-->

الفصل الثامن عشر - مرآة مزدوجة

 


الفصل الثامن عشر



أومأ سليم مجيبًا بتعجب:


- أيوه قطة، في ايه؟


ضحك علي باستنكار وأغلق باب خلفه، جلس على فراشه ولم يتوقف عن الضحك، بينما نظر له سليم بتعجب وقال:


- بتضحك على ايه؟


توقف علي عن الضحك ونظر له نظرة ضاحكة وقال:


- لا ولا حاجه، قولي بقا ازاي خليت بابا يوافق؟ وأنت جيبتها ليه أصلًا؟


ابتسم سليم بتفاخر وأجاب:


- فضلت أزن عليه وهو نعسان، فـ أداني فلوس كتيرة علشان أحل عن سماه.


- طيب ده عرفناه، جيبتها ليه من الأساس؟


نهض سليم وحمل الهرة، ثم جلس على فراشه وأجلسها على ساقيه وأجاب بحماس:


- أهي نعناعة دي هي اللي هتوصلني لليلى.


قطب علي جبينه وقال باستغراب:


- نعناعة؟


أجاب سليم وهو يداعب الهرة لتصدر صوت كركرة دليل على استمتاعها بما يفعله:


- أيوه عروسة نعناع قط ليلى.


كان علي مندهشًا من تلك الأسماء الغريبة، فقال:


- نعناع ونعناعة؟


أجاب سليم مقتبسًا جملة ليلى:


- أيوه ويخلفوا نعانيع صغيرين.


- أنا مش فاهم حاجه!


تنهد سليم بسأم وقال موضحًا:


- ليلى عندها قط اسمه نعناع، وقالت لي إنها نفسها تجيب قطة تسميها نعناعة وتجوزها لقطها، فـ أنا جيبت القطة وهسميها نعناعة وهستغلها علشان تقربني من ليلى تاني.


أومأ علي متفهمًا، ولكنه عاد يسأل:


- ودي هتقربك من ليلى ازاي يعني؟


نهض سليم وأعاد نعناعة على الفراش وأجاب:


- هتعرف دلوقت، هات موبايلك.


- ليه؟


صاح سليم بتذمر:


- أخلص هاته.


أخرج علي هاتفه وأعطاه لسليم بعد أن فتح القفل، فالتقط سليم هاتفه وأخذ منه رقم ليلى التي حظرت رقمه؛ لهذا سيضطر لاستخدام هاتف علي، التقط صورة لنعناعة وبعثها لرقم ليلى على إحدى تطبيقات المراسلة.


في تلك الأثناء كانت ليلى تجلس فوق فراشها، تعبث بهاتفها، في الواقع لم تكن تعبث به بلا هدف، كانت تشاهد محادثتها مع سليم قبل أن تحظره والتي كانت معظمها عن الدراسة مع إلقاء سليم للمزحات بالمنتصف، كانت تسمع تسجيلاته الصوتية عبر سماعة الرأس التي تضعها، في تلك اللحظة وصلتها رسالة من رقم مجهول، خرجت من غرفة محادثتها مع سليم وفتحت الرسالة المبعوثة من هذا الرقم والتي تبينت أنها صورة لقطه صغيرة رمادية اللون مع أعين سوداء واسعتان ولطيفتان، نظرت ليلى للرسالة اللطيفة بتعجب وقبل أن تتوجه لمعرفة ما الاسم المسجل به هذا الرقم، اهتز هاتفها معلنًا استقبالها لمكالمة، لتفزع وتكاد تُسقط الهاتف ولكنها تمكنت من الإمساك به في اللحظة المثالية، نظرت لشاشة الهاتف لتجده نفس الرقم المجهول الذي بعث بالرسالة، فأجابت وانتظرت لتستمع للطرف الآخر الذي كان صامتًا.


لا يعلم لماذا ما إن أجابت ليلى عن مكالمته شعر بالتوتر الشديد حتى عجز عن التفوه بشيء، مرت دقيقة من الصمت من الاتجاهين إلا من صوت أنفاسهما المرتفع نظرًا لشعور كليهما بالتوتر.


