رواية ذنبي عشقك بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل الأول
رواية ذنبي عشقك
بقلم الكاتبة ميرا كريم
الفصل الأول
رواية
ذنبي عشقك
غيمة من الدخان تخيم فوق ضجيج رأسه ورائحة تبغ محترق تشعره بالاختناق، فكانت اعصابه تالفة عكس من يجاوره بكل برود وكأن ما يفعله الأن هو أكثر الأمور اعتيادية بالنسبة له.
فكان يأمل أن يمر الأمر بسلام ولكن تأهبت كافة حواسه حين لمح عَربة الشرطة عن بُعد وقبل أن ينطق بحرف قال الآخر بنبرة محذرة:
-أثبت...وإياك تتوتر قدامهم ومهما حصل متنزلش من العربية
نفى برأسه وتمتم بحروف متقطعة:
-لف...وارجع
زمجر الآخر و لعن تحت انفاسه وقال بعد أن ألقى سيجارته الزاخرة من النافذة:
-مش هينفع كده هنلفت النظر أكتر وهنشككهم فينا
بينما على الجانب الأخر كان يقف يراقب بعيون ثاقبة أثناء تأدية عمله التفقدي الذي يحرص من خلاله الحفاظ على أمن وحماية الطريق...
فكان على بعد خطوات منه تلك الحواجز الحديدية المتحركة التي يمر من خلالها السيارات متباطئون كي يتفقد أوراقهم هو واثنان من زملائه وعدة أمناء وعساكر يقفوا يتوجسون خِيفة منه...فحين يتعلق الأمر بالعمل لا يتهاون بتاتًا.
نظرة واحدة نحو سيارتهم جعلته يلاحظ ارتباكهم...وحين اقترب مال على النافذة وداعب طرف أنفه يتأكد من حدثه ثم أمرهم برسمية:
-اقف و وريني ورقك
توجس السائق و زاغت نظراته وبقى ساكنًا، ليأمره الضابط بصوت صارم لا يقبل الحياد وهو يركز نظراته الضيقة على من يجاوره:
-طب انزل أنت وهو من العربية علشان هتتفتش وهات بطايقكم
اعترض السائق:
-مش من حقك يا باشا تفتش العربية لازم إذن نيابة
أجابه الضابط بكل ثقة:
-لأ من حقي يا روح أمك في حالة التلبس ينفع وريحتك فضحتك ومش أنت اللي هتعرفني شغلي يلاا
قالها وهو يحاول فتح باب السيارة كي يخرجه قسـ.رًا منها لكن الآخر دفع الباب بقوة جعلت الضابط يتراجع خطوتين وفي لمح البصر كان ينطلق بالسيارة ويخرح سـ.لاحه من نافذته يمطرهم برصاصته الغـ.ادرة التي أصابت اثنين من العساكر و أوقعت أحد الأمناء قـ.تيل غارق بـدمـ.ـائه أمام عينه فقد ركض بكل سرعته لعربة الشرطة القريبة وقام بمطاردته وأثناء تمايل السيارتين تم تبادل النيران التي نتج عنها اصابة الضابط برصاصة اعلى كتفه جعلته يقلل من سرعته شيء فشيء ليستغل الآخر الأمر ويسرع وهو يلعن حظ ذلك المشؤم الغارق بدمائه جانبه، نظرة خاطفة يتفقد بها الطريق ثم بعدها فتح بابه اثناء سير السيارة وقفز منها تاركها تلقى مصيرها هي ومن داخلها باصطدامها بعارضة الطريق أما عنه فقد نهض يركض ومع مرور أول شاحنة كان يقفز داخل صندوقها هاربًا...
وبعد معاينة السيارة اكتشف رجال البحث الجنائي كمية من المخدرات وبعد التحريات والبحث لم يجدوا رجال الشرطة أي شيء يوصلهم للآخر...
