رواية في غياهب القدر بسمة بدران - الفصل الخامس عشر
رواية في غياهب القدر
بقلم الكاتبة بسمة بدران
الفصل الخامس عشر
لماذا أنا؟
رواية
في غياهب القدر
تبدت بشعر كثيف السواد
فدك مقص وخرّ سجود
فلما أفاق .. يقول بصوت
حشيج : ألا ما أذل الجحود
وكيف بخمقي أقص الحياة؟
وشعر كهذا يساوي الوجود !
إذا ما قصصتُ سواد الليالي
يطول الصباح ..ويبقى كؤود
فخلّوا سَبيل الجمال فسيحاً
ولا ترسموا لشعور الحدود
ونادى المقص بعصر جديد
ويبقى جمال كهذا خلود
(عبد الرحمن التركي)
❈-❈-❈
منذ أن عاد من المشفى بالأمس وهو يحبس نفسه بداخل غرفتي يرفض التحدث مع أي أحد حتى زوجته التي هي أقرب الناس إليه في الوقت الحالي.
قضى ليلته بين البكاء والتساؤلات: لماذا أنا بالتحديد لما حدث معي هذا؟
أنا لم أفعل شيئا سيئا في حياتي لطالما كنت أراعي الله في كل شيء لم أخذل أحد كذلك لم أؤذي أحدا قط بالقول أو الفعل لماذا أنا؟
إذا لم يذق طعما للنوم خلال تلك الليلة
وفي الصباح شعر كأي شخص بأنه يريد أن يقضي حاجته لكنه رفض أن يطلب المساعدة من أحد حتى شعر بالتعب شديد.
لا يصدق أنه من اليوم فصاعدا سيحتاج إلى أحد يفعل له كل شيء في حياته وكأنه طفل صغير
رباه كيف سيتأقلم على هذا الحال.
صرخ بكل ما أوتي من قوة: ليه. ليه يا رب؟
انتفض من مكانه عندما استمع إلى صوت ترقات عالية فوق بابه يليه صوت رفيقه المقرب: عمار افتح يا حبيبي افتح أنا رؤوف عمار عشان خاطري افتح.
قصدك يعني أقوم وافتح والله كتر خيرك يا صاحبي.
تلك الكلمات قالها بسخرية مريرة مزقت قلب من يقف بالخارج فأدار مقبض الباب وولج
حقا هو لم يقصد هذه الكلمات فقد ظن أنه اغلق الباب على نفسه من الداخل.
انقبض قلبه عندما أبصر عينين صديقه الحمراوتان وكأنه لم يذق طعما للنوم منذ سنين عديدة
شعرا بأنه يريد البكاء بصوت مرتفع لكن عليه أن يتمهل ويهدأ قليلا فصديقه في أمس الحاجة إليه الآن يجب عليه أن يبقى قويا من أجله ومن أجل عائلته.
فدنا منه بخطوات متمهلة حتى وقف بجانب الفراش سأله بحرص: عمار يله خليني أساعدك عشان تقوم تدخل وتغسل وشك وتفوق كده عشان عايزك في كلمتين.
حقا هو في أمس الحاجة لفعل هذا لكنه استمع إلى صوت كبريائه وهز رأسه نفيا هادرا بعنف: قلت ما حدش يدخل عليا سيبوني لوحدي بقى أنتم عايزين مني إيه؟
انحنى بجزعه قابضا على مرفقه يهزه بعنف: فوق لنفسك بقى أنت معترض على قضاء ربنا يعني مش انت عمار اللي أنا عارفه اللي كان كل كلامه مصحوب بذكر الله بدل ما تقول الحمد لله وتطلب منه أنه ينجيك من اللي أنت فيه حابس نفسك وبتعترض على قضاء ربنا!