- ألو؟


همست ليلى وقد شعرت بالارتباك من صوت التنفس المرتفع من الطرف الآخر، مر بعض من الوقت والصمت ما زال يتملك سليم الذي لا يعلم ماذا عليه أن يقول بينما نظر له علي باستغراب وأشار إليه بمعنى « تحدث » ولكنه ما زال يشعر بالعجز، لقد مر في عقله حاليًا كل ذكرى احتاج فيها أن يتحدث، أن يصرخ ويقول كل ما في داخله ولكنه لم يفعل، دائمًا كان يلتزم الصمت في الأوقات المناسبة للحديث، مثلما يفعل الآن ولكنه شعر بالإحباط بعد أن تذكر هذا وشعر أنه سيفسد الأمر برمته.


صاحت ليلى بانزعاج بعد أن تأكدت أنه أحد الأشخاص الذين يضايقون الفتيات على الهاتف:


- يا أخي شوف لك حاجه تنفعك بدل ما أنت عمال ترازي في بنات الناس كدا!


كانت تلك الجملة بمثابة الصفعة لسليم الذي استيقظ أخيرًا من أفكاره وقال بسرعة قبل أن تغلق الهاتف:


- استني يا ليلى، أنا سليم.


كانت ليلى على وشك إنهاء المكالمة، ولكن صوته الذي خرج في اللحظة المناسبة جعلها تعدل عما كانت تفعله، وضعت الهاتف على أذنها وقد شعرت بقليل من الصدمة، فقد كانت تستمع لصوته في تسجيلاته الصوتية التي بعثها لها، فقد افتقدت نبرته الرقيقة الهادئة، رغم أنها زجرت نفسها عدة مرات عما تفعله، فشعورها هذا خطير بشدة وهي تعلم؛ لأنها قد تتوصل للأسوأ الذي لا تريد استنتاجه، ورغم أنها تعهدت بأنها ستقطع جميع سبل وصوله إليها، إلا أنها لم تستطع إنهاء المكالمة.


عاد سليم للصمت عندما وجدها لم تنهي المكالمة، ابتسم سليم تلقائيًا بينما نظر له علي وقال بتهكم:


- وقال أنا في الآخر اللي نحنوح، مبصش في المراية تقريبًا.


نظر له سليم بحدة وتوعده في صمت، ثم حمحم وقال:


- عاملة ايه؟


همس علي بسخرية:


- ما شاء الله بعد كل السكوت ده، ده كل اللي عرفت تقوله؟


نظر له سليم بغضب فقام بمهاجمته بينما علي استسلم لما يفعله حتى لا يصدر صوتًا قد يصل لسمامع ليلى، دفعه سليم ليستلقي فوق فراشه بينما جلس سليم فوق معدته، واستمع لإجابة ليلى التي خرجت مقتضبة وغير مرحبة.


- الحمدلله بخير.


ابتلع لعابه بتوتر وبدأ حديثه:


- أنا بكلمك من موبايل علي علشان أنتِ عاملة لي بلوك، يا ريت مكونش أزعجتك.


همس علي بسخرية وقد نفذ صبره مما يفعله شقيقه الذي بدا وكأنه عاد لفترة المراهقة مجددًا:


- كول سنتر! كول سنتر يا ربي، بيكلم عميلة مش زميلته!


لكزه سليم ليصمت بينما قالت ليلى بجمود ولم تكن قد وصلها ما قاله علي:


- كدا كدا مكنتش مسجلة رقمك، علشان مبسجلش أرقام شباب.


ضحك سليم باحراج وقال:


- المهم، شوفتِ الصورة اللي بعتها لك؟


- أه صورة القطة.


قال سليم بمكر وهو يدرك ماذا ستكون ردة فعلها:


- صورة نعناعة.


صاحت به ليلى بانفعال:


- اسم قطتي المستقبلية يا لص!


ضحك سليم بخفوت، لتشعر ليلى بشيء يتزعزع بداخلها لاستماعها لتلك الضحكة الخافتة التي اعتادت الاستماع لها كثيرًا، بينما قال سليم ليخرجها من دوامة أفكار كادت تغرق بها:


- لا ما هو أنتِ مش محتاجة تجيبي قطة، علشان أنا حجزت نعناع لقطتي، ربي أنتِ العريس وخلي العروسة عليا.


رفضت ليلى بشدة:


- لا مستحيل تبقا حما نعناع.