❈-❈-❈
بعد ذلك الحدث بعدة شهور وخاصًة داخل ذلك
المنزل العتيق الذي يقبع على أحد شواطئ أحد المدن الساحلية، فمن بعيد نراه شامخ ذات طابقين تتأكل الرطوبه وجهته، بسبب لفحات البحر القريبة،ونرى أيضا أسوار شامخة تحاوطها من الأربع جهات مُحكمة بتلك البوابة الحديدية ويترأسها عدة أفراد أمن مُكلفين بحمايته من الخارج بناءٍ على رغبة قابعيه، فعندما تراه من الوهلة الأولى تشعر أنه حصن مشيد ضد الأعداء ليس مجرد منزل عاديِ.
وها هو مالكه يطرق على باب أحد الغرف قائلًا:
-"ليلي" اصحي
فتحت باب غرفتها تبتسم بسمة ودودة قائلة وهي توجه كرسيها المدلوب:
-صباح الخير يا حبيبي
أجابها بنبرة حانية:
-صباح الفل يلا انا حضرت الفطار
عاتبته "ليلى":
-برضو تعبت نفسك دي "صباح" زمانها جاية وكانت هتحضره هي
أنحنى بجذعه عليها يستند على ذراع مقعدها قائلًا بنبرة حنونة يخصها هي فقط بها:
-أنتِ تعبك راحة يا ست الكل وبعدين صباح بلغتني انها مش هتيجي النهاردة علشان خاطر بنتها وتجهيزات فرحها
تنهدت "ليلى" وربتت على كتفه:
-ربنا يسعدهالها ويتمللها على خير و يفرح قلبك يا حبيبي زي ما فكيت كربتها و وقفت جنبها بعد موت جوزها
أبتسم يؤمن على دعائها:
-آمين يارب
لتسترسل هي متمنية:
-نفسي يا "سليم" تسمع كلامي علشان قلبي يرتاح
وأد بسمته ورد بملل:
-وانا نفسي ترحميني من اسطوانة كل يوم...ياماما ارتاحي ومتشغليش بالك بيا...أهم حاجة صحتك وبس.
أصرت هي:
-وانا مش هرتاح غير لما توافق وتخطب الدكتورة ميسون
عقد حاجبيه الكثيفين وكأنه لا يستسيغ الأمر:
-الدكتورة "ميسون" حرام عليكِ يا امي
تنهدت وعاتبته:
-حرام عليا ليه دي مفيش حاجة تعيبها أنت اللي ميعجبكش العجب
-هوباااااا أنتِ بتعيبي فيا يا "ليلى"؟
هزت رأسها وقالت بِيأس:
-مقصدش بس البنت كويسة وانا حاسة ان في قبول ...انا ست وافهم كويس في الحاجات دي...ادي نفسك فرصة يا ابني
ضاقت عيناه القاتمة وقال متنهدًا:
-أنا حاسس إني بدبس!
-لأ مش بدبسك انا هقولها أنك هتروح تجيب التحاليل منها في المستشفى وأنت بصنعة لطافة تعزمها على الغدا علشان تشكرها على اهتمامها بيا ومش هجيب سيرة حاجة تانية
قهقه هو بخشونة ورد بِخفة نادرة:
-ما كده اسمه تدبيس بشياكة وأنتِ أكيد ميرضيكيش تعملي كده في ابنك
عاتبته بنظراتها كونه يود أن يخيب رجائها، فما كان منه غير أن يبرر قائلًا:
-يا "ليلى" ب الله عليكِ بلاش تبصيلي كده! وبعدين دي شبه العروسة الباربي...ده انا بخاف أسلم عليها أكسرلها صوابعها
نكزته مستاءة من تبريراته الواهية:
-تصدق انا اللي هكسر دماغك الناشفة دي
تنهد بِعمقٍ واخبرها بعقلانية شديدة وبصدق لم يفاجئها وهو يمرر يده على ذقنه الحالكة:
-انا مش بفكر في الجواز دلوقتي وانتِ عارفة أنتِ أهم حاجة عندي في الدنيا ومعنديش استعداد حد يدخل حياتي ويشغلني عنك...