استخدم يده الأخرى ودفع يد صديقه التي تقبض على ذراعه مغمغما بصوت يقطر مرارة
: غصب عني والله يا رؤوف أنا مش مصدق إيه اللي حصلي ده معقولة أنا تبقى حياتي بين السرير والحمام أنا اللي ما كنتش بحب اقعد ديما أحب أتحرك وأروح واجبي معقولة يا رؤوف بين يوم وليلة اتشل
بذمتك يا صاحبي دي حاجة سهلة هينة يعني؟
قال كلمته الأخيرة ورغما عنه انسابت عبراته جعلت صديقه يجلس بجواره ويجذبه في عناق قوي ويمسد فوق رأسه وظهره صعودا وهبوطا: اهدا يا حبيبي وقول الحمد لله ويلا خليني أساعدك تدخل الحمام وتتوضا وتصلي ركعتين.
ابتعد عنه قليلا ثم هز رأسه نفيا: لا. ادخل الحمام بس أنا مش جاهز أصلي دلوقتي.
رمقه رؤوف بتعجب لكنه فضل أن يتركه على راحته
فأومأ له موافقا
وراح يساعده بحرص ليأخذه إلى المرحاض وهو يشعر بأن الأيام القادم لم تمر على خير.
❈-❈-❈
يجلسون في رضهة المنزل صامتون وكأن على رأسهم الطير
لم يصدقوا تلك الكارثة التي حلت عليهم فأخيهم الأكبر وسندهم بعد والدهم في أزمة كبيرة والأدهى من ذلك أنه لا يريد تخطيها أبدا فقد أخبرهم والدهم بأن عمار رفض العلاج بالأمس وأخبر الطبيب بأنه لم يجري أي جراحة كما أنه لا يريد أي إشاعات وتحاليل.
ظل الوضع بين صمت وسكون حتى هتفت عزة بنفاذ صبر: وبعدين يعني يا بابا مش معقول حضرتك هتسيبة كده احنا لازم نتصرف.
أمالا جزعه للخلف بعد أن أبعد يده عن وجهه هاتفا بجدية: نعمل إيه يعني يا عزة نجبره انه يتعالج أو يعمل عمليات
هو أخوكي صغير يعني؟
صاحت عبير بصوت مرتفع: أيوة يا بابا نجبره ما دام مش عارف مصلحته فين مش معقول نسيبه كده مشلول يا بابا لازم حضرتك تقنعه ولا حتى تدخله عمليات غصب عنه.
خرج محمد زوج عزة عن صمته هاتفا بروية: يا جماعة الكلام اللي أنتم يتقولوه ده ما ينفعش وعمي سعد عنده حق عمار فعلا مش صغير عشان نجبره يعمل حاجة هو مش عايزها لازم الأول يقتنع بفكرة العلاج وبعد كده يحلها ربنا.
هدرت عبير: ده حتى مش راضي يعمل الإشاعة ولا التحاليل يا محمد الدكتور طلبهم منه قبل الخروج امبارح ورقض يعملهم معنى كده أنه فاقد الأمل خالص عشان كده.
قاطعها بهدوء: عشان كده يا عبير لازم نستنى لحد لما يهدى ويروق وبعد كده عمي سعد يتكلم معاه تاني.
صمتا الجميع وكأنهم يؤيدون حديثه.
فغمغم الحاج سعد بحزن شديد: ربنا يشفيه ويعافيه يا رب هو وكل اللي زيه.
غمغما الجميع في صوت واحد: أمين يا رب.
❈-❈-❈
يلة عايزة حاجة يا صَبا أنا هامشي بقى .
صدقت ثم أغلقت مصحفها الشريف ورمقت شقيقتها بتفحص هاتفة بصوت خافت: خلاص يا غزل نويتي تمشي.
أومأت لها موافقة وهي تعدل من وضعية حجابها مردفه على عجالة: لازم امشي بقى يا صَبا أنا سيبة البنات عند جارتي مش معقول كل يوم والتاني أروح واديهملها أكيد هتزهق مني وإن كان حبيبك عسل بقى ما تلحسهوش كله صح ولا إيه.
أومأت لها موافقة.
