-->

الفصل التاسع عشر - مرآة مزدوجة






الفصل التاسع عشر



طوى سليم سجادة الصلاة بعد أن انتهى من صلاته وجلس فوق فراشه يفكر، كان قد قرر مسبقًا أنه سيتوقف عن جميع عاداته السيئة، وأهمها العناد، كان الأمر أكثر سهولة عندما اعترف أنه يعاني من مشكلة مع عناده الذي يجعله يقوم بالكثير من الأشياء التي لا يرغب بها في الواقع، ولكن الاعتراف والرغبة في التغير بحاجه للإرادة ليتغير بالفعل، وهو رغم كونه يتحلى بإرادة تجعله يفعل أي شيء يريده، ولكنه بحاجه للتقرب إلى الله حتى يساعده على هذا الشيء ويعطيه الإرادة الكافية للتغلب على عناده، كان سعيدًا كونه اهتدى لتلك الطريقة بعد سنوات من التفكير لبعض الوقت والإهمال في معظم الأوقات.


فتح والده الباب ودلف على حين غرة ليجفل سليم، لاحظ والده السجادة فقال مقطبًا جبينه بتعجب:


- أنت كنت بتصلي؟


أومأ وعدل من نظارته، اختفت نظرة والده المتعجب وابتسم باتساع قائلًا:


- طب تعالى كل معايا، مش عارف أنام.


- حاضر


همس سليم ولحق بوالده نحو المطبخ، ليجده ينظر بحيرة للآواني الموضوعة على الموقد، فابتسم سليم وقال:


- قولي بقا، يعني جايبني علشان اسخن الأكل، وأنا اللي قولت رضي عني خلاص.


صفعة والده على مؤخرة عنقه وقال:


- سخن الأكل يلا وبلاش لماضة.


بدأ سليم باشعال الموقد بينما تركه والده وخرج للجلوس بغرفة المعيشة، عندما انتهى سليم وضع الأطباق على طاولة ليأتي والده ويجلس بجانبه، شرعا في تناول الطعام بصمت، حتى قطع والده الصمت قائلًا:


- توبت وبقيت بتصلي أخيرًا؟


أومأ سليم وهو يمضغ الطعام، فعاد والده يقول:


- بطلت رمرمة يعني؟


ابتلع سليم طعامه بصعوبة ونظر له بذهول، فضحك والده وقال:


- فاكرني مش عارف حاجه ولا تعرف تحور عليا زي علي وأمك؟ ده أنا الأصل.


ضحك سليم وقال:


- وأنا اللي كنت فاكرك على نياتك.


نظر له والده بمكر وقال بتفاخر:


- ده أنا كنت رمرام أكتر منك، أنت بردو خايب شوية.


ضحك سليم ونظر له باستنكار، بينما قال والده:


- أنا تقريبًا ربنا ابتلاني بيك من كتر اللي كنت بعمله في بابا زمان.


- وعلي يقعد يقولي جيبت السفالة دي منين، أتاريني ورثت دكتور شريف.


ضحك والده وقال:


- طب ربنا يرزقك بقا بواحدة تربيك زي ما أمك عملت فيا.


نظر له سليم مستفسرًا فأجاب والده عن تساؤله:


- أنت عارف إن أنا وهي كنا جيران، ف كانت تقعد تسمعني وأنا بكلم دي وبعاكس دي وتتعصب وتتنرفز مني لغاية ما في مرة قالت لي تصدق أنت حلال فيك تتجوزني علشان تتربى، واتربيت فعلًا.


ضحك سليم مجددًا حتى احمر وجهه، بينما عاد والده لنبرته الجادة وقال:


- بس أنت عملت الصح دلوقت، أنا وأنا في عمرك مكنتش مدرك لده وأدركته متأخر أوي، وأنا فخور بيك إنك عملت كدا من نفسك، ولا فيه حد كدا كان السبب؟


سأله بمكر، فابتسم سليم وأجاب:


- لا مفيش للأسف.