ضحك سليم مما أزاد غيظها، ولكنه قال قبل أن تصيح به:


- يا ستي مش دلوقت وقت الحوار ده، العيال لسه صغيرين متكبريناش.


ثم عاد للضحك مجددًا مما جعلها تكز على أسنانها بغيظ وقالت بحدة:


- تصدق أنا غلطانة إني مكملة كلام، أنت متستاهلش فعلًا حد يتكلم معاك.


صمت سليم بعد أن شعر بالإهانة مما قالت، حمحم منظفًا حلقه وقال:


- أنا كنت متصل بيكِ علشان أسئلك ايه الحاجات اللي أجيبها للقطة بما إنك عندك قط وعارفه.


زمت ليلى شفتيها بامتعاض وبدأت تخبره ما عليه فعله بجمود تام، جعله يشعر بصعوبة المهمة التي وضع نفسه فيها.


انتهت ليلى من شرح ما عليه فعله وأنهت المكالمة دون سابق إنذار ثم ألقت بالهاتف بجانبها على الفراش، لقد آثرت بها تلك المكالمة بطريقة غريبة، ولكنها سعيدة أنها وضعته في مكانه الصحيح رغم نبرته اليائسة طوال المكالمة، هل ظن أنها عندما تخلت عن جمودها وانفعلت قد عاد كل شيء لطبيعته؟ كلا! لن يعود شيئًا لطبيعته، لن يحدث ولن يصل لما يريده، هي لن تتحمل التواجد في صحبة شخص يستمر في دخول علاقات غير شرعية، حتى وإن لم يكن خائنًا، حتى وإن لم يكن يخدع الفتيات، وحتى وإن كانت جميع الأطراف متراضية، مهما كانت علاقة بريئة، هذا لا يلغي كون تلك العلاقة غير شرعية وغير مقبولة من المجتمع؛ لهذا هي لن تقحم نفسها في حياته مرة أخرى، كانت في أول الأمر تشعر بالفضول تجاهه، تشعر برغبة غريبة في معرفة الكثير عنه، ثم بدأت في محاولة تقديم النصح له، وهذا لم يكن دورها مطلقًا، فالنساء لسن مجبرات أن يكن أطباء الرجال، لسن مجبرات على احتوائهم أو تقديم الدعم النفسي لهم، لسن مجبرات أن يصلحوهم وأن يتحملوا جميع أخطائهم والجروح التي يسببوها لهن وأن يغفروا لهن في النهاية! إن الفتاة بحاجه لرجل سوي نفسيًا، رجل يقدم لها الدعم مثلما تفعل هي، تتشابه معتقداته مع معتقداتها، أو على الأقل رجل يحترم معتقداتها، رجل لن يجرحها أو يهينها بحجه أنه ليس سوي نفسيًا وأنه بحاجه لها بجانبه لتصلحه، فهذا ليس دورها! والرجل الحقيقي لن يسمح لنفسه بأن يؤذي فتاة لذلك السبب السخيف.


جلست ليلى بتململ، تقضم أظافرها بغيظ وقد جعلتها تلك الأفكار تشعر بالغيظ، إن سليم يشبه ذلك النوع من الرجال، ولكنه لم يطلب منها هذا بعد، ربما هي لا تعجبه؛ لهذا لا يريدها أن تتدخل في شئونه، ربما ينتظر تلك الفتاة الحسناء التي ستظهر وتكون مستعدة لإصلاحه، وحتمًا ليلى ليست تلك الفتاة وهو يعلم هذا، رغم أنها تتسم بالحُسن بشكل عام ولكنها أبدت له أكثر من مرة عدم استعدادها في دخول نوعًا من تلك العلاقات، حيث يستنزف الطرف الآخر كل قطرة حب ودعم منها، بل يقوم حتى بجرحها! هو يعلم كل هذا جيدًا؛ لهذا لا يريد أن يتحدث معها بشكل مباشر عن هذا الأمر، يريد أن يبقيها بجانبه علها تغير رأيها في وقت لاحق، وهي لن تفعل هذا ولن تكون البطارية التي سيأخذ منها الطاقة كما يحلو له، إن أراد أن يصلح نفسه، فليفعل بنفسه، هي لن تتدخل، بل ستبتعد تمامًا عنه حتى يرتاح من وجودها.