فاستطردت الأخرى: عمار حالته صعبة قوي يا صَبا أتمنى من ربنا انه يشفيه بجد مش مصدقة اللي حصله ده ورؤوف عمال يقول اللي حصل ده بفعل فاعل تفتكري يا صَبا الكلام ده مظبوط.
صمطت قليلا وسرعان ما قفز في ذهنها المعلم فكري أو حسن زوج عبير فكلاهما لديهما ثأر عند عمار لكن هل يجرؤان على فعلها؟
هذا ما تساءلت به بداخلها.
استفاقت من شرودها على صوت شقيقتها المرتفع نوعا ما: إيه يا بنتي رحتي فين أنا بكلمك.
هزت رأسها نفيا وكأنها تنفي ما يدور بداخلها مغمغمة بهدوء: لا لا أنا معاكي يا غزل يله لا إله إلا الله.
قالتها وهي تدنو منها وتقبلها فوق وجنتيها.
والأخرى بدورها عانقتها بقوة هاتفة بلطف: خدي بالك على نفسك وعلى ماما وبابا وأنا كل يوم والتاني هلاقيني هنا عشان أطمن عليكم وعلى عمار يله يا حبيبتي في أمان الله.
شيعتها بناظريها حتى دلفت وأغلقت الباب من خلفها.
ثم سمحت لعبراتها بالهطول فكلما تذكرت حالته بالأمس ورفضه القاطع لبقاء أي من عائلته في غرفته بل وفي شقته بأكملها شعرت بالحزن الشديد فحبيبها في أزمة كبيرة وعليه تخطيها كما أن خالها أخبرهم بأنه رفض العلاج نهائيا.
فعمار بهذه الطريقة يقتل نفسه بالبطيء لذا عليها أن تتحدث معه حتى لو بالقوة عليه أن يستفيق لنفسه قبل فوات الأوان.
❈-❈-❈
يتقلب في مضجعه وكأنه يتقلب على جمر من نيران
فكلما تذكر حديث الرجل المجهول عن زوجة عمار وهو يشعر بالنفور والاشمئزاز منه
فكيف سيشارك في جريمة كهذه؟
حقا هو أراد الانتقام من عمار لأنه شنع به أمام الناس وفضحه في المنطقة بأكملها لكن لطالما كانوا يبعدون النساء عن أي مشكلة تحدث معهم وذلك يريد زوجة عمار كي ينتقم منه أكتر
لكن كيف سيوقفه وهو ذو مال ونفوذ كبير وهو بالنسبة له لا شيء ثم إنه ليس بيده شيئا.
عاد بذاكرته لبضع سويعات
عندما كانوا يجلسون في المخزن حينما هتف ذلك الرجل: هاخد منه مراته.
فهدر المعلم فكري باستنكار: نعم. لا بقول لحضرتك إيه يا باشا ما بندخلش النسوان ما بينا عدم اللامؤاخزة عمار نعمل فيه اللي احنا عايزينه لكن كله إلا الحريم آه ماليش أنا بقى في الحركات دي.
رمقه الرجل بحدة.
فهتف الشاب الآخر: المعلم فكري عنده حق يا باشا ثم أن الكلام اللي حضرتك بتقوله ده يطير فيه رقاب.
أشعل الرجل سيجارته بهدوء مستفز واستنشق منها نفسا طويلا وظفره على مهل هاتفا بروية: اسمعني يا غبي منك له أنا مش هعمل حاجة حرام -لا سمح الله- لا كله هيبقى بمزاجها.
اتسعت حدقتا المعلم فكري بدهشة ولم يعقب.
فتساءل الآخر: مش فاهم قصد حضرتك يا باشا يا ريت توضح.
أجابه بعد أن استنشق نفسا آخر: أفهمكم عمار ومراته بينهم قصة حب كبيرة ده اللي أنا عرفته من مصادري لما مراته تسيبه وهو في الأزمة اللي هو فيها دي تكون قطمة وسط جامدة قوي له وهو ده اللي أنا عايزه.
