رواية ذنبي عشقك بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل التاسع
رواية ذنبي عشقك
بقلم الكاتبة ميرا كريم
رواية ذنبي عشقك
الفصل التاسع
لا تُحسن الظن حد الغباء، ولا تسيء الظن حد الوسوسة، وليكن حسن ظنك؛ ثقة وسوء ظنك؛ وقاية.
-محمد الرطيان
❈-❈-❈
عاد من عمله باكرًا على غير العادة، فعقله لم يهدأ واخذ يتلاعب به حتى دفعه دفع للعودة ولكن مصاحب لذلك الصُداع اللـ عين الذي أخذ يعصـ ف برأسه.
فكان الهدوء يعم المكان بطريقة مُـ ريبة جعلته يستغرب ويجول بعيناه أرجاء الردهة الخالية منهم بقلق فكاد أن يهتف بأسم والدته كما يفعل كل مرة ولكن انتابه الفضول كي يرى كيف تسير مجريات الأمور في غيابه فقد سار بخطوات حثيثة إلى أن وصل لغرفة والدته وحاول أن يرهف السمع ليصله شيء من حديثهم المتبادل ولكن لم يتمكن لذلك أدار مقبض الباب ببطء شديد يواربه بضع سنتيمترات كي يتمكن من رؤيتهم بالداخل، وحين وقعت عيناه على ما تفعله لاحت شبه بسمة عابرة على فمه فكانت تقوم بتمشيط شعر والدته وتعقد لها جديلة منمقة أثناء تبادلهم الحديث الذي كان كالتالي:
-عارفة يا" شمس" أنا عمري ما عرفت اعمل ضفيرة لنفسي وامي غُلـ بت تعلمهالي ليخفت صوتها وتتابع بمرارة:
_وبعد ما اتجوزت كنت دايمًا اطلب من "عبد الرحمن" ابو "سليم" يعملهالي وكان يقعد يضحك ويقولي عمرك ما هتكبري
تنهدت" شمس" بعد أن لاحظت الحُزن الذي خنـ ق صوتها لتواسيها قائلة:
-ربنا يرحمه اكيد هو في مكان احسن
تنهدت "ليلى" بتثاقل وقالت بأسى سكن جنباتها حُزنًـ ا على فـ قدانه:
-كان حنين وطيب اوي وكل حاجة كان بيعملهالي بأيده ده حتى عمره ما قال كلمة واحدة وحشة ممكن تزعلني لغاية ما راح وسابني انا و"سليم" لوحدينا ربيته وطلعته ضابط زي ما كان نفسه والحمد لله ربنا عوضني بيه اصله فيه حاجات كتير منه
اعتلى حاجبيها ونمت بسمة ساخرة على ثغرها؛ فلم تصوغ الأمر، ولكن لتكن منصفة هو افعاله طيبة ولكن ما ينطق به يخالف توقعاتها فذلك
المُـ ـرعب يُشبه قـ ـناص بارع يسـ تهدف كبرياء الآخرين
برصـ ـاص كلماته النافذة دون رحـ مـة.
ذلك ما كان يدور برأسها وهي تضع رابطة الشعر في مـ ؤخرة الجديلة لتنهي عملها غافلة أن مازالت البسمة تعلتلي وجهها وهناك عيون ثاقبة تترصـ د لها.
ففي غضون ثوانٍ وجدته يدفع الباب و يقف أمامها بملامح ثلجية باردة لا يستنبط ما يدور خلفها.
