رواية جديدة ذنبي عشقك لميرا كريم - الفصل 33
قراءة رواية ذنبي عشقك كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ذنبي عشقك رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة ميرا كريم
الفصل الثالث والثلاثون
إِذا أردْت أنْ تُعيـد إنسانـًا للحَيـاة؛ فضَـع فِي طَريقِـه إنسانـًا يحبُّـه، إنسانـًا يؤمِـن بِـه، العقاقيـر وحدهـا لا تڪـفي !
-دوستويفسڪي
❈-❈-❈
ليلة هانئة في احضانه الآمنة وتبعها صباح مُشرق مفعم بالطمئنينة تتمنى أن ترافق ايامها، وهاهم ينفردون بذاتهم على طاولة الطعام التي لم يسمح لها أن تمس طبق بها فكان هو ينوب عنها ويطعمها كل ما تطاله يده بشكل اخجلها للغاية، فكل ما يبدر منه في الآونة الآخيرة يجعل قلبها يَهِر بين ضلوعها صارخًا يبوح بعِشقها ورغم أنها تخجل من نطقها إلا أن كل ما بها يعبر عنها، حتى نظراتها فكانت لامعة، متوهجة تنم عن كونه اغلى ما لها، بينما هو فكانت بسمته الهادئة لا تفارق وجهه أثناء مباشرته إطعامها لحين عبرت عن اكتفائها:
-"سليم" كفاية
صمم بنبرة جادة لا تقبل مجادلة وهو يغمس قطعة صغيرة من التوست بالجبن ويدسها بفمها:
-مش كفاية أنتِ لازم تاكلي كويس علشان العلاج اللي الدكتور كتبلك عليه.
لاكت ببطئ، بوجه يشبه قطعة البندورة الحمراء التي غرسها بشوكته للتو ودسها بفها لتصدر صوت ينم عن امتلائها جاعلته يبتسم يطالع لمعة وميضها التابع لقولها:
-بس انا شبعت ومش بحب اكُل غصب عني
لبُرهة طالعها دون حديث لحين تنهد مُرغمًا ينصاع لرغبتها ولكن بعد أن شَدد عليها:
-طيب كملي كوباية اللبن عقبال ما اقول ل" صباح" تجبلك العلاج من الأوضة
رمشت عدة مرات تستوعب ما أمرها به ولوهلة شعرت أنها عادت طفلة ويقوم بأرغامها و رغم عدم رضاها الكامل إلا أنها لم تعترض بل أحترمت حِرصه المُفرط على صحتها وسايرته وهي أكيدة أنه يفعل الصالح لها فقد تنهدت ترفع الكوب على فمها وترتشف منه وحين انتهت وضعته على الطاولة أمامها وهنا رأت عيناه ترتكز على ثغرها لتبتلع رمقها حين وجدته يرفع يده ويسير بإبهامه ببطء مميت جانب فمها ليتعالى وجيبها وتفر حروفها حين اكمل ابهامه مسيرته لشفاهها يتحسسها بنعومة بعثرت شتاتها، وعندما رأت ما ينتويه جليًا داخل عينه تراجعت مُرتبكة برأسها و تلعثمت هاربة وهي تلتقط المنشفة الصغيرة تمسح فمها:
-انا...هروح اجيب العلاج أصل "صباح" مع ماما "ليلى" في اوضتها
شبح بسمة اعتلت وجهه من خجلها الذي يأسر قلبه وينم عن بِكر شعورها، فقد تنهد تنهيدة مطولة قبل أن يقرر ايضًا:
-طيب و انا هدخل اوضة مكتبي هراجع كام ملف قبل ما انزل الشغل
أومأت له بتفهم ثم اقترحت بحماس وهي تنهض من مقعدها:
-طيب تحب اعملك قهوة
انعقدت عقدة حاجبيه و وقف مواجه لها قائلًا بنبرة جدية للغاية:
-انا قولت ايه امبارح...