تساءل المعلم فكري بحذر: بمزاجها ازاي يعني يا باشا؟
أجابه بحدة: دي بقى ملكوش فيها اللي هعزكم فيه ده بس هو اللي هتعملوه مفهوم؟
أومأ كلا الرجلين وهم يشعرون بأن ذلك الرجل يكمن كرها لذلك المسكين المدعو عمار هنداوي.
استفاق من شروده على صوت زوجته التي ولجت للتو هاتفة بتعجب: انت لسه صاحي يا معلم؟
أجابها باختصار: أيوة روحي يا حسناء حضريلي الشيشة أخدلي نفسين معسل عشان دماغي هتنفجر.
أومأت له بالموافقة وذهبت تنفذ ما طلبه منها زوجها وهي تتساءل بداخلها عما يحدث معه ولماذا هو في حالة سيئة منذ عودته؟
بينما المعلم فكري زفر بقوة وهو يفكر في حل كي يخرج نفسه من التورط مع ذلك الرجل غريب الأطوار هذا.
❈-❈-❈
ذهابا وإيابا كانت تقطع غرفة ولديها وهي تقدم أظافرها من شدة الغضب.
فحبيبها وزوجها رفض مساعداتها في أكثر وقت كان يحتاجها فيه وفضل مساعدة الغريب عنها.
فكلما تذكرت صديقه رؤوف وهو يفعل له كل شيء يطلبه تشعر بغضب لا مثيل له فهي حبيبته وزوجته أحق من أي أحد في الدنيا هي أقرب شخص لديه.
لم تشعر بنفسها إلا وهي تندفع كالرصاصة للخارج قاصدة غرفته.
وها هي ذي تلج دون استئذان هاتفة بحدة أزعجت الراقد فوق الفراش: عمار أنا مش عارفة أنام بعيد عنك اسمعني لو سمحت.
لم تعطي له الفرصة لأي حديث واستطردت حديثها الغاضب: أنا أحق من اي حد في الدنيا اني أعمل لك حاجتك.
فهمني ازاي ترفض مساعدتي الصبح اني أدخلك الحمام وتستنى لما رؤوف ييجي عمار انت جوزي وأنا مراتك يعني.
ابتلعت باقي حديثها حينما أبصرته يفتح لها ذراعيه ويرجوها بعينيه ألا تكمل حديثها السخيف بالنسبة له.
فسرعان ما تناست كل شيء وهرولت إليه تلقي بجسدها الصغير بين أحضانه وراحت تقبل كل إنش في وجهه وتغمغم له بكل الكلمات المطمئنة التي تعرفها.
وهو بدوره شعر براحة نوعا ما فضمها أكثر إلى حضنه وراحا يبكي في صمت ولسان حاله يردد بأنه أكثر شخص محظوظ في هذه الدنيا لان إمرأة كزينة في حياته.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
استيقظت وهي بكامل نشاطها فاليوم ستذهب إلى شقة جارتها بحجة الاطمئنان على قريبها المريض.
ابتسمت بعذوبة عندما تذكرت نظراته الممتنة وحديثه العذب معها شعرت براحة كبيرة فهي تسير على طريقها الصحيح.
ارتدت فستانا من اللون الفيروزي ذو أكمام طويلة ورشة عطرها النفاذ بكثرة ثم نثرت خصلاتها الذهبية فوق ظهرها وكتفيها ووضعت مستحضرات التجميل بإتقان على وجهها الجميل ثم ألقت نظرة أخيرة على مرآتها وهرولت للخارج وابتسامة صغيرة تزين كرزيتيها.
وها هي ذي تقف أمام الباب بعد أن قرعت الجرس تنتظر.
ثواني وأبصرته يفتح الباب بهيئته الخاطفة للأنفاس يرتدي حلة سوداء وحزاء كلاسيكي زادوه جمالا فوق جماله.
يا الله كيف لرجل أن يملك كل هذا الجمال بمفرده؟
لا تقصد جمال الشكل فحسب بل جماله كليا ورجولته المبالغ فيها لم يجذبها شخصا هكذا من قبل حتى زوجها الصادق.