ابتسم والده ثم عاد لطعامه ليفعل سليم بالمثل.


❈-❈-❈



قاد عمر سيارته بعقل شارد، لم تغادر كلمات والده باله، ربما هو محق، ربما ليليان هلعت من فكرة كونهما أصدقاء بطريقة تنافي أفكار المجتمع، ربما هي لم تكن منتبهة لكونهما أصدقاء؛ لهذا كانت تتصرف بحرية، وهو أتى ليلفت انتباهها كونهما أصدقاء مما جعلها تهلع، ربما لأنها لم تكن تفكر بالأمر وهو من جعلها تفكر بالأمر، مثل طالب يستمتع بوقته ويهمل دراسته ثم يأتي والده ليذكرها بهذا فيشعر بتأنيب الضمير ويستمر هذا الشعور بالتعاظم بداخله ويعجز عن تجاوزه.


يعترف عمر أنه كان يتصرف معها بجمود أكثر من اللازم، كان حكمًا قاسيًا عليها، وقد بدا هذا واضحًا عليها، فقد كانت حزينة معظم الوقت وقد أمسك بها عدة مرات تنظر له بيأس وقد وضح أنها لا تفهم سبب معاملته الجامدة تلك، شرد عمر في الطريق بينما قادته أفكاره نحو شيء ما، ربما هو على وشك البدء في كتابة رواية جديدة؛ لهذا أمسك بهاتفه وفتح تطبيق الملاحظات الذي يدون به الأفكار الرئيسية لكل ما يكتبه ودون به: « لماذا يصادق الرجال النساء؟ » ثم ترك الهاتف وركز على طريقه.


قرر عمر وهو يغلق محرك السيارة أنه سيتحدث معها ويعتذر لها عما جعلها تشعر به في ذلك الأسبوع، صعد للطابق الثاني سريعًا ليلتقي بمحمد يقف أمام مكتبه ويتحدث مع أحد الموظفين، بحث بعينيه عنها ولكنه وجد مكتبها فارغًا، فتوجه نحو محمد وأماء للموظف الذي كان يقف معه والذي انصرف لاستكمال عمله، وقف عمر بجانب محمد ينظر للمكاتب وقال:


- حاسس إن فيه حد ناقص.


لم يرد أن يقول اسم ليليان حتى لا يبدو أنه يهتم بها بطريقة شخصية ويلاحظ غيابها أو عدمه حتى لا يسمعه أحدهم وتبدأ الثرثرات الفارغة.


أومأ محمد وقال:


- أيوه الآنسة ليليان اتصلت من شوية وقالت إنها مش هتعرف تيجي علشان تعبانة.


قطب عمر جبينه بقليل من القلق وقال مستفسرًا:


- متعرفش مالها؟


- تقريبًا عندها برد.


ابتسم عمر ابتسامة جانبية وقال بتهكم:


- برد في شهر سبعة؟ ملقيتش حجة أعبط من كدا؟


هز محم رأسه بالنفي وأجاب:


- لا صوتها كان وحش وكان عليها إنها تعبانة جامد.


أومأ عمر وبداخله تعجب، كيف لأحدهم أن يصاب بالزكام في الصيف؟ لقد بدا هذا غير واقعي بالمرة، ولكنه سيتأكد بنفسه من الأمر، سيذهب لزيارتها بعد العمل، بالنهاية عيادة المريض واجب، وسيعلم حينها إذا كانت تختلق مرضها أم لا، وإن كانت كاذبة فلتودع هذا العمل، حتى وإن كانت فتاة جيدة إلا أنه لن يتهاون مع أي شخص يهمل عمله.


أشار عمر لمحمد أن يذهب لمكتبه وفعل هو المثل ليباشر عمله.