-بس دي سُنه الحياة والبنت مستنية كلمة منك وكفاية مركز أبوها ورتبته...ده لو حصل يبقى يا سعدك يا هَناك
زفر بنفاذ صبر وعاتبها وهو يدفع مقعدها نحو مائدة الطعام:
- أنتِ عارفة انا مش بحب المحسوبية في شغلي ومش محتاج حد يتشفعلي... معلش انا عارف إني تعبتك معايا بسبب نقلي من بلد لبلد بس خلاص اوعدك احنا هنستقر هنا ومش هنسيب بيتنا تاني
ليسترسل وهو يدس بفمها أحد الشطائر التي أعدها:
-ويلا بقى عايزك تمسحي الأطباق علشان أديكي علاجك ونطلع نشرب النسكافيه في التراس زي كل يوم
هزت رأسها غير راضية فهي على يقين تام أنه يتعمد تغير مجرى الحديث ويلهيها كي لا تشعر أنه يتكبد الكثير من اجلها فمنذ وفاة أبيه ومرضها وهو يكرث كافة حياته فقط لها ولعمله ولذلك لن تيأس وستظل تلح عليه ليحقق تلك الأمنية الوحيدة التي تتمناها من كل قلبها:
-مش هاكل ومش هاخد علاج غير لما تريحني وتوافق على اللي قولتلك عليه
انعقد حاجبيه الكثيفين متسائلًا:
-بتساوميني يا ليلى!
لم تجب وادارت وجهها ليتنهد بعمق ويقول مضطر فقط لإرضائها:
-أمري لله
ابتسمت ممتنة له وتناولت من يده الشطيرة تقطم منها...لتحين منه بسمة ماكرة ويضيف بتهديد خفي لم تعطيه اهمية:
-بس خليكِ فاكرة اني قولتلك بلاش وأنتِ اللي اصريتي.
❈-❈-❈
أما هناك في تلك المنطقة الشعبية القديمة وخاصًة داخل تلك البناية التي عفى عليها الزمن نجدها تقف أمام مرآتها بنظرات خاوية تمشط شعرها لحين اندفع باب الغرفة وظهر شقيقها محتدًا:
-هتفضلي كتير على الحال ده؟
ردت عليه وهي تنظر لإنعكاسه بالمرآة:
-سيبني في حالي
رد بحدة وهو يديرها له ويأخذ المشط من يدها يلقيه ارضًا:
-مش هسيبك...كفاية قبل كده سيبتك تنفذي اللي في راسك وتسافري لكن دلوقتي لازم تطاوعيني
اعتلى حاجبيها متسائلة:
-اطاوعك في ايه بالظبط؟
أبتلع رمقه وقال متوجسًا من رد فعلها:
-"سلطان" عايز يشوفك الزيارة الجاية
تقلصت معالمها بنفـ.ور واضح وعاتبته:
-يا اخي اختشي على دمـ.ك مش مكسوف من نفسك
زفر انفاسه بقوة حانقًا و رد:
-بلاش كلامك ده...أنتِ عارفة إن إحنا مش أده
ردت بشجاعة تحفزه:
-لأ أده...أنا وأنت وغيرنا هو اللي عامل ل" سلطان" قيمة و أهمية صدقني
-بس انا عايز اعيش جنب الحيط ومش بتاع مـ.شـاكل وهو زعله وحش
تبريره واهي بالنسبة لها...وكونها تعلم بنواياه هدرت منفعلة:
-كـ.داب أنت بتعمل كل ده لمصلحتك وبس واظن فاهم انا اقصد ايه
-مصلحة إيه يا بت اللي بتتكلمي عنها...
غامت عيناها بدموع القـ.هر و غمغمت متحسرة:
-أنا مش هسيبك تضيعني زي ما ضيعته...!
-قولتلك ألف مرة مليش دخل في اللي حصل أنتِ ليه مش عايزة تصدقي!
-عمري ما هصدق غير لما اعرف الحقيقة...ومن هنا لوقتها مش هطاوعك ولا هستناك تقدمني لسلطان على طبق من دهب
-يعني ايه؟
ردت بشجاعة نابعة من قـ هرها:
-مش هروح ومش هتعرف تغصبني يا صالح
صـ ـرخة مـ تألمة صدرت من جوفها حين رفع يده وصفـ عها وتلاه قوله وكأن قرر بالنيابة عنها يجبرها على الـ خنوع مثله:
-لأ هتروحي يا شمس ورجلك فوق رقبتك انا قولتلك مش عايز وجع دماغ
-حرام عليك ده انا مبـ كرهش في حياتي أده انا كنت متخيلة إني لما بعدت خلصت منه، أنت ليه بتعمل فيا كده...