تأملته بوله لم تستطع إخفاءه ثم تنحنحت بحياء مصطنع مغمغمة بخفوت: صباح الخير رامي بقصد أستاذ رامي.
منحها ابتسامة بسيطة وردد تحية الصباح. بصوته المميز ثم أشار لها لتلج وهو يردف في عجالة: اتفضلي ادخلي غزل والأولاد جوه عشان أنا متأخر على الشغل.
أومأت له موافقة ورمقته بتفحص ثم افسح لها الطريق لتلج وانطلق للخارج لكنه رغما عنه استدار فأبصرها هي الأخرى تستدير في نفس اللحظة
تبادلا النظرات سويا ثم حمحمة بخشونة واستغفر ربه في سره وهرول بخطوات واسعة باتجاه المصعد.
بينما هي ابتسمت بنصر وأكملت طريقها للداخل وهي تمدح ذكاءها وجمالها الساحر الذي دائما يخولها للحصول على ما تريد.
❈-❈-❈
يقف كعادته في محل العطارة خاصته يبيع بضاعته لكن هذه المرة كان وجهه عابسا حزينا مكفهرا.
ولجت بخطى هادئة ثم ألقىت تحية الصباح باقتضاب
وبدوره ردها عليها لكن بصوت يكاد يخرج.
قطبت حاجبيها باستغراب ثم دنت منه تسأله بلهفة: حج سعد مالك يا أخويا مش عادتك يعني؟
رمقها بتعجب ولم يعقب.
فافستطردت: يوه ماله ده!
مصمصت شفتيها بعدم رضا ثم قررت أن تذهب من أمامه
لكنها توقفت عندما استمعت إلى صوته الحزين: هو أنت ما تعرفيش اللي جرى لابني يا ست صباح؟
رفعت كلا حاجبيها المنمقين بدهشة وسألته بوجل: إيه اللي حصل لابنك يا حاج سعد؟
تقصد يعني الباش مهندس عمار؟
هو أنا عندي ولد غيره؟
اطركت رأسها أرضا ولم تعقب.
ثم رفعتها مرة أخرى وهتفت بتأكيد: والله يا أخويا ما اعرف إيه اللي حصل له أصل أنا كنت عند أختي في حلوان بقالي يومين
هو إيه اللي حصل بالظبط؟
أخذ نفس عميق وظفره على مهل ثم هتف بصوت مخنوق بالبكاء: ابني عمل حادثة وانشل يا ست صباح.
ضربت صدرها بكفها هاتفة بجزع: يا نهار اسود انشل اللي هو ازاي يعني! وحادسة إيه احكي لي الله يرضى عليك والله يا أخويا أنا ما اعرف ألف لا بأس عليه ربنا يشفيه ويعافيه.
غمغم بخفوت: اللهم أمين قولي لي انت محتاجة إيه عشان أجيبهولك؟
هزت رأسها نفيا وهتفت بتأكيد: مش قبل ما اعرف إيه اللي حصل للمهندس عمار.
ابتسم بحزن ثم راح يقص عليها ما حدث منذ البداية وهي تستمع إليه بعينين دامعتين وتغمغم ما بين الفينة والأخرى: لا حول ولا قوة إلا بالله.
❈-❈-❈
فتح عينيه ببطء فابصر وجهها قريبا جدا من وجهه فأيقن أنها كانت تقبله كعادتها الصباحية.
ابتسم لها في حزن ثم غمغما باقتداب: صباح الفل يا زوزو.
راقصت حاجبيها بمرح ثم غمغمت: صباح القشطة يا قشطة يلا قوم أنا حضرتلك الفطار بس الأول خليني أساعدك تدخل الحمام وتغسل وشك إيه رأيك؟
أومأ لها موافقا ثم سألها بخوف: وأنت هتقدري تساعديني لوحدك يا زينة لا كلمي بابا أو رؤوف عشان مش هتقدري تساعديني لوحدك.
هزت رأسها نفيا ثم هتفت بتأكيد: لا هساعدك ما تقلقش وبعدين عمي الحاج قال لي إنه هيجيب كرسي بعجل عشان تقدر تتحرك أسهل يلا قوم واسند عليا.
إنصاع لكلامها واستقام بجزعه ثم أنزل قدميه بيديه من على الفراش ووضعهما أرضا فشعر بالحزن الشديد لأنه لم يشعر بقدميه.
أمسكت بيده بكل قوة وحاولت إيقافه لاكنه لم يستطع الوقوف فحاولت مرارا وتكرارا ولفت يده حول كتفها لتتحكم في حركته أكثر لكن للأسف كان حمله ثقيلا جدا عليها فسقطت أرضا وهو فوقها وعلى الرغم من المها من تلك الوقعة إلا أنها هتفت بوجل: عمار انت كويس؟
إنسابت دموعه في صمت ثم صاح بضراوة: قلتلك مش هتعرفي اتفضلي ساعديني اطلع على السرير تاني وكلمي رؤوف ولا أقولك اطلعي برة وسيبيتي لوحدي.
حاولت أن تتحدث لكنه أوقفها بإشارة من يده: قلت اطلعي وسيبيني لوحدي سيبوني لوحدي.
أخذ يردد تلك الكلمات
فلم تجد الأخرى سبيلا سوى أن تنفذ له رغبته.
لكنها عزمت على أن تتحدث معه والده وصديقه كي يأتيان على الفور.
بينما هو بعدما أغلقت الباب من خلفها أخذ يبكي وينتحب بقوة وهو يغمغم: ليه كده يا رب ليه؟
❈-❈-❈
بعد أن ثبتت حجابها على رأسها باحكام انطلقت للخارج وهي تنادي على والدتها بصوت مسموع: ماما يا حاجة سعاد انت فين؟
خرجت لها من المطبخ وهي تنشف يدها في جلبابها هاتفة بتساؤل: على فين كده بدرية يا ست صبا.
أجابتها في عجالة: طلعة أطمن على عمار يا ماما انت عارفة ان جرحه لازم يتغير عليه يوم آه ويوم لا.
مصمصت الحاجة سعاد شفتيها في حزن وهتفت بدعاء: ربنا يشفيه ويعافيه هو وكل اللي زيه يا رب.
أمين.
تلك الكلمة قالتها صَبا وهي تفتح باب منزلهم وتندفع للخارج.
ثواني وأبصرت خالها يصعد السلم بخطوات أشبه بالركض فسألته بجزع: خالي فيه إيه على الصبح كده؟
أجابها باختصار وهو يكمل طريقه: عمار وقع من زينة.
ركضت خلفه وهي تشعر بالحزن الشديد عما جرى لحبيبها.
وها هم يقفون أمام غرفته ينتظرون أن يسمح لهم بالدخول
ثواني وهتف الحاج سعد بنفاذ صبر: عمار افتح يا ابني أنا أبوك افتح هتسيبني واقف على الباب كتير؟
زفرو بارتياح عندما استمعوا إلى صوته الحزين: أتفضل.
وبالفعل ولجوا وعلى ملامحهم ترتسم كل معالم الأسف.
فكان أول من اقترب منه صديقه رؤوف الذي لم يتردد ثانية واحدة وحضر بعد مكالمة زوجة صديقه.
سأله بحذر: عمار الواقعة عملت لك حاجة؟
هز رأسه نفيا.
فاستطرد والده الذي دنا منه هو الآخر: طيب يلا يا رؤوف شيلو بقى معايا ندخله الحمام وبعد كده صَبا تغيرله على الجرح.
أومأ له رؤوف بالموافقة فهتفت صَبا بنبرة حاولت أن تكون طبيعية: عامل إيه دلوقتي يا عمار؟
دلوقتي زي امبارح زي بكرة يا بنت عمتي ما فيش جديد.
