-->

رواية ذنبي عشقك - بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل العاشر


رواية ذنبي عشقك

بقلم الكاتبة ميرا كريم



الفصل العاشر

رواية

 ذنبي عشقك 



الذكريات غالبا ما تحمل بين طياتها؛ 

الندم من عدم الاحتفاظ بالأشياء الجيدة وإباحتها ،

 والندم على عدم القدرة على تصحيح الأخطاء.

-إريك ماريا ريمارك


❈-❈-❈


حبات عرق تقطر من وجهه مصاحبة لملامحه المتقلـ صة أثناء نومه فكان يتمتم ببعض الكلمات ويلـ هث بقوة وكأنه الـ موت بذاته يطارده لحين انتفض مفـ زوع من نومته بسبب تلك الأحلام المزعجة التي تكاد تفقده صوابه وتعيده مرة أخرى لنقطة البداية.

فقد اعتدل بجلسته بأنفاس متلاحقة فـ شل في تنظيمها لحين مد يده نحو زجاجة المياه الموضوعة بجانبه يتجرع منها كفايته لعله يهدأ من روعه، وإن انتهى وضعها جانبًا وتمـ دد مرة أخرى ولكن وهو يلـ عن حياته وسبب لعنـ ته الذي لولاه لكان ليحيا بسلام، وعلى ذكر السلام الذي انتهـ ك رفع كف يده المنقوص يتأمل اربعته بنظرة بائسة تحمل بين طياتها  

مزيج من الحقد والخذلان والألـ م 

ليعـ تصر ناعستيه بقـ وة حين تكرر ذات السؤال الذي يقتله بعقله كيف أخفـ ق وترك الشيـ طان يتلاعب به؟ فياليت كان لم

يُـ ضل وظلت حياته كما هي دون نـ دم.

ذلك ما كان يدور برأسه قبل أن ينهض وينوي الذهاب لعمله فلا فائدة من العودة للنوم مع تلك الذكريات المؤلمة وحين استعد وغادر غرفته واثناء تدليه الدرج وجدها تفتح بابها وتضع صندوق القمامة الصغير جنب بابها، تحمحم يجلي صوته واشاح بنظره قبل أن يسرع في خطواته كي يفر من امامها ولكن باغتته قائلة فور ان وقعت عيناها عليه:

-"عماد"صاحي بدري ليه كده مش عوايدك


حقًا تعرف عوايده لتسأل سؤال كذلك؟ بالطبع لا هي فقط تخمن ليس إلا... نفض افكاره سريعًا قبل أن يجيبها:

-عادي يعني يا "بسمة" مرة من نفسي اروح الورشة بدري


لتقول بحرج: 

-طيب انا كنت عيزاك في خدمة


رحب بكل اريحية: 

-قولي وانا مش هتأخر


-الحنفية مش عارفة مالها عمالة تنقط ومغرقة الدنيا وعايزة اكلم "مدحت" السباك بس انت عارفه و إنا لوحدي وكنت محتجاك تقف معاه


اجل يعرفه ويعلم أنه زير نساء فلم تنجى منه فتاة في المنطقة  بسبب مضايقاته لذلك عقب دون تفكير:

-مش لازم تكلميه انا ممكن اعملهالك 


-مش عايزة اتعبك واعطلك عن الورش


-مفيش تعب يا "بسمة" تعالي وريهالي


اومأت له وسبقته للداخل، ليتنهد  مسالمًا قبل أن يتبعها ولكنه كان حريص أن يترك بابها مفتوح على مصراعيه...فإن تفقد صنبور المياه عرف سبب تلفها وبالفعل قام بجلب أحد الجلب الداعمة لأحكامها وقام بتغيرها وإن انتهى شكرته "بسمة" التي كانت تنتظره في الردهة لحين خرج لها:

-تسلم ايدك ايه رأيك اعملك كوباية شاي قبل ما تنزل


نفى برأسه وقال وهو يتحاشى النظر لها ويلتهي بفرد اكمامه التي رفعها مسبقًا:

-ملهوش لزوم انا لازم امشي وميصحش وجودي هنا اكتر من كده


تنهدت وكان الأمر لا يعنيها ثم قالت:

- وميصحش ليه ده انت اخويا والباب اهوا مفتوح على أخره بالله اقعد وثوانِ وهعملك الشاي


قالتها وهي تهرول للمطبخ، تاركته يهز رأسه بلافائدة هامسًا 

بسـ خرية مـ ريرة:

-اخوكِ ازاي بس حرام عليكِ 


❈-❈-❈


فور أن دخل القسم  وتوجه لمكتبه وجد سيدة تهرول إليه قائلة: 

-انجدني يا بيه ابوس ايدك 


حاول أحد العساكر منعها: 

ـ يا ست مينفعش كده سيبي الباشا


ـ بالله عليك سيبني محدش  هيجيب حق ابني غيره


أشار "سليم" للعسكري كي يتركها ليدخل وهي تتبعه وفور أن جلس خلف مكتبه تسائل: 

-ماله ابنك يا ست؟


قالت "حكمت" بـ قهر والدموع تملأ وجهها: 


-المفـ تري منه لله اتهـ جم على ابني 

وسـ يح دمـ ه علشان كان عايز يعرف مكانها...


تسائل وهو يجعل ماذا تعني: 

-مكان مين؟ 


أوضحت وهي تجفف دمعاتها: 

-"شمس"...ما انا "حكمت" يا بيه جارتها اللي كانت بتشتغل معايا وساكنة عندنا في عمارة "صابر" قبل ما تجيلك... 


تجهمت معالمه وتسائل بريبة: 

-مين بالظبط اللي اتهجم عليه؟ 


_"صالح "اخوها ضربه  بالمـ طوة  ورشقت في كتفه لولا ستر ربنا كان زمانها في قلبه 


غامت عينه بالغضـ ب وكور قبضة يده متسائلًا: 

-طيب عملتي محضر باللي حصل ولا لسه 


أكدت هي: 

-ايوة يا بيه عملت  وكتر خيرهم في المستشفى عملولي تقرير بس انا متعشمة فيك تجيبه علشان ياخذ جـ زاته


قال بإصرار وبنبرة واثقة: 

-هيحصل امشي انتِ دلوقتي وانا هشوف هعمل ايه 


-ربنا يكرمك يا بيه وينصرك على مين يعاديك يارب

 

غادرت" حكمت" بعد أن أغدقته  بدعواتها تاركة  أمر واحد  يدور برأسه، هو يتفهم أنه شقيق "شمس" ويحق له البحث عنها ولكن ذلك ال"صالح" ليس بتلك النزاهة ولم يحترم رباط الـ دم حين اهانها… ترى ندم وأراد أن يكفر عن خطأه في حقها! حقًا لا يثق في ذلك فهذا المـ خنث عديم الضـ مير لا تمت أفعاله للرجولة بِصلة ومن المؤكد يوجد سبب أخر هو يغفله.   

❈-❈-❈

ارتشف من كوبه رشفة كبيرة حين لاحظ سكوتها وترددها البائن، فمن غيره يحفظ طباعها وكل خلجة بها، ليتسائل دون أن يوجه نظرات مباشرة لها:

-اتكلمي يا "بسمة" وانا هسمعك


وهنا تلهفت و تسائلت مُسرعة:

-هي مدة "سلطان" هتخلص امتى انا زهقت من كتر العد


رفع عينه الناعسة لها لثوانِ يتـ حسر على حظ قلبه ثم أجاب سؤالها بسؤال يضاهي نفس تلهفها لمعرفة إجابته:

-للدرجادي بتحبيه و مستعجلة على خروجه


ارتبكت وأخذت تفرك بيدها من صراحته الزائدة، لتستنكر قائلة:

-حب ايه بس يا "عماد"...انا بسألك علشان هو كبير الحتة والناس كلها بتهابه وبتعمله ألف حساب ده هو اللي كان حمينا بعد ربنا


لم ينطلي عليه كلمة مما نطقت به لذلك تهكم قائلًا:

-بتقولي أي كلام على فكرة


تأففت تعترض على تهكمه:

-مش أي كلام وبعدين ده اخوك يعني مفروض تفرح لما اشكر فيه مش تعارضني


ابتسم بسمة مريرة 

محملة بالكثير من الخذلان ثم نطق:

-لازم اعارضك... علشان محدش عارف" سلطان" ولا اتأذى منه أدي


شهقت تستنكر قوله:

-"سلطان" بيحبك ومستحيل يكون اذاك ده أنت من دمـ ه 


تـ قلصت معالمه وفسر بنبرة

مريـ رة:

-مش شرط ابدا يكون من دمـ ك علشان يحبك اوقات رابط الـ دم بدل ما يقرب ويحنن اللي منك عليكِ اوقات تانية بيتلف حولين رقبتك علشان يخـ نقك ويأذيـ كِ


لم تفهم شيء من حديثه فهي تشعر انه يتحدث بالالغاز وعقلها الصدأ لم يستوعب شيء مما نطق به لذلك ردت بسذاجة وثقة ليست ابدًا بمحلها:

-أنت اللي بتقول أي كلام مش أنا، "سلطان" سيد الناس كلهم وعمره ما يقدر يأذي اللي منه


اتسعت بسمته المريـ رة ولم يـ جادل أكثر فهي ترى الأمور بسطحية تجعله يود أن يكـ سر رأسها ولكن ماذا يفعل إذا كان ذلك الخائـ ن بين أحـ شائه ينبض لها، فقد نهض دون اضافة المزيد ليغادر وهو يتيقن أن "سلطان" لم يخرب حياته فقط بل شطر قلبه لنصفين بعد استحواذه على قلبها.


❈-❈-❈


قرر العودة لمنزله بعد أن بحث عنه هنا وهناك ولكن دون جدوى فلم يجده في محل سكنه وحين تم عمل تحرياته هو ورجاله لم يتوصلوا له فكان حانقًا بشدة وفي حيرة من أمره هل يخبرها بما حدث أم يتكتم على الأمر لحين يجده.

 في تلك الأثناء كانت جالسة هي في فراشها بعد نوم "ليلى" تضم جسدها تفكر مليًا وتحاول التغاضي عن قلبها الذي يتأكلها ويحثها على  الاطمئنان على ابن شقيقها، وبعد تفكيرًا عضال اخذت قرارها دون أن تحتاط لعواقب الأمر جازفت وخطت نحو الردهة ثم تناولت سماعة الهاتف ونقرت على أزراره  برقم "بدور" 

التي تحفظه عن ظهر قلب فمع كل رنين متقطع تتأهب للرد لحين فُتح الخط وكادت تتحدث لولا صوت الطرف الآخر الذي أرجف أوصالها:

-الو مين؟


كتمت انفاسـ ها بكف يدها وكأنه من الممكن أن يتعرف عليها منها ثم بتوتر شديد وضعت السماعة مكانها تزامنًا مع صوته النافذ الذي جعل قلبها يهوي بين ضلوعها:

-بتعملي إيه عندك؟


التفتت له تضع يدها على خافقها تحاول جاهدة التقاط انفاسها وتجمع بضع كلمات تبرر له ولكن هو لم يتمهل وخطى نحوها بخطى واسعة هادرًا بنفاذ صبر وبملامح جحيـ مية غاضـ بة:

-كنتِ بتكلمي مين انطقي


حسنًا الآن فقط هابت نظراته فكانت عيناه مُـ رعبة لا تنبئ بالخير فقد حاولت التحلي بالثبات وكادت تجيبه لولا تعالي رنين الهاتف الأرضي لتبتلع غصة مريرة بمر الحـ نظل بحلقها وتتركز نظراتها 

المُـ رتعبة على الهاتف قبل أن يرفع سماعته ويجيب بصوت نافذ قوي:

-مين؟


أتاه رد الطرف الآخر متسائلًا:

-لمؤاخذة الرقم ده رن عليا وقفل مين انت


-انت اللي مين 


-انت اللي طالب 


نظر لها نظرة ثاقبة مدققة يلاحظ الرعـ ب الذي يتقافز من عيناها قبل أن يجيبه حانقًا: 

-غلطت في النمرة وعلشان كده قفلت 


-متأكد  


رد مزمجرًا:

-وانا ههزر معاك ولا ايه! قولتلك غلطت في الرقم 


قالها بعصبية مُفرطة وشـ ياطين الأنس والـ جن تتراقص أمام عينه من مجرد تخمين هويته، ليغلق الخط ويضع الهاتف من يده ويقترب متسائلًا بنبرة غاضـ بة نفضتها:

-مين ده؟

تقهقرت بخطواتها لحين ارتطم ظهرها بالحائط خلفها تتخذ مسافة آمنة منه ثم ارتجف فمها وحاولت لملمت شتاتها كي تجيبه ولكن هو بطبيعته الملولة كان يزعق بنفاذ صبر وهو يقترب شيء فشيء منها:

-انطقي


نظرت لهيئته بنظرة متوجسة قبل أن تتلعثم قائلة:

-ده...ده...


استوحشت نظراته أكثر حين وقف أمامها ومع تلعثمها ذلك لم يتمالك زمام ذاته فقد لكم الحائط خلفها وكرر بصوت نافذ نفض قلبها:

-مين؟


اغمضتت عيناها ثم اجابته باختناق وبنبرة ترتجف حروفها:

-صالح... صالح اخويا


ضاقت عيناه بتفكير ثم تسائل متهكمًا وهو مازال بذات القرب المُـ رعب منها: 

-بتتصلي بيه ليه؟ وحشتك الاهانة و بقيتي راضية عن اللي كان بيعمله فيكِ مش كده


لم يروقها تهكمه لذلك لملمت شتاتها ورفعت عيناها الأبية تنظر بنصف عتمته قائلة:

-ده رقم "بدور" طليقته وكنت عايزة اطمن على "رامي" ابنه 


عقب بنبرة يتطاير الغـ ضب منها: 

-هو أنتِ غبية ولا بتستغبي انا مش قادر افهمك


رفعت سبابتها صوبه ثم قالت بصمود تحسد عليه: 

-لو سمحت انا قولتلك اللي حصل بلاش تغلط فيا انا فعلًا مفكرتش في عواقب اتصالي بس غصب عني قلبي كان واجعني ونفسي اطمن عليه


نظر لأصبعها ثم لوجهها نظرة مُطولة قبل أن يبتلع رمقه و يتراجع خطوتين للخلف متسائلًا: 

-لو كلامك مظبوط ليه التليفون مع اخوكِ مش مع طليقته


نفت برأسها وقالت بنبرة مختنقة: 

-معرفش معرفش انا خايـ فة يكون اتعرضـ لهم بسببي وهما ملهمش ذنـ ب


قالت أخر جملة بنبرة معذبة  والـ خوف ينهش احشائها حتى انها لم تعي لتلك الدموع الأبية التي رفضت الصمود و تهدلت لتُفرج عن ثقل قلبها


تعلقت عينه بها يستشف صدقها وإن فعل انحلت عقدة حاجبيه وتخلى عن تجهمه شيء فشيء قبل يوليها ظهره ويعند احساسه قائلًا:

-مش مصدقك


ردت بشهقات متقطعة ودموعها تزف حديثها: 

-مش ذنـ بي دي مشكلتك انت لان  انا مش كدابة وده اللي حصل  وعلى فكرة انا عمري ما رضيت بالإهانة زي ما انت فاكر ولو كنت راضية وقبلاها مكنتش اتحميت فيك ولا وافقت ادخل بيتك 


زفر انفاسه دفعة واحدة وظل صامت و شيء واحد يكسر السكون وهو صوت شهقاتها لحين خرج صوته بنبرة مغايرة:

-روحي على اوضتك دلوقتي


نظرت نظرة مطولة لظهره، ودون أن تنطق بشيء كانت تفر تختبأ في غرفتها تفضي ما بجعبتها من دموع صمدت كثيرًا وفشلت في كبتها. 


❈-❈-❈


للكثير من الوقت ظل جالس يكوب رأسه بكفوف يده يفكر ويفكر لحين واتته فكرة ذهبية وقام بتنفيذها، فقد توجه للهاتف الأرضي  وأخذ يضغط على ازراره لحين وجد ما يبحث عنه ثم بعدها تناول هاتفه الخاص يتصل بأحدهم وما أن أتاه الرد من الجانب الأخر قال:

-عايز منك خدمة وياريت في اسرع وقت


❈-❈-❈


ـ هنعمل ايه رجالتنا بيتسحبوا واحد ورا التاني

قالها "جلال" الذراع اليمين ل "سلطان" أثناء زيارته له داخل السجن فقد زفر "سلطان" انفاسه دفعة واحدة وقال بخفوت كي لا يصل صوته لمن حوله:

-الظابط ده ملوش مدخل ندخله منه


-معرفش بس ندور على طريقة لعل وعسى


-اتصرف يا "جلال"  واوعى حد من الرجالة يفتح بوقه

 

-دول تربية ايدك يا" سلطان" ولحـ م كتافهم من خيرك و لا يمكن يبعوك ابدًا


هز" سلطان" رأسه ثم أمره قائلًا: 

ـ راضيهم وابعت لبيوتهم اللي يكفيهم وزيادة


ـ أمرك نافذ يا  "سلطان" 


ليصمت لهنيهة ثم يتسأل بنبرة مغلفة بالندم: 

ـ الواد "عماد "عامل ايه مبيسألش عليا


تنهد" جلال"  ثم هز رأسه نافيًا، لتتقلص معالم" سلطان" ويسهم بنظراته لحين باغته  "جلال" قائلًا: 

ـ سيبك منه  انت عملت اللي عليك وكفاية اوي أنه هو سبب حبستك


غمغم "سلطان" بحسرة وهو يفرك جرح حاجبه: 

ـ "عماد" عمره ما هيعرف يسامح

 

_ الزمن كفيل يغير كل حاجة يا "سلطان"بلاش تلوم نفسك اللي حصل حصل 


تنهد بثاقل وقال يؤيده: 

_ عندك حق اللي حصل حصل

خلينى في دلوقتي" صالح" عمل ايه لقى "شمس"


ـ "صالح" ده خيـ بة ولا عرف يعمل حاجة  وفاكر نفسه معلم علينا في غيابك وإحنا بصراحة بنتلكك ونفسنا نخـ لص منه


لمَ  تُصر على هجرانها ألم يكفيها معاندة القدر له وعذابه  لثلاث سنوات عِجاف من دونها.


فكان ذلك ما يتردد بداخله ويُشعل نيران غضبه المُستعرة قبل أن يكور قبضة يده بقوة ويعقب من بين أسنانه: 

ـ استحملوه لغاية ما يلاقيها ويرجعها وبعد كده  مش هيبقى ليه قيمة عندي 

  

❈-❈-❈


أما عنه فقد أتاه الخبر اليقين من أحد المتخصصين أن ذلك الرقم الخاص بالهاتف الذي هاتفه بالأمس يوجد في أحد المناطق المجاورة  وهاهو يقف يستند على سيارة الشرطة حين اتاه اثنين من العساكر يمسكون به ويجرونه لعنده تحت تذمره وصـ راخه عليهم:

-في ايه بس يا جدعان مسكني ليه كده انا معملتش حاجة ده ايه الظلم ده


دفعه أحدهم أمام "سليم "بقوة لتبرق عين" صالح" ويبتلع ريقه متخوفًا فمن الوهلة الاولى علم أنه ذاته الذي تصدى لشقيقته سابقًا ليشحب وجهه ويدعي البراءة مسالمًا:

-انا معملتش حاجة يا باشا 


نفث "سليم" دخان سيجارته وهو ينظر من عليائه لهيئته  المخجلة بنظرة مُتدنية ثم تهكم قائلًا:

-معترض ليه مش المفروض تمشي معاهم من سكات طالما قالولك إني عايزك


توجس من نظراته ثم قال مترقبًا:

-على راسي يا باشا بس افهم انتم قصدني أنا  ولا حد تاني أصل البيت ده بتاع جماعة صحابي وانا كنت مبيت عندهم 


اعتلى حاجبين "سليم " من حيطته المدهشة ثم  رد وهو يدهس عقب سيجارته بكعب حذائه:

-لأ أنت المقصود يا "صالح" ومتقلقش هتفهم بس بعد ما تشرف معانا شوية 


برقت عين "صالح "حين نطق بأسمه ثم تسأل  بنبرة مهتزة :

-اشرف معاكم فين لمؤاخذه؟


اجابه "سليم" بنبرة  قاطعة: 

-على القسم ياروح أمك


زاغت نظرات "صالح " بخوف وحاول المماطلة: 

-بس يا باشا انا كنت نايم ورجالتك جايبني بالهدوم الداخلي لمؤاخذه


-متقلقش مش هتسقع علشان هندفيك بطريقتنا 


قالها وهو يربت على كتفه بنبرة متوعدة وبملامح لا تنبئ بالخير جعلت الدمـ اء تـ فر من جسده قبل أن يدفـ عون به لعربة الشرطة كي يتحفظون عليه داخل صندوقها الخلفي في حين هو كان يصعد للسيارة ويشير لساقها أن ينطلق وبينه وبين ذاته ينوى أن لا يهدأ حتى ينال ذلك المُخنث عقبات أفعاله التي لا تمت للرجولة بِصلة.


❈-❈-❈


دقائق وكان يدخل مكتب زميله المسؤول عن قضيته قائلًا بعدما جلس على المقعد الذي يقابله:

-انا جبت الواد وخليتهم رموه في الحبس والباقي بتاعك يا "أحمد" مش هوصيك


لمع الانبهار في عين "أحمد" وقال متحيرًا:

-اموت واعرف جبته إزاي يا "سليم" بيه 

ده إحنا من امبارح وقالبين الدنيا عليه وملهوش أثر


-حظه الاسود هو اللي وقعه في سكتي 


-دي امه داعية عليه بقى ولازم نعمل معاه احلى واجب 


-الكـ لب ده مش عايزه يرتاح 

تنـ غص عليه عيشته لغاية ما ياخد حكم و

يـ غور في داهـ ية من هنا

 

-ماشي اللي انت عايزه هيحصل

أنت تأمر يا "سليم" بيه  

هز "سليم " رأسه ثم شكره  وقبل أن يغادرتعالى رنين هاتفه ليخرجه من جيبه ببسمة هادئة ويودع زميله ثم يجيب وهو في طريقه للخارج :


-اهلًا يا عريس 


-العريس بيعد الدقايق يا عم "سليم" 


-هانت كلها يومين اصبر ومتفضحناش 


-انا صابر أهو ومتحامل لغاية ما اشوف اخرتها 


-اخرتها زي الفل بإذن الله وربنا هيتمملك على خير


-يارب يا "سليم" يسمع من بوقك ربنا…بقولك  أنا كنت عايز أأكد عليك علشان هتشهد على العقد 



-وماله ما انا خلفتك ونسيتك 



-دبش بس بحبك ومليش صاحب غيرك ومضطر استحمل عجرفتك


-ده برضاك مش غصب عنك


-يا عم برضايا هو انا اقدر اقول غير كده 


-ماشي اشوفك على خير 


-بإذن الله وعقبالك يا صاحبي


اغلق معه دون أن ينفر من دعوته فكانت تعتلي وجهه بسمة هادئة تحمل سعادة حقيقية لصديق عمره فأخيرًا سيهنأ مع من ملكت قلبه منذ زمن

ليصعد لسيارته ويقوم بمكالمة أخرى كان فحواها:

-جبت العنوان اللي طلبته منك 

وحين اتاه الرد من الطرف الأخر انطلق بسيارته  ذاهبًا كما نوى كي  يكمل ما بدأه على أمل أن يخرس ضميره و يكف عن جلد ذاته بسببها. 


❈-❈-❈


في المساء عاد للمنزل وهو حائرًا أيخبرها أم لا فإن فعل من المؤكد أنها سوف تـ فر هـ اربة من هنا وحقًا سيكون معها  كل الحق فطالما كان يؤنب ذاته بسببها ففي كل مرة يتسرع كعادته ويخرب كل شيء بعجرفته فإن غادرت لا يحق له لومها ولكن ماذا عن والدته التي تعودت عليها و فرق معها وجودها.

فكان كل ذلك يدور برأسه أثناء جلوسه بجانب والدته فور عودته  أمام التلفاز 

لحين انتشلته  بسؤالها:

-ايه اللي شاغلك اوي كده؟


تنهد بتثاقل وأجابها: 

-ابدًا يا "ليلى" ليتسائل بترقب وهو يعتدل في جلسته:

-هي "شمس" فين مش قاعدة معاكِ ليه؟


-أول ما لمحتك جيت دخلت اوضتها وقالت انها عايزة تنام 


زفر بضيق مستاء من عدم وجودها وظل صامت نظراته شاخصة في الفراغ لتباغته "ليلى "متوجسة:

-سكوتك ده معناه ان احساسي في محله وأنك عملت حاجة ضايقتها


تطلع لها ثم قال بنبرة استشفت هي الندم بها:

-كان سوء تفاهم 


-يبقى علشان كده طول اليوم مسهمة ومفتحتش بوقها بكلمة 

اكيد انت معرفتش تمسك لسانك  ورمتلها دبش زي عوايدك


برر بصدق: 

-مكنتش اقصد بس الموقف استفزني وكان مريب بالنسبالي


-طب احكيلي ايه اللي حصل


قص لها ما حدث بأدق تفاصيله ولكنه بالطبع اخفى عنها أمر القبض على ذلك المخنث كي لا تخبرها لحين يتخذ قراره، وحين انتهى رمقته بنظرة عاتبة ثم قالت مسـ تاءة من طريقته:

-يعني اتأكدت من كلامها


هز رأسه يؤكد لها، لتسترسل هي ناصحة:

-البنت مغلطتش يا ابني وحقها تطمن على ابن اخوها


-هو حظها جه كده بقى يا" ليلى" 

اعمل ايه


-تطيب خاطرها


-ودي اعملها ازاي قوليلي


-مش هقولك تعتذر علشان عارفة انك مش هتعملها بس البنت كتر خيرها قاعدة معايا وشيلاني على كفوف الراحة يعني تستاهل تعاملها احسن من كده إلا والله هزعل منك


-انا مقدرش على زعلك يا "ليلى" وانا فعلًا هحاول اعمل كده


قالها وهو يرفع يدها يقبلها ببسمة حانية وهو يجهل كيف سيستخدم الكلمات ليفعل ذلك من الاساس. 


❈-❈-❈


في الصباح  تعمد أن يتأخر قليلًا كي تسبقه هي ويستطيع محادثتها فحين شعر بباب غرفتها يفتح تمهل لدقائق قبل أن يلحق بها، ليجدها تفتح المُبرد وتخرج منه الطعام بآلية مطلقة دون أن تعيره أهمية  ليتحمحم يجلي صوته اولًا ثم قال بصوته العميق:

-صباح الخير


اكتفت بهز رأسها وبدأت في إعداد الفطور ليستأنف هو بتوتر لم يعتاده:

-عارف أنك زعلانة بس انا معذور والموقف كان مُـ ريب بالنسبالي


تنهدت ثم هزت رأسها ايضًا وهي تتجنب النظر له منشغلة فيما تفعله، ليزفر هو وكأن الأمر لم يعجبه ويقول بحدة غير مقصودة اجفلتها:

-ممكن لما اكلمك تبصيلي وتسيبي اللي في ايدك


رفعت نظراتها الأبية له وردت بمجابهة لطالما كانت تدهشه:

-سمعاك كويس وعلى فكرة بعرف اعمل الاتنين مع بعض ومع ذلك اتفضل كمل كلامك

قالت أخر جملة وهي تربع يدها وتتأهب بنظراتها لباقي حديثه

ليبتلع ريقه ينظر لها يحاول لملمت أفكاره واستجماع الكلمات أمام وميض عيناها الشرس بعد أن عاهد ذاته أن يتروى ويتحكم بأعصابه فقد خرج حديثه بنبرة هادئة مغايرة:

-انا متعودتش اثق في الناس بسهولة وعلشان كده مصدقتكيش وقتها


ردت بثبات  تصفعه بحديثها: 

-عارفة أنك لغاية دلوقتي مش قادر تثق فيا بس ده ميدكش الحق تهني بكلامك انا مغلطتش لما اتصلت ومكنتش اعرف ان التليفون معاه


صمت لثوانِ فقط كان ينظر لها نظرة غريبة تقسم أنها رأت الندم جلي بها قبل أن تجمد نظراتها من جديد ويقول بنبرة ثابتة:

-اتأكدت من كده


تأهبت نظراتها غير مستوعبة، في حين أضاف هو: 

-وعلشان اثبتلك حُسن نيتي ده تليفون خليه معاكِ


قالها وهو يمد يده بالهاتف الذي ابتاعه لها خصيصًا، لتتناوب  نظراتها بين يده الممدودة وبينه ثم تمتنع قائلة:

-انا مقدرش اخد حاجة من غير ما اقدر ادفع تمنها والتليفون ده شكله غالي وانا...


قاطعها هو بنفاذ صبر من حساسيتها الزائدة:

-محدش طلب منك تدفعي تمن حاجة يا "شمس" وبعدين كان لازم اعمل كده علشان هحتاج اكلمك عليه و اطمن على "ليلى"


اغمضت عيناها بقوة ثم وافقت بمضض وهي تتحاشى النظر له:

-تمام بس لما اسيب هنا مش هاخده معايا 


ابتلع ريقه ودون أن يفكر في منطقية حديثه  نطق :

-بجد بتفكري تسبينا؟


لم تعير صيغة الجمع أهمية حين اجابته بكل ثقة:

-انا كنت واضحة معاك من الأول وقولتلك إني اقامتي هنا محدودة لغاية ما أدور على  شغل وسكن


أجل هي مضطرة  للبقاء لأن لا يوجد مكان تلجأ إليه حاليًا ولكن لديه يقين قوي  إذا وجد وعلمت بأمر شقيقها ستعود لمنزلها وتترك والدته لذلك ظن أن قراره صائب فلن يخبرها على الأقل الآن. 


ليقول كي يثبت لذاته أنه على حق فيما سيفعله: 

-بس" ليلى" اتعلقت بيك


ردت بعفوية و محبة صادقة:

-وانا كمان اتعلقت بيها ربنا يعلم انا حبتها أد ايه بس زي ما قولتلك انا مش بحب ابقى عبئ على حد  وأكيد إن شاء الله بعد ما امشي هبقى اجي اطمن عليها من فترة للتانية 


جوابها جعله يثبت على قراره فقد تركزت عتمة عيناه عليها لثوانِ قبل أن يقول بملامح جامدة:

-وانا وقتها مش هقدر افرض عليكِ حاجة

 

ابتسمت بمجاملة وشرعت في تحضير الفطور بعد أن وضعت الهاتف التي اعطاه لها جانبًا، ليعتصر عينه بقوة ويقول ما كان ينوي قوله من بادئة الأمر:

-على فكرة هتلاقي رقم "بدور" الجديد متسجل عليه تقدري تكلميها علشان تطمني


تركت من يدها وتأهبت كل حواسها حتى أن شبه بسمة اعتلت وجهها حين تلهفت بالسؤال:

-أنت بتتكلم بجد


أجابها بثقة وعينه دون قصد تعصاه وتسير على تقاسيمها:

-بجد ومتقلقيش هما بخير و تقدري تكلميها أي وقت بس ياريت تكونِ حريصة ومتعرفهاش مكانك


وهنا ابتسمت بسمة سعيدة متلهفة جعلت عيناه تعصاه  للمرة الثانية وتعلق بها تتابع خلجاتها وتمر على تقاسيم وجهها ببطء وهي تتفقد الهاتف وتنقر على شاشته تتأكد بذاتها، ليستغفر بسره كونه أطال النظر و يوليها ظهره ينوي الخروج ولكن صوتها الناعم المغلف بسعادتها منعه حين همست: 

-شكرًا


التفت نصف التفاته ثم ابتسم بسمة باهتة وهز رأسه أن لا عليكِ ثم غادر لعمله وهو ينوي أن لا يتسرع مرة أخرى فهي بأعتنائها بوالدته اصبحت هي صاحبة المعروف الأن وليس هو لذلك شعر بالخزي من ذاته وقرر أن يتحكم في اعصابه وردود افعاله اكثر من ذلك من أجل بقائها.


يتبع