فقد توجـ ست حين تقابلت عيناهم لوهلة من الزمن ولكنها ازاحت بوجهها وهبت واقفة على بُعد مسافة أمنة بعيدًا عن نظراته المُـ رعبة التي تكاد تـ خترقها في حين قالت "ليلى" مُرحبة:
-اهلاً يا حبيبي جيت بدري يعني مش عوايدك
مال عليها يقبـ ل رأسها ثم قال وهو يجلس على طرف الفراش مجاور لكُرسيها:
-ايه يا "ليلى" وانا من امتى ليا مواعيد
تسائلت "ليلى" متوجسة:
-بس دي اول مرة تيجي بدري كده حاجة حصلت
قال بعدما رشق "شمس "بنظراته قائلًا بنبرة رغم أنها مُبطنة ولكن الشك ظهر بَين بها:
-مفيش حاجة واتوقعي بعد الوضع الجديد ارجع في أي وقت
حسنًا لن تـ هاب نظراته ولن تهتم بحديثه فقد عاهدت ذاتها أن تُجاري الأمر، دون أن تسمح له أن يثـ ير أعصابها لذلك قررت أن تفـ ر من أمامه وتتجنبه و توجه حديثها ل "ليلى":
ـ عن اذنك هروح اودي المصحف اللي عطتهولي في الأوضة
ـ ماشي يا بنتي
أومأت لها ببسمة هادئة ثم تناولت المُصحف من اعلى الطاولة و خطت للخارج تحت نظراته الضيقة، لتباغته "ليلى" معاتبة:
-البنت كويسة يا "سليم" وانا حبيتها بلاش طريقتك دي
ادعى البـ راءة قائلًا:
-انا مقولتش حاجة يا "ليلى"... ليتنهد ويتسائل وكأنه لم يستمع لحديثهم:
_ قوليلي كنتِ بتتكلمي معاها في إيه؟
_ابدًا اتكلمنا عن حاجات كتير وحكتلها عن ابوك الله يرحمه وقولتلها أد ايه كان حنين وطيب وانت طالع شبهه
أجل يعلم وقد استمع لها ولكنه أراد أن تؤكد له أن بسمتها الهازئة التي رآها كانت لذات السبب لذلك ثارت أعـ صابه وأراد استفزازها.
كانت عيناه تتركز في الفراغ وطال صمته المُريب مما جعل" ليلى"
تأفف من طريقته:
-عارفة إنك مش بتثق بالساهل ويمكن تكون مضايق إني بتكلم معاها بس يا بني علشان خاطري بلاش سـ وء الظن ده مش كل الناس زي "هبة"
احتدت نظراته فور ذكر أسمها وفارت الدمـ اء برأسه ثم هب من جلسته هادرًا:
-قلتلك الف مرة متجبيش سيرتها يا امي
أطرقت "ليلى" راسها بندم بعد زلفة لسانها فطالما كانت تلك الذكرى شائكة بالنسبة له لذلك اعتذرت قائلة:
-حقك عليا يا حبيبي مكنتش اقصد
تنهد تنهيدة ثقيلة قبل أن يمرر يده بين خصلاته الفحمية في محاولة بائسة على التحـ امل ثم قال وهو يقترب منها من جديد يربت على كتفها:
- محصلش حاجة...قوليلي اكلتي وخدتي علاجك
اكدت له بنبرة راضية وهي تتمسك بيده التي تربت على كتفها بحنو:
-أكلت يا حبيبي متقلقش "شمس" عملتلي صينية المكرونة اللي بحبها وكلت بتاع نصها لوحدي من حلاوتها، بسم الله ما شاء الله نَفسها في الأكل حلو اوي
حانت منه بسمة عابرة ثم قال وهو يمسد جبهته بتعب:
-بالهنا والشفا يا "ليلى" انا هروح ارتاح علشان تعبان شوية
-سلامتك حاسس بأيه؟
هز رأسه يطمئنها:
-مقلقيش دول شوية صُداع
-طب كُل الأول وخد مُسكن قبل ما تنام
اجابها وهو يعتصر عينيه يعناد الألـ م:
-هبقى كويس، تصبحي على خير
ذلك أخر ما نطق به قبل أن يغادر غرفتها تاركها تنظر لآثاره بنظرة حانية مُشفقة على حاله فمن غيرها يعلم أنه يخفي حقيقة ما يشعر به ويتحامل خلف تلك القشرة الصلبة القاسية التي يجيد محاوطة ذاته بها.
