رواية جديدة قلب نازف بالحب لهاجر التركي - الفصل 26 - 5 - الخميس 14/11/2024
قراءة رواية قلب نازف بالحب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية قلب نازف بالحب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة هاجر التركي
الفصل السادس والعشرون
5
تم النشر الخميس
14/11/2024
❈-❈-❈
في تلك الصالة الهادئة، حيث كانت كل زاوية من المكان تفيض بصمت ثقيل لا يكسره سوى عقارب الساعة المتثاقلة، جلست "رانيا "وكأنها جزء من هذا الفراغ الصامت. ظهرها متكئٌ على حافة الأريكة، كتفاها منحنية قليلاً، وعيناها محملقتان في الفراغ كأنها تبحث عن معنى لا تجده في أرجاء المكان.
كانت الستائر المسدلة تحجب جزءاً من الضوء، فتتسرب أشعة خافتة إلى الغرفة، ترسم خطوطاً باهتة على وجهها المرهق. كان ذلك الضوء الخافت يبدو كأنه يزحف على بشرتها الحزينة، فيتراقص على وجنتيها وكأنه يحاول تلطيف ملامحها الكئيبة، لكن الحزن العميق كان قد تغلغل في روحها، فبقيت جدران الصالة شاهدة على ضعفها المكبوت.
في يدها فنجان قهوة قد برد منذ وقت طويل، كانت تمسكه بين أصابعها المرتعشة دون وعي، كأنها تتشبث بشيء بسيط يمنحها شعوراً بالأمان وسط أفكارها التي تتكاثر كالأشباح. لم تتذوق قهوتها ولم تفكر حتى في ارتشافها؛ كانت مشغولة بذكريات اللحظة الأخيرة مع" طارق"، اللحظة التي توقفت عندها الحياة وتبعثرت معها كل آمالها الهشة.
ورغم أنها أخرجت الحقيقة كاعتراف شجاع، إلا أنها شعرت بأن الكلمات كانت أثقل مما تتحمل، فقد رأته يصمت، تتساقط كلماته على صمته، وكأنها حجارة رمتها على سطح ماء راكد، فخلفت تموجات من الخيبة تملأ عينيه.
عيناه، كيف يمكن لعينيه أن تتحدثا بكل هذا الألم الصامت؟ كانت تراه يتراجع بخطوات غير مرئية، كأنما ماضٍ ثقيل قد أسدل الستار بينهما. نظرة واحدة كانت كافية لتزرع بداخلها شكاً عميقاً، وخيبة لم تُشفَ منها حتى اللحظة. أحست بجدار عازل يقف بينهما، صُمم بلحظة واحدة فقط، جدارٌ لا ترى له مخرجًا، يُعيدها إلى نقطة الصفر.
تنتابها تساؤلات لا تهدأ، أفكار تتسابق في ذهنها، كل منها ينهش قلبها ببطء. كانت تتساءل، هل اخطأت عندما أفصحت عن الحقيقة التي عاجلاً أم أجلاً كان لابد أنه سيعرفها، ترى في صمته الرفض، وفي عينيه نظرة غير مفهومة، مزيجاً من الحيرة والابتعاد. تشعر كأنها قد أُلقيت على هامش حياته، غير قادرة على التمسك بأي أمل قد يبقيه معها.
بينما أفكارها تزداد ظلاماً، شعرت بدمعة تتسلل خفية على خدها، تمسحها سريعاً وكأنها تخشى أن تفضح ضعفها أمام نفسها. تلتقط أنفاساً متقطعة، تُحاول السيطرة على حزنها العميق، تُحاول إقناع نفسها أن الصمت لا يعني بالضرورة الرفض، لكن عقلها يستحضر صورته، نظرة عينيه حين علم بحقيقة وضعها، الصمت الطويل الذي لم يترك لها مجالاً للتأويل.
تضع الفنجان على الطاولة، بعد أن بردت قهوتها تمامًا كبرود قلبها، بينما كانت غارقة في أفكارها الثقيلة، لم تنتبه لصوت خطوات أبيها وهي تقترب منها. وقف أمامها لحظة يتأمل وجهها الشارد، يدرك من عينيها الهاربتين خلف الحزن أنها تحمل عبئاً يفوق قدرتها. جلس بهدوء إلى جانبها على الأريكة، واضعاً يده برفق على كتفها، وكأن لمسته كانت دعوة صامتة لكسر جدار الصمت الذي أحاط بها.
نظر إليها بهدوء وقال بصوت حنون:
_ "رانيا، مالك يا بنتي؟ شايفك مش على بعضك من كام يوم، في إي؟"
لم ترفع عينيها عنه، كان التوتر يشد عضلات وجهها، وتحاول كبح مشاعرها المكسورة، لكنها شعرت بأن صدرها ضاق ولم تعد قادرة على الاحتمال. تنهدت بعمق، نظرت إلى يديها المتشابكتين، ثم أجابت بصوت متردد:
_ "مش عارفة يا بابا... حاسة كأني غلطت لمّا حاولت أعيش مشاعري زي أي واحدة طبيعية."