اشاحة ببصره عنها ووجه حديثه لوالده وصديقه يلا شيلوني تدخلوني الحمام.
تابعتهم بعينيها حتى دلفو من الغرفة وسمحت لدموعها بالهطول فقد حبستهم طويلا منذ أن ولجت إلى تلك الغرفة ورأت حالته التي لا حول لها ولا قوة.
❈-❈-❈
فهمت هتعمل إيه يا زفت انت؟
أومأ له موافقة.
فاستطرد: كويس يبقى تروح تقف تحت بيتهم وأول ما تشوفها نازلة تبلغني علطول.
للمرة الثانية يومئ له موافقا.
فأشار له بالانصراف وجلس واضعا ساق فوق الأخرى وهو يغمغم بابتسامة شيطانية: ودلوقتي ابتدي اللعب يابن هنداوي بجد أنا شفآن عليك من اللي هيحصلك بس كل شيء متاح في الحب والحرب
❈-❈-❈
وبعد أن اطمأنت بأنه خلد للنوم قررت أن تذهب إلى والدتها تطمئن عليها وتحضر طفليها معها
فهي منذ دخول زوجها المشفى وهي تتركهم في رعاية والديها.
أنهت ارتداء ثوبها وحجابها واتجهت إلى الخارج قاصدة منزل والدتها غافلة عن عينان سقريتان تتابعها بتركيز شديد.
وبعد أن سارا خلفها وعرف وجهتها امسك بهاتفه وطلب رقمه الذي حفظه عن ظهر قلب هاتفا: بفخر كله تمام يا باشا والعصفور دخل المصيدة.
❈-❈-❈
في الطريق تسير بذهن شارد وعينين دامعتين
فكلما تذكرت حالته التي يرثى لها يؤلمها قلبها بشدة.
ثواني واستمعت إلى صوته البغيض قريبا منها: يمهل ولا يهمل الباشا اللي فرحان لنا بعضلاته بقى نايم في السرير زي الحريم لا زي الحريم إيه بقى قصدي زي العيال الصغير عايز اللي يأكله ويشربه واللي لا مؤاخذة.
قاطعته بشراسة: انت شمتان فيه يا راجل يا ناقص صحيح انك راجل عرة بس والله لهيوقف على رجله ويرجع أحسن من الأول وهيعلمك انت واللي زيك الأدب.
ضحك باستهزاء هاتفا بسخرية لاذعة: الساعة كام يا جميل؟
عموما يلا أهو ما بقاش ينفع لحاجة خالص بس صدقيني مش هتلاقي صدر حنين أحسن مني فكري مرة تانية ولو وافقتي هتلاقيني مستنيكي يا عسل انتي.
رمقته بازدراء ثم بثقت على الأرض أمامه هاتفة: بتعالي أنا ابصلك ده أنا وش رجلي أنضف من وشك يا عرة الرحالة تصدق بالله أنا غلطانة اني وقفت وضيعت وقتي مع امسالك.
صاحة بغضب: ماشي يا صَبا وديني لاكون معلمك الأدب
وقاطع لك لسانك اللي بقى طويل قوي الفترة الأخيرة دي ما هو خلاص بقى اللي كان بيتحماقلك الله يرحمه.
رمقته بازدراء وتركته وذهبت وهي تشتعل من الغيظ فقد رأت الشماتة بوضوح في عينين ذلك البغيض.
فهتفت وهي ترفع يدها إلى السماء تنادي ربها: يا رب اشفيه يا رب وماتشمتش حد فيه.
❈-❈-❈
دلفت من منزل والدها وهي تفكر في حديث والدتها ولم تشعر بالذي يقف أمامها مباشرة
فاصطدمت به رفعت عينيها لتوبخه لكنها ابتلعت باقي كلماتها عندما أبصرت هيئته الراقية وعطره الذي غذا جميع خلاياها فهتفت بتلعثم: مين حضرتك؟
أجابها بابتسامة واسعة: أنا حسام. حسام أبو الدهب يا مدام زينة.
يُتبع..