❈-❈-❈
بدل ملابسه لملابس بيتية مريحة ثم تمدد على فراشه يتحايل على النوم ولكن اعاصير مهلكة تفتك برأسه ومشهد من الماضي البعيد يترأى أمام عينه فإلى الآن صوتها الغرور الغير مبالي الذي اصاب قلبه بمقتل يتردد بعقله:
_ مش عايزة أكمل ولا هقدر اعيش مع امك ولا اتحمل مسؤوليتها معاك
فمجرد أن نطقت بتلك
الكلمات جعلته يطيح بحبها فلم يبقى عليها وتركها ثائرًا من أجل تلك الخطوط الحمراء التي ما أن تخطتها تخطت معها تمسكه بها، فكان يظن أنها ستعود نادمة وتعلن ولائها ولكن بعد مرور أيام معدودة كتبت على إسم رجل آخر تاركة عقله ينسج الكثير بشأنها فكيف تخطته وقبلت بغيره وهي من كانت تؤكد أن قلبها لن ينبض سوى له؛ مخادعة هي بل وايضًا طامعة ارادت كل شيء ولم تقبل بالتضحية.
اعتصر عينه بقوة يحاول نفض تلك الذكريات المـ ؤلمة عن رأسه ولكن بلا جدوى فكان رأسه مازال ينبض بالألـ م لذلك نهض يزفر أنفاسه حانـ قًا يتنازل عن عناده وتحمله ويتوجه للمطبخ للبحث عن أي شيء يهدأ من وطأة ذلك الصُداع اللـ عين وإن وصل هناك وجد "شمس" تقف عند المقود و تواليه ظهرها، وقف بنظرات جامدة يطالعها في حين هي انتبهت على وجوده و ارتبكت بشدة ولكنها التزمت بثباتها تطفئ شعلة المقود التي عكست لونها على وجهها ثم التفتت تصب القهوة داخل الكوب قائلة:
-القهوة دي علشانك...
ظلت معالم وجهه صلبة كما هي واقترب من الخزانة يتفقد درج الأدوية ثم رد بعنجهيته الغاشمة:
-مطلبتش منك تعملي ليا حاجة انا متعود اعمل كل حاجة لنفسي
نظرت لظهره مـ غتاظة من طريقته
الـ فظة ولكنها لم تـ ثور و اخبرته وهي تخرج من جيبها شريط علاجي وتضعه على الطاولة:
-متهيئلي ده اللي بتدور عليه
استغرب اهتمامها ونـ فر منه فلم يشعر بذاته إلا وهو يهدر بعصبية أمام جهها:
-اظن قولتلك قبل كده مهامك كويس في البيت ياريت تلتزمي بيها وملكيش دعوة بأي حاجة تانية...
صوته اجفلها وجعلها تتقهقر بخطواتها فكانت هيئته مُـ رعبة عن حق، عروقه بارزة وعيناه دامـ ية ورغم ذلك تماسكت وهدرت بـ شراسة مُتصدية:
-انا عمري ما اتخطيط حدودي وعرفاها كويس...و اللي انت متعرفهوش ان مامتك هي اللي أصرت عليا اعمل كده علشان شافتك تعبان وقالتلي انك هتعند وهتحاول تنام ومش هتعرف من الوجـ ع وفعلًا ده اللي حصل وانا كنت بحاول اساعدك بسلامة نية، بس وعد عمرها ما هتكرر تاني...عن اذنك
قالت أخر جملة وهي تخرج من المطبخ تاركته يزمـ جر بقوة ويلعـ ن كل شيء واولهم ذلك النـ خر برأسه الذي افقده السيطرة.
❈-❈-❈
مرت عدة ايام بسلام كل ما كانت تفعله أن تراعي والدته لحين يأتي ومن بعدها تختبأ بغرفتها كي لا تراه وتضطر لأن تتحمل فظاظته.