قبض على خصلاتها يرفع وجهها له ثم برر كي يتستر على أطـ ماعه وانانيته:
-أنا عايز مصلحتك وسلطان بيحبك ومعاه فلوس ملهاش اخر والخير هيعم على الكل لو طاوعتيني...وانا بقولك أهو هتروحي يا شمس وانا مش باخد رأيك فاهمــــــــــــــــــــة...
نفضـ ها عنه وغادر بعد أن نطق أخر جملة بإصرار مقيـ ت مزق قلبها، فهي تكاد تقسم أنه لن يتردد في أن يفرط بها وكيف لا يفعل وهو ترك من قبل ذلك المقيت ينهش بها، دمعة حارقة تدلت من زيتونها وتلك الذكرى البعيدة تترأى من جديد أمامها
flash back
طرقات على باب المنزل جعلته يهرول يفتحه مرحبًا:
-اهلًا يا معلم...
دلك تلك الندبة في آخر حاجبه الأيسر ثم رد وهو يزيحه جانبًا بيده ويخطو للداخل:
-فين أختك منزلتش الشغل ليه؟
ابتلع رمقه واجابه بنبرة مهزوزة:
-اجازة النهاردة يا معلم
هز رأسه وادعى الجهل قائلًا:
-ايوه عليا نسيت لمؤاخذه أصل الايام زي بعضها
ابتسم الآخر مجاملًا بينما هو تماكر واقترب منه يدس قطعة صغيرة مغلفة بيده قائلًا:
-جبتلك صنف إنما إيه لوز هيعجبك...
اتسعت بسمته وهو يتفقد القطعة بيده...بينما هو ربت على كتفه وقال بـ.خبث مقـ.يت يناسبه:
-أقعد لف سيجارة و روق على نفسك
هز رأسه وكاد يفعل لولآ أن رأه يتقدم نحو غرفتها ليقول:
-على فين يا معلم ميصحش
-نعم! هو إيه اللي ميصحش
حاول منعه بنبرة خافتة رهبًة من بطشه:
-أقعد بس يا معلم واناديها ليك
حانت منه بسمة سامة محذرة ارجفت اوصال الآخر وخاصًة حين هدر والشر يتقافز من عينه:
-لأ هدخلها وأنت هتترزع هنا من غير ولا كلمة واظن كلامي مفهوم
زاغت نظراته ونكس رأسه بخنوع، ليعتلي جانب فم الآخر ويدفع باب غرفتها ليتسمر بمكانه حين رآها غافية و ممدة على فراشها، ترتدي قميص قطني ذو حمالات رفيعة يظهر جسدها البض أمام عينه التي أخذت تتفرس بها.
اغلق الباب خلفه بهدوء ثم اقترب يسير بيده على ذراعها وكأنه يتفقد ملمس جلدها هامسًا بجوار اُذنها:
-طرية اوي يا زبادي
كان يهيء لها أنها تحلم لكن حين شعرت بأنفاسه الكارهة ولمساته الوقحة انتفضت صارخة:
-أنت إزاي تدخل عليا أوضة نومي أنت اتجننت!
قالتها مفزوعة وكل خلية بها تنتفض، ولكنه كعادته برر بكل تبجح وتلك البسمة المستفزة تعتلي وجهه:
-ايه المشكلة مش هتبقي كمان كام يوم الجماعة بتاعتي
نظرت حولها وتناولت شالها تستر جسدها بعيدًا عن عيناه الجائعة التي تتفرس بها وهدرت بشراسة وهي تبتعد بخطواتها عنه:
-ده في احلامك يا معلم
حانت منه بسمة ماكرة واختصر المسافة التي صنعتها بعيدًا عنه محذرًا وهو يحتجزها بينه وبين الحائط:
-مش أنا اللي يتقاله لأ...أنا لما بعوز حاجة باخدها
تحدته بنظرات أَبية ترفض الخنوع وهي تدفعه عنها:
-متقدرتش
-اثبتلك!
وقبل أن يهدر بها كان يكبل خصرها بذراعيه القوية ويحاول جاهدًا أن يلتقط شفاهها ولكنها كانت تتـ لوى بين يديه وتصرخ مستنجدة بأسم أخيها الذي ما ان دفعته عنها وهرولت خارج الغرفة وجدته يجلس على أحد مقاعد الطاولة مؤرجح رأسه للخلف باستمتاع، يسحب نفسًا عميق من تلك السيجارة بيده بكل اريحية، ليلفت نظرها تلك الورقة السلفانية المفضوضة و الملقاة على الطاولة...فمن الوهلة الأولى علمت ماهيتها...وتيقنت ايضًا أنها ثمن بخس لسكوته عن انتـ هاك حُرمتها.
لذلك لـ عنته وهرعت لباب الشقة تفتحه على مصراعيه صارخة فذلك المقيت الذي يستغل الأمر لصالحه بكل الطرق الممكنة:
-أخرج بره يا "سلطان" بدل ما قسم بالله هصرخ والم الناس عليك
وقف أخيها ومازالت السيجارة بيده ينهرها:
-عيب كده يا بت ده المعلم
ثارت اعصابها من سلبيته وهدرت توبخه:
-هو أنت تعرف العيب ربنا ينتقـ م منك ده بدل ما تتصرف معاه وتمنعه يا عديم المروءة والنخوة
صـ فعة هوت على وجنتها منه وتلاها صـ راخه بها:
-وحياة امك لأربيكِ انا علشان سكتلك بتسوقيها
تدخل "سلطان" وكأن كل ما حدث ليس بسببه:
-خلاص يا ابو نسب مكنتش تقصد
-سيبني اربيها يا معلم
-ملوش داعي وانا مسامح بس عايزك تفهمها أن سايبها تدلع عليا وتتقل بمزاجي لكن انا فاضلي تكه و صبري ينفذ وساعتها متلومش غير نفسها
رشقته بنظرات كـارهة لم يهتم بها و قال وهو يخطو للخارج ويسحب اخيها معه:
-تعالى يا "صالح" اعمرلك الطاسة
وسيب الزبادي تهدى ليغمز لها ويضيف ببسمة مقـ يتة مسـتفزة اغاظتها بشدة:
-على الهادي مش كده يا زبادي
وهنا لم تتحمل فقد بصـ قت بظهره واغلقت الباب بكل قوتها لاعنة كل شيء واولهم أخيها.
flashback end
أفاقت من شرودها على دموع حارقة أخرى تنسكب من عيناها قهرًا على حالها فمن كان من المفترض أن يشدد على عضدها هو من قسم ظهرها.
❈-❈-❈
دخل مكتبه بخطوات مهيبة واثقة وخلفه يهرول أحد الأمناء قائلًا:
-مواعيدك مظبوطة زي الساعة يا "سليم" بيه
-خير يا "وجدي" في ايه على الصبح؟
قالها وهو يجلس بكل وقار خلف مكتبه شاعلًا سيجارته، ليبتسم الأخر بسمة واسعة بفخر ويقول:
-الدنيا مقلوبة من امبارح والكل في القسم ملهوش سيرة غير حضرتك ده العيال اللي لميتها امبارح في الحملة طلع نصهم مسجلين وعليهم جرايم
هز رأسه وقال بلا تهاون وبكل ثقة:
-ولسه هنضف الدايرة من كل الواغش اللي فيها بس صبرك عليا
-مع أن بقالك كام اسبوع بس ماسك الدايرة لكن بسم الله ماشاء الله عليك يا "سليم" بيه الكل بيحلف بأسمك وبقى يعملك الف حساب
تنهد وقال بنفاذ صبر:
-طب يلا روح هات المحاضر المتعلقة وخليهم يبعتولي قهوتي
رد وجدي برسمية:
-تحت أمرك يا سليم بيه
ثوانِ واحضر ما أمره به ثم انصرف وإن كاد يتفقد الورق أمامه تعالى رنين هاتفه ليتناوله ويجيب بنبرة هادئة:
-اهلًا بالدكتور
-وحشتني يا وَحش والقاهرة ضالمة من غيرك يعني كان لازم تتنقل وتسبني
-منورة بأهلها وبعدين انا زي السمك مبحبش أخرج من الميا
وبيني وبينك اكتشفت إني بعشق اسكندرية ومبعرفش اتنفس غير هواها الرطب اللي بريحة يود البحر، صدقني يا نضال حتة متعة ميفهمهاش غير اللي عاش فيها.