❈-❈-❈


كانت ليلى تفكر بحيرة في أمر هاجر، لقد كانت تساورها الشكوك نحو شعور زين تجاهها، ويبدو أن شكوكها كانت صحيحة، فحتى هاجر قد لاحظت هذا، ولكنها اختبرته سابقًا وقد نجح، لقد كان يبدو عليه التلهف والسعادة كلما كان يلتقي بها، وهاجر بدورها معجبة به، مما جعلها تشعر بالحيرة، هل تتدخل أم لا؟ حسنًا، بعد قليلًا من التفكير وجدت أن عليها التدخل، من أجل صديقتها فقط، ستحاول أن توصل لزين شعور هاجر تجاه معاملته لها وتوجسها المستمر، ولم يكن هناك سبيل لهذا إلا عن طريق شخص واحد فقط، سليم، ملئت ليلى رئتيها بالهواء لتتأهب لما هي على وشك فعله، عليها أن تكون جامدة معه رغم ما تشعر به مؤخرًا والذي لا تستطيع ترجمته ولكنه شعور مزعج يحدث كلما فكرت به أو استمعت لصوته في التسجيلات أو حتى تحدثت معه، وهذا بدأ يصبح كثيرًا في الآونة الأخيرة بعدما انقطعت عنه لقرب الشهر، زفرت الهواء ببطء وهي تلغي الحظر على رقم سليم وهاتفته.


في تلك الأثناء كان سليم يجلس مع والده يتحدثان في أمور شتى، حتى أصدر هاتفه صوتًا معلنًا استقبالها لمكالمة من شخص غير متوقع بالمرة، ابتسم سليم باتساع ما إن رأى اسم ليلى يضيئ بالشاشة وأجاب بعد أن سمع والده يقول بسخرية:


- قال لا مفيش للأسف قال.


حمحمت ليلى بحرج لا تعلم لماذا انتابها وبدأت حديثها قائلة:


- ازيك يا سليم؟


قطب سليم جبينه بتعجب، أليست تلك من أرادت أن تقطع جميع سبل الاتصال بينهما؟ مؤكد هناك أمرًا ما تريده منه، فأجاب بهدوء:


- الحمدلله تمام، خير فيه حاجه؟


تعجبت ليلى من سؤاله المباشر، هو لم يسأل عن حالها حتى!، تنهدت وأجابت بخفوت:


- كنت عايزة أتكلم معاك عن زين وهاجر.


شعر سليم بقليل من الخيبة، فقد ظن أنها ربما ستفتح معه صفحة جديدة ولكن تبين أن الأمر يخص زين وهاجر فقط، مسح بيده على وجهه وقال:


- هببوا ايه تاني مع بعض؟


بدا على نبرة صوته السأم، هل هو يشعر بالملل من حديثها معه؟ لهذا لم يفكر في محاولة التحدث معها مجددًا؟ لا تعلم، ولكنها اضطرت أن تبعد تلك الأفكار بعيدًا وتجيب:


- لا هما المفروض اتصالحوا دلوقت، بس هاجر يعني حاسة إنه.. مش عارفه أقولها ازاي.. بارد يعني وكدا وطريقة تعامله مختلفة عن الأول وكدا، فـ أنا كلمتك علشان تكلمه وتفهم منه ليه اتغير معاها وكدا، علشان أنا حاسه إنهم لو استمروا على النهج ده مش هيكملوا.


كُشف أمرك يا زين، هذا ما فكر به سليم عندما استمع لحديثها، يبدو أن الجميع يلاحظ تردده وبعده الغريب والذي يبدو للوهلة الأولى كبرود، كان سليم يشعر أن النهاية تقترب ولكنه أراد أن يبطأها قليلًا حتى يتحدث مع زين، فربما تلك مجرد توجسات من هاجر، هذا ما تمناه حقًا! قال سليم بسخرية بعد برهة من الصمت:


- يا ستي تلاقي هرمونات المرتبطين نقحت على هاجر مش أكتر يعني، أكيد الموضوع بسيط وأنا كدا كدا كنت رايح أقعد مع زين شوية وهبقا أكلمه وأقولك على كل حاجه.


شعرت ليلى بأنه ينهي الحديث سريعًا وكأنه لا يريد أن يتحدث لها مما جعلها تشعر بالحزن، لماذا يتصرف بتلك الطريقة؟ لقد أشعرها أنها تتحدث عن أمور تافهة وتعتبرها مشكلة مما جعل شعورها بالحزن يتعاظم بداخلها، قررت أن تمنحه ما يريد وأن تنهي المكالمة فقالت بخفوت:


- طيب، أنا هقفل دلوقت، سلام.


- سلام


أنهى سليم المكالمة بتعجب من النبرة الغريبة التي حادثته بها، لم تكن نبرة باردة كما هو المعتاد، كان هناك شيء آخر هو لا يعلمه، ربما والدتها أتت لهذا أرادت أن تنهي المكالمة فكانت نبرتها مختلفة؟ ربما.


رفع سليم كتفيه وأخفضهما بحيرة بينما راقبه والده وقد استمع للمكالمة، فقال:


- مالك اتكتمت كدا ليه؟


خلع سليم نظارته وفرك عينيه وهو يفكر ماذا عليه أن يفعل، وأجاب:


- مفيش، بس شكل فيه أكشن هيحصل قريب.


❈-❈-❈



سعلت ليليان للمرة التي لا تعرف عددها حتى شعرت بألم في صدرها، تكره جسدها الضعيف الذي يجعلها تمرض من أقل شيء، فها هي تكسر قاعدة أساسية وتمرض في فصل الصيف، ولكن رغم كرهها لمرضها الذي جعلها تلازم فراشها إلا أنها كانت سعيدة أنها لن تقابل عمر لبضعة أيام، فقد جعل العمل صعبًا عليها بالآونة الأخيرة.


فهي ما زالت تتذكر آخر مواجهة بينهم والتي استمر فيها بالتصرف بجمود قارب للقسوة، لم تفهم لماذا كان يتعمد أن يبرهن لها أنه يهينها بطريقته تلك؟ تمنت لو كانت تمتلك الشجاعة الكافية لتواجهه وتسأله عن السبب وحتى عندما امتلكت الشجاعة وواجهته أجابها إجابة جامدة لدرجة جعلتها تشعر أن البرودة تتسلل لقلبها:


- أنا بعاملك يا آنسة زي ما بعامل بقية الموظفين، كون الطريقة دي مش عاجباكِ ده شيء يرجع لك أنتِ.


تنهدت ليليان وهي تعيد تلك الجملة في رأسها مما سبب لها الدوار في حالتها تلك، ولحسن حظها دلفت ليلى في تلك اللحظة لتقطع أفكارها التي كانت ستسبب لها المزيد من الدوار، كانت ليلى تحمل صينية بها صحن مجوف به حساء ساخن، اعتدلت ليليان في جلستها لتأخذ منها الصينية وتضعها على ساقيها، بينما قالت ليلى وهي تفتح إحدى الأدراج بجانب الفراش وتخرج بعض الأدوية:


- لما تخلصي خدي الدوا، أنا هروح أعمل المواعين.


ابتسمت ليليان وقالت ممازحة:


- It's not easy being housewife.


ابتسمت ليلى بتهكم وقالت:


- أيوه ياختي معاكِ حق.


بعد أن انتهت ليليان من تناول الحساء، أتت ليلى لتأخذ الصحن الفارغ وفي تلك اللحظة استمعا لصوت الجرس يدق، فقالت ليلى:


- هروح أنا أفتح.