وها هي جالسة بجوار والدته تقرأ لها بتأني، وبطريقة مسترسلة تنطق مخارج الحروف بسلاسة وتلقيها على مسامعها فكانت مبهورة بها وقاطعتها قائلة:
-بسم الله ما شاء الله عليكِ يا بنتي طريقتك في القراية وصوتك مريح اوي
ابتسمت "شمس" وقالت بخجل:
-انا اللي بشكرك من قلبي يا ماما "ليلى" انا كنت مفتقدة القراية جدًا وانتِ رجعتيلي الشغف
ربتت "ليلى" على يدها ثم حانت منها بسمة واسعة تسخر بها من ذاتها ومن اعتقادها السابق لتتأهب "شمس" بنظراتها تستغرب ما أصابها لحين أوضحت "ليلى":
-بصراحة يا بنتي عيزاكِ تسامحيني اصلي مكنتش اتوقع ابدًا انك تكوني متعلمة انا قولت حد في ظروفك يدوب بيعرف يفك الخط
ابتسمت" شمس" بسمة باهتة وأخبرتها ببقايا ارادة واصرار كان في السابق ملازم لها:
-انا كان ليا طموح ملهوش أخر...بس اعمل ايه حظي كده
-طب يا بنتي حسب ما قولتيلي أنك معاكِ ليسانس آداب وعاملة دبلومة تخاطب ازاي ملقتيش شغل يناسب شهادتك
تنهدت بضيق واجابتها:
-محدش في البلد دي بيشتغل بشهادته وعلشان كده قعدت سنتين باخد كورسات علشان ألاقي شغل وفي الأخر اشغلت اخصائية في مركز تأهيل بالنهار وبليل حتة طباخة في مطعم صغير.
-وليه طباخة؟
-ايام الدراسة كان لازم اشتغل علشان اصرف على نفسي وكانت الحاجة الوحيدة اللي بعرف اعملها هو الطبخ ولما خلصت دراسة مكنش متاح شغل غيره يعيني علشان كده استمريت لسنين لغاية ما الفرصة جاتلي وقولت الحظ اخيرًا عرف طريق بابي...
وعلى ذكر الباب قاطعها طرقه
لتنتفض وتبتلع باقي حديثها بينما "ليلى" طمئنتها قائلة:
-متقلقيش يا بنتي "سليم" معاه مفتاح و عم "عيسي" الحارس مش بيدخل حد غريب من البوابة روحي افتحي
ابتسمت ببهوت وحمدت ربها أن توقع "ليلى" بمحله فأخر شيء تريده هو رؤيته فلا تشعر بالراحة في وجوده بتاتًا بسبب حديثه الفظ ونظراته الثاقبة لتزفر أنفاسها بارتياح وتنهض تفتح الباب وإن فعلت وجدت فتاة شقراء ملامحها حادة ترتدي فستان قصير ضيق يقسم تقاسيـ مها وفوقه معطف ثقيل يبدو باهظ الثمن وحذاء ذو رقبة عالية فتأملتها "شمس" لثوانِ قبل أن تتسائل هي:
-أنتِ مين؟
اجابة سؤالها بسؤال أخر ولكن بكل أدب:
-حضرتك اللي مين...