تنهدت وحاولت المراوغة:
-مش هتعب لو عملتلك القهوة
قرص وجنتها المتوردة بلطف وقال بنبرة حنونة محملة بخوف عاشق مُحب:
-"شمس" ممنوع تدخلي المطبخ ولا تعملي أي حاجة في البيت لغاية ما جرحك يخف و تفكِ السلك ومن هنا لوقتها ياريت متعارضيش وتسمعي الكلام
نبرته ونظراته دغدغت حواسها واذابت كل ذرة مقاومة بها فما كان منها غير أن تجيبه بطاعة:
-حاضر طيب هقول ل "بدور" تعملهالك زمانها صحت
ابتسم لطاعتها ورد يستحسن اقتراحها:
-يكون افضل
هزت رأسها ببسمة ناعمة وابتعدت بخطواتها ليتنهد هو قبل أن يتحرك ويدخل غرفة مكتبه يراجع بعض الملفات الخاصة بالعمل وبعد دقائق طرق باب مكتبه وأذن للطارق إذا ب "بدور" تدخل وهي منكسة الرأس وبيدها فنجان القهوة قائلة:
-قهوتك يا باشا
رفع نظراته القاتمة عن الورق بيده وشكرها بنبرة جامدة لا يستنبط ما خلفها:
-شكرًا...حطيها على المكتب وتقدري تتفضلي
هزت "بدور" رأسها و وضعت ما بيدها كما أخبرها ثم وقفت امامه مُرتبكة وبنظرات زائغة يكمن الحديث بها، ليعقب هو بنظرات ضيقة على ارتباكها:
-مالك...عايزة تقولي حاجة
ابتلعت اولًا رمقها تشجع ذاتها ثم نطقت برَوية تتخوف من ردة فعله:
-بصراحة يا باشا في حاجة حصلت لازم اقولك عليها
تناول فنجان قهوته يرتشف منه ونظراته الضيقة لا تحيد عنها يحثها على المتابعة، لترتعش حروفها وهي تباشر حديثها:
-انا مش قليلة الأصل يا باشا ومقدرش انسى ابدًا وقفتك جنب "شمس" وجنبي وعلشان كده لقيت أن ميصحش اخبي عليك وانا عايشة في خيرك
تنهد هو يضع الفنجان من يده و حثها:
-اتكلمي علطول عايزة تقولي ايه؟
استرسلت "بدور" حديثها:
-هقول..."سلطان" كان موجود في المستشفى ورفع عليا مطـ وته وطلب مني اخليه يشوف "شمس" بس انا مريحتهوش وزقيته وجريت وساعتها لقيتك نجدة قدامي
طالعها لبرهة بعينه الثاقبة التي بثت الرهبة بها ونطق متسائلًا:
-ليه سكتي وقتها.
بررت "بدور"تعبر عن خوفها:
-هـ ددني ب ابني علشان متكلمش وكنت خايفة انا محلتيش غيره بس لما فكرت قولت ربنا الحافظ وإن اكيد لما انت تعرف هتتصرف معاه
هز رأسه يستسيغ أسبابها ثم شدد عليها:
-"شمس" اوعي تجيبلها سيرة مش عايزها تضايق كفاية اللي حصلها
اطاعته بلا مجادلة:
-حاضر يا باشا مش هفتح بؤقي
فور قولها نهض عن مقعده يقف أمام النافذة يطالع الإطلالة في الخارج وهو يضع يده بجيب بنطاله تحت نظراتها التي برقت حين قال بنبرة مهيبة واثقة للغاية:
-عارفة لو مكنتيش اتكلمتي كنت هشك أنك بتغطي عليه و متواطئة معاه وكان هيبقى ليا تصرف تاني معاكِ
شهقت "بدور" تضـ رب اعلى صـ درها:
-يعني انت كنت عارف يا باشا
أجل كان يعرف بشأن ذهاب ذلك اللعـ ين للمشفى وحمد ربه أنه وصل بالوقت المناسب ولكن حين رأى ركضها و ارتباكها وتهرب نظراتها ايقن بفِطنته أنه تعرض لها وحين لم تفصح عن الأمر أثارت شكوكه نحوها ولكن الآن وبعد تبريرها تفهم خوفها وزاد إصراره على الايقاع به فقد تمادى كثيرًا وعلى ذكره برزت عروقه وكور قبضة يده بقوة يؤكد دون أن ينظر لها:
-كنت عارف والحظ خدمه وموقعوش تحت ايدي
-طيب بالله عليك يا باشا انا عايزة اخد ابني وابعد عن المشاكل طول ما انا جنب "شمس" هيفضل حاططني في دماغه وانا خايفة على ابني
-بالعكس انتِ هنا في امان اكتر
ربتت على صـ درها بحركة راجية وقالت تتوسله:
-لأ يا باشا بالله عليك ريحني انا هاخد الواد وامشي هروح اعيش في حتة بعيد وهدور على شغل وهعرف اساير أموري متقلقش عليا
التفت يجيبها:
-طيب يا "بدور" طالما دي رغبتك اديني يومين بالظبط وهظبطلك مكان وشغل مناسب
تهللت أسارير "بدور" وقالت تمتن له:
-ربنا يخليك يا باشا والله ما عارفة اودي جمايلك دي فين
قالتها و استأذنت بعدها تاركته يفكر مليًا في الأمر ويقسم بداخله أنه لن يهدأ له بال إلا بعد أن يقتص من ذلك اللعين ويضعه في مكانه الصحيح الذي يستحقه.
❈-❈-❈
أما عن تلك البائسة فمازالت تلاحقها توابع تفريطها فكانت تخرج كيس القمامة وتضعه أمام بابها حين وجدته يتدلى الدرج ليشحب وجهها وتتسمر بأرضها تطالع نكبة قلبها بملامح ميتة فقدت مظاهر الحياة والوانها، بينما هو فرك جرح حاجبه بظهر إبهامه وقال بنبرة استغربت لينها:
-عاملة ايه يا بت؟
ابتلعت غصتها التي كادت تسد حلقها وقد تمسكت بإطار بابها تستمد منه الدعم حين طفرت قناعاتها المُستجدة بعد تجربة إنتحارها:
-ربنا كتبلي عمر جديد علشان اعرف اكفر فيه عن الذنوب اللي عملتها
اعتلى جانب فمه ساخرًا ورد على قولها:
-لو تيجي للحق كان نفسي اخلص منك بس طلعتي بسبعة ارواح يا بنت الحرام
سكين ثلم انغرس بأحشائها فور جملته الأخيرة التي كانت بمثابة ضربة قاطعة لأي مشاعر مازالت تكنها، ورغم الدموع التي تجمعت في مقلها إلا أنها صمدت وعقبت بنبرة مريرة ردٍ على استخفافه بها:
-كتر خيرك يا ابن الأصول
اعتلى حاجبيه بزهو ثم قال وهو يرشقها من عليائه بنظرة متدنية اشعرتها بضئالة شأنها:
-غصب عنك ابن أصول...وعلشان كده انتِ هتفضلي مسؤولة مني ايجار شقتك والفلوس اللي كنت بديهالك أول كل شهر هتفضل توصلك و...
لم يكن يومٍ المال غايتي بل كنت اطمح في الأمان وتكوين اسرة انتمي لها ولكنك وئدت بكل تَجبر امالي في مهدها.
ذلك ماكان يتردد في عقلها ولكن لم تنطق به بل كان رد فعلها أنها رفعت يدها أمام وجهه تعترض في محاولة بائسة منها لملمت بقايا كراماتها التي دهسها تحت قدمه:
-متكملش انا مش عايزة حاجة منك غير أنك تسيبني في حالي وإذا كان على الشقة انا هسيبها من أول الشهر
ابتسم بسمة تقسم أنها استشعرت الشماتة بها وتبعها سخريته الجارحة:
-هتروحي فين انتِ مقطوعة
ولا تكونِ ناوية ترجعي الملجأ تاني
نفت برأسها وقالت بنبرة متحسرة مغلفة بخيبة أمالها:
-أي حتة بعيد عن نارك يا "سلطان" هتبقى جنة
لم يروقه حديثها فقد قبض على ذراعها بأنامله الغليظة وهسهس بغيظ أمام وجهها:
-دلوقتي بقت ناري يا بنت الحرام... وكرد فعل لقوله رفعت ذراعها الآخر تحمي وجهها وهي تظن أنها ستنال من بطشه ولكنه كرامتًا لأخيه و وعده له نفضها بغل وكأنه يشمئز منها هادرًا بنبرة قاسية كالسياط جلدت روحها:
-ماشي...هعديها واحسن حاجة هتعمليها من يوم ما شوفت خلقتك أنك هتريحيني و هتغوري من هنا
قال ما قاله وأكمل نزوله للدرج
بخطوات واسعة تاركها تنظر في آثاره بوجه شاحب يحاكي المـ وتى و تقرر في قرارة نفسها أنها ستكف عن تنعية ذاتها وإهدار دمعاتها فهي واثقة أن الله سوف يُعينها كي تنجو بما تبقى منها وتستطيع لملمت بقايا حطامها.
❈-❈-❈
في المساء وقفت تقلب المرق على النار برَوية تزامنًا مع دخول "صباح" التي عاتبتها قائلة:
-كده برضو يا بنتي مش "سليم" بيه قال متتعبيش نفسك
اجابتها "شمس" بضجر من تحكماته الصارمة:
-زهقت من القعدة ياست "صباح "
وانا مش واخده على كده والحمد لله الوجع قل
هزت "صباح" رأسها تستغرب أمرها ثم جلست تقطف أوراق الملوخية الخضراء وتابعت عتابها:
-يا بنتي ربنا يزيدلك في الشفا بس حد يلاقي راحة وميرتحش ده انتِ غريبة والله
تنهدت "شمس" واجابتها بكل رضا:
-ولا غريبة ولا حاجة اصل اللي متعود على الشقا بيتعب لما يرتاح.
-عندك حق
-طيب قوليلي هتعملي ايه جنب الملوخية
-هعمل رقاق و فلفل بالطماطم ورز ابيض وسلطة خضرا تحبي اعمل حاجة تانية
عقبت "شمس" تثني على مجهودها:
-لأ كويس اوي كده تسلم ايدك بس متنسيش تحمري الارانب ل "سليم" مش بيحبها مسلوقة
ابتسمت "صباح" بطيبة قائلة:
-عارفة يا بنتي انا بقالي كتير في البيت ده وعارفة عوايده كويس
هزت "شمس" رأسها ببسمة هادئة ثم جلست على المقعد القريب متسائلة:
-بقالك أد ايه معاهم يا ست "صباح"
اجابتها "صباح" بعدما كسى الحُزن وجهها وتجمع الدمع داخل مُقلها:
-من ساعة ما المرحوم جوزي اتوفى وانا معاهم "سليم" بيه مسبنيش واتكفل بيا وب بنتي
اصل جوزي كان امين شرطة و ولاد الحرام ضربوا عليه نار هو واتنين عساكر في لجنة
سَكن الحُزن عين "شمس" فور حديثها فكونها ذاقت مرارة الفقد تعلم أن لا فقيد يُنسى وحتى لو بعد مائة عام على فراقه تظل قلوبنا تهفو له؛ لذلك مدت يدها السليمة تربت على كتفها وتواسيها بكلماتها:
-ربنا يرحمه ويغفر له يا ست "صباح" ويصبرك انتِ وبنتك على فراقه
أمنت "صباح" على كلماتها ببسمة بشوشة طيبة وهي تجفف دمعاتها التي فرت دون قصدها :
-يارب يا بنتي يارب
ابتسمت "شمس" بتأثر ولكن بعدما لمعت عيناها ايضًا بالدموع ولكنها كبحتها حتى لا تزيدها على تلك المسكينة وعلى ذاتها، واستأذنت منها:
-طيب انا هروح اشوف ماما "ليلى" لو كانت محتاجة حاجة
أومأت "صباح" برأسها وتابعت عملها قائلة:
-اتفضلي يا بنتي
لتتحرك "شمس" وقبل أن تصل لغرفة "ليلى" دق جرس الباب لتتقدم و تفتحه متوجسة وإذا بفرد الأمن ومعه صندوق كبير مغلف جعلها تتسائل مُستغربة:
-ايه ده؟
اجابها فرد الأمن وعينه مطرقة في الأرض بناء على تعليمات "سليم" الصارمة:
-"سليم" بيه أمر نستلمه من عامل التوصيل
تنهدت وافسحت الطريق له وإن وضع الصندوق وغادر اغلقت خلفه تتطلع للصندوق بريبة وقد قررت ان تتأكد منه فقد اخرجت هاتفها وهاتفته، وإن اجابها همست متسائلة:
-فاضي ولا عطلتلك عن حاجة مهمة
رد هو من الطرف الآخر بنبرته العميقة التي تذيبها:
-ولو مش فاضي افضالك يا "شمس" طمنيني حاجة حصلت
-لأ اصل الأمن جاب صندوق وقال أنك أمرت أنهم يستلموه
-اه حصل وعلى فكرة الصندوق علشانك
تقلصت معالمها وتسائلت:
-علشاني! بس انا مش ناقصني حاجة
تحمحم وكأنه يشعر بالحرج ثم اجابها بغموض لم يريحها:
-بس الحاجات اللي جواه هتناسبك لما تكونِ مُستعدة
-مش فاهمة مُستعدة لإيه وبعدين انت جبتلي حاجات كتير
-ده في حاجات مختلفة وبصراحة كان صعب اشتريها علشان كده طلبتها من على النت من فترة
تنهدت واقترحت وهي تُسند الهاتف بكتفها تنوي فتحه:
-طيب ممكن افتحه دلوقتي علشان افهم تقصد ايه
-خلي "صباح" تدخله الاوضه الأول ولما تقفلي معايا ابقي افتحيه
-حاضر يا "سليم" هعمل كده بس هو ممكن متتأخرش زي امبارح و تيجي على الغدا
لم يأتيها رده إلا بعد أن وصلها صوت تنهيدته الثقيلة:
-للأسف مقدرش اوعدك معرفش ظروف الشغل إيه وكمان داخل اجتماع قيادات وهقفل تلفوني لو اتصلتي بيا ولقيتيه مقفول متقلقيش
احتل الإحباط وجهها من عدم حضوره ورغم ذلك لم تشعره بإستيائها و نطقت داعية:
-ربنا معاك
-وعد القضية اللي شغلاني دي تخلص وهاخد اجازة كبيرة نقضيها سوا في المكان اللي تشاوري عليه
-إن شاء الله ربنا هينصرك المهم بس خد بالك من نفسك علشان خاطري
-وأنتِ كمان
كان من المفترض أن تنهي المكالمة بعد تلك الجملة ولكنه باغتها قائلًا:
-شمسي
-نعم
قالتها بنعومة لا تليق سوى بها جاعلته يتنهد مُسهدًا من الطرف الآخر ويجيبها:
-بحبك وبعد الساعات و الدقايق علشان ارجعلك
اتسعت بسمتها مع كلماته ورفرف قلبها بين ضلوعها، لتهمس بصدق نابع من أعماقها:
-انا كمان بَعد الدقايق علشان ترجعلي بالسلامة ربنا يخليك ليا يا "سليم"
-لا إله إلا الله
-محمد رسول الله
قالتها متنهدة والبسمة تعتلي وجهها قبل أن تغلق معه وتأجل فتح الصندوق وتذهب ل "ليلى" كي تتفقد احوالها.
❈-❈-❈
أما عن صاحب النوايا القاتمة فكان يجلس بمزاج عكر على المقهى برفقة "جلال" الذي أعلمه بصوت خفيض حتى لا يصل لأحد:
-كله تمام يا معلم الفلوس اتسلم نصها والنص التاني زي ما اتفقنا بعد ما نصرف البضاعة...بس
قاطعه "سلطان" بنبرة حادة مترقبة:
-بس ايه يا "جلال "انا لميت اللي ورايا واللي قدامي مش عايز عوء انا رقبتي في ايدك
حانت من "جلال" بسمة جانبية اخفاها سريعًا وحاول طمأنته:
-مفيش عوء يا معلم وان شاء الله كل حاجة تتم بس انا خايف رجالتنا مش متأمنين كويس والبضاعة في المينا ولازم حد يكون فهمان علشان لو حصل في الامور امور يعرف يخلعهم
-بقولك ايه اتصرف شوف حد من جوه وظبطه
زاغت نظرات "جلال" بشيء من الارتباك وقال ممهدًا:
-ما انت عارف يا "سلطان" ان المينا برجالتها كلها في ايد رجالة "الغجري"
-و"الغجري" في الخدمة
قالها "الغجري" ببسمة ماكرة بعدما حضر لتوه و التقط آخر جملة ذكر بها اسمه.
وهنا هب "سلطان" من جلسته يشهر مِديته هادرًا بعدائية:
-انت طلعت منين؟
أجابه "الغجري" وهو يرفع يده مسالمًا:
-اهدى يا "سلطان" انا جاي لوحدي ومن غير رجالتي وكمان معيش سلاح
-عايز ايه اكيد مش جاي في خير
حانت من "الغجري"بسمة ماكرة يخص بها "جلال" ثم قال:
-اسمع مني واحكم بعدها
وهنا زاغت نظرات "جلال" بينهم ثم حاول التأثير على "سلطان" قائلًا:
-صلِ على النبي واقعد يا "سلطان" اسمع منه مش هنخسر حاجة وبعدين ده جاي بطوله ومن غير سلاح ولو عقله وَزه هو في أرضنا
تناوب "سلطان" نظراته بينهم يستسيغ ما اقنعه به ثم تهاون واغلق مِديته وجلس من جديد يوجه حديثه المتعجرف للغجري:
-اترزع وقول اللي عندك
اعتلى فم "الغجري" بخبث مقيت وسحب أحد المقاعد جالسًا عليه وكاد "جلال" يجلس ايضًا لولا اعتراض "الغجري":
-خلي الراجل بتاعك يسبنا لوحدنا اللي هقوله مينفعش حد غيرك يسمعه
جحظت عين "جلال" يستغرب طلب الآخر، في حين طاوعه "سلطان" بنفاذ صبر:
-روح انت يا "جلال" لما نشوف اخرتها معاه ونبطله حجته
هز "جلال" رأسه وانصاع لطلبه قائلًا وهو يرشق "الغجري" بنظرة قاتلة:
-وماله
وإن ابتعد باشر "الغجري" حديثه:
-انسى اللي حصل زمان وخلينا نبدأ صفحة جديدة
سخر "سلطان" من حديثه بنظرات حاقدة:
-أنت بياع وملكش امان وبعدين ازاي انسى انك أذيت اخويا وبسببك خسرته للأبد
-صباع اخوك اللي طار خدت قصاده عنيا واظن كده خالصين والواد اللي مات ما اظنش أنه كان يهمك وانت اللي سلمته ليا بأيدك علشان يسلم البضاعة
وهنا سهمت نظرات "سلطان" يتذكر ذلك المشهد اللعين وهي برفقة الآخر التي فضلته عليه وتحتمي به وتمتم بِحقد:
-كنت عايز اكسر عينها بيه علشان محدش يبقى احسن من حد ومتعايرنيش لما تبقى على ذمتي لكن الباشا استكترها عليا وخدها مني
رد "الغجري" بغموض وبنبرة مغلفة يستتر خلفها الكثير:
-هو صح خدها منك وعايشة معاه برضاها لكن يمكن لما تعرف تغير رأيها
اشرأب "سلطان" برأسه متسائلًا بريبة:
-تعرف إيه؟!
-هقولك بس كل شيء وليه مقابل
-مش فاهم!
-هفهمك بس الأول نتفق ونخلي مصلحتنا واحدة.
قالها بنبرة خبيثة للغاية قبل أن يسترسل معه بالحديث ويخبره بذلك السر الذي ربما إن انكشف سيقلب الموازين كلها.
❈-❈-❈
كان يدور حول ذاته يستغرب ذلك اللعين ويتسائل لمَ يا ترى طلب محاكاة "سلطان" بمفرده وهو يعلم تمام المعرفة أن كل الخيوط مربطة بيده، ترى هل اكتشف أمره وتواطئه مع الطرف الثالث...لا محال فهو حريص كل الحرص ومن المؤكد أن ذلك الدنيء يحيك شيء أخر ولكن يا ترى ما هو؟!
فكان يقطع غرفته ذهابًا وايابًا وهو يشعر بشتات عقله وإن يأس اخرج هاتفه ونقر على شاشته برقم يحفظه عن ظهر قلب ولكن لبؤس حظه وجده مغلقًا ليزفر انفاسه حانقًا تزامنًا مع دلوف سيدة بدينة بعض الشيء يبدو على وجهها الطيبة متسائلة بقلق:
-مالك يا "جلال" مش طايق نفسك ليه؟
اجابها "جلال" متأفف من سؤالها وهو يلقي هاتفه على الفراش ويجلس على طرفه:
-ماليش يا اما شيفاني بشد في شعري
-لأ شيفا حالك ميسرش وخايفة عليك من سكة "سلطان" اللي انت ماشي فيها
ضرب "جلال" رأسه بحركة غاضبة وأجاب والدته مستاء من تكرارها:
-يووه بقى يا اما ارحميني من الاسطوانة دي انا دماغي ورمت حرام عليكِ سيبني في حالي
جلست والدته بجواره تربت فوق صدرها بحركة راجية تستعطفه:
-انت اللي حرام عليك يا ابني حس بيا انا خايفة اخسرك زي ما خسرت ابوك
وعلى ذكر أبيه بسمة مريرة اعتلت ثغره وتبعها قوله بسخرية أَمّر:
-إيه خايفة اشيل شيلة مش بتاعتي و اتحبس واموت في السجن زيه
استنكرت والدته قوله:
-بعد الشر عليك وبعدين متفتحش في جراح قديمة مش هنعيده من تاني...ابوك عمل كده علشانك و"سلطان" فهمه أنه شهور وهيخرجه منها بس قضاء ربنا نفذ
-ابويا مات في السجن وهو ملهوش أي ذنب غير انه كان محتاج و مد ايده ل "سلطان" وراح كبش فدى ليه
حاولت والدته مواساته وإقناعه بحاجتهم وقتها:
-نصيبه كده وقدره يموت ولولا الفلوس اللي "سلطان" عطهالنا مكناش عرفنا نسدد ديون ابوك اللي سبهالنا
هب من جلسته يمرر يده على وجهه متحسرًا:
-كان اكرم ليه ولينا انه يموت في فرشته وجوه بيته بدل ما خلانا لبانة على لسان العالم... ليصمت هنيهة و يبرر بنبرة حانقة أسباب إنتمائه:
- عارفة يا اما انا مسكت في "سلطان" ليه ومرفقه زي ضله علشان ملقتش فايدة والناس عمر نظرتهم ما هتتغير ليا مهما مشيت عدل هفضل ابن تاجر الحشيش رد السجون فغلط بغلط طالما الناس مش هتفرق
كان يتحدث بجنون وكأنه فقد عقله مما جعل والدته تقترب منه مواسية بعيون تتجسد الحسرة بها:
-طيب اهدى يا ابني انا مليش غيرك انا بس خايفة عليك
-متخافيش يا اما متخافيش انا مأمن نفسي كويس وفي حد حاميني مش هروح في الرجلين زي ابويا ومعنديش روح تانية افدي "سلطان" بيها
قالها بنبرة مغلفة بِحقد دفين كان مستتر و يخفيه ببواطنه لغرض في نفسه سيناله قريبًا إن سار كل شيء كما خططوا له.
❈-❈-❈
اسدل الليل ستائره وها هو يقف بسيارته أمام المنزل بعد يومٍ شاق من البحث و العمل على أمل أن يصل لشيء يفيده ولكن بلاجدوى للأن فكان مزاجه متعكر للغاية ولم يريد أن يعود لها على هذا النحو بل كان يأمل أن يجد شيء يوقف أنين عقله الذي لم يهدأ ولم يريحه في سبيل أخذ حقها، فكان يشعر أن شيء ثقيل يجثو على صدره يضيق أنفاسه لذلك خرج من سيارته يستند على مقدمتها يتناول نفسٍ عميق من الهواء المحمل بيود البحر لعله يريحه ولكن ايضًا بلا جدوى، وهنا تذكر نصيحتها السابقة له كون البوح يريح ويخفف حمولة القلب و بشكل ما وجد ذاته يؤيدها فربما الكتمان ومواجهة صراعات عقله وحده لن تكون صائبة، فنعم هناك اوقات تفوق احتمالك وتجد ذاتك في حاجة ماسه للبوح وخاصًة مع شخص يُعينك يستقبل منك الحديث باريحية وحتى إن خانك التعبير لا يسيء فهمك بل يظل يصغي لك لحين تفرغ ما بجعبتك وذلك الشخص لم يكن سواه فقد أخرج هاتفه الذي تناساه مغلقًا وقام بإعادة تشغيله وطلب رقمه وهو يثق كل الثقة أن لا أحد سيتفهمه ويخفف وطأة ما يشعر به غيره، و إن أتاه صوته من الطرف الآخر رد بنبرة متثاقلة:
-واحشني يا دكتور الحريم
أتاه ضحكات "نضال" المتقطعة من الطرف الآخر وتبعها مزاحه المعتاد:
-انت واحشني اكتر يا وحش بس نفسي تبطل دكتور الحريم دي انا حاسس أنك مصمم تعايرني...وبعدين انا راضي ذمتك ينفع ابقى زوج محترم وتطلق عليا لقب زي ده افرض دلوقتي "رهف" سمعتك تقول ايه
-انا اتجوزت "شمس"
كان "نضال" يثرثر ويثرثر لحين باغته بقوله، ليصمت "نضال "لهنيهة يستوعب ما نطق به ثم يقول والصدمة متملكة من ذبذبات صوته عبر الهاتف:
-انت بتهزر صح؟ طيب احلف كده علشان اصدقك
تنهد "سليم" يعافر انفاسه الثقيلة مؤكدًا:
-واللهِ ده اللي حصل وللأسف كان نفسي تشهد على العقد بس الظروف اجبرتنا نستعجل وانشغلت الفترة اللي فاتت ومعرفتش اكلمك
وبطبيعته المتفهمة لم يثقلها عليه بالعتاب ولم يكن بالأساس بحاجة لتبرير ولا شرح مستفيض و كل ما صدر منه بعد أن تهللت اساريره إنه عبر عن سعادته بمحبة صادقة:
-مبارك يا وحش انا اقسم بالله ما مصدق أن اخيرًا وقعت على بوزك... ليصمت هنيهة يتذكر نصيحة سابقة له ويُسرع متخوفًا:
-بس اوعى بالله عليك تكون عملتها و جرجرت البنت وعطيتها قلمين وخدتها على المأذون زي ما نصحتني اعمل مع "رهف" قبل كده...انا عارفك قفل وتعملها
حانت من "سليم" بسمة جانبية حين تذكر الأمر وكم سخر من عنجهيته الغاشمة وقتها فمن يصدق أن صاحب القلب الجليدي المتجمد ذاب جليده وانصهر بفضل عِشقها حتى أنه بكل رضا تخلى عن ثبات حُصونه وسمح لها بأختراقها...وللعجب ليس نادم الآن على شيء سوى على الأيام التي مرت عِجاف على قلبه دونها.
فقد تنهد قبل أن يجيبه مطمئنًا:
-لأ معملتش كده اطمن...ليصمت برهة ويتابع بعدها:
-فاكر لما قولتلي( أن الحب بيسلب الواحد إرادته و بيهاجم العقل والقلب وكل الحواس في وقت واحد من غير أي معاير ولا قوانين ثابتة و كل الحكاية ببساطة أن ربنا هو اللي بيؤلف القلوب على بعضها ) وهو ده اللي حصل و ربنا اراد يجمعنا بس...
صمت وكأن الحديث انحشر بحلقه، أو بالأحرى لم يجد طريقة مناسبة ليعبر عن ما يجتاحه، فطال الصمت وقد تعمد "نضال" أن يعطيه مساحته لينتقي ما سوف يتفوه به قبل أن يحثه مُراعيًا:
-من اول كلمة قولتهالي اول ما رديت عليك وانا حاسس أن في حاجة مضايقاك...اتكلم يا صاحبي من غير ما ترتب الكلام وانا هسمعك ومش هقاطعك
وهنا زفر "سليم" انفاسه دفعة واحدة وقال متنهدًا:
-وانا مش محتاج غير كده.
❈-❈-❈
أما هناك في تلك البقعة النائية الخاصة بالإنشاءات كان هو مُسطح ظهره بجانب كومة الرمال وبيده سيجارة زاخرة ينفث بها عن قهرته لما وصل له حاله، فجسده يأن بفضل ذلك العمل الشاق الذي يجني منه قوت يومه، فكان ساخطًا على كل شيء واولهم شقيقته التي كان يسلبها مالها وينعم في خير "سُلطان" على مِداد زواجها فمن وجهة نظره الذكورية العفنة هي من اوصلته بفعلتها لهنا...فحتى منزله هجره دون حُسبان وهو خالي الوفاض حتى أنه لم يجرأ أن يعود له تحسبًا لبطش "سلطان" ورجاله، و من ظن انه وجد معها السكينة؛ بددت ماله و استبدلته كأنه احد جواربها المتسخة التي كان عوارها ثقبها.
والآن هاهو بائس، وحيد بلا مآوى غير كومة الرمال تلك التي بالكاد اقنع المسؤال عن اعمال البناء أن يبيت جوارها فكان في بادئة الأمر غير راضي عن مبيته كونه لا يملك أثبات شخصية او ورقة واحدة يستدل بها عليه ليثق به، وعند تلك النقطة اعتلى ثغره بسمة ساخرة وخاطب ذاته بنبرة ثقيلة غير متزنة:
-الدنيا جت عليك اوي يا "صالح"
-ولسه يا حيلة
جاءه الرد من خلفه ليهب من رقدته يجد عدة رجال متأهبين له لتسقط السيجارة من يده ويتسائل بنظرات زائغة وبنبرة مهتزة:
-انتم مين وعايزين ايه؟
أجابه واحد منهم ببرود مقيت:
-احنا عبد المأمور وبصريح العبارة جاين نعلم عليك
قالها وهو يقترب هو ومن معه ليتراجع "صالح" بخطواته يبحث عن أي شيء يدافع به عن ذاته وبالفعل وجد قطعة حديدية سميكة تشبه السياج المستخدمة في تسليح المباني ولكن اَسمك قليلًا فقد رفعها أمام نظراتهم وهتف مستخدم صوته الغليظ يدعي الشجاعة:
-اللي هيقربلي هأذيه ابعدو...
تعالت ضحاكتهم الساخرة من تهديده البالي و تقدموا منه وعلى حين غره واحد منهم جاء من خلفه وسلبها منه، ليتكالبوا عليه وينهالوا عليه بالضرب حتى انهكوا قواه فلم تسلم قطعة في جسده من بطشهم ليقترب واحد منهم من جسده المسجي و يرفعه بعنف من خصلات شعره محذرًا:
-دي قرصة ودن من المعلم "حوكش" وبيقولك" فريال" بقت تخصه و لو فكرت تشاغلها ولا تقربلها مرة تانية هيجيب خبرك
فتح "صالح" عينه التي نال بها لكمة كادت تودي بها ثم بصق في وجه الرجل وسبه بلفظ نابي استفز الرجل بشدة وجعله يزئر غاضبًا يدفعه عنه يمسح وجهه بكفه متقزز قبل أن يسـ به ايضًا و يلتقط تلك القطعة الحديدية ذاتها ويمنحه عدة ضربات متتالية على سائر جسده الذي أخذ يتلوى به صارخًا وقد نال ظهره النصيب الأكبر منها لحين اوقفه زميله قائلًا وهو يدفعه عنه بقوة :
-كفاية هيموت في ايدك المعلم قال قرصة ودن بس مش عايزينه يقلب علينا
هز الآخر رأسه بانفاس متلاحقة ثم بصق على جسد "صالح" المدمي و لحق بالآخرين تاركينه خلفهم لا شيء يدل على حياته سوى ذلك الأنين الخافت الذي أخذ يخبو شيء فشيء وربما يلفظ بعدها أخر انفاسه.
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ميرا كريم من رواية ذنبي عشقك، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية