت لها ليلى بحدة، فضحكت وقالت:

 

- بهزر ايه يا بنتي مبتهزريش؟

 

--

ارتدى سليم سترته الجلدية السوداء مستعدًا للذهاب لمنزل زين للحديث معه قليلًا، فهو يحترم الصداقة اللطيفة بينهما، يمكن أن تكون صداقة غير قوية وليست كالصداقات الاعتيادية لأنها اعتمدت على مصالح بينهما ولكنها تعتبر صداقة في النهاية، حتى وإن لم يتوغلا في حياة بعضهما البعض الشخصية.

 

كان قد سئم من الجلوس في مواجهة علي الذي لا يترك فرصة لإثاره غيظه واستدراجه نحو عراك هو غير مستعد له، فهو يعلم أن علي سينتصر حتى وإن كره الاعتراف بهذا؛ لأنه محق وسليم يدرك هذا جيدًا.

 

كان يلعن حب والديه للمظاهر الذي جعله يتشارك نفس الغرفة مع علي، فقد دفع والديه الآلاف ليحصلا على شقة فاخرة ضيقة بإحدى الأحياء المرموقة والذي يسكنها الأثرياء، ولضيق مساحة الشقة اضطر سليم لمشاركة غرفته مع علي، همهم سليم بامتعاض وهو ينتظر السيارة التي طلبها من إحدى التطبيقات:

 

- مكانش يتجوز ويخلصني منه.

 

وصلت السيارة، فصعد سليم وأملاه عنوان منزل زين.

 

وصل سليم ووقف أمام باب الشقة المنشودة حسب ما أخبره زين، تحقق من مظهره قبل أن يقرع الجرس، انتظر للحظة حتى سمع صوت هرولة وارتطام مما جعله يعقد حاجبيه باستغراب، حتى فُتح الباب وأطل وجه شقيقة زين، اسمها داليا ربما؟ هو ليس متأكد من الأمر ولكنه ما إن وجد أنها هي من فتحت الباب أبعد نظره عنها وقال بأدب:

 

- زين موجود؟

 

ابتسمت داليا وقالت بتلعثم:

 

- أ.. أيوه.. جوا، اتفضل.

 

دلف سليم بينما أغلقت داليا الباب وهرولت نحو غرفتها وصفعت الباب خلفها، أتى والد زين ورحب به، ثم قاده لغرفة زين، دلف ليجد زين يقف في شرفته، تأمل سليم غرفته الواسعة نسبيًا، يكفي أنه يحظى بها بمفرده دون أن يشارك أحدهم فيها، كانت الشقة واسعة بشكل عام، ليست في حي مرموق، تعتبر في حي شعبي نوعًا ما، ولكن يكفي أن أهل هذا المنزل يشعرون بالراحة داخل منزلهم، عكسه.

 

خرج سليم للشرفة ولكز زين الذي كان يحدق بالشارع في شرود، التفت زين له مبتسمًا وقال:

 

- يا مرحب يا دكتور.

 

ابتسم سليم واستند فوق السياج الحديدي وقال:

 

- اعذرني في الزيارة غير المرغوب فيها، بس حبيت ألم خيبتي على خيبتك.

 

نظر له زين مقطب الجبين ولكنه ابتسم وقال:

 

- يا سيدي اعتبره بيتك.

 

تنهد سليم ونظر للشارع بشرود، ثم قال بعد برهة من الصمت:

 

- لسه الدنيا بايظة معاك من يوم الخطوبة؟

 

- ايه ده هو أنت عرفت؟

 

أجاب سليم ساخرًا:

 

- عرفت؟ ده أنا والخطوبة كلها عارفين، ده أنت وشك كان يقطع الخميرة من البيت.

 

تنهد زين ولم يعلق عما قاله سليم، مرت لحظة أخرى من الصمت حتى أخرج سليم سيجارة وقداحة من جيبه، وضع السيجارة بفمه وقال قبل أن يشعلها:

 

- قبل ما نتكلم في حوارك، معايا سيجارة فرط تانية تاخد؟

 

جحظت عينا زين بصدمة وهرول نحو باب الشرفة الزجاجي وأغلقه حتى لا تصل رائحة الدخان لغرفته، ثم عاد وصاح به:

 

- أنت بتدخن؟

 

نفث سليم الدخان وراقبه بينما يتطاير في الهواء وأجاب بخفوت:

 

- لا

 

نظر له زين بتعجب وقال:

 

- ازاي يعني؟ ده حتى لو أول مرة مش المفروض بتكح يعني وكدا؟

 

ابتسم سليم وقال:

 

- لا مهو أنا مبدخنش، بس أول مرة أجرب كانت في ثانوي، وعمري ما حطيتها في بوقي تاني غير النهاردة.

 

- بس ما كدا هتتعود وهتبقا مدخن وده غلط و..

 

قاطعه سليم قائلًا:

 

- بس بس ايه كل ده؟ أنا أقوى من إن الهبل ده يسيطر عليا، أنا بس بواكب اللحظة اكمنها لحظة نكد وكدا.

 

ثم تنهد بحزن وتمتم وكأنها يحادث نفسه بنبرة قاربت الخيبة والحزن:

 

- كل حاجه بدأت من ثانوي أصلًا، الفترة دي خطيرة على كل اللي بيمر بيها، وأنا محدش كان فاضي لي، علي كان لسه متخرج وبيحاول يبني اسمه، وبابا وماما مشغولين معظم الوقت كما هو المعتاد يعني، فـ كنت باخد راحتي زيادة وحتى الآن بدفع تمن اللي حصل.

 

شرد زين للحظة وقال مؤيدًا:

 

- فعلًا أنا كمان عملت مصايب في الفترة دي، بس بابا كان مركز معايا دايمًا وبيدي لي على دماغي، وحاليًا بردو مركز مع داليا بنفس الطريقة، بس داليا ملهاش في حاجه فـ مش عارف يمسك عليها حاجه.

 

أومأ سليم ناظرًا نحو الفراغ بآسى وقد مر أمام عيناه صور كثيرة لذكريات قديمة، أشياء يندم على فعلها ويتمنى لو وجد شخصًا يرشده للصواب قبل أن يفعل تلك الأشياء، ربما لما فكر في اللجوء للعلاقات غير الشرعية بالفتيات، ربما لما قطعت ليلى علاقتها به، هو يفتقد نصحها، يفتقد تلك الطريقة العملية التي تستخدمها في التحدث وحماس الذي تبديه حول تحليلها لشخصية ما، فقد أخبرته مسبقًا أنها تحب أن تحلل أي شخصية تقابلها، ويفتقد حديثها عن نعناع قطها وخطة زواجه، في الشهرين الماضيين لم يتحدثا كثيرًا حول أمور خارج الدراسة، كان معظم الحديث حول الاختصاص الذي يريدان أن يدرساه ورغبة ليلى في التخصص في الطب النفسي لحبها الشديد لتحليل الشخصيات وتقديم المساعدة المعنوية، وربما بل يمكن أن يكون مؤكدًا أن هذا هو ما كانت تفعله معه، كانت أحاديثهم تكاد تكون معدومة؛ لأنها كانت ترفض أي نوع من الحديث خارج الدراسة، ولكنه كان يستدرجها أحيانًا لتتحدث عن الأمراض النفسية التي تعرفها وتشرحها له أو عن نعناع، فحتى وإن كانت قليلة إلا أنها كانت تضفي لطفًا على يومه، وقد خسر كل هذا، ولكنه يمر بشيء أسوأ منذ فترة، يفتقدها! هذا الشعور لم يمر به يومًا وقد بدا خطيرًا عليه ويجب إخماده.

 

أدرك سليم أن الصمت دام طويلًا، وأن زين صمت احترامًا لصديقه، ولكن سليم لم يرد أن يغرق في أفكاره التي مهما كانت عشوائية تتحول لتكون بطلتها ليلى، يستمر في تذكر أحاديثهم المعدومة ويشعر بالحنين وكأنها حدثت منذ عقود وليس شهرين فقط، عندما لاحظ أنه على وشك الغرق في أفكاره قال ليخرج نفسه من تلك الدوامة:

 

- أرغي بقا حصل ايه تاني بينكوا يمكن أعرف أساعدك.

 

تنهد زين وقد شعر بالضيق من الدخان الذي ينفثه سليم ولكنه بدأ بسرد كل ما حدث في عقله بالفترة الأخيرة:

 

- عارف حاسس إن المشكلة اللي حصلت بينا رغم إنها تافهه ومتستحقش كل ده، بس حسيت إنها فتحت عيني على حاجات مكنتش واخد بالي منها قبل كدا، خلتني أفكر في المستقبل وهيبقا عامل ازاي معاها، وحاليًا تايه ومش متأكد من حاجه، حاسس إني اتسرعت، أو حاسس إني لما ضمنتها كل الموازين اختلت، مش عارف متلخبط ومش متأكد من كل حاجه وخايف اأذي هاجر معايا.

 

نظر له سليم لوهلة، ثم أطفأ سيجارته وألقى بالعقب في الشارع، رتب الكلمات بعناية في عقله وقال:

 

- بص يا زين، أنا فاشل صراحة لما الحوار بيقلب جد وكدا بس هحاول أديك نصيحة تنفعك، بصراحة كدا بقا أنا كنت حاسس إنك مبتحبش هاجر أصلًا، معرفش ليه بس كنت حاسس بكدا وعلشان مبقاش كداب ترددك ده أكبر دليل على إحساسي، المهم نقول إنك مبتحبهاش وناوي تكمل معاها علشان هي بنت مميزة وممتازة وكدا، بس بردو لازم تبقا واضح مع نفسك في ده علشان متظلمهاش معاك، جرب تفكر بشكل محايد جدا وتحسب مميزات وعيوب الجوازة دي، وتفكر في مستقبلك هيبقا عامل ازاي لو اتجوزتها وتشوف إذا كانت الحياة دي تنفعك ولا لا، شخصيًا الحوار ده نجح معايا، بس أنا كنت بختار بين حاجتين أنت دخلت على البشر في ليفل الوحش يعني.

 

وضع زين يده على فمه مفكرًا، ثم قال بشرود:

 

- هحاول طيب.

 

وضع سليم ذراعه على كتف زين وقال مبتسمًا:

 

- عارف يا زين؟ عمري ما اتخيلت يبقا عندي صاحب زيك.

 

ابتسم زين وقال:

 

- تعرف أنت بقا؟ أنا لما كنت بشوفك كنت بقول ايه العيل الملزق ده، ولما عرفت أن قرايبك كلهم دكاترة وليهم علاقات في الجامعة فهمت إنك متدلع وكدا، بس بصراحة طلعت جدع وساعدتني حتى لو مشكلتي كانت تافهه.

 

دفعه سليم وامتعضت ملامحه، وقال:

 

- أنا عيل ملزق يا نحنوح؟

 

قهقه زين وأجاب:

 

- أعمل ايه طيب؟ أنت اللي كنت عاملي نفسك فيها تامر حسني في عمر وسلمى، كان ناقصك الجيتار.

 

نظر له سليم بغيظ ولم يعلق، وعندما توقف زين عن الضحك تذكر شيء ما، فقال:

 

- صحيح خيبتي وعرفناها، ايه هي خيبتك بقا اللي جاي تلمها عليا.

 

أخرج سليم السيجارة الأخرى من جيبه وقال:

 

- لا بحيث كدا أولع السيجارة التانية وأحكي لك على رواقة.

 

--

 

كان عمر يجلس يقرأ إحدى الكتب وقد أحضر قدحين من القهوة كما اعتاد أن يفعل بالأسبوع الماضي، أتت ليليان وجلست أمامه قائلة:

 

- أتأخرت شوية علشان كان فيه شغل لسه مخلصش.

 

أغلق عمر الكتاب وابتسم وقال:

 

- والله كونك تشتغلي كتير ده شيء يفرحني؛ لأنه عايد عليا أنا بالمكسب.

 

ابتسمت ليليان بدورها، ثم نظرت للكتاب وسحبته من جانب عمر وقالت بحماس:

 

- ايه ده جيبته منين؟ ده أنا دورت عليه كتير وأخرة ما زهقت بطلت أدور.

 

- ممكن أديه لك لو ناوية تقرأيه.

 

لمعت عينيها بحماس وقالت غير مصدقة:

 

- ايه ده بجد؟

 

أومأ عمر مبتسمًا، ثم رفع سبابته في وجهها وقال محذرًا:

 

- بس لا صفحة تتني ولا highlighter يتحط فيه.

 

هزت رأسها موافقة بسعادة، ثم أعادته له وقالت:

 

- حاضر، لما حضرتك تخلصه هبقا أخده.

 

أمسك بالكتاب بيد وباليد الأخرى أمسك يد وبسطها ثم وضع الكتاب بها وقال:

 

  لا خديه، ده كان عندي من زمان وقرأته كتير.

 

ارتبكت ليليان من لمسه ليدها حتى وإن كان لثانية أو أقل، ولكنها لم تستطع تجاهل الرجفة التي مرت بجسدها كله رغم ضئالة ما حدث، فعمر نفسه لم يلحظ ما فعله، وضعت ليليان الكتاب جانبًا، ثم أخذت قدح القهوة خاصتها وارتشفت منه بصمت، وحاولت تذكر نصيحة ليلى، لتتحدث معه بطريقته قليلًا، فقالت بعد ابتلاع السائل المر الداكن:

 

- بالمناسبة، أنا كنت خلصت مذكرات إيلا بتاعت حضرتك، وكان عندي بعض التحفظات تجاه بعض الأحداث.

 

جذبت اهتمامه جملتها، فقال مستفسرًا:

 

- تحفظات ايه بقا احكي لي.

 

ارتشفت ليليان مجددًا من قدحها وقالت:

 

- لا ما هو حضرتك أنا مبعرفش أتكلم على رأيي في رواية أو الأحداث، فـ كتبتهم في أچندة صغيرة.

 

- طب ممكن أشوفها ولا مينفعش؟

 

نظرت له ليليان ببلاهة للحظة وكأنها لم تكن متوقعة طلبه هذا، رمشت عدة مرات لتعيد تركيزها وقالت:

 

- أكيد مفيش مشكلة، بس يعني اللي كتبته حاجه مش جامدة يعني.

 

أخرجت الدفتر من حقيبتها وأعطته له، فقال وهو يقرأ ما به قراءة سريعة:

 

- على فكرة أنا بيعجبني رأيك، لأنه بيبقا محايد خارج مشاعر شخصية وحب غير مشروط لشخصيات معينة، يعني لو لقيتِ حاجه غلط بس كان واجب تتكتب بتبقي عارفة ده وبتقولي كدا وبصراحة محدش في يوم انتقدني بالشكل ده.

 

شعرت ليليان باضطراب داخلها عندما ألقيت تلك الكلمات على مسامعها وكأنه يلقي عليها إحدى عبارات الغزل وليس يمتدح تفكيرها، فهي لم تجد رجلًا يحترم رأيها بتلك الطريقة، فمعظم زملائها بالكلية كانوا يسخرون منها ويقولون أنها تقول رأي محايد لتكون مميزة وتخطف الأضواء، مما جعلها تكره القراءة وتعتزلها تمامًا، إلى أن أعادت روايات عمر شغفها بها، فبالنهاية لقد كان والدها قارئًا ذا ذوق رفيع، وقد كانت والدتها تحب القراءة رغم أنها لا تقرأ كثيرًا ودائمًا ما جعلتها هي وشقيقتها تحبان القراءة، استجابت ليلى سريعًا وأصبحت قارئة نهمة تريد أن تقرأ كل شيء وأي شيء، بينما هي لم تتأثر بالأمر مثلما فعلت شقيقتها، بل لم يبدأ حبها للقراءة إلا عندما بدأت دراسة الأدب، والذي أُخمد سريعًا من السخرية الدائمة من زملائها.

 

أنهى عمر قهوته وأحضر قدحًا آخر، فقالت ليليان:

 

- كتر القهوة مضر، حضرتك بتإذي نفسك.

 

نظر لها عمر بمكر وابتسم وقال:

 

- هبطل قهوة كتير لو بطلتِ تقولي حضرتك.

 

صمتت ليليان وأبعدت نظرها عنه، بينما أرجعت خصلات شعرها بتوتر، فقال:

 

- شوفتِ؟ أهو مش هتقدري زي ما أنا مش هقدر.

 

عبثت ليليان بالمنديل القماشي الذي عقدته حول ذراع حقيبتها وقد أدركت أنها لا تنفذ أي شيء من اللعبة التي قررت لعبها معه، بينما قال عمر:

 

- أنتِ مش ملاحظة إننا مبنتكلمش غير عن الكتب والروايات؟

 

رفعت ليليان نظرها له ببطء وقالت بحيرة:

 

- وهو المفروض نتكلم في ايه غير كدا؟

 

رفع عمر كتفيه وأخفضهما وأجاب:

 

- عادي مش احنا صحاب؟

 

في تلك اللحظة شعرت ليليان كأن دلو من المياه المثلجة قد سقط فوق رأسها، أصدقاء؟ اللعنة!

 

قالت ليليان بتلعثم:

 

- صصـ..صحاب؟

 

أومأ عمر عدة مرات وسريعًا وقد بدا كالأبله ولكنه لم يهتم، نظرت له ليليان بارتباك وهي لا تعلم ماذا تقول له، فهي رغم أنها تعلم أنهما ليسا أصدقاء، ولكنها لم تستطع وضع مسمى لهذه العلاقة، قالت ليليان أخيرًا بعد أن لاحظت نظرات عمر المترقبة:

 

- بس أنا مبصاحبش ولاد.

 

ضحك عمر وفرك عينيه وقال:

 

- ولاد؟ هو احنا في حضانة يا بنتي ولا ايه؟

 

ابتلعت ليليان لعابها وأجابت:

 

- بشكل عام يعني.

 

صمت عمر لوهلة، ثم قال بهدوء:

 

- أومال اللي بينا ده اسمه ايه؟ مش دي صداقة؟

 

نفت برأسها وأجابت بخفوت وهي تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها:

 

- بينا؟ مفيش حاجه بينا حضرتك، مدير وموظف عنده بس، مش صداقة.

 

شعر عمر بالخيبة من إجابتها، ولكنه أخفى هذا الشعور ببراعة مثلما يفعل عادة، أرجع ظهره للخلف، نظر لساعته وقال بجمود:

 

- طيب، شيلي الكتاب بقا علشان البريك قرب يخلص خلاص.

 

نظرت له ليليان بارتباك وقد بدا أنها تريد التبخر من أمامه الآن، ولكنه لا يهتم، ما دامت تريد علاقة عادية بين موظف ومدير ستحصل عليها بكل سرور، فبالنسبة إليه ليس هناك أسهل من التعامل بجمود.

 

--

عبث سليم بهاتفه دون اكتراث حقيقي لما يفعل، يريد أن يضيع الوقت وحسب حتى ينتهي يوم آخر دون أن يفعل شيء كالمعتاد، كان من وقت لآخر يفكر بليلى، يندم على ما فعله، فقد شعر في وقت من الأوقات بأنه محتاج للتقرب إلى الله، ولكن ما فعله يدمر رغبته السابقة، كانت لحظة ضعف منه، لحظة حقيرة مرت وقد دمرت الكثير من الأشياء، هذا عقاب الله وهو يتقبل هذا، بالنهاية ماذا كان سيحدث إن لم يفعل ما فعله؟ كان يمكنه أن يكبت احتياجه للتحدث لأحد يستمع مثلما كان يفعل دائمًا، تنهد بثقل وقد كره تلك الكئابة التي غرق بها منذ أسبوعين، يجلس بمفرده طوال النهار لا يتحدث لأحد سوى الجدران، فوالدته وعلي يكونان بالعمل، بينما يقضي والده النهار في النوم لأنه يعمل في النوبة المسائية، وحقًا هو لا يفهم لماذا يفعل هذا؟ فهو قد أصبح متقدمًا في العمر ولن يستطيع العمل بكفاءة مثل أيام شبابه، ربما هو يفضل العمل بالمساء حيث لا يوجد الكثير من العمل، ربما، ولكن هذا جعله بعيد عن عائلته وهذا ما يحزن سليم.

 

تنهد سليم مجددًا، يريد أن يتحدث مع أحد، فهو بحاجه للخروج من دوامة أفكاره تلك، يريد أحد قد يتناقش بكل جدية حول سبب زرقة السماء، شخص سيرغب سليم في مناقشته في موضوع كهذا ويلقي بما يريد أن يبوح به بين سطور هذا النقاش و يدعي هذا الشخص أنه لم يفهم ولم ينتبه لما قاله، ولكنه يعود لسؤاله عن الأمر بطريقة غير مباشرة، يريد شخص تجمعه به علاقة غير مباشرة، حيث يبوح بما في قلبه بطريقة غير مباشرة، ويجيب عليه الشخص الآخر بطريقة غير مباشرة، وليس هناك شخص كهذا سوى ليلى! لا يعلم كيف أصبح يكن لها نوع من المشاعر الذي لا يفهمها بتلك السرعة! ولكن لا بأس، هو يريد فقط أن يبوح لها بما في صدره منذ وقت طويل، والسبيل لهذا عليه استرضائها وجعلها تعفو عما فعله، ولكن كيف يفعل هذا؟ ترك سليم هاتفه واعتدل في جلسته فوق فراشه ليفكر بجدية، مر بعض الوقت حتى اهتدى لفكرة، سيتعين عليه استدراجها نحو إحدى الأحاديث، وهو يعلم كيف يفعل هذا.

 

نهض وركض مسرعًا نحو غرفة والديه وهو يقول بنبرة متملقة:

 

- بابي حبيبي، عايز أطلب منك طلب.

 

--

 

عاد علي بعد نوبة عمل مرهقة، فرك عينيه بتعب متذكرًا أنه ما زال عليه أن يذهب للعيادة الخاصة به، لعن بخفوت ذلك العمل المرهق الذي اختاره بارادته الحرة، لا يمكنه التذمر حتى مثلما يفعل سليم متخذًا كونه أُجبر على أن يكون طبيبًا عذر ليتذمر كما يحلو له، فتح أول زرين من قميصه وبعثر شعره بفوضوية ليشعر بقليل من الراحة، تنهد وأخرج هاتفه وهاتف سكرتيرته ليخبرها أنه لن يأتي للعيادة، وأنها يمكنها الرحيل لمنزلها، ثم أنهى المكالمة ليتجه نحو غرفته، ولكنه توقف قبل أن يمسك بمقبض الباب، ليسمع سليم يقول:

 

- تصدقي مكنتش متصور إنك هتبقي قمر كدا في الضوء، مكنتش أعرف إنك هتعجبيني كدا.

 

أتت على ذهن علي أكثر فكرة سيئة في هذا العالم، بالطبع فإن كان يتحدث للفتيات ويغازلهن، فما الخطوة التالية؟ إحضار بائعة هوى للمنزل!

 

أقسم علي أنه سيبرحه ضربًا، إن فشل والديه في تربية هذا الفاسق فهو من سيقوم بتربيته، فتح علي الباب بسرعة متعمدًا أن يفاجئ سليم، ليجد شيئًا لم يتوقعه أبدًا.

 

سليم يجلس على ركبتيه فوق الأرضية بينما يلاعب هرة صغيرة جالسة فوق فراشه ويرفع ذراعيها القصيرتين، نظر له سليم ببراءة، بينما صاح علي باستنكار:

 

- قطة؟!

 

يُتبع..