اجابتها الآخرى متأففة تعرف عن ذاتها بكل غرور:
-انا دكتورة "ميسون" وجاية لطنط "ليلى"
اعتذرت "شمس" بلطف وببسمة ودودة افسحت لها:
-اسفة معرفكيش اتفضلي
رمقتها "ميسون" من طرف انفها وخطت للداخل وإن وقعت عين "ليلى" عليها هتفت مُرحبة:
-اهلاً يا "ميسون" ايه الزيارة الحلوة دي
تناوبت نظراتها بينها وبين "شمس" ثم قالت ببسمة صفراء متملقة:
-اعمل ايه يا طنط بقالك كام يوم مش بتتصلي تقوليلي اجي اقعد معاكِ واقرالك وبصراحة قلقت
ابتسمت "ليلى" بود قائلة:
-فيكِ الخير يا حبيبتي معلش مرضتش اتعبك
كانت مازالت تلك البسمة تعتلي ثغرها لحين وقعت عيناها على "شمس" وهي تضب الكُتب من على المنضدة أمامها لتخمن الأمر وتثور أعصابها لتجز على اسنانها وتأمرها بطريقة مُتدنية كانت بمثابة سوط عذاب لكبرياء "شمس":
-روحي اعمليلي أي عصير فريش يا شاطرة
وقفت متجمدة تتناوب نظراتها بينهم لوهلة وقبل أن تجد كلمات تصف حالها أتى صوته العميق من خلفها:
-اهلًا يا دكتورة
نطرت" ميسون" خصلة متدلية على كتفها خلف ظهرها ثم تأهبت بجلستها و مدت يدها بكل ثقة تصافحه:
-اهلًا بيك يا حضرة الظابط
هز رأسه وهو يميل على رأس والدته يقبلها قائلًا:
-عاملة ايه يا ست الكل يارب تكوني بخير
اجابته" ليلى" بحنو:
-بخير طول ما أنت بخير يا حبيبي
ابتسم بسمة عابرة ثم قال متنهدًا بعدما لاحظ انها انسحبت في هدوء:
-انا هجيب العصير اللي طلبتيه يا دكتورة
تسائلت "ميسون" مستغربة:
-انا طلبته من البنت مش دي الشغالة الجديدة اللي جبتها مكان صباح
كادت والدته تجيب ولكن جاء رده مُرضي بالنسبة لها:
-لأ "شمس" تبقى قريبتنا من بعيد ولما عرفت باللي حصل ل "صباح" اصرت تيجي تخلي بالها من "ليلى" بنفسها
مطت فمها واعتذرت وهي تجلس بأريحية أكثر:
-اه sorry بجد مكنتش اعرف
-حصل خير
قالتها "ليلى" وهي تربت على ساق ابنها كأنها تخبره بطريقة محسوسة أنه اجاد التصرف، ليهز رأسه ثم يتوجه نحو المطبخ ليجدها تجلس تضع يدها على خدها وساهمة بنظرات لامعة، ليتحمحم يجلي صوته قبل أن يقول مترددًا:
-"ميسون" الدكتورة بتاعة "ليلى" اللي بتابع حالتها وكمان هي جارتنا وامي بتعزها وكتير كانت بتيجي تقعد معاها في الاوقات اللي كنت بتأخر فيها في شغلي
مهلًا هل حقًا يبرر لها!
لا بالطبع لم يقصد ان يتواضع لذلك الحد فلابد انه يلمح لشيء ككل مرة وهي غافلة عنه لذلك نفضت افكارها و هزت رأسها ولم تعقب حتى أنها نهضت كي تختبأ داخل غرفتها تجنبًا له، ولكنه استوقفها قائلًا بنبرة مغايرة:
-انا عارف انك بتحاولي تتجنبيني بس صدقيني مكنش قصدي اتعصب عليكِ انا كنت مصدع و…
اغمضت عيناها بقوة تشجع ذاتها ثم التفتت تقاطعه وهي تخرج عُلبة العصير من المبرد وتضعها أمامه:
-ده العادي بتاعك
-لأ مش العادي بتاعي أنا مش مجنون
رفعت عشب عيناها اللامعة له بنظرة مستغربة لتبتلع ريقها حين وجدت نظراته الضيقة تتابعها لتزيح بوجهها وتقول بشيء من الارتباك وهي
تتحرك تناوله الصينية الفضية وتضع بها الكؤوس:
-مقولتش كده!
زفر انفاسه وتسائل بملامح صلبة جامدة:
-اومال ايه؟
اذهلها سؤاله لذلك ابتلعت ريقها و زاغت نظراتها، ليتابع هو متوجسًا:
-شرير مش كده!
اطرقت برأسها تتحاشى نظراته ثم نطقت دون تفكير وكأن صوت عقلها ناب عن لسانها:
-في مقولة بتقول "الأشرار ليسو سيئين هم فقط ضحايا لم تروى قصصهم"
ضاقت عينه الثاقبة عليها بملامح باردة لا يستنبط منها شيء حتى ظنت انه لم يستمع لها فقد اخذ عُلبة العصير وصب داخل الكؤوس واحد تلو الآخر حين خرج صوته العميق متسائلًا:
-يعني فعلًا شيفاني كده؟
هل يهمك كيف اراك حقًا أم تستهزء بي كعادتك، هل اخبرك حقًا! أم انك ستثور وتنهال علي بـ سم كلماتك ذلك ما كان يحيرها ولكن بالطبع لم تمنح ذاتها حق السؤال ذاته وقررت أن تتجنب الجدل معه بملامح ثابتة:
-مش مهم انا شيفاك أزاي المهم أن في جانب إيجابي أن في سبب وصلك لكده
قالت جملتها وهي ترفع الصينية المُحملة وتمدها له كي يخرج بها، لينظر لها نظرة مطولة قبل ان يتناولها من يدها ويخرج دون أن يعقب بشيء.
❈-❈-❈
بينما على الجانب الآخر كانت "ميسون" تتقلب على مقعدها كأنها تجلس على نيران حامية من غيابه بالداخل لذلك تسائلت والفضول يكاد يتأكلها:
-هي البنت دي هتقعد معاكم علطول يا طنط
اجابتها "ليلى "ببسمة طيبة:
-لا يا حبيبتي بشكل مؤقت لغاية ما" صباح" تقوم بالسلامة
هزت "ميسون "رأسها بتفهم ثم تخابثت قائلة:
-أصل يا طنط اكيد انتِ مش بيعديكِ الأصول ابدا والبنت حلوة وسليم...
كادت تكمل لكن" ليلى" قاطعتها حازمة:
-انا واثقة في ابني وعارفة انه عارف حدوده كويس واظن أنتِ كمان متأكدة من كده... والبنت محترمة و مؤدبة دي لما بتشوفه بتقوم تنط تجري على اوضتها وتقفل عليها
دار بؤبؤ عيناها ثم بررت ببراءة حمل:
-انا معيبتش فيهم يا طنط اوعي تفهميني غلط
ربتت "ليلى" على كتفها وقالت وهي تتفهم الغرض من حديثها:
-لأ يا حبيبتي انا فهماكِ وعذراكِ ربنا ينولك اللي في بالك
ابتسمت "ميسون" واطرقت برأسها بخجل تزامنًا مع دخوله ووضعه للصنية اعلى المنضدة أمامها فلم ينطق بحرف ولم يكلف ذاته حتى بالالتفات ل "ميسون" كل ما فعله هو أن انسحب لغرفته ينفرد بذاته يفكر في منطقية حديثها.
❈-❈-❈
في الصباح جلس بالشُرفة كعادته يستمتع بنسمات الهواء الباردة المحملة برائحة يود البحر لعلها تساعده على تصفية ذهنه لحين اتته "ليلى" بواسطة كُرسيها المدلوب وقالت وهي تدفع عجلته لتجاور مقعده:
-صباح الخير يا حبيبي
اعتدل بجلسته وقال ببسمة حانية يخصها هي فقط بها:
-صباح الخير ياست الكل ايه اللي مصحيكِ بدري كده؟
-وحشني الفطار معاك وبعدين من ساعة ما جت" شمس" البيت ولا مرة قعدنا على سفرة واحدة وأكلنا مع بعض
-معلش أنتِ عارفة مواعيد الشغل مش بإيدي