أخذ والدها يده عن كتفها بهدوء، وضعها على ركبته ونظر إليها بعينين طيبتين قائلاً:
_"مفيش حاجة اسمها غلطة يا بنتي، إحنا مش بنختار قلوبنا تحب مين أو إمتى، دي مشاعر ربنا بيحطها في قلوبنا لسبب. لكن فهميني، إيه اللي حصل؟"
رفعت عينيها نحوه، وكأنها تحاول جمع شتات مشاعرها، ثم همست بصوت مكسور:
_ "طارق... طارق عرف إني مطلقة. حسيت كأنه انصدم، سكت يا بابا، مسألش، مردش بكلمة. كأني فجأة بقيت غريبة عنه."
تنهد والدها ونظر في عينيها برفق، ثم قال:
"عارف يا رانيا، الرجالة مش دايماً بيعرفوا يعبروا عن مشاعرهم بالسهولة اللي بنتمناها. ممكن يكون صمته خوف، أو حتى احترام لموقفك. مفيش داعي تفسري الصمت دايماً كرفض."
لكن كلمات والدها لم تكن كافية لتهدئة أفكارها المتخبطة، فأجابت بصوت يختلط فيه الألم بالاستسلام:
_ "بس يا بابا، نظراته كانت كافية، حسيت كأني كنت بحلم بوهم، كنت فاكرة إنه ممكن يحبني زي ما أنا، لكن واضح إن مجرد معرفته بحقيقتي كفاية تهزه."
أمسك والدها بيدها برفق وقال:
_"رانيا، اللي بيحبك صح، هيقبلك بكل حاجة فيكي، ماضيك وحاضرك ومستقبلك. مفيش إنسان كامل، وكلنا عندنا جوانب في حياتنا ممكن تخوف اللي قدامنا. طارق لو فعلاً بيحبك، هيلاقي طريقه ليكي، وهيفهم إن حياتك فيها جوانب مكنتش بإيدك."
شعرت بدمعة تغلبها، لكنها تمسكت بيد والدها بقوة، وقالت بصوت مختنق:
" بابا؟ لو فعلاً رفضني بعد اللي عرفه؟ مش هقدر أتحمل أكتر من كده."
ربّت والدها على ظهر يدها بلطف، وقال بحزم يملأه الحنان:
_"لو رفضك يا رانيا، يبقى هو الخسران. اللي مش قادر يشوف قيمتك الحقيقية، مفيش داعي تعلقي نفسك بيه. وإنتي قوية يا بنتي، وعدتي بظروف كتير أصعب من كده."
تنهد يقول بهدوء:
_"أنتِ لما جيتي وحكتيلي مشاعرك من ناحيته، فرحت، فرحت أنك الحمدلله تعافيتي من اللي حصل، وقلبك اتفتح علي الحياة تاني، وأنبسطت أكتر لما كنت بشوفك منورة ومتفائلة، أرتحت له لمجرد أنك مبسوطة بوجوده، بس منكرش إني قلقت.... قلقت لما عرفت أنه ميعرفش أنك مُطلقة، هي دي مش حاجة تعيبك أبدًا، لكن برضو ممكن يكون هو ليه تفكير تاني..... كنت عايز أخليكِ تصارحيه من الأول، من قبل متتعلقي، بس مرضتش أكسر فرحتك فالأول... ".
نظرت له بهدوء تُنصت له، بينما ربتَ علي كتفيها بحنان بالغ يقول:
_" بُصي يا بنتِ أنا راجل زيي زيه، وأفهم تفكير الرجالة كويس.... طارق لو حبك بجد ومكانش مجرد انبهار او اعجاب بيك، صدقيني مُش هيهمه ماضيكِ ولا حاضرك، مش هيفرق معاه أي حاجة غير أنه عايزة يكون معاكِ بعيدًا عن أي حاجة... متزعليش نفسك وتسبقي الأحداث، أديله فرصة يفكر يأخد وقته وصدقيني لو بيحبك هييجي... وابقي قولي بابا قال! ".
أعتدلت في جلستها تحتضن يد والداها بأمتنان، تلتمس في نظراته نورًا يعيدها للحياة، وكأنها تنظر إلى نقطة الثبات الوحيدة في عالمها المتلاطم. تقترب ببطء، وضعفها كله أظهرته أمامه، عيناها تنهمران بالدموع، لكنها لا تستطيع منع نفسها من الاستسلام له.فتحَ ذراعيهِ كأشارة لها بالأنضمام لأحضانه، أرتمت بأحضانهِ فورًا، تشعر كأن جسدها الثقيل، المتعب من حمل الهموم، يتحرر، وكأن روحهما تتوحدان في صمت عميق.
تضغط عليه أكثر، وكأنها تريد أن تخترق كل المسافات بينهما، تغمض عينيها وهي تغرق في تفاصيل حضنه، تلتقط أنفاسه البطيئة الثابتة وتستشعر دفء جسده يلفها، فتشعر بحاجز من الأمان يحيط بها. تعود إلى تلك اللحظة البعيدة حين كانت تلجأ إليه من كل كابوس، تشعر بأن كل ألم، كل خوف، كل شجن كانت تحمله يذوب في حضنه، ويترك وراءه راحة وسكينة.
وكأنها تُسلم روحها له، تترك أثقالها بين ذراعيه، ويملأها شعور بالخفة لأول مرة منذ زمن. تهمس بين نفسها كلمات امتنان، وكأنها تتحدث إلى نفسها، لكنها تعرف أنه يسمعها، يشعر بها، يفهم حاجتها للبقاء هنا، في ذاك العناق الأبدي الذي لم تتمنى يومًا أن ينتهي.....
يتبع...