أمسكت هاتفها مجددًا وقامت بحظر رقم علي الذي هاتفها منه سليم، ونهضت تحضر دفترها لتدون به كل ما فكرت به الآن.


بينما على الجهة الأخرى أخفض سليم يده التي تحمل الهاتف ونظر له بخيبة، نظر له علي الذي أسند رأسه على ذراعه وقال:


- شكلها عنيدة ومعرفتش تستدرجها.


أومأ سليم، فقال علي مؤنبًا:


- ليه عملت كدا من الأصل يا سليم؟ صحيح إننا عيلة مش متدينة أوي بس أهلنا ربونا إن ده عيب وحرام، عملتها في ثانوي؟ هنقول ماشي كان في سن مراهقة ومش فاهم الصح من الغلط، إنما أنت كملت وأنت عارف إنه غلط بردو مكمل.


تنهد سليم ونظر له بحزن دفين قرأه علي بسهولة وقال بمرارة:


- مش هتفهم يا علي.


- فهمني طيب.


هز سليم رأسه بالنفي وقال بحزن:


- لا مش لازم، مش مهم.


نهض سليم، ليسحبه علي نحو الفراش وبدأ بلكمه وهو يقول:


- قعدت تتنحنح ونستني الضرب اللي ضربته لي علشان السنيورة، والله ما هاحلك.


❈-❈-❈

جلست ليليان في الحافلة بجانب النافذة تحدق في الشوارع بشرود، كان قد مر يومين منذ آخر حديث لها مع عمر، والذي انتهى بأنهما سيظلان مدير وموظفة فقط دون أي علاقات جانبية، منذ ذلك الحين وهو يعاملها بجمود ورسمية مثل يوم المقابلة، شعرت ليليان بالحزن من تلك المعاملة، رغم أنها تعلم أنها طريقته في التعامل وأنه أثناء العمل يتعامل بتلك الطريقة مع الجميع، ولكنها شعرت أنه كونه كان يتعامل معها بحرية ثم تتحول معاملته للجمود، فهذا يعني أنه يوجه لها رسالة صريحة بكونه يهينها ويعاقبها على ما فعلت، رغم أنها لم تفعل شيء حقًا! لماذا جميع الرجال يريدون أن تتصرف النساء معهن بحرية بحسب رغبتهم؟ فإن أراد هذه صديقة، تصبح صديقة، وإن أراد تلك مجرد زميلة، تصبح مجرد زميلة، وإن رفضت إحداهن هذا الشرف العظيم، تصبح عدوته!


هي لا تعلم لماذا جميع الرجال يفعلون نفس شيء، وكأنهم نسخ من بعضهم البعض لديهم نفس الرغبات ونفس طريقة التعامل، ولكن عمر مختلف، هي لم تجد شخصًا يستطيع التحول للجمود بعد أن كانت ملامحه مبتسمة ومسترخية، هي لم تجد شخصًا يهتم بأدق التفاصيل في العمل مثلما يفعل، وبالطبع لم تجد شخصًا يكتب أفكار ومعتقدات غريبة كتلك مثله! كان مزيجًا غريبًا من عدة أشياء متناقضة، وقد جعلها التفكير به كثيرًا تخجل في معظم الأوقات، بينما كان هو يصيبها بالاضطراب والتوتر في معظم الأوقات عندما يحاول تحليل شخصيتها والتعمق في دهاليزها، لا تريده أن يعرف شيئًا عنها، هذا يجعل سلامها الداخلي يضطرب، هي لا تريده أن يعلم أنها تخاف منه، ومن تقلبه المزاجي، ومن ملامحه التي تجعلها تتأملها طويلًا، ومن صوته الهادئ الوقور، كل تلك الأشياء به تخيفها، تخيفها من احتمالية أن تقع له، فهو يبدو كمن يكره الحب كما أنه سيؤذيها بكل تأكيد، كما أنها لا تريد الوقوع في الحب! هي تخاف من الحب لأنها لا تريده، رغم أنها شخصية شاعرية بطبعها تبحث عن زواج مستقر وحياة هادئة، إلا أنها تخشى الوقوع في الحب، فهي ليست متأكدة من نوايا الشباب في العالم الخارجي، خصوصًا أن معظمهم سيئين، وهي قد قرأت قصصًا وروايات عديدة على مواقع التواصل الإجتماعي مما يجعلها تريد أن تكون حريصة بشدة في التعامل مع الجنس الآخر، خاصة مع أمثال عمر، فهم نوعية يتحلون بجميع الصفات الخارجية التي تجذب الفتيات وتوقعهن في حبه، ولكن ما خفي كان أعظم، ولا أحد يعلم ما في نفس عمر ونفوس المماثلين له، وهي فتاة مثل جميع الفتيات، حتى وإن منحها الله العقل الراجح الذي تفكر به وتتبين تلك الأمور، إلا أنها إن لم تكن حريصة، فستقع له بكل سهولة وسلالة مثل الأخريات.


❈-❈-❈


- خسرت تاني.


قال والده مبتسمًا بشماتة، ليحك عمر رأسه وابتسم بدوره وقال:


- مبارك عليك يا حاج، بقيت أشطر مني.


رفع والده حاجب وأخفض الآخر وقال باستنكار:


- ياض متبقاش بكاش، ده أنا أبوك، صحيح إني معظم الوقت بعيد بسبب تعبي بس أنت متربي على إيدي.


توسعت ابتسامة عمر وقال بنبرة رزينة:


- ربنا يديك الصحة يا بابا.


نظر له والده بترقب، فقطب عمر جبينه بتعجب وقال:


- ايه؟


- ايه أنت؟ مش هتحكي لي ايه اللي شاغلك؟


رفع عمر كتفيه وأخفضهما وقال بتلقائية:


- مفيش حاجه شاغلاني.


غمز له والده وقال:


- عليا بردو؟ ده أنت خسرت تلات مرات لحد دلوقت، مستحيل ميكونش فيه حاجه.


نفى عمر بإصرار:


- والله ما فيه حاجه.


نظر له والده نظرة ذات مغذى وقال بنبرة هادئة مشابهه لنبرة ابنه:


- عمر سعيد طول عمره متعود إنه يكسب وبس، يفضل يشتغل ويتعب لحد ما يكسب، صحيح مفيش حد بيكسب على طول بس هو بيبقا مصر حتى لو مكسبش، وحاجه تافهه زي الكوتشينة كدا لازم يكسب فيها، حتى مش هيسيب دور لأبوه المسكين علشان يكسبه، لأنه بيحارب نفسه وكل اللي حواليه وكل الظروف علشان يبين لهم إنه الأحسن وعلشان يلمع ويجذب العيون للمعانه ده، فـ مستحيل يخسر في يوم إلا لما يكون فيه سبب قوي يمنعه ويشتته.


كانت كلمات والده البسيطة تؤثر به بشدة، بطريقة تجبره على احترامه احترامًا على احترامه؛ لأنها تؤكد له أنه هناك شخصًا على وجه الأرض يفهمه بحق، يفهم دوافعه وأسبابه دون أن يتفوه بشيء؛ لهذا قرر أن يبوح له بما يفكر به، فقال:


- فيه بنت بتشتغل عندي في الدار..


قاطعه والده مبتسمًا بمكر:


- قولت لي بقا، أنا بردو قولت الحوار ده لازم يبقا فيه بنت.


تذمر عمر قائلًا:


- يا بابا مش زي ما حضرتك فاهم.


أسند والده رأسه إلى ذراعه واستمع إليه باهتمام بينما قال عمر:


- المهم، البنت دي على طول وحيدة ومبتحتكش بأي حد من الشغل، ودائمًا باين عليها إنها بتتوتر لما بتبقا بين الناس، فـ بصراحة الحوار ده خلاني عايز أتكلم معاها وكنت فضولي جدًا تجاهها، فـ بدأت أتكلم معاها وأفتح معاها حوارات ومواضيع، لقيتها مثقفة وعاقلة وناضجة مش طايشة زي البنات التانية، كمان حسيتها وحيدة زيي، وأنا أساسًا مقتنع إن الطريقة الوحيدة علشان تونس بيها شخصين وحيدين هي إنهم يتونسوا ببعض، وده اللي حصل فعلًا، أنا فعلًا في الشهر اللي فات ده حسيتها ونسي وحسيت إنها بتتونس بيا بردو لأنها مكانتش بتتكلم مع حد غيري يعتبر، بس من يومين كنا بنتكلم عادي وفتحت حوار علاقتنا، فـ قولت لها إن إحنا صحاب وهي قعدت تقولي مبصاحبش شباب وانتهى الحوار إننا هنعامل بعض كمدير وموظفة عنده بس.


صمت والده لبعض من الوقت، ثم تنهد واعتدل في جلسته وقال:


- على فكرة أنت الغلطان.


بدا عمر غير مقتنعًا برأيه تمامًا ولكنه صمت احترامًا لوالده، بينما أوضح والده وجهة نظره قائلًا:


- أنت في بداية علاقتك بيها، المفروض دي مرحلة مبكرة جدًا إنك تحط مسمى للعلاقة، سيب التيار ياخدك شوية يا عمر، سيب العلاقة توديك وتجيبك شوية وبطل تحسب كل خطوة بتمشيها، مش أنت بتقول إنك حاسس إنها ونسك وهي حاسة كدا بردو؟ طيب سيب العلاقة دي تاخدك زي ما هي عايزة، ثق في العلاقة وخاطر شوية، بطل شغل الحسابات اللي بتعملها دي، أنا شايف علاقتكوا كويسة جدًا، بس أنت بتدمرها رغم إنها عايدة عليك وعليها بالنفع، وعامة نصيحة حطها حلقة في ودنك، البنات بتحب النوع ده من العلاقات لأنه بيشيل حته المسؤولية دي من عليهم، لأنك لما بتحط مسمى للعلاقة بيعتبروها علاقة رسمية خلاص هما مسؤولين عن نجاحها أو فشلها، علشان كدا بيخافوا ويرفضوا في أول الأمر.


أومأ عمر وقد وصلته وجهة نظر والده التي بدت صحيحة، وبالنهاية هو لديه خبرات بالحياة أكثر منه ومن الواجب الاستماع لنصيحته، ربما عليه أن يحرر نفسه قليلًا مثلما يقول والده، نهض والده وقال ليجذب انتباهه:


- هروح أنا أفرد شوية، وأنت فكر كويس في كل اللي قولته.


أومأ عمر وراقب والده بينما يدلف لغرفته في خطوات بطيئة متأنية وهو يعلم أنه سيغرق بدوامة من التفكير ما إن يغلق والده الباب خلفه، ولم يغفل عن نظرات والدته التي تريد أن تعرف عن ماذا كانا يتحدثان.


❈-❈-❈

دلفت ليليان للمبنى الذي تسكن به، لتجد هاجر تصعد السلم، ابتسمت لها وحيتها وفعلت هاجر المثل ولكن بنبرة مرحة كما هي عادتها، تقدمتها ليليان لتفتح باب الشقة وسمحت لها بالدخول، دخلت هاجر وحيت والدة ليليان وتوجهت نحو المطبخ عندما سمعت صوت ضجيج يأتي منه تاركة ليليان تذهب لتبديل ثيابها.


دلفت هاجر المطبخ لتجد ليلى قد أوقعت طبقًا معدنيًا على الأرض مما سبب صوت الضجيج، تأفأفت ليلى بغيظ ثم نظرت لهاجر التي بدت ملامحها هادئة ومرحة، هذا يعني أن هناك شيئًا فاتها، التقطت الطبق من على الأرض وقالت وهي تنظر لها مضيقة عينيها:


- شكلك طبيعي النهاردة.


رفعت هاجر كتفيها وأخفضتهما قائلة:


- أيوه عادي.


أولتها ليلى ظهرها وهي تغسل الصحون وقالت وهي واثقة من شكوكها:


- غيور بيك صالحك ازاي؟


ابتسمت هاجر بخجل مصطنع وقالت:


- مشكلتك إنك فاهماني يا لولي.


صمتت لبرهة ثم تابعت بابتسامة متسعة:


- جاب لي ورد وكتاب، وجه البيت وقعد يتكلم معايا إنه هيحاول يبطل عصبيته دي علشاني وطلب مني إني أسامحه.


- وسامحتيه يا منيلة؟


نظرت لها هاجر بجدية وأجابت:


- ده فسحني وجاب لي آيس كريم وشوكولاتة، مش عايزاني أسامحه؟


أجابت ليلى بامتعاض:


- لا العفو، ده دخلك من ثغراتك.


سألت هاجر بحيرة:


- مالك يا ليلى مش طايقة كلامي ليه؟


تركت ليلى الصحون واستدارت مبتسمة باقتضاب وقالت:


- معلش، أصلي متعصبة من جنس آدم كله، فـ مش عارفه أشاركك.


- ليه مين ضايقك؟


تنهدت ليلى وأجابت باقتضاب:


- سليم كلمني، ولبخنا في الكلام مع بعض وبس.


أومأت هاجر وقررت ألا تتعمق في هذا الأمر حاليًا، على الأقل حتى تهدأ قليلًا، نظرت لها ليلى مضيقة عينيها وقالت بتفكير:


- عارفه يا هاجر؟ شكلي هبقا فيمنست وأمشي أثير الجدل بين الناس بسبب المجتمع المعفن اللي مسيطر عليه هيمنة الرجال.


ضحكت هاجر باستنكار ولم تدرِ ماذا تقول، بينما حدقت بها ليلى بحدة وقالت بهدوء:


- اضحكي اضحكي، بعدها هتعرفي إني معايا حق وإن الرجالة دي عايزة الحرق.


توقفت هاجر عن الضحك ونظرت لليلى متنهدة وقالت:


- فعلًا يمكن معاكِ حق.


زمت ليلى شفتيها بعدم رضى وقالت بتهكم:


- مش كان حبه جنة أنا عيشت فيها من شوية؟


تنهدت هاجر مجددًا واستند بظهرها إلى الأدراج الخشبية التي يصل طولها لخصرها وأجابت بنبرة مرتابة:


- أيوه هو كويس وكل حاجه، محترم ومؤدب وبيهتم بدراسته وبيشتغل علشان يصرف على نفسه رغم إن باباه يقدر يصرف عليه بس هو رافض، شخصيته حلوة يعني بعيدًا عن عصبيته، وأنا معجبة بيه بصراحة وشايفاه مناسب ليا رغم عيوبه اللي متقبلاها وببقا مبسوطة وأنا معاه وبحسه بيعمل كل اللي يقدر عليه علشان يبسطني، بس في نفس الوقت حساه بارد، مش بيعمل الحاجه بحب أو مثلًا علشان يسعدني بحسه بيعمل كدا علشان ده الواجب، كأنه مسير مش مخير، رغم إنه هو اللي اختارني محدش جبره على ده.


نظرت لها ليلى بغيظ وقالت:


- وأنتِ بعد كل ده مش متأكدة من مشاعره؟ يخرب بيت الظلم.


كانت ليلى تشعر بنفس الشيء أيضًا، ولكنها لم ترد أن تخبر هاجر بهذا، حتى لا تتأكد ظنونها وتسارع بانهاء الخطبة، فالشاب جيد ولم يفعل شيئًا سيئًا حتى الآن، وهي لا تريد أن تظلمه، فبالنهاية الحب ليس كل شيء، وهناك زيجات عديدة كانت بدون حب ونجحت بالنهاية، يكفي أن كلا الطرفين راضٍ عما يفعله، وسعيد بتواجده مع الطرف الآخر.


تنهدت ليلى وقالت:


- أنتِ لسه في بداية العلاقة يا هاجر ويُفضل إنك متحطيش أحكام من دلوقت، علشان أنتِ مش عارفه زين لسه، ما يمكن بيموت فيكِ بس هو مبيعرفش يعبر بس فـ يبان بارد؟ ده احتمال بردو فكري فيه، وفكري زي ما أنتِ قولتي قبل كدا هو اختارك وهو مش مجبر أو حد فارضك عليه.


كانت ليلى داخليًا تعلم أنها تكذب، ولكنها تعلم أن الشخص أحيانًا عندما يسألك عن رأيك يكون بحاجه للاستماع لشيء معين، ليس رأيك في الواقع، وهذا ما تفعله هاجر الآن، تطلب رأيها وهي في الواقع تريد الاستماع لشيء معين، وقد أعطتها ليلى ما تريد، رغم أنها تشعر أنها تتخذ موقفًا سلبيًا بتلك الطريقة.


- الكلام على ايه يا شباب؟


قالت ليليان مقاطعه إياهما، ابتسمت ليلى وهاجر وبدأا في ضمها لحديثهما، فهي في تلك المواقف تتمتع برأي صائب معظم الأوقات.


يُتبع..