-ربنا يقويكِ يا حبيبي
-و يخليكِ ليا يا ست الكل
-طيب هتقوم تحضر الفطار ولا اصحي "شمس" تحضره
-"شمس" صاحية
قالها بإندفاع دون قصد لتتركز نظرات والدته عليه لثوانِ قبل أن يفسر قائلًا:
-اصلي سمعت صوتها بتقرأ قرآن بالصدفة وانا معدي من جنب اوضتها…
هزت رأسها بتفهم ثم مدحتها:
-البنت دي طيبة اوي يا" سليم" وسبحان الله عندها قبول غريب وتدخل القلب علطول
ظلت ملامحه جامدة ولم يعقب لتتابع والدته:
-على فكرة عجبني اوي ردك على "ميسون" امبارح كويس أنك مرضتش تحرج" شمس" أدامها
لم يعقب ايضًا لتضيف هي:
-"شمس" نفسها عزيزة وكانت هتاخد على خاطرها لو كان اتقال غير كده
تناول نفس عميق كانه يشعر بالأختناق ثم عقب أخيرًا متهكمًا:
-مش ملاحظة أن كل كلامك عن "شمس"
ردت "ليلى" بصدق وبحدس أم لا يخطئ ابدًا:
-بصراحة يا ابني البنت تتحب ومن ساعة ما دخلت البيت وانا مرتاحة لوجودها... ده انا بقيت استنى النهار بفارغ الصبر علشان اقعد احكي معاها
ما بالها تلك الشمس! لمَ يسطع نورها لذلك الحد ويخفت كل شيء معها حتى افكاره فكيف استحـ وذت على محبة والدته لذلك الحد بفترة قصيرة كتلك؟ ترى كانت محقة بالفعل حين اخبرته أنها أهل للثقة
هل من الممكن أن يكون العطب به كونه لم يستطيع إلى الآن الوثوق بها…
ذلك ما كان يدور برأسه قبل أن ينتبه لذاته ويهدر وهو يشهر سبابته بوجهها:
-على فكرة انا كده هغير من حبك ليها
-تغير منها أزاي ده انت متتقارنش بحد... أنت مش بس ابني لأ انت سندي وظهري وحبيبي وكل اللي طلعت بيه من الدنيا
ابتسم بسمة هادئة رزينة ثم قَبل جبينها بحنو تزامنًا مع ظهور" شمس" التي قالت بنبرة ودودة هادئة:
-صباح الخير يا ماما "ليلى"
-صباح الفل يا بنتي
تأهب بنظراته حين تلعثمت هي دون ان تنظر له:
-صباح الخير
رد تحية الصباح بنبرة هادئة غريبة عليها والأغرب من ذلك أنه اقترح وهو ينهض:
-يلا تعالي حضري معايا الفطار يا "شمس" علشان هفطر معاكم النهاردة
نظرت لظهره مستعجبة في حين "ليلى" حثتها بعينها لتلحق به فما كان منها غير أن تجاري الأمر...
فكان يتحرك من حولها يتناول الزبد ويضعه في المقلاه ثم يخفق البيض مع القليل من الملح والفلفل الاسود ومن بعدها سكبه في المقلاة وأثناء نضوجه
أخرج عُلب الجُبن المختلفة و قام بوضعها داخل الأطباق ثم تناول الخبز وأخذ يقطعه فعل كل ذلك أثناء سكبها للحليب داخل الأكواب فقط فكان يعمل بسُرعة متناهية دون خطأ وبنظام ادهشها وهنا أيقنت أنه صدق حين اخبرها انه تعود أن يفعل كل شيء بذاته دون مُساعدة.