أومأت ليليان بينما التقطت ليلى الجلباب الذي تستخدمه للصلاة وارتدته، وذهبت لتفتح الباب، لتجد نفسها في مواجهة عمر، مهلًا! عمر؟ نظرت له ليلى ببلاهة وهي لا تدري حقًا كيف أتى إلى هنا ولماذا فعل بالأصل، شعر عمر بحيرتها، فحمحم وقال:


- أنا عرفت إن الآنسة ليليان تعبانة، فـ حبيت آجي أطمن عليها، زي ما بيقولوا عيادة المريض صدقة. »؟


ابتلعت ليلى لعابها بتوتر وهي لا تفهم لماذا نبرته الهادئة تخيفها، ولكنها أفسحت له الطريق للدخول.


- مين يا ليلى على الباب؟


كان هذا صوت والدتها التي أتت بعد أن وضعت الوشاح على رأسها ظنًا منها أنه أحد المحصلين الذي أتى ليعطيهم الفاتورة، ولكنها وجدت أمامها شاب حسن الهيئة يحمل في يده علبة مستطيلة الشكل لونها أسود، ابتسم لها عمر وقال بخفوت:


- ازي حضرتك يا طنط؟


بدت والدتها مندهشة قليلًا منه كونها لا تعلم من يكون، فتولت ليلى الحديث وقالت:


- ده يا ماما أستاذ عمر مدير ليليان في الشغل، جه يزورها لما عرف إنها تعبانة.


أومأت والدتها وابتسمت وقالت:


- مكنش ليه لزوم يا ابني والله.


اتسعت ابتسامة عمر وقال بلباقة:


- ولو ده واجبي، خصوصًا إن آنسة ليليان موظفة شاطرة جدًا ومنقدرش نتخلى عنها في الشغل.


- طب اتفضل يا ابني واقف ليه؟


حمحم عمر بحرج، فهو لم يوضع بموقف كهذا وقد شعر بمدى سذاجة ما يفعله، وأعطى العلبة لليلى التي أخذتها منه مبتسمة وأشارت له نحو غرفة ليليان، تأمل عمر الشقة التي شابهت شقته في الدفء والروح اللطيفة السائدة في الأجواء، شعر بالتوتر غير المبرر، ولعن نفسه كونه استمع لنصيحة والده، فقد كان قد تخلى عن فكرة زيارتها عندما عاد لمنزله ولكنه رأى أن يأخذ رأي والده أولًا والذي شجعه على زيارتها، بينما والدته شجعته بحماس بدورها وكادت أن تطلق الزغاريد، مما جعله يشعر منذ دلوفه المنزل أنه أتى ليعرض عليها الزواج ليس لزيارتها لمرضها.


دلف عمر الغرفة ليجدها غرفة بسيطة تتشاركها مع شقيقتها ربما، رآها مستلقية فوق الفراش مغمضة العينين بينما تتنفس بصعوبة، أنفها محمر وشعرها مشعث، حمحمت ليلى لتفتح ليليان عينيها ونظرت لها، لتلمح طيف عمر يقف بجانبها، انتفضت ليليان ونظرت له بصدمة، بينما اتسعت ابتسامة عمر.


وضعت ليلى العلبة وأحضرت كرسي لعمر وضعت بجانب الفراش، أشارت له ليلى نحو الكرسي وقالت:


- أتفضل


جلس عمر أمام ليليان وهو يراقبها تحاول ترتيب شعرها باستمتاع، قالت ليلى بمزاح لتجذب انتباه ليليان التي تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها:


- يا بختك يا عم بيجي لك علب شوكولاتة سوداء مستطيلة. 


شاركها عمر المزاح دون أن يفهم سبب هذا، ولكنه شعر أنها مثل شقيقه له منذ الوهلة الأولى، وتابع:


- لا وكمان بالقهوة زي ما بتحب، مين قدها بقا؟


قطبت ليلى جبينها بتعجب وقالت:


- بس ليليان مبتحبش القهـ..


ولكنها بترت عبارتها عندنا وجدت ليليان تنظر لها بتحذير وضحكت لتجعل عمر يغفل عما قالته وضحكت ليليان بدورها، فنظر لهما عمر باستغراب وضحك.


- هستأذنك بقا أروح أشوف ماما.


قالت ليلى وهي تهرب من هذا الموقف برمته، اعتدل عمر ونظر نحوها ووضع ساقًا فوق الأخرى وقال ساخرًا:


- مكنتش أعرف إن فيه ناس بيجي لها برد في الصيف.


قالت ليليان متهكمة وهي تمسح أنفها بمنديل ورقي:


- مناعة معاقة بقا هنقول ايه؟


ابتسم عمر بينما لاحظ الكتاب الذي أعطاه لها بجانبها على الفراش، فأخذته ليليان وقالت:


- أه صحيح، افتكرت، أنا خلصت الكتاب تقدر تاخده.


مدت يدها بالكتاب له، فدفع عمر الكتاب نحوها مجددًا وقال مبتسمًا:


- لا خليه معاكِ، اعتبريه هدية اعتذار.


قطبت ليليان جبينها بتعجب ورددت:


- اعتذار؟


أومأ وأجاب وقد اختفى المزاح من نبرته وحل محلها الهدوء الاعتيادي:


- أه، علشان أنا عاملتك بطريقة مش لطيفة الفترة اللي فاتت، وكنت غلس جدًا بصراحة، بس أنا بطبيعتي رخم فـ مش عارف أقولك ايه.


رفع كتفيه وأخفضهما وضحك ضحكة قصيرة خافتة، مما جعل ليليان تبتسم بتعجب من صراحته المفرطة وقالت:


- مفيش مشكلة، رغم إني كنت زعلانة من طريقة حضرتك اللي حسستني إنك متعمد تضايقني مش مجرد طريقة تعامل.


أومأ عمر موافقًا وقال بصدق:


- أنا آسف، يا ريت نرجع زي الأول لحسان أنا لقيت حته كتاب لقطة عايز أتكلم عليه معاكِ.


بدأ جملته بهدوء ثم بدأت تتحول نبرته للمرح مما جعل ليليان تضحك وتقول:


- مش ممكن، حضرتك نبرة صوتك بتتغير كل ثانية إلا ثانية.


نظر لها عمر بعمق متأملًا هيئتها المريضة التي أعطت وجهها مظهرًا صاخبًا وقال بأكثر نبرة هادئة مقاربة للخفوت:


- يمكن علشان أنا صادق حاليًا وأنا بتكلم معاكِ؟


صمتت ليليان وقد شعرت وكأنه يختصها بإحدى عبارات الغزل فشعرت بالإحراج وتحلت بالصمت، مرت فترة من الصمت قطعه عمر قائلًا:


- خلاص صافي يا لبن؟


هزت ليليان رأسها بالنفي وقالت:


- لا على شرط.


نظر لها عمر مستفتسرًا، فقالت:


- تقولي ليه بتحط أفكار غريبة في رواياتك؟


ابتسم عمر ونظر لها لوهلة في صمت، ثم أجاب بنظرة ماكرة:


- هتنوليها خلاص يا آنسة، هقولك، ببساطة علشان تتشهر.


رفعت ليليان حاجبها الأيسر بتعجب، فقال عمر موضحًا:


- الرواية اللي فيها أفكار غريبة رغم إنها هتعترض للانتقاد، بس على ناحية تانية الناس هتشوفها مميزة وإن الكاتب اللي كتبها ده شخص جريئ فـ يحسوا اللي هو أنا لازم أجيب الرواية دي علشان أفهم دماغ الكاتب، وعلشان الفضول هيشدهم بطبيعة إن البشر بتنجذب الحاجات المميزة زي دي.


قالت ليليان بمكر:


- آه، أستاذ عمر سعيد الخبير في فن البيع والشراء.


ابتسم عمر ولم يجب، تأملته ليليان للحظة وقالت بخفوت:


- هو ليه كل شيء عندك لازم يكون مميز جدًا ولازم يعجب الناس علشان ترضى بيه؟


نهض عمر مبتسمًا ولم يجب، أغلق سحابة سترتة القطنية السوداء كما المعتاد، انحنى ليكون أقرب لها وقال:


- لسه بدري على الإجابة.


غمز لها بمكر، ثم اعتدل في وقفته وقال:


- يا ريت تخفي بسرعة بقا، مبحبش الدلع في الشغل.


رفعت ليليان كتفيها وأخفضتهما وقالت:


- أعمل ايه طيب في مناعتي؟


رفع عمر كتفيه وأخفضهما بدوره بمعنى « لا أعلم » واتجه نحو الباب وقبل أن يخرج أعطاها إحدى ابتساماته الصادقة ورحل.


❈-❈-❈


دلفت داليا غرفة زين بعد أن أذن لها بالدخول، وضعت الصينية على مكتب زين ورحلت، نهض زين بعد أن أغلقت داليا الباب خلفها وحمل الصينية التي وُضع عليها كوبين من الشاي وصحن بسكويت، وضع الصينية على فراشه حيث جلس سليم وأخذ قطعة بسكويت قائلًا:


- البسكوت ده الحسنة الوحيدة اللي بتعملها داليا.


ابتسم سليم وأخذ قطعة ليتذوقه، همهم بإعجاب وقال:


- طعمه حلو فعلًا.


ثم عاد يسأل:


- أومال آدم وبلال مختفيين الفترة دي ليه ؟


أجاب زين والطعام في فمه:


- كل واحد عنده حوارات كدا شاغلاه.


أومأ سليم واعتدل في جلسته وقد قرر أن يتحدث مع زين مباشرة، فقال:


- وحصل بقا حاجه جديدة في الفترة اللي فاتت؟


ارتشف زين من الشاي وأجاب:


- اتصالحنا وبنتكلم كل يوم يعتبر، يعني كل حاجه رجعت لمكانها الصح.


ابتسم سليم براحة وقال:


- يعني أخيرًا إتأكدت من مشاعرك؟


- لسه


همس زين وهو يمضغ البسكويت، فاختفت الابتسامة من على وجه سليم وقال بذهول:


- ايه؟


حمحم زين بعد أن ابتلع البسكويت وكرر إجابته:


« لسه متأكدتش من مشاعري ناحيتها، بس شايف طالما الدنيا كويسة بينا يبقا مش مهم.»


- أنت بتهزر صح!


صاح سليم ونهض ليسير بالغرفة ذهابًا وإيابًا، كانت ليلى وهاجر محقتان، كان محق بدوره، الجميع كان يعلم أنه لا يحبها حتى هو شخصيًا ولكنهم فضلوا الصمت لكي لا يعطلوا سير المراكب كما يُقال، شد سليم شعره وبعثره ثم نظر لزين بحدة وقال:


- أنت يا ابني ايه؟ مش قولت لك فكر قبل ما تكمل؟ أنت كدا بتعشمها وبتإذيها لمجرد إنك شايف إنه عادي، ليه التردد طيب طالما شايف إنه عادي؟ ترددك ده هو اللي بيدمر العلاقة حتى لو كان مصيرها تنجح من غير حب؛ لأن مفيش علاقة مترددة بتنجح!


صمت زين ولم يعلق، كان شعر بالذنب، كان يشعر أنه عليه أن يفكر جديًا في الأمر ولكنه مشتت! قطع سليم أفكاره قائلًا بخفوت:


- هاجر ملاحظة ترددك ده على فكرة، يا ريت تفكر بجدية بقا في الموضوع.


ثم التقط هاتفه ووضعه بجيبه وتابع:


- أنا ماشي.


تركه سليم بعد أن وقع عليه ما قاله وقع الصاعقة ورحل، بينما كان يهبط درجات السلم أخرج هاتفه وقرر الإتصال بليلى، سيلتقي بها ويخبرها بكل شيء وليقررا ما يجب فعله معًا. 



يتبع