-تصدق أنت هبدأ احقد عليك
قالها بخفة جعلته يبتسم ويتسائل:
-احقد براحتك وانا مسامح...قولي أخبارك إيه مع المهندسة؟
أتاه تنهيدته المُسهدة وتلاها صوت لوعته من الطرف الآخر:
-مش عايز اضغط عليها ونفسي ترضى عني بقى وتحدد معاد الفرح
-يابختك بصبرك عارف لو أنا مكانك كنت كسرت راسها وكتبت عليها وقتي
-عنيف أنت اوي
فسر بأرياحية:
-لأ خلقي ضيق ومعنديش صبر لو كنت مكانك كنت بوظت الدنيا
أجابه "نضال "بصدق بَين من الطرف الآخر:
-مقدرش أعمل كده أنا عشت ندمان علشان ضيعتها زمان و ربنا يعلم أن الظروف كانت ضدي، ورغم اني يأست بس ربنا كان رحيم بيا ورجعهالي علشان اعوضها وتعوضني عن كل اللي فات وانا مش همل من الأنتظار ولو قعدت عمري كله مستنيها مستحيل اضيعها تاني
-يانحنوح تصدق عيني دمعت
ادعى "نضال" ندمه لمحادثته:
-انا مهزئ إني اتصلت بيك اصلًا اقفل اقفل يا "سليم" الله يكرمك
قهقه هو بغرور كعادته ورد بكل عنجهية:
-خلاص يا دكتور الحريم قلبك أبيض...وبعدين انا قولتك مليش في النحنة واسمع مني ارزعها قلمين وجرجرها على المأذون الستات مش بتيجي غير كده
سخر "نضال" من طريقته:
-يا عم عرفنا أنك جامد ارحمنا وبعدين بتنصحني ده اللي يشوف كده يقول الواد خِبرة و مقطع السمكة وديلها واتعرف على نص بنات الكوكب...ده انت الست الوحيدة اللي انت عرفتها كانت طنط ليلي
أبتسم "سليم" ورد بغرور:
-يا صاحبي دي ثقة وانا اصلًا مليش في كهن الحريم ده وخلقي ضيق وليلى عندي أهم من الدنيا واللي فيها
-ربنا يخليهالك...بس الأيام بينا وإن شاء الله هتوقع ولشوشتك وعندي احساس ان نهايتك هتكون على إيد واحدة ست
قهقه "سليم" بكامل صوته الرجولي وأجابه بِثقة لن تصبح بمحلها فيما بعد:
-أنسى...مفيش ست على وش الأرض تعرف توقعني أو تهز فيا شعرة
-بكرة افكرك وهتقول إني بركة
-طيب يلا اقفل عندي شغل
-ماشي سلام
ليغلق معه ويكمل عمله وعلى وجهه ابتسامة واثقة يكمن خلفها قلب محاط بجليد قاسي يبدو أنه لن يذوب إلا بالإحتراق.
❈-❈-❈
كان يصعد الدرج بخطوات متمهلة حين ظهرت هي من خلف بابها هاتفة:
-"عماد"؟
توقف قلبه عند نطقها اسمه وتجمد أمامها لثوانِ قبل أن يخفي يده المنقوصة خلف ظهره ويتسائل ببسمة بشوشة هادئة:
-ازيك يا "بسمة" كنتِ محتاجة حاجة
هزت رأسها وتسألت وهي تتأكد من موضع حجابها:
-مفيش أخبار عن "سلطان"؟
تنهد واجابها بإقتضاب شديد مخيب للآمال:
-مفيش
-طب بتروحله زيارة طمني عليه
كان قد ولاها ظهره ينوي الفرار
لولآ سؤالها الذي جعله يلتفت لها ويخبرها متعمدًا:
-مروحتش...أصله كان طالب يشوف شمس
سكنت خيبة الأمل عيناها الضيقة وتسائلت من جديد:
-عايزها ليه؟ متعرفش
-معرفش بس أنتِ عارفة أنه متكلم عليها وهي في حكم خطيبته وكلها كام شهر ويخلص مُدته ويخرج يكتب عليها...عقبالك يا "بسمة"
قال ما قاله متعمدًا كي يجعلها تيأس من أخيه بينما هي دلفت داخل شقتها وارتمت على أقرب مقعد تنظر للفراغ بعيون باكية فمن تجسدت به احلامها قلبه متعلق بغيرها وكأنه تواطأ مع العالم أجمع على تهميشها وعدم الاعتراف بها.
❈-❈-❈
أصرت والدته عليه بل و ورطته معها كما نوت كي يرافقها لتناول الغداء على أمل أن تقرب بينهم وتتيح له التعرف عليها عن قرب...وكونه يخشى حزن والدته سايرها ليريح قلبها ليس إلا ولكن بداخله يكمن غرض خبيث أخر!
وهاهو يجلس مواجه لها بملامح باردة متجهمة يكاد لا يصدق أنه اصبح يتردد على ذلك المكان الذي اشمئز منه مسبقًا، فمنذ شهور كثيرة لا يذكر عددها فاجئه صديقه بزيارته و وقع اختياره العشوائي على ذلك المطعم الصغير حينها...
اعتلى حاجبيه بمكر وهو يلمح بطرف عينه "ميسون" تنظر للمكان باستياء رغم تلك البسمة الباردة التي تعتلي ثغرها فقد تعمد تجاهلها وأخذ يقلب في هاتفه حين اتاه صوتها:
-"سليم" انت مش معايا خالص؟
رفع قاتمتيه الباردة لها ورد:
-كنتِ بتقولي حاجة؟
ابتسمت "ميسون" متأملة بخجل:
-المفروض أنت اللي تقول مش أنا...
يتفهم إلى ماذا ترمي لذلك لن يبخل عليها فقد أقر بملامحه جليدية شديدة البرودة:
-شكرًا على تعبك
اعتلى حاجبيها المنمقين وتسائلت:
-مش فاهمة؟
أسند ظهره للخلف وقال بصراحة جارحة:
-"ليلى" اصرت إني اقعد معاكِ واشكرك على تعبك وانا مكنتش عايز ازعلها مش أكتر
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت كي تتستر على حرجها:
-أنا كنت فاكرة أنك هتفاتحني في موضوع تاني؟
اجابها بصراحة متعجرفة دون أي لباقة:
-مفيش مواضيع تانية ويوم ما هيكون فيه لازم يكون الأختيار الأول والأخير ليا واظن كده وضحت
ابتلعت غصتها وأجابت بكبرياء شامخ دون أن تشعره بخيبة أملها:
-وضحت اوي يا حضرة الضابط
ليهز رأسه ويؤشر للنادل ويخبرها بإقتضاب أشعل غيظها:
-طيب اطلبي اللي أنتِ عيزاه وانا هغسل ايدي وجاي
ودون أن ينتظر ردها تحرك من أمامها وبنيته الذهاب للمرحاض ولكن فضوله اللعين جعله يدفع ذلك الباب المتحرك الخاص بالمطبخ ويلقي نظرة في الداخل...ليقاطعه صوت احدهم:
-تحت أمر حضرتك تؤمر بحاجة
حرك رأسه بنفي وتسأل يدعي الجهل بعدما تأكد أن المكان يخلو منها مثل المرات السابقة:
-فين الحمام؟
أشار له العامل للجهة المقابلة بينما هو تحرك يلعن ذاته فكان يظن أنه اتى لهنا كي يخيب آمال من معه ولكن تيقن أن صاحبة تلك الذكرى التي يقرع ضميره طبول من أجلها هي من أتت به لهنا...
❈-❈-❈
بعد عدة أيام داخل أحد السجون وخاصًة في تلك الساحة المخصصة لزيارة المحتجزون كان يجلس هو ببنيته الضخمة وقسماته السمراء المتجهمة بعدم راحة وكأنه يجلس على جمر مشتعل ينتظر ظهورها بفارغ الصبر...
لانت معالمه شيء فشيء حين لمح "صالح" يدلف بها ويستقر بها أمامه هادرًا:
-ازيك يا معلم
هز رأسه وأقر وبُنيتاه تلتهمها:
-انا في احسن حال يا ابو نسب
-ربنا يفك حبسك ويرجعك لينا بالسلامة
ربت "سلطان" على كتفه وغمز بعينه ليهز الآخر رأسه بتفهم ويقول متحججًا:
-هسأل الشاويش على حاجة وجاي
بينما هي زفرت انفاسها دفعة واحدة كي تشجع ذاتها لمواجهته
فكان يتمعن بكل إنش بها بداية من خصلاتها البُنية الناعمة التي تقعصها خلف ظهرها، وملامحها الملائكية الوديعة التي تخالف تلك النظرات الشرسة الكارهة التي كانت ترشقه بها ومع ذلك لم يهتم و مال عليها برأسه قائلًا:
-اخيرًا رجعتي وحنيتي على العبد لله يا "شمس"
قلبت عيناها وغمغمت:
-عايز تشوفني ليه يا "سلطان"
توقع سؤالها ويكاد يقسم أن الكره ينضح ويفيض من زيتونها ورغم ذلك حاول استمالة قلبها:
-وحشتيني وغيبتك طالت هو انا موحشتكيش ولا ايه؟
تنهدت بقوة واستخفت بمشاعره:
-سيبك من النحنحة يا "سلطان" مش لايقة عليك
اعتلى جانب فمه حين اجابها:
-مش هزعل منك وبكرة اثبتلك انها مش نحنحة ده حب
-حب!
قالتها ساخرة مما جعله يخبرها بصدق بَين:
-اه حب...
هنا اتسعت عيناها وردت بهجوم شرس نابع من مقتها له:
-وانا مش بطيقك يا "سلطان"
جز على نواجذه وهدر بغيظ من بين أسنانه:
-مش هزعل منك وهقدر اللي أنتِ فيه أنا برضو ابن بلد وافهم في الأصول
-طالما انت بتفهم في الاصول فارض نفسك عليا ليه وأنت عارف إني مبقبلكش
قالتها بشراسة عدائية دون أن تهابه، وذلك ما يؤرقه؛ فكيف لا تهابه وترفض الخنوع له في حين أن رجال بشوارب تملأ وجوههم يهابونه ويحسبون له ألف حساب...لذلك هدر بكل إصرار وبداخله يتوعد بكسرها:
-عارف ومش فارق معايا المهم أنا رايدك ولعلمك انا سيبتك تسافري وتبعدي عني بمزاجي لكن قسم ب الله لو فكرتي تبعدي تاني لكون قاتلك يا شمس
هزت رأسها قائلة بتحدي لايقل شي عن إصراره:
-هبعد يا "سلطان" علشان مبقاليش حد هنا اخاف عليه وأنت متقدرش تعمل حاجة
قال وهو يهز رأسه وكأنه يؤكد لذاته انها ستردع له بعد ما سينطق به:
-ومين قال أنك ملكيش حد تخافي عليه؟
رمشت عدة مرات بعيناها الواسعة تحاول أن تستنتج داخل عقلها ولكن هو لم يمنحها ذلك الحق حين هسهس قائلًا:
-انا بقالي كتير بحلم أخرج من المخروبة دي علشانك، وعايز احط رجلي بره وملكيش مستنياني بفستان الفرح...
قال آخر جملة وهو يضغط على كل حرف كتهديد صريح لها فقد توسعت عيناها ورغم ارتجاف بواطنها إلا أنها ظلت ثابتة لحين غادرت...بينما هو لمعت سعادة منتصرة بعينه حين رأى ذعرها التي تُبين عكسه فمن غيره يحفظ طباعها...فهو اقسم أن يذيقها تلك الويلات التي اذاقته اياها في غيابها فسوف يفعل أي شيء ليحصل على مبتغاه اولًا ثم بعد ذلك سيبحث عن أول الطرق لقلبها.
يُتبع..