وبعد انتهائهم من تناول الفطور الذي دام لدقائق دون ان تنطق بحرف واحد فكانت فقط تقطع بضع اللقيمات وتضعها في فمها، تلوكها ببطئ وهي تشعر بعدم الراحة لوجوده حتى انها ارادت تجنبه و ادعت الشبع وكادت تنهض لولآ أنه استوقفها قائلًا:
-"شمس" عايزك ثوانِ في اوضة المكتب
توجست من طلبه ولكن "ليلى" شجعتها قائلة:
-روحي معاه يا حبيبتي وانا هكمل أكل
هزت رأسها ونهضت تتبعه وإن وصلت لغرفة مكتبه جلست مقابل له حين مد يده بظرف ابيض ووضعه أمامها قائلًا:
-دي مكافأة بسيطة على تعبك مع "ليلى" الايام اللي فاتت... على فكرة ده غير مُرتبك
تناوبت نظراتها بين الظرف وبينه ثم ابتلعت غصة مريرة بحلقها قائلة وهي تدفع الظرف لعنده مرة أخرى:
-انا مش عايزة حاجة
قال بعدما انعقد حاجبيه مستغربًا:
-بس الفلوس دي حقك ولو كنت جبت واحدة غيرك كانت هتاخدهم
اجابته وعيناها يسطع بها ذلك الوميض المفعم بالكبرياء:
-ميلزمنيش وارجوك احترم رغبتي…
تنهد بعمق ثم قال بنظرات ضيقة:
-انا مش قادر افهمك؟
اوضحت وهي تتعمد أن تتحاشى النظر لضيق عتمته:
-اول يوم جيت هنا استنيتك تسألني وافقتي ليه بس انت مسألتش وانا حابة اوضحلك...ممكن
أجابها بنبرة واثقة غير عابئ بأسبابها:
-اعتقد إني عارف علشان كده مسألتش
لاحت على ثغرها بسمة مريرة فمن المؤكد أنه يظن أنها استغلت الأمر رغبة في الحماية، حسنًا هو لم يخطئ ولكن هي تريد ان تفسر الأمر بطريقتها لذلك طلبت بأصرار عجيب استغربه:
-بس انا عيزاك تسمعني ممكن؟
اسند ظهره على مقعده ثم اتكأ بمرفقيه على مسنده يحثها بحركة من رأسه على الحديث، لتقول هي:
-"صالح" عرف طريقي هناك وقال أن حد شافني وعرف مكاني وراح قاله وكمان "صابر" صاحب البيت أكدله لولآ "حكمت" جارتي ساعدتني وقتها كان زمانه اخدني معاه..
انا كنت مجبرة اوافق علشان مفيش أدامي أي خيارات تانية
انا هقعد معاكم علشان خاطر مامتك وظروفها بس لغاية ما الست اللي كانت معاها تقوم بالسلامة ومن هنا لوقتها هدور على شغل ومكان تاني اقعد فيه علشان مش بحب ابقى عبئ على حد وأي فلوس منك انا مش هاخدها وارجوك متحاولش تحسسني إني مليش قيمة اكتر من كده، انا اعتبرت مامتك زي امي بالظبط وهشيلها على راسي من غير حاجة واعتبر ده رد للجميل اللي ليك في رقبتي.
قالت ما قالته بنبرة واثقة مفعمة بالكبرياء قبل ان تغادر الغرفة دون حتى أن تنتظر رده، لينظر لآثارها لثوانِ قبل أن ينعقد حاجبيه بعقدة مُتجهمة تنم عن شتاته
فتلك ال "شمس" تفاجأه بردود افعالها وتجعله يقف مشدوه أمام صمود كبريائها.
❈-❈-❈
كان يقود الموتور الخاص به في طريقه لتوصيل ذلك الطلب الغريب التي ألح صاحبه أن يأتيه بذلك الوقت المتأخر فلم يكن يوجد مجال للرفـ ض في سبيل ان يقتات لقمة العيش، فإن قارب على المكان المقصود انقـ بض قلبه من السكون وخلو المكان الغيرعادي، فكان يتلفت يمينًا ويسارًا بحثًا عن العنوان الذي اخبره به صاحب الطلب، ليتوقف بجانب الطريق وينزل من على موتوره بحثًا عنه و قبل أن يستوعب ما حدث كان يركـ له شخص ما ويوقعه على الأرض ضـ ارب الموتور خاصته ايضًا قالـ به على الأرض ثم من بعدها لم يعي لشيء إلا ومِـ دية حادة تثبت على رقبته.
فقد تعالت انفاسه وبرقت عيناه بـ خوف حين رآى وجه من يمسك بها وعلم هويته، ليحاول دفـ عه عنه ويتـ صدى له بعزم
قـ وته وبعد مـ عافرة والكثير من السُـ باب استقرت المِـ دية بيد غاشـ مة بجـ سده